نقوس المهدي
كاتب
مضت سبعون سنة على نشر بول روبو 1877 - 1963، لأول مرة، كتابه عن الحيوانات وسلوكها الجنسي، وإن نُشرت في السنوات الأخيرة مختارات منه، الشيء الذي دعاني إلى النظر فيه من جديد لاقتسام ملحه ومعلوماته الشيقة مع قارئ يستسيغ "مرح العلم".لقد قسم بول روبو كتابه إلى فصول معنونة، مضمّنا كل واحد منها أصناف الحيوانات التي تقتسم خاصية معينة فيما بينها، خاصة فيما يتعلق تحديدا بالسلوك الملحوظ بين الذكور منها وبين الإناث.
فنراه يطلق صفة المنبوذ على المحار؛ نظرا لانزوائه وغرابة سلوكه؛ هذا الحيوان المائي الذي طالما عُرف بغبائه، فهو محروم من تذوق مُتع الجنس لأنه يمارسه متثائبا. يدع الذكر بذرة منه تتسرب من الصدفة ليحملها الماء ثم تصل إلى الأنثى، دون أن تختاره، وعندما تفتح قليلا صدفتها تلتقي بالبويضة التي أطلقت حديثا فيتم الإخصاب. فالأب يمكن أن يصير أما، مثلما يصح عكس ذلك تماما. لكن روبو لم ينس أن يغمز بقوله: "ما أشد غباء المحار وإلا لاستفاد مما يوفره له ذلك الامتياز!".
أما الدوري فهو طائر عرفت عنه خفته بل عجلته واطراده، فهو الذي يعلن من عل سطوح الغرف الباريسية مقدم الربيع، ويحرض العشاق الجدد على الانطلاق، لذلك صار وبحق رمزا للتجدد المستمر. لكن الكاتب لم يحترز من كسر الهالة الكبيرة التي يُحاط بها، غالبا، هذا العصفور، بقوله، وبكل بساطة، بأن الدوري لا يستحق حقيقة الشعبية التي يحظى بها. فهو ينكث في الأرض، ويختلس أشياء تافهة، كي يتغذى بعد ذلك على أحقر المواد. فقد دأب منذ أجيال على الاقتيات من الروث، ويعيش على الدوام من حصيلة التسول. إذ تمكن من استمالة عجزة يوزعون عليه بعض فتات الخبز في الحدائق العمومية.
ينبهنا ألا نصدق كل ما يقال عنه، فالدوري عاشق تافه. يتحد الذكر بالأنثى أكثر من عشرين كرة، ولكن خلال وقت يسير جدا. "بإمكان أي رجل أن يقبّل امرأة على شفتيها )...( مائة مرة على التوالي. عصافير الدوري لا تأتي أفضل من هذا. إنها تحك صفيحة الذكر على صفيحة الأنثى بدون مقدمات ولا مداعبات، هذا كل ما في الأمر". فجماعها بذلك، كما يقول روبو، هو مجرد مس ولمس طفيفين أكثر منه من مواقعة حقيقية.
يخلص بالتالي إلى أن هذه العصافير المتسخة والذميمة المنظر بلونها المشكل من مزيج من لوني الغبار والطين، بزقزقاتها، وبخبثها قد ابتزت من الناس سيرة لا تناسب بتاتا ما هو عليه واقعها الذي يبعث على الشفقة. ولهذا السبب بالذات وضعها بول روبو ضمن خانة ذوي نقص في كتابه. لكن أليس داعيا إلى الاستغراب أن يضع جنبها، تماما، الثور؟
لقد ارتبك هو بعينه لأنه وجد نفسه يخالف عموم الرأي الشائع حول الثور المعروف بقوته وفحولته. ولكنه أشار سريعا بأن الثور لا يبدي شأنا في العراك إلا لدى خروجه من الزريبة ودخوله إلى الحلبة ليس إلا. وليس يوري أي شيء من هذا القبيل حيث ينتظر منه أن يؤكد ما عرف عنه من فحولة باسلة.
يقول أن البقرات تتمتع باستعداد عاطفي، أما الثور فهو مجرد موظف. يؤدي مهمته وكأنه يسعى بكل جهد أن يخلص منها سريعا ويتخلص منها. "قليلون هم العشاق المستعجلون مثله". يلزمه حيز ضئيل من الوقت فقط ما يغطي لحظتي مجيئه وأوبته دون تريث. يرى روبو أنه من الأجدر بالثور أن يؤكد ما عرف عنه، خاصة وقد مُنح جسما عظيما وهيئة مهيبة. لكن الثور يمنح متعة ولذة قصيرتين وسريعتين كما أنه لا يحصل هو نفسه سوى على نزر يسير منهما.
الدب هو يتبوأ مكانته بين المكتئبين في كتاب بول روبو. "الدب مكتئب. لكنه فيلسوف. إنه لا يبحث عن المغامرات الغرامية. إذ يحفظه طبعه اللامبالي من الانجذاب الذي تليه النزاعات". فهو يحسن التصرف جيدا في علاقته الزوجية. إذ أن جحره يتواجد على مبعدة كيلومترات من جحر خدينته. يفر من صحبة الناس ويحمل في ذاته مخزونه الغذائي كي يمد إليه يد الحاجة عندما تغطي الثلوج كل مكان، وهو قاعد في جحره هانئا في انتظار. ولا يخرج منه إلا بعد مجيء الربيع. "عينه الصغيرة تتأمل السماء المنيرة. وذقنه يستنشق رائحة باكورة النبات".
نعرف أن للدب شهية كبيرة للطعام غير أن له أيضا شهية أخرى لطعام آخر. فالدبة تولي قدرا كبيرا لأمور الباه أكثر من دبها، فهي تلحس ذقنه وتمشطه بقوائمها ذات المخالب. ثم يبدأ النزال والطعان، الإقدام والإحجام، الكر والفر. وفي الأخير يحصل رضى النزوات. يعود الدب بعد ذلك إلى عزلته بعدما أدى مهمة الحول. وتنجب الدبة بدورها هي أيضا وفي عزلة بعض الدببة الصغار، ثم تستمر الحياة.
كتب بول روبو بأنه لا ينوي أن ينهي حديثه عن الحيوانات المكتئبة دون أن يشير إلى عصفور الترنجي أو النغر. "فأن ينط لا يعني دائما أنه جذلان. فهو مسجون يتواجد دوما في قفص، لذلك يسعى أن يفرج عن نفسه." يقول بأن النغران مغمورة، فإن كانت الشائعات تنشر فكرة كون هذه المخلوقات ماجنة فإنها تمثل في واقع الأمر مثال الوفاء في الحياة الزوجية. فالذكر يلاطف الأنثى ويوجه إليها أغاني عذبة ثم يحرص عليها عندما تحضن بيضها إذ يلقمها ويسليها. فقد قيل ما قيل عن بلادة هذه الكائنات غير أنها تحفظ وفاءها لقرينها حتى الموت.
"لم نمنح أبدا قيمة كبيرة للخصائص الروحية للغربان". هكذا استهل روبو حديثه عن هذه الطيور التي تثير تطيّر الناس. يقول بيفون أن لكل ذكر منها أنثاه والتي يظل وفيا لها على مدى سنوات. "هذه الطيور المقززة بالنسبة إلينا تحسن رعاية علاقة حب متبادل ودائم". "فهي تعبر عن ذلك بلمسات هائلة؛ بمقدمات وبشهوة التفاصيل". إذ يشرع الزوجان في التقارب بعدما يبدأ الذكر لحنا غراميا ثم نرى بعد ذلك المنقارين يأتيان قبلات. لكنا نعدم أن نلمح غرابين يجامعان نهارا وفي مكان مكشوف. لا يتعلق أمر ذلك بالحشمة وإنما باحترام لحظة الجماع، إذ يأتيانه في فضاء منزو وآمن، حيث لا مزعج، لأنهما يريان في اتحادهما مهمة حفظ النوع ما يخول لهما، وللحظات، نسيان وجودهما الخاص من أجل ديمومة النوع.
أدخل روبو حيوانات أخرى غير متوقعة إلى جنته، متسائلا في لهجة تعنيف: تُرى لماذا نشمئز من الثعابين؟ ثم أورد تفسيرا لهذه الظاهرة أخذه عن الدكتور روبنسون؛ أحد تلاميذ داروين، جاء فيه أن ذلك الإحساس بالتقزز لا يمكن أن يكون إلا ذكرى ما قبل_طوفانية عن العراك حامي الوطيس الذي وقع ما بين الحيوانات الفقرية وبين الزواحف في بدء العصر الثلثي.
هذه الزواحف تجامع في التوائها على بعضها، فإذا كانت ألسنتها مشقوقة فإن عضو الذكر هو كذلك، مثلما تتوفر الأنثى على مركز مزدوج وموائم لاستقباله. كما أن التحامهما يدوم طويلا، لأن الأمر يتعلق بفعل ثنائي. نقل روبو تشبيها جميلا لهذه الوضعية بأن اعتبر الثعبان مثل قاطع طريق الأزمنة الغابرة والذي يعلق على حزامه مسدسين، ما يمكّنه من أن يستعمل أحدهما حينا ثم الآخر آونة أخرى، كما يستطيع أن يستعملهما معا في آن واحد.
وضح بوسيه في كتابه "قوانين وأسرار وظائف التوالد"، الذي ذكره روبو، أن الثعابين والسحليات تعد استثناء بما عرفت به الزواحف من برودة، إذ يزعم أنه يحدث لهذه الحيوانات أن تتبادل من حين إلى آخر بعض الربت الخفيف واللطيف على العنق، قبلات واشتباك ألسنة.
وإذا كان لابد من الحديث عن الحيوانات المتشدقة فإننا سوف نكتفي بذكر الجدجد الذي خصه روبو بهذه الصفة. "أي ثرثار هو!". يغني الجدجد ويطرد خصما بأن يلوح بزباناه. تظهر أنثى ما فيصوب قائمتيه الأماميتين، حيث توجد حاسة سمعه، يأتي دورات حولها دون أن يقاطع أغنيته، يلمسها ويداعبها وتظل في مكانها. يستلقى فجأة على ظهره ثم تجيء أنثاه لملاقاته. تعلوه كي يظل تحتها، يلتقي البطنان، بغتة ينبعث جذر أصفر غامق وصغير من بطن الجدجد، وبحركة اندفاع منه يلج الشيء في الموضع المناسب. ثم يُقضى الأمر. تنصرف الأنثى وتشعر ليس، يكتب روبو، بالحزن مثلما ادعى لوكريس، وإنما بشهية عارمة. فإذا هي، التي كانت مسالمة قبل لحظات، تتحول إلى كائن شرس، وتمزق أجنحة الذي خصها بمداعبات حنونة قبل حين، فتكسر قيثارته بل يصل بها الأمر أن تقتلع بعضا من لحمه وشحمه. تساءل فابر الذي نقل عنه روبو قصة هذا السلوك الغريب عن الدواعي التي تدفعها إلى ذلك، لكنه لا يملك أي جواب!
أما حصان البحر فهو سمكة صغيرة جدا، لها رأس مثل رأس الحصان، فهي تتوفر على خصلة الرقص من أجل تحقيق ما تبتغيه. ليست تلك الرقصة المتقنة إلا دليلا عظيما على رغبة الذكور منها في اجتذاب الإناث. وعندما يتعب الزوجان من الرقص ترسل الأنثى بيضها ويتلقاه الذكر في جراب يشبه جراب الكنغر ثم يحضنه. وهكذا "يلد الذكر" بعدما يصل نصابه الطبيعي ويرسل صغاره في الماء مثلما كتب روبو بجدارة فنية وكأنها نقط تعجب رفيعة!
أما الكائنات المتباهية فليس هناك من يستطيع أن يمثلها أكثر من الطاووس. فهذا الطائر يستحق الجائزة الأولى للزهو لو صدقنا بول روبو. إنه هائل ومحتفل على الدوام في ثيابه القشيبة. لكن، يتساءل روبو، من أين تتأتى ألوان بعض العصافير الفاقعة، كأبي زريق، القاوند، الطنان والطاووس نفسه؟
يجيب سريعا بأن ذلك يتأتي من عجز كلى هذه الطيور من التخلص من بعض المواد التي تتناولها. "فهزال أحد أعضائها هو الذي يشكل بهجة جمالها". يدعونا روبو إلى حرق جناح الطاووس، مشيرا أننا سوف نلحظ في رماده حضور الصوان. أما الإناث فإنهن يطردن تلك الفلزات والمعادن التي يُحدث ملحها تلك الألوان القزحية، محتوية في صفار بيضها. ومادام الذكور لا يبيضون فيبقى مكان في أجنحتها كي تتمظهر كل تلك المواد.
فيما يتعلق بعلاقة الزوجين فالأنثى لا تأبه كثيرا بألوان ذكرها، مثلما لا يمارس هذا الأخير غوايته إلا من أجل الإغواء فحسب، مثلما عبر روبو عن ذلك جيدا، إذ شبهه بالذين يمارسون الفن من أجل الفن.
لقد تواترت عن السلطعون نزعته القتالية، فهو يتوالد على طريقة البشر، مثله مثل الكركند، الجراد البحري، والأربيان. فعندما ينزو السرطان على أنثاه تستلقي سريعا على ظهرها فتتشابك أطرافهما، وكأنهما يمزجان أحاسيسهما بشهوتهما. فيشبع أحدهما الآخر في حركات متقنة. وكثيرا ما يحاول غرباء عن ذلك الجماع نسفه فيحدث الهرج والمرج، فتناطح رؤوسها مثل خرفان، فكم من كماشات تقارعت في صخب! وكم من قرون استؤصلت!
تعد اليرقات هي من النوع المغازل، ذلك أنها ترسل شارات تشبيبها عبر إشارات ضوئية. يميز روبو بين الضوء الأبيض الذي ترسله الأنثى، التي هي سُرفة، وبين الضوء الأخضر الهزيل الذي يبعثه الذكر الذي يتخذ شكل فراش. وعندما تشتد الشهوة فإن الأنثى تستلقي على ظهرها كي توري بشكل جيد آلتها المضيئة، ثم يجيء الذكر وهو يرتعد، يتساءل روبو، هل لأنه لم يجد ما يرغب فيه حقا؟ فيبني بها ثم تنطفئ. ذالكم إشباع تلك المهيجة.
يذكر روبو جراد شمال إفريقيا، الذي اعتبره غريبا، وإن كان يصنفه بين الكائنات الباروكية، للسبب الذي سوف نأتي عليه لاحقا. يشير إلى أن إفرازا غدديا على ظهور الذكور يشكل مدعاة نهم الإناث، إذ يتلذذن به قبل وآن وبعد الممارسة. أمر غريب آخر نقل روبو وصفه عن لوسيان بيرلون، يحدد فيه معالم باروكية أخرى لعملية وضع الجراد لبيضها في حفرة تُعمل في الأرض، فيتحلق عدد كبير من الذكور محيطين بالأنثى احتراما لذلك الحدث الجلل.
أشاد روبو بالجمل على أنه حيوان مهتاج. يقول أنه أوتي كل الفضائل التي يطمح أرباب العمل أن يتصف بها العامل: اتزان، جد، لين العريكة، كما ينحني كي توضع الأحمال على متنه. لكن الجمل يتحول في لحظات النزو؛ وإن كانت هذه المرحلة لا تدوم إلا أربعين يوما خلال كل حول، غير أن الجمل يصير أثناءها جموحا مهتاجا لا ينصاع فيها قط. إذ يصبح ذات يوم كارها ورافضا للعلف الذي نمد له فيلفظه. ينقطع عن الشرب، يزبد بلا انقطاع، يقرع أسنانه، يصرخ، يهمهم، يعض ويضرب المحيطين به بقائمتيه. أكثر من هذا يخرج من جهتي فمه شيء غريب: حويصلتان حمراوان،مثل مثانتين عظيمتين تشبهان رأسين بشريين. يتعاظم ذلك ويكبر لدى كل شهيق وزفير. فيرسل الجمل بوله ليبل به الجمال الأخرى. أما أنثاه فهي مستعدة لملاقاة فحلها إذ تنبطح مثلما تفعله كي نحمّلها أثقالا.
اختلفت المصادر الكولونيالية التي نقل عنها روبو كيفية تناسل الجمال، فمنها تلك الرواية القائلة بأن الذكر والأنثى يفعلان ذلك مسندان ظهريهما، غير أن هناك رواية أخرى تؤكد أن الجمل يصعد فوق الناقة وقد بركت ويعمل فيها أداته إعمالا.
سوف يطول الحديث لو عمدنا إلى سرد كل طرائق جنس الحيوانات التي ذكرها روبو. وأتينا على كل التعليقات والمصادر التي متح منها الرجل معلوماته العلمية، لذلك نكتفي بالتذكير بما أورده مستشهدا بروبير غوفان الذي كتب، ضدا على الإنسان،: "أفكر في كائن الحنكليس الذي يعتبر الحب (الجنس) أمرا عجيبا، إذ باستطاعته أن يكرس له حياته، وأن يقطع المسافات الطوال من أجل استحقاقه أكثر
* عن موقع ايلاف
.
فنراه يطلق صفة المنبوذ على المحار؛ نظرا لانزوائه وغرابة سلوكه؛ هذا الحيوان المائي الذي طالما عُرف بغبائه، فهو محروم من تذوق مُتع الجنس لأنه يمارسه متثائبا. يدع الذكر بذرة منه تتسرب من الصدفة ليحملها الماء ثم تصل إلى الأنثى، دون أن تختاره، وعندما تفتح قليلا صدفتها تلتقي بالبويضة التي أطلقت حديثا فيتم الإخصاب. فالأب يمكن أن يصير أما، مثلما يصح عكس ذلك تماما. لكن روبو لم ينس أن يغمز بقوله: "ما أشد غباء المحار وإلا لاستفاد مما يوفره له ذلك الامتياز!".
أما الدوري فهو طائر عرفت عنه خفته بل عجلته واطراده، فهو الذي يعلن من عل سطوح الغرف الباريسية مقدم الربيع، ويحرض العشاق الجدد على الانطلاق، لذلك صار وبحق رمزا للتجدد المستمر. لكن الكاتب لم يحترز من كسر الهالة الكبيرة التي يُحاط بها، غالبا، هذا العصفور، بقوله، وبكل بساطة، بأن الدوري لا يستحق حقيقة الشعبية التي يحظى بها. فهو ينكث في الأرض، ويختلس أشياء تافهة، كي يتغذى بعد ذلك على أحقر المواد. فقد دأب منذ أجيال على الاقتيات من الروث، ويعيش على الدوام من حصيلة التسول. إذ تمكن من استمالة عجزة يوزعون عليه بعض فتات الخبز في الحدائق العمومية.
ينبهنا ألا نصدق كل ما يقال عنه، فالدوري عاشق تافه. يتحد الذكر بالأنثى أكثر من عشرين كرة، ولكن خلال وقت يسير جدا. "بإمكان أي رجل أن يقبّل امرأة على شفتيها )...( مائة مرة على التوالي. عصافير الدوري لا تأتي أفضل من هذا. إنها تحك صفيحة الذكر على صفيحة الأنثى بدون مقدمات ولا مداعبات، هذا كل ما في الأمر". فجماعها بذلك، كما يقول روبو، هو مجرد مس ولمس طفيفين أكثر منه من مواقعة حقيقية.
يخلص بالتالي إلى أن هذه العصافير المتسخة والذميمة المنظر بلونها المشكل من مزيج من لوني الغبار والطين، بزقزقاتها، وبخبثها قد ابتزت من الناس سيرة لا تناسب بتاتا ما هو عليه واقعها الذي يبعث على الشفقة. ولهذا السبب بالذات وضعها بول روبو ضمن خانة ذوي نقص في كتابه. لكن أليس داعيا إلى الاستغراب أن يضع جنبها، تماما، الثور؟
لقد ارتبك هو بعينه لأنه وجد نفسه يخالف عموم الرأي الشائع حول الثور المعروف بقوته وفحولته. ولكنه أشار سريعا بأن الثور لا يبدي شأنا في العراك إلا لدى خروجه من الزريبة ودخوله إلى الحلبة ليس إلا. وليس يوري أي شيء من هذا القبيل حيث ينتظر منه أن يؤكد ما عرف عنه من فحولة باسلة.
يقول أن البقرات تتمتع باستعداد عاطفي، أما الثور فهو مجرد موظف. يؤدي مهمته وكأنه يسعى بكل جهد أن يخلص منها سريعا ويتخلص منها. "قليلون هم العشاق المستعجلون مثله". يلزمه حيز ضئيل من الوقت فقط ما يغطي لحظتي مجيئه وأوبته دون تريث. يرى روبو أنه من الأجدر بالثور أن يؤكد ما عرف عنه، خاصة وقد مُنح جسما عظيما وهيئة مهيبة. لكن الثور يمنح متعة ولذة قصيرتين وسريعتين كما أنه لا يحصل هو نفسه سوى على نزر يسير منهما.
الدب هو يتبوأ مكانته بين المكتئبين في كتاب بول روبو. "الدب مكتئب. لكنه فيلسوف. إنه لا يبحث عن المغامرات الغرامية. إذ يحفظه طبعه اللامبالي من الانجذاب الذي تليه النزاعات". فهو يحسن التصرف جيدا في علاقته الزوجية. إذ أن جحره يتواجد على مبعدة كيلومترات من جحر خدينته. يفر من صحبة الناس ويحمل في ذاته مخزونه الغذائي كي يمد إليه يد الحاجة عندما تغطي الثلوج كل مكان، وهو قاعد في جحره هانئا في انتظار. ولا يخرج منه إلا بعد مجيء الربيع. "عينه الصغيرة تتأمل السماء المنيرة. وذقنه يستنشق رائحة باكورة النبات".
نعرف أن للدب شهية كبيرة للطعام غير أن له أيضا شهية أخرى لطعام آخر. فالدبة تولي قدرا كبيرا لأمور الباه أكثر من دبها، فهي تلحس ذقنه وتمشطه بقوائمها ذات المخالب. ثم يبدأ النزال والطعان، الإقدام والإحجام، الكر والفر. وفي الأخير يحصل رضى النزوات. يعود الدب بعد ذلك إلى عزلته بعدما أدى مهمة الحول. وتنجب الدبة بدورها هي أيضا وفي عزلة بعض الدببة الصغار، ثم تستمر الحياة.
كتب بول روبو بأنه لا ينوي أن ينهي حديثه عن الحيوانات المكتئبة دون أن يشير إلى عصفور الترنجي أو النغر. "فأن ينط لا يعني دائما أنه جذلان. فهو مسجون يتواجد دوما في قفص، لذلك يسعى أن يفرج عن نفسه." يقول بأن النغران مغمورة، فإن كانت الشائعات تنشر فكرة كون هذه المخلوقات ماجنة فإنها تمثل في واقع الأمر مثال الوفاء في الحياة الزوجية. فالذكر يلاطف الأنثى ويوجه إليها أغاني عذبة ثم يحرص عليها عندما تحضن بيضها إذ يلقمها ويسليها. فقد قيل ما قيل عن بلادة هذه الكائنات غير أنها تحفظ وفاءها لقرينها حتى الموت.
"لم نمنح أبدا قيمة كبيرة للخصائص الروحية للغربان". هكذا استهل روبو حديثه عن هذه الطيور التي تثير تطيّر الناس. يقول بيفون أن لكل ذكر منها أنثاه والتي يظل وفيا لها على مدى سنوات. "هذه الطيور المقززة بالنسبة إلينا تحسن رعاية علاقة حب متبادل ودائم". "فهي تعبر عن ذلك بلمسات هائلة؛ بمقدمات وبشهوة التفاصيل". إذ يشرع الزوجان في التقارب بعدما يبدأ الذكر لحنا غراميا ثم نرى بعد ذلك المنقارين يأتيان قبلات. لكنا نعدم أن نلمح غرابين يجامعان نهارا وفي مكان مكشوف. لا يتعلق أمر ذلك بالحشمة وإنما باحترام لحظة الجماع، إذ يأتيانه في فضاء منزو وآمن، حيث لا مزعج، لأنهما يريان في اتحادهما مهمة حفظ النوع ما يخول لهما، وللحظات، نسيان وجودهما الخاص من أجل ديمومة النوع.
أدخل روبو حيوانات أخرى غير متوقعة إلى جنته، متسائلا في لهجة تعنيف: تُرى لماذا نشمئز من الثعابين؟ ثم أورد تفسيرا لهذه الظاهرة أخذه عن الدكتور روبنسون؛ أحد تلاميذ داروين، جاء فيه أن ذلك الإحساس بالتقزز لا يمكن أن يكون إلا ذكرى ما قبل_طوفانية عن العراك حامي الوطيس الذي وقع ما بين الحيوانات الفقرية وبين الزواحف في بدء العصر الثلثي.
هذه الزواحف تجامع في التوائها على بعضها، فإذا كانت ألسنتها مشقوقة فإن عضو الذكر هو كذلك، مثلما تتوفر الأنثى على مركز مزدوج وموائم لاستقباله. كما أن التحامهما يدوم طويلا، لأن الأمر يتعلق بفعل ثنائي. نقل روبو تشبيها جميلا لهذه الوضعية بأن اعتبر الثعبان مثل قاطع طريق الأزمنة الغابرة والذي يعلق على حزامه مسدسين، ما يمكّنه من أن يستعمل أحدهما حينا ثم الآخر آونة أخرى، كما يستطيع أن يستعملهما معا في آن واحد.
وضح بوسيه في كتابه "قوانين وأسرار وظائف التوالد"، الذي ذكره روبو، أن الثعابين والسحليات تعد استثناء بما عرفت به الزواحف من برودة، إذ يزعم أنه يحدث لهذه الحيوانات أن تتبادل من حين إلى آخر بعض الربت الخفيف واللطيف على العنق، قبلات واشتباك ألسنة.
وإذا كان لابد من الحديث عن الحيوانات المتشدقة فإننا سوف نكتفي بذكر الجدجد الذي خصه روبو بهذه الصفة. "أي ثرثار هو!". يغني الجدجد ويطرد خصما بأن يلوح بزباناه. تظهر أنثى ما فيصوب قائمتيه الأماميتين، حيث توجد حاسة سمعه، يأتي دورات حولها دون أن يقاطع أغنيته، يلمسها ويداعبها وتظل في مكانها. يستلقى فجأة على ظهره ثم تجيء أنثاه لملاقاته. تعلوه كي يظل تحتها، يلتقي البطنان، بغتة ينبعث جذر أصفر غامق وصغير من بطن الجدجد، وبحركة اندفاع منه يلج الشيء في الموضع المناسب. ثم يُقضى الأمر. تنصرف الأنثى وتشعر ليس، يكتب روبو، بالحزن مثلما ادعى لوكريس، وإنما بشهية عارمة. فإذا هي، التي كانت مسالمة قبل لحظات، تتحول إلى كائن شرس، وتمزق أجنحة الذي خصها بمداعبات حنونة قبل حين، فتكسر قيثارته بل يصل بها الأمر أن تقتلع بعضا من لحمه وشحمه. تساءل فابر الذي نقل عنه روبو قصة هذا السلوك الغريب عن الدواعي التي تدفعها إلى ذلك، لكنه لا يملك أي جواب!
أما حصان البحر فهو سمكة صغيرة جدا، لها رأس مثل رأس الحصان، فهي تتوفر على خصلة الرقص من أجل تحقيق ما تبتغيه. ليست تلك الرقصة المتقنة إلا دليلا عظيما على رغبة الذكور منها في اجتذاب الإناث. وعندما يتعب الزوجان من الرقص ترسل الأنثى بيضها ويتلقاه الذكر في جراب يشبه جراب الكنغر ثم يحضنه. وهكذا "يلد الذكر" بعدما يصل نصابه الطبيعي ويرسل صغاره في الماء مثلما كتب روبو بجدارة فنية وكأنها نقط تعجب رفيعة!
أما الكائنات المتباهية فليس هناك من يستطيع أن يمثلها أكثر من الطاووس. فهذا الطائر يستحق الجائزة الأولى للزهو لو صدقنا بول روبو. إنه هائل ومحتفل على الدوام في ثيابه القشيبة. لكن، يتساءل روبو، من أين تتأتى ألوان بعض العصافير الفاقعة، كأبي زريق، القاوند، الطنان والطاووس نفسه؟
يجيب سريعا بأن ذلك يتأتي من عجز كلى هذه الطيور من التخلص من بعض المواد التي تتناولها. "فهزال أحد أعضائها هو الذي يشكل بهجة جمالها". يدعونا روبو إلى حرق جناح الطاووس، مشيرا أننا سوف نلحظ في رماده حضور الصوان. أما الإناث فإنهن يطردن تلك الفلزات والمعادن التي يُحدث ملحها تلك الألوان القزحية، محتوية في صفار بيضها. ومادام الذكور لا يبيضون فيبقى مكان في أجنحتها كي تتمظهر كل تلك المواد.
فيما يتعلق بعلاقة الزوجين فالأنثى لا تأبه كثيرا بألوان ذكرها، مثلما لا يمارس هذا الأخير غوايته إلا من أجل الإغواء فحسب، مثلما عبر روبو عن ذلك جيدا، إذ شبهه بالذين يمارسون الفن من أجل الفن.
لقد تواترت عن السلطعون نزعته القتالية، فهو يتوالد على طريقة البشر، مثله مثل الكركند، الجراد البحري، والأربيان. فعندما ينزو السرطان على أنثاه تستلقي سريعا على ظهرها فتتشابك أطرافهما، وكأنهما يمزجان أحاسيسهما بشهوتهما. فيشبع أحدهما الآخر في حركات متقنة. وكثيرا ما يحاول غرباء عن ذلك الجماع نسفه فيحدث الهرج والمرج، فتناطح رؤوسها مثل خرفان، فكم من كماشات تقارعت في صخب! وكم من قرون استؤصلت!
تعد اليرقات هي من النوع المغازل، ذلك أنها ترسل شارات تشبيبها عبر إشارات ضوئية. يميز روبو بين الضوء الأبيض الذي ترسله الأنثى، التي هي سُرفة، وبين الضوء الأخضر الهزيل الذي يبعثه الذكر الذي يتخذ شكل فراش. وعندما تشتد الشهوة فإن الأنثى تستلقي على ظهرها كي توري بشكل جيد آلتها المضيئة، ثم يجيء الذكر وهو يرتعد، يتساءل روبو، هل لأنه لم يجد ما يرغب فيه حقا؟ فيبني بها ثم تنطفئ. ذالكم إشباع تلك المهيجة.
يذكر روبو جراد شمال إفريقيا، الذي اعتبره غريبا، وإن كان يصنفه بين الكائنات الباروكية، للسبب الذي سوف نأتي عليه لاحقا. يشير إلى أن إفرازا غدديا على ظهور الذكور يشكل مدعاة نهم الإناث، إذ يتلذذن به قبل وآن وبعد الممارسة. أمر غريب آخر نقل روبو وصفه عن لوسيان بيرلون، يحدد فيه معالم باروكية أخرى لعملية وضع الجراد لبيضها في حفرة تُعمل في الأرض، فيتحلق عدد كبير من الذكور محيطين بالأنثى احتراما لذلك الحدث الجلل.
أشاد روبو بالجمل على أنه حيوان مهتاج. يقول أنه أوتي كل الفضائل التي يطمح أرباب العمل أن يتصف بها العامل: اتزان، جد، لين العريكة، كما ينحني كي توضع الأحمال على متنه. لكن الجمل يتحول في لحظات النزو؛ وإن كانت هذه المرحلة لا تدوم إلا أربعين يوما خلال كل حول، غير أن الجمل يصير أثناءها جموحا مهتاجا لا ينصاع فيها قط. إذ يصبح ذات يوم كارها ورافضا للعلف الذي نمد له فيلفظه. ينقطع عن الشرب، يزبد بلا انقطاع، يقرع أسنانه، يصرخ، يهمهم، يعض ويضرب المحيطين به بقائمتيه. أكثر من هذا يخرج من جهتي فمه شيء غريب: حويصلتان حمراوان،مثل مثانتين عظيمتين تشبهان رأسين بشريين. يتعاظم ذلك ويكبر لدى كل شهيق وزفير. فيرسل الجمل بوله ليبل به الجمال الأخرى. أما أنثاه فهي مستعدة لملاقاة فحلها إذ تنبطح مثلما تفعله كي نحمّلها أثقالا.
اختلفت المصادر الكولونيالية التي نقل عنها روبو كيفية تناسل الجمال، فمنها تلك الرواية القائلة بأن الذكر والأنثى يفعلان ذلك مسندان ظهريهما، غير أن هناك رواية أخرى تؤكد أن الجمل يصعد فوق الناقة وقد بركت ويعمل فيها أداته إعمالا.
سوف يطول الحديث لو عمدنا إلى سرد كل طرائق جنس الحيوانات التي ذكرها روبو. وأتينا على كل التعليقات والمصادر التي متح منها الرجل معلوماته العلمية، لذلك نكتفي بالتذكير بما أورده مستشهدا بروبير غوفان الذي كتب، ضدا على الإنسان،: "أفكر في كائن الحنكليس الذي يعتبر الحب (الجنس) أمرا عجيبا، إذ باستطاعته أن يكرس له حياته، وأن يقطع المسافات الطوال من أجل استحقاقه أكثر
* عن موقع ايلاف
.