عبد الله محمد الغذامي - الزواج السردي : الجنوسة النسقية

ـ 1 ـ
لئن كان الزواج هو أدق العلاقات بين الجنسين ، فهو أيضا يمثل خطابا مجازيا تتجلى مجازيته في القصص والحكايات المروية والمدونة ، ولو استعرضنا حكايات الحب لأمكننا أن نكتشف ما يفرزه الخطاب الثقافي من نسقية مضمرة تتحكم في صناعة التصور وفي تشكيل الصور الذهنية عن نوع من ( الجنوسة ) المجازية ، التي هي تورية ثقافية بمثل ما هي خطاب نسقي متحكم ومضمر .

وأول ما يجب الأخذ به هو أن المرأة في حكايات العشق هي كائن مجازي غير مشخص ، فهي حزمة من الصفات الجسدية والمعنوية تتكرر في كل حكاية بلا اختلاف أو تميز شخصي أو بيئي أو طبقي أو ظرفي ، وكلهن واحدة ، بل إن الخطاب الشعري العربي يدور حول عدد محدد من الأسماء أحصاها ابن رشيق ، من مثل : ليلى وهند وسلمى ودعد ولبنى وعفراء والرباب ،

[1] بل إن ليلى وهند تكادان تكونان هما كل الأسماء ، وهي في الغالب ـ كما قال ابن رشيق ـ أسماء تزوير وليست حقيقية . وكما أن التسمية تزوير فإن السمات أيضا هي منظومة من التزوير المتخيل . وهذا يؤكد على مجازية الخطاب من جهة ، وعلى كونه تورية ثقافية من جهة ثانية . ثم إن المرأة ذاتها غائبة وليس لها وجود لغوي أو عقلي أو اجتماعي ، وينوب الخطاب عنها حيث تكون في حال الغائب الموصوف ، وهو غياب كلي يتمثل في حزمة من الصفات الكلية . وهي لهذا تتحول إلى قيمة شعرية ( لا سردية ) حتى في أشد الحكايات سردية . وسنرى أن كثيرا من حكايات الحب الكبرى هي مجرد خيال وتلفيق ، كما ورد عن تلفيق قصة مجنون ليلى وعن كذب حب كثير لعزة ، وغير ذلك من الحكايات ، التي سنقف عليها .

وإذا ما كانت الحكايات ملفقة والحب متخيلا وكذا الأسماء والصفات فهذا هو ما يعني أننا هنا أمام خطاب مجازي وتورية ثقافية في ( الجنوسة ) وفي صورة العلاقة بين الجنسين . وبما إنها مجاز كلي ثقافي فهذا هو ما سيكشف عن ( النسق الثقافي ) وكيف يتحرك في ترسيم الصور وتشكيل التصورات ، تصور الرجل عن المرأة ، وتصور الرجل لذاته العاشقة ، مع غياب تام لتصور المرأة لذاتها ولتصورها للرجل . ولا تمدنا الحكايات بمادة ذات بال عن خطاب للمرأة كإنسانة وكمعبرة عن موقفها الوجودي والإنساني ، وكل ما نجده هو خطاب الرجل أو خطاب مسترجل ، كما هو عند الخنساء أو ليلى الأخيلية[2] .

ونحن هنا سنأخذ خطاب العشق على أنه خطاب واحد ، وكأنما هو حكاية سردية تتكون من شخوص يمثلون هذا الخطاب ، ويترسمون أنماطه التي يتبادلون الأدوار في تمثلها وفي التعبير عنها ، وحسبنا أننا أمام أسماء موحدة للمحبوبات وسمات موحدة لهن ، وكل صياغة شعرية وكل رواية حب شفوية هي تنغيمات على الوتر نفسه ، مما يجعلنا أمام خطاب واحد يتعدد مؤلفوه وراووه ولكنه نسق واحد ، والمؤلف الحقيقي له هو ( الثقافة ) ، ولقد تحدثنا من قبل عن ( المؤلف المزدوج ) وهو أن تتولى الثقافة بنسقها المهيمن مشاركة المؤلف المعهود ، وتتولى الثقافة تسريب أنساقها من تحت إهاب الخطاب ، من دون وعي المؤلف ولا جمهور مستهلكي الثقافة[3]. ولسوف نرى أن النسق الثقافي المضمر سيقوم بدوره الذي وصفناه له ، وهو دور الناسخ والناقض لما هو في ظاهر الخطاب . ومن هنا فإننا سننفي المؤلف المفرد ، شاعرا كان أو راوية ، وسننفي الخطاب المفرد ، قصيدة كانت أو حكاية ، وسيحل الخطاب بوصفه مجازا كليا ، وتورية ثقافية ، في محل التحليل والتنسيق ( أي استنباط النسق ) .[4]

ـ 2 ـ

تأنيث العاشق ( البريء المغفل )

حينما نقول إن العشق تورية ثقافية فإن ذلك يأتي من كون كل حالة عشق هي حالة مسخ ، فالرجل إذا عشق فقد ، أول ما يفقد ، فحولته ثم يفقد عقله ثم يفقد حياته ، وفي وسط عمليات الفقد هذه يتحول إلى كائن شاذ اجتماعيا وكأنما هو منبوذ ، ويتحول إلى حكاية للتندر والأنس . هذا ما تقوله القصائد والحكايات .

ولقد عرفوا الغزل بأنه ( التخلق بما يوافق النساء )[5] ، ومن هنا فإن جنس العاشق يختلط ، فلا هو رجل ولا هو امرأة ، كما أنه ليس عاقلا ولا مجنونا ، ولا هو حي أو ميت ، إنه كائن مجازي ـ فحسب ـ ومن هنا صار قيمة ثقافية وسردية ، وهذا يمس الرجل بشكل رئيس ، ولا نجد غير أمثلة أقل من القليلة عن نساء بهذه الصفة[6] .

ولنأخذ بعض أمثلة تدل على ذلك وتكشفه ، يروي ابن عبد ربه أن عائشة بنت طلحة أسفرت عن وجهها في عرفات ، وردت على من استنكر عليها سفورها بأن تمثلت بالبيت :

من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليفتن البريء المغفلا

هذا بيت سيقوم في الثقافة بمثابة ( الجملة الثقافية ) والجملة الثقافية هي القول الذي يمتلك طاقة تعبيرية كاشفة للمضمر الثقافي وموجهة له . والعشق هنا هو ـ أولا ـ فتنة ، وهو إيقاع في الرجل الذي سيتحول إلى بريء ومغفل ، وسيفقد حنكته وفحولته . والقول المنسوب هنا يشترك فيه الراوي الذي هو ابن عبد ربه ، وواحدة من أبرز نساء العرب وجاهة وجمالا ورمزية ، مع الشاعر قائل البيت ، وهذا يؤكد كون البيت جملة ثقافية كاشفة ، بما إنه قول توافقت عليه كل المشارب والأجناس والأجيال ، وبما إن البيت جملة ثقافية تحمل ثقلها الدلالي فإنه كحامل لهذه الدلالة يدور في مدار التصور الذهني لعمل العشق وكوارثيته ، فالنساء إذا ما وقع فيهن الرجل فإنهن :

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا

وذلك حسب ما قال جرير[7] وأكدته الثقافة بوصف هذا البيت أغزل بيت قالته العرب ، وكان جميل بثينة قد أشار إلى الوقوع في الحب بوصفه موتا ، وقال بيته الذي هو أحد قوانين الحب :

خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي[8]

وهذا يسير مع ما نقله ابن قتيبة من أن أعرابيا سأل ممن أنت : فقال : من قوم إذا أحبوا ماتوا . فقالت جارية سمعته : عذري ورب الكعبة [9].

وهذه ليست دعوى فردية ، بل لقد جرى تصويرها على أنها بيان ثقافي ، وهذا جميل يسأل : أسائلكم هل يقتل الرجل الحب …؟!

ويأتيه الجواب :
فقالوا : نعم حتى يرض عظامه ويتركه حيران ليس له لب[10]
هو قتل وفقدان لب .

هناك تصور مضمر في أن الحب ناقض للرجولة ، وهو تصور قديم ومترسخ ، ويمتد حتى يومنا هذا ، ففي رسالة بعثتها إحدى القارئات ، تقول عن علاقة الرجل بالمرأة إنها علاقة سيادة وتحكم ، ولو جرى أن امرأة روضت رجلا من بعد توحش فهو حينئذ لن يكون رجلا بل سيكون مؤنثا مثلها وسيفقد رجولته[11] .

وتوصف قلوب المحبين بأنها قلوب الطير تموع كما يموع الملح ، وقد قيل هذا لرجل من بني عذرة سألوه ما بال قلوب قومه كأنها قلوب طير تنماث كما ينماث الملح في الماء ، ألا تتجلدون …؟[12]. ويكفي أن نتذكر قصة المجنون ، وهي أشهر من أن تنسى ، وهي حكاية تقوم على فكرة فقدان العاشق لعقله ، حتى ليتحول الحب والعشق إلى مجرد مسعى لرد العقل ، كما ورد في قول جميل بثينة [13]:

ولو تركت عقلي معي ما طلبتها ولكن طلابيها لما فات من عقلي

في خطاب العشق يتحول الرجل من كائن واقعي إلى كائن مجازي ، فهو ذليل ومجنون ومقتول ، وتتحول مهمته في الوجود من رجل عمل ومسؤولية إلى ذات فاقدة لكل شروط البشر السوي . ومن أدق شروط هذا التكوين المجازي ألا يتزوج العاشق معشوقته لأن هذا الرابط العشقي هو رابط نفي وإلغاء وليس رابط إثبات وتأكيد . كما أن من شروطه تعاسة الاثنين العاشق والمعشوق : ما بأيدينا خلقنا تعساء ( كما في أطلال إبراهيم ناجي ) ، ولكي يفقد الرجل عقله ولبه وحياته ولكي يتحول إلى كائن ضعيف مستلب لا بد من أن يظل بين / بين ، فلا هو هنا ولا هو هناك ، ولا هو ممسك بعاشقته ولا هي ممسكة به ، ولا هو سال عنها ومنصرف ، إنه خطاب في الخروج والاغتراب وليس في الوجود والتحقق ، ولكي نتصور هذا فالنقرأ قول جنادة[14] :

من حبها أتمنى أن يلاقيني من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له وتضمر اليأس نفسي ثم تنساها
ولو تموت لراعتني وقلت لها يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها

في هذه الأبيات تتجلى فكرة التحويل المجازي فهو لا يريد حبيبة متحققة ، لأن من شرط الحب المجازي هذا ألا يتحقق عمليا ، ولكي يضمن عدم تحققه فإنه يتمنى لو أن خبرا يأتيه يقول إنها قد ماتت لكي تتأكد له ( لا واقعية ) هذه المعشوقة ، وهذا الفقد هو لتحقيق الفراق ، بما إن اللقاء ليس من سمات خطاب العشق . غير أن هذا الموت المتمنى سيحرمه من معشوقة مجازية ، ولذا فإنها لو ماتت فعلا فسيدعو على الموت ويا بؤس له ليته أبقاها ، وذلك لكي تظل صورة مجازية لحكاية يهم الشاعر بصناعتها ولا يريد تحققها ، من جهة ، ولا يريد زوالها ، من جهة ثانية.

تتحول القيم هنا إلى قيم مجازية ، فالموت مجازي وليس حقيقيا ، وفقدان اللب مجازي أيضا ، والجنون مجازي كذلك ، وكل من كثير وجميل وجنادة ، لم يموتوا ولم يفقدوا عقولهم ، بل إنهم ارتبطوا واقعيا بزوجات أخريات واقعيات ، ولم تكن الزوجات محبوبات ولا معشوقات لهم ، وهذا يعني مجازية الخطاب ومجازية العاشقين والمعشوقات ، أيضا .

ومن المهم هنا أن نشير إلى حالة توافق غريبة بين صادق جلال العظم وابن حزم ، حيث نظر الاثنان إلى ظاهرة العشق المجازي هذه نظرة فحولية سلبية ، وبالغ العظم إذ اعتبرها أشبه ما تكون بحالة الزنى والفسق والرذيلة ، في تواطؤ غريب مع نسق تشويه الخطاب ونسخه[15]. وسنشير إلى شيء من ذلك فيما بعد .

ولقد لاحظ الطاهر لبيب حالة تحطم الوحدة بين الدال والمدلول في الخطاب العذري حتى لكأننا أمام نوع من الفن التكعيبي ، حيث ينفصل الدال عن المدلول[16].

وسؤالنا نحن هو : لماذا يتحول خطاب الحب إلى خطاب مجازي غير واقعي ، وخطاب متخيل لا يراد تحققه …؟

ويشتد احتكام السؤال هذا ، إذا أخذنا في الاعتبار أن خطاب الحب هو أرقى الخطابات في تعامل الرجل مع المرأة ، وفي تصور المرأة لذاتها وتصورها لموقف الرجل منها ، كيف تكون أرقى حالات التلاقي بين الجنسين مجرد لقاء مجازي غير حقيقي ولا مرغوب في تحققه . ويظل وهج الخطاب في مجازيته وليس في واقعيته ، بل إن واقعيته تفسده وتلغيه ، ثم لماذا هو خطاب في إلغاء سمات الفحولة ونفي لها. مثلما أنه خطاب مناف للواقع ، من حيث إن الزواج الواقعي لا يحمل تلك السمات في التصور وفي التجنيس .

ثم لمَ يظل خطاب الحب خطابا قائما على التناقض ، ففي حين هو خطاب في التفاني في الآخر ـ كما هي حقيقته ـ إذا به خطاب في نقض السمات الوجودية والحياتية ، فهو موت / حياة ، وحياة / موت ، مثلما هو جنون / عقل ، وعقل / جنون ، وهو كذب صادق ، وصدق كاذب ، وهو مثالي ، لا لرفع الحياة إلى الأفضل ، وإنما لرفض كل شروط الواقع والحقيقة .

أهذا تشويه للخطاب ومسخ له ، وهل هذا كاشف نسقي ، وهل هو متغير أم ثابت …؟؟!! .
أهو خاص بخطاب الحب التقليدي ، أم أنه قائم حتى في الخطاب الحداثي أيضا …؟؟! .
هذه أسئلة سنحاول الوقوف عليها ، وستظل تلاحقنا في هذه الأطروحة .

ـ 3 ـ

مصرع الجبار

أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة …؟!

هذا بيت من قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي[17] ، لم تتضمنه أغنية أم كلثوم ، ربما بسبب تصريحه الفاضح لنسقية الحب ، ولكن القصيدة تقوم عليه بأبياتها كلها المغنى منها والمهمل . وعلاقة الحب بمصارع الفحول قديم ، جاء عنوانا لكتاب عن العشاق ( مصارع العشاق ) كما أنه لازمة في كل قصص الحب في الشعر وفي الحكايات .

وإن كان ذلك تقليدا في الخطاب فإنه صار أيضا أساسا للفهم الحداثي لسؤال الحب ، وهذا صادق جلال العظم يقرر في كتابه عن الحب العذري بأن خطاب العشق هو حالة مرضية[18]، ويصمم كتابه لقراءة هذا الحب بوصفه مرضا ، ويختم الكتاب بكتابة روشتة للعلاج .

والحق أن العظم ليس طارئا ثقافيا في فهمه هذا للحب ، بل إنه صدى نسقي لتشكل ثقافي ذهني مديد ، لا يختلف فيه تقليدي محافظ عن حداثي علماني ، والكل يتكلم باسم النسق ويصدر عنه . وما قول العظم عن الحب العذري إنه ( ظاهرة مرضية ) إلا تكرار نسقي لمقولة ( ذم الهوى ) التي ترددت في كل الخطابات عن الحب ليس عند ابن الجوزي ، فحسب ، بل عند ابن المقفع والجاحظ وابن حزم ، وفي كتب الفقه والشعر والحكايات ، مثلما عند الشعراء والقصاص ، والتغير هو في صيغ التعبير ، فحسب . ولقد حصل تطابق تام بين العظم وابن حزم ـ كما ذكرنا أعلاه ـ حتى لقد اعتبر العظم خطاب العشق خطابا في الفسق والزنى ، وكذا تطابق العظم مع ابن المقفع في ذم خطاب المحبة ، حيث نقل قول ابن المقفع التالي: " اعلم أن من أوقع الأمور في الدين ، وأنهكها للجسد ، وأتلفها للمال ، وأضرها بالعقل ، وأزراها للمروءة ، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار ، الغرام بالنساء ” انتهى كلام ابن المقفع ليعقب عليه العظم بقوله : ولا شك أن ابن المقفع على حق[19] . وهذا توافق يتكرر في كتاب العظم مما يجعله ينسجم مع الضاغط النسقي ، ولا يختلف فيه حداثي عن تقليدي ، ولا فقيه عن علماني .

والسؤال هو : ما الذي يجعل ثقافة ـ أية ثقافة ـ تفرز خطابا مثاليا صافيا ومجردا ، عن علاقة جنوسية راقية ، ثم تتولى هذه الثقافة السخرية من هذا الخطاب ونفيه .

ولكي نتصور الوضع علينا أن نقف على بعض أمثلة صارخة في دلالتها ، ولنبدأ بهذا البيت لنصيب الشاعر[20] :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي

وهذا بيت تروي الحكايات أن سكينة بنت الحسين اعترضت عليه ، وقالت عن الشاعر : قبحه الله وقبح شعره ، ألا قال :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

وهذا اعتراض تواتر في كتب الأدب ، من سكينة ومن غيرها[21]، وسجل بوصفه موقفا ثقافيا من هذا القول ، ولو تأملنا فيه لرأينا أن المتحدث هنا هو النسق الثقافي ، ولم تكن سكينة إلا ناطقة باسم هذا النسق ومتمثلة لشرطه ، وهي لا تتحدث باسم الأنوثة وحس التأنيث بقدر ما تتكلم باسم الفحولة ولغة النسق الفحولي . فالشاعر قد قال بيتا فيه تفان في الحب وإخلاص لذات المحبة التي يريد لها أن تظل متوهجة حتى بعد موته ، ويتمنى أن يقوم مقامه من يغني لهذا الحب بلا توقف ، ( من ذا يهيم بها بعدي ..؟ ) ، وهذا فيه إعلاء لقيمة الحب بوصفه قيمة متعالية ، غير أن ملاحظة سكينة كانت تنصب على شرط التفحيل الذي ينبع من حس التملك المفرد ، والقطعية في تحديد علاقة الذات مع الغير التي هي علاقة تسلطية تملكية ، لا مجال لغير الذات المفردة فيها . وهي هنا تعيد قيم الفحولة والفردية والتملك ونفي الآخر أو تسخيره للذات ، فإن لم يكن فلا صار الآخر ولا بقي من بعدي. (ولا صلحت لذي خلة بعدي) .

في ثقافة الحب كان هناك تأسيس خجول لكسر النسق الفحولي والفردي ، وفيه بذور لفكرة الآخر واحتساب هذا الآخر وتقديره ، ولنقرأ مثالا راقيا في محبة غير الذات والإيثار وتفهم الغير، حيث يقول أبو الشيص[22] :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ما من يهون عليك ممن يكرم

لا شك في ميوعة هذه الأبيات وكذبيتها ولا واقعيتها . هذا ما ستقوله الأحكام المتشبعة بشروط النسق ، وهو نسق لا يهون عليه أن يرى سقوط الفحولة وابتذالها وميوعة العشاق حتى لتذوب قلوبهم كما يذوب الملح في الماء ، وكأنما هي قلوب الطير . ولا شك أن سكينة ردت على بيت نصيب من هذا المنطلق النسقي . ولا شك أن العظم سيقول عن هذا الشعر إنه شعر مريض . وكلنا سنقول هذا رجالا ونساء ، محافظين وحداثيين ، فأي نسق سيسمح بمحبة الأعداء ، وأي نسق سيسمح للفحل بأن يقبل الإهانة …؟! .

ولسوف يكون بيت إبراهيم ناجي : أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة ، سيكون جوابا نسقيا على هذا الخطاب .


ـ 4 ـ

هل يصرع الفحل من أجل امرأة …؟

لو تأملنا بهذا السؤال لوجدنا أنه جملة ثقافية تتكلم باسم النسق الفحل الذي لا يرى الكائن الآخر إلا كائنا هامشيا ، وتشتد الهامشية تجاه بعض العناصر البشرية خاصة النساء . ولا شك أن الحب هو خطاب من أجل التأنيث ، به يتأنث العاشق ، وتنكسر فحولته ، ويتخلق بما يوافق النساء ـ كما هو معنى الغزل عندهم ـ وبه تظهر كل قيم الأنوثة كمضاد للفحولة ، وبه يؤول الحب إلى الآخر بدلا من حب الذات وأنانيتها.

من أجل هذا نشأ في الثقافة خطابان متناقضان ، وكلاهما له سبب وجودي ، أحدهما إنساني اندماجي ومثالي ، والآخر فحولي تسلطي وواقعي .

وفي الخطاب الشعري والقصصي ، حضر النسقان معا ، النسق الإنساني ، والنسق الفحولي ، ولكن لم يحضرا لكي يتعايشا ، وإنما حضرا لكي يتصارعا ، وهذا هو ما يكشف لنا هذا التناقض بين عشق متفان ، من جهة ، وتشويه لهذا العشق في الوقت ذاته ، وفي الخطاب نفسه لدى الشعراء ولدى النساء حتى المعشوقات منهن ، ولدى رواة القصص . حيث يظهر الجميع محبة لهذا الخطاب واستمتاعا به واستظرافا له ، ورواية لحكاياته . وفي مقابل ذلك نجد أن القوم أنفسهم وهم يستظرفون ينقدون ويستنكرون ، وهذه سكينة في المجلس نفسه تستظرف أقوالا لشعراء آخرين فيها حب وتفان وتعشق بالغ ، بل تزيد من تحبيبهم فيه ، ثم تقف من بيت أكثر من غيره عشقية ، فترده وتقبح صاحبه ، ومثل ذلك كتب الأدب والرواة جميعها ، حيث تسجل قصص الحب وتشيد بشاعرية الحب ، ثم تنقض ذلك بذم الهوى وتأويل ظاهرته تأويلا يسخر منه وينفيه . حتى ليكون ظاهرة مرضية . بل إننا نجد الشعراء أنفسهم يستهترون بخطاب الحب وقد يبلغ الاستهتار حدا تكون به أسماء المعشوقات لمجرد إقامة الوزن الشعري[23] ، أو ربما يكون الغزل مجرد توطئة بلاغية للمديح ، وقد كانت قصيدة ( يا ليل الصب ) شعرا في المديح ، مع ما توحي به من كونها بيانا في العشق أدى إلى حفظها ومعارضتها حتى لتكاد تكون أهم قصيدة متداولة في ذاكرة الناس ، مع أنها تضمر حبا كاذبا . ولقد ذكروا أن كثير عزة كان يتقول في حبه ، ولم يكن عاشقا[24] . وأكد ابن قتيبة أن الشاعر يأتي بالنسيب ليميل نحوه القلوب ، ويصرف إليه الوجوه ، ويستدعي إصغاء الأسماع[25]، وذلك لكي يدخل للمديح أو ما هو فيه من غرض لم يكن الحب فيه جوهريا ، وكذا نعرف في زمننا هذا عن شعراء الزجل وكتبة قصائد الأغاني ، الذين تخصصوا في سبك زجليات العشق من غير أن يعرف عنهم حب أو توله ، وكل ما يكتبونه هو من سجل ذاكرة نمطية تردد معاني وصيغا راسخة في التوله والكمد والمذلة والجنون والموت في حبيب متوهم . حتى لتجد أن الواحد من شعراء هذه الأغاني يفني عمرا كاملا في كتابة خطاب شعري زجلي نمطي متكرر فيه موت وجنون ومرض ، ومع كل هذه العلل تجد الشاعر معافى وجاهزا ومنعما وكاسبا مالا ومعنويات ، وليس فيه ما يوحي بمرض ولا جنون ، وله من طول العيش ونعمة البال مالا شقاء فيه . وإن كان هذا ما نراه في حاضرنا فإنه شاهد على ما غاب عنا في سالف الزمن ، وعاشق اليوم هو عاشق الأمس ، وخطاب الأمس مجازي كحال خطاب اليوم ، وهذا كله علامة على نسقية ثقافية ولعبة مجازية .

ومن أخطر ما يروى هنا قصة جرير مع زوجة الحجاج ، هند بنت أسماء ، وقد طلبت ملاقاته بحضور الحجاج ، ولما سألته عن غزلياته أنكرها كلها ، وقال : لم أقل ذلك ، ولكني قلت في مدح الأمير : كذا وكذا ، وصار يحل أبيات مديح في الحجاج محل أبيات التشبيب ، وينسخ كل بيت غزل ببيت مديح [26]، وهكذا حينما تتبارز السلطة والفحولة مع الإنساني وخطاب الحب فإن شروط التفحيل تقتضي نسخ المحبة وكل ما هو أنساني لمصلحة ما هو فحولي .

ولم يفت على ابن أبي عتيق أن يلاحظ على عمر ابن أبي ربيعة أنه لم يكن يتشبب بالنساء بقدر ما كان يتشبب بنفسه، كما ينقل الأصفهاني في الأغاني[27].

ولقد سبق أن ناقشت مفهوم فحولة الشاعر ، وبينت أن الشاعر المخلص للغزل لم يكن ينظر إليه على أنه فحل[28] ، ولذا يتم نقض الغزل ونسخه لمصلحة الفحل .

هذا هو صراع الأنساق ، حيث لا يسمح النسق الفحولي لغيره من الأنساق بأن يتمكن من الثقافة . ولذا يجري نفي ونسخ الخطاب المضاد لكل ما هو فحولي .

ـ 5 ـ

العشق كخلاصة ثقافية

يأخذ خطاب العشق بنسقه هذا زمنا ثقافيا طال وتمدد ، منذ ظهور نصوص الغزل والمحبة ، وعلى امتداد زمن الثقافة مع كل تحولاتها ، العذري منها والرومانسي والحداثي ، إلا ما ندر من خطاب الحداثة [29]. وهذا يشمل الذاكرة الجمعية للثقافة ، حتى لنجد المواويل والأغاني والموشحات ، وسائر خطابات الحب حتى المحكي منها والعامي والزجلي ، كلها تدور حول سمات محددة لا تخرج فيها عن ذلك الذي هواه أعزه وأذل العاشق ، وعن المحب الواحد قاتل الكل ، والمصروعين كثر ، وليس واحدا فحسب ، وهو ابتلاء وجنون وفضيحة .

هذه هي صورته المعتقة في الخطاب ، بينما الحكم عليه عقليا هو واحد ، فالكل يذم الهوى ويراه مرضا حتى العذري منه صار ظاهرة مرضية وفسقا ـ حسب كلمات العظم ـ ، وهو خطاب كاذب ومغشوش .

وفي خلاصة ثقافية نجد غادة السمان تكتب كتابة تكشف عن كل قيم المحبة وتشخصها في كلمات محدودة وعميقة وكاشفة . ولئن كانت المرأة قديما مكممة الصوت ولا دليل عليها سوى ما توصف به كغياب ومضمر ، أو ما يقال على لسانها ، إلا أنها أخيرا تكلمت ، ولكن ماذا ستقول ..؟ لنقرأ كلمة غادة السمان :

“ حبيبي السان فالنتان : أجهل تكنولوجيا الحب ، ولكن ثمة الكثير من الأوهام الأكبر من الحقائق ، والحب من بينها وأنت شفيعه ، وثمة كلمات تلاشت عن أوراقنا مع الألفية المنصرمة وبقيت كلمة الحب ، صحيح أنها للسخرية تارة ، وتبدو اسما حركيا للكذب تارة أخرى ، ولكن راية تلك الكذبة الصاعقة ما زالت مرفوعة فوق الأعصاب المتوترة الهاذية ، ولا تزال ورقتي البيضاء تكتب لي : ياحمقاء ، إذا ترددت في كتابة رسالة حب عليها .

يا حبيبي السان فالنتان : تعامل رعاياك كديكتاتور من العالم الثالث لكننا نحبك ونغازلك حتى ولو هدروا دم الورقة التي نكتب عليها لك ، ففي زمن الكراهية ثمة من يركض إلى الملجأ حين يسمع كلمة حب ، ويدق طبول الحرب ، ويقرع صفارات الإنذار ويطلق النار على حرفين : الحاء والباء ، أو يحاول الزج بحرف الراء بينهما .

ياعزيزي السان فالنتان : كنت دائما منحازة إليك ، فأنا أعشق الحب وأتحاشى الحبيب ، لذا أريد أن تظل تنتظرني لأنني لن أحضر ، وتحب ثرائي لأنني فقيرة ، وسطوتي لأنني وحيدة مشردة وهامشية ، وتصدقني لأنني الكذب الذي لا يرقى إليه الشك .

وأريد أن أظل أحبك لأنك تسقيني عطشي فأرتوي ، وتأمرني بالكف عن الثرثرة حين أصمت ، وأجد في زلزالك استقراري وأنتمي إلى زئبقك الهارب خارج الأوعية ،

وليظل الفراق هو اللقاء اليومي لنا ، ودمت لغير المخلصة ” [30].

هذه رسالة تلخص تاريخ خطاب العشق ونسقيته ، وغادة السمان حينما كتبت هذه الرسالة فإنها تكتبها باسم جنس بشري كامل وباسم ثقافة بشرية راسخة ، وهي تضع صيغا تعبيرية عصرية لمفردات أزلية .

إنها تحب الحب ، وتتحاشى الحبيب ، وهي كاذبة في خطاب حب كاذب ، وهي هامشية ووحيدة ، وغائبة غيابا حسيا ومعنويا حاضرا ومستقبلا ، وهي الإمكان المستحيل . وهي أخيرا غير المخلصة ، تلك سماتها المنطوقة باعترافها وتحديدها ، وهي سماتها على مدى عمر خطاب الحب كله .

أما العاشق فهو : دكتاتور والكل رعاياه ، يأمر فيطاع ، وهو زئبقي خادع غير قابل للإمساك . وهو زلزال .

بينما الحب هو الوهم . وهو الاستقرار الكاذب والحق المزيف .

أما الكل من جمهور الثقافة فهم الذين ابتكروا حرفا يفصل بين الحاء والباء ليقتل الحب ، ويجعل الراء فاصلا يقصم ظهر العلاقة ، ويحولها إلى ( حرب ) ، وتأتي الراء لتخلق نوعا من العلاقة الفحولية بين الطرفين ، ولئن كانت الحاء هي العاشق والباء هي المعشوق ، فإن الراء تأتي بينهما لتعيد صياغة هذه العلاقة وتكون حربا ضد الحب وضد الخطاب ، وهذا ما جرى حيث نحب الحب ونتحاشى المحبوب .

وهذا ملخص ثقافي دقيق لحكاية خطاب الحب ، هذا الزواج السردي بين جنسين ، لم تسلم الحاء في طريقها إلى الباء حتى خامرتها الراء .

ما هذه الراء المغروسة بين الحرفين …؟

إنها ولا شك راء ثقافية نسقية ، هي راء النسق الفحولي ، الذي لا يسمح لعلاقة مثالية إنسانية بين طرفين من أطراف النسق ، بين المتن والهامش ، لأن علاقة سوية بين المتن والهامش سوف تعيد صياغة النموذج الفحولي ، وتفسد لعبة النسق وانضباطيته وتحكمه . وأول أنواع فساد العلاقة هو في تأنث العاشق وتهشم فحولته وتحييد سطوته وتقريب رأسه للأرض . وهذا يدق جرس الإنذار الفحولي حيث تهب الثقافة مهيبة بحراسها لكي يظهروا واحدا إثر واحد في حشد نسقي يطرد الطارئ في ثورة مضادة تحفظ حق النسق وتعزز سطوته . ولئن كان خطاب العشق هو الخطاب الأكثر إنسانية في مقابل خطاب التفحيل والفحولة النسقية ، فإن الثقافة المتلبسة بالنسقية لا يمكنها أن تترك الأمر يفلت من يدها ، ولذا نتآمر كلنا ضد الحب ، فنزيفه ونحوله من خطاب مقبول إلى خطاب مذموم ، ونمنعه من الواقعية ، ونجعله نقيض القوة والعقل والرجولة والعملية ، ونصوره بصورة سلبية ومنفرة ، وهذا كله من أثر سطوة النسق ، حيث تفرض شروط الثقافة نوعا من العمى الثقافي تجعلنا نتصرف ضد أي فرصة للتحرر ، وقد نعمل ذلك تحت مسمى التحرر ، كما جرى لصادق جلال العظم ، الذي باسم الحرية والتنوير راح يفرض قوانينه الفحولية الخاصة في مسخ خطاب الحب ونقضه ، واستبداله بفرمان بيروقراطي ينضم حياة البشر في قوانين الأمر والنهي والتنظيم الذكوري . حتى ليبدو البشر وكأنهم رعايا للسيد ، كما حددت غادة السمان .

ينتهي الزواج السردي في الشعر وخطابات الحب ليكون جنوسة نسقية ، تعيد تأطير البشر حسب قوانين التفحيل . وتضبط علاقتهم باسم التدقيق بين متن وهامش وقيم فحولية تقاوم كل ما هو إنساني اندماجي .

ـ 6 ـ

العاذل والتورية الثقافية

لا يقوم خطاب العشق إلا بوجود العاذل ، ولا يستقيم هذا الخطاب بغير هذا الشرط ، فمن يكون هذا العاذل ، وما هو ..؟!

إنه ابتكار ثقافي يلعب دور التورية الثقافية ، حيث يتصاحب نسقان في نص واحد ، أحدهما إيجابي يقول بالمحبة ويشهرها ، والآخر سلبي ينقض وينسخ ويفند ، وهو مصاحب لصوت العاشق ، يجاريه مسارا وجهورية ، والعاشق نفسه يلعب الدورين معا ، فهو عاشق وعاذل لنفسه ولعشقه . وهذا يوضح ما كنا نقوله عن النسق المضمر ، حيث يتصاحب نسقان أحدهما ينسخ الآخر وينقضه .

وخطاب العشق هنا يقوم على ناسخ ومنسوخ ، وكلما اشتد الحب اشتد معه العذل ، وعلى الدرجة نفسها من القوة والقطع . وفي كل عشق تجري هذه المبارزة السلبية بين عاشق يندفع وعاذل يردع ، وتقوم اللعبة على عدم حسم الموقف لمصلحة أي منهما ، فلا العاشق يرتدع ولا العاذل يكف . ويظل الخطاب يجمع بين الصوتين كشرط لازب لا يقوم بغيره عشق ولا محبة . وبهذه الملاحقة يظهر العشق وكأنما هو مغامرة سلبية واستلاب وجودي .

ويتحول الخطاب هنا إلى لعبة في التورية الثقافية ، إذ إن اسم العاذل مجهول وليس له من الصفات والخصائص غير أنه لوام يعذل ويقرع ، والعاشق يتشكى منه ويعلن عصيانه له ، ويدور الخطاب دورات متتابعة على هذا المنوال ، حتى لينتهي بنسيان المحبوب ، ونشوء قضايا ليست جوهرية كجوهرية المحبوب ، ولكنها تحل محل ما كان جوهريا ، حتى ليقول جميل إنه ما كان ليطلب بثينة لو أنها تركت له عقله ، ( ولكن طلابيها لما فات من عقلي ) ، وعقله لن يعود ، وعاذله لن يكف ، وهو سيظل على طلابيه لها ولهذه اللعبة .

والسؤال هنا من هي هذه الشخصية ، شخصية العاذل ، وما سر توريتها الخطابية …؟

إننا لو تصفحنا قصص الحب في الشعر وفي الحكايات لوجدنا أن العاذل يأتي في صور متعددة ، وأولها وأوضحها هي عبر صوت الشاعر نفسه ، حيث يزدوج التعبير من الشاعر نفسه فيتكلم باسم الحب ويورد قول عاذله الذي لا اسم له ولا صفة ، وهو لازمة ثقافية لا تنقطع ، وهذا يدل على أنه من صنع الشاعر ذاته ومن مستلزمات الخطاب واكتماله ، لأنه يؤدي دورا وظيفيا في إحماء اللغة وتحميس القول وإعلان الإصرار على المحبة ، والعاذل يحضر هنا لا ليطاع بل ليعصى ، ولكنه مع هذا يؤدي دوره السلبي كاملا من حيث تشويه الحب وتقريع العشق وتسفيه الخطاب ، وقد يصل التسفيه حدا قاسيا في حكمه كما رأينا في بيت إبراهيم ناجي : أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة . وهو قول يخرج من معجم العاذل ، والشاعر في هذه القصيدة هو من يلعب دور العاذل . وهذا هو صوت النسق الثقافي يتمثله الشاعر ، ولا يقوى على الخلاص منه ، وهو وإن عشق وأحب وتفانى في حبه ، إلا أنه يملك في تكوينه الداخلي صوتا لفحل ثقافي هو هنا جبار لا يصح له أن يهون أمام كائن هامشي هي المرأة ، ولذا يتداخل الخطابان بين حب المرأة والسخرية منها ، وكثيرا ما يصور الشعر المرأة بأنها كائن ضعيف ، وهن أضعف خلق الله إنسانا أو أركانا ، ولكنهم يقتلن ذا اللب حتى لا حراك به ، وقتلاهن كثر ـ كما يؤكد أحد فرسان الفحول ، أبو فراس الحمداني ـ .

والصورة الأخرى الأكثر تخفيا هي صورة العاذل الناسخ ثقافيا حينما يجري نقض قصص الحب ونفيها ، وفي ذلك نقرأ في الأغاني روايات تمتد إلى أهم قصة حب عربية ، وهي قصة مجنون ليلى ، فتحاول نفيها والسخرية منها ، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج عن دأب قال : “ قلت لرجل من بني عامر أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا ..؟ قال أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين ، إنهم لكثير ، فقلت ليس هؤلاء أعني ، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق ، فقال هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذلك ، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها السخيفة عقولها الصلعة رؤوسها ، فأما نزار فلا ”[31].

كما ينقل عن الأصمعي أن مجنون ليلى خبر وضعه الرواة ، وفي قول أن أميرا من بني أمية هو الذي وضع قصة المجنون ، وكان الأموي يتعشق ابنة عم له ولم يشأ أن يفضح حبه لها ، فوضع الأشعار والقصص باسم مجنون بني عامر ، وتعزز الرواية ذاتها عبر أيوب بن عباية الذي قال : سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه[32].

هذه روايات تلعب دورا مضمرا يتقمص دور العاذل الثقافي ، فهي تسخر من العشق حتى لا يليق بقوم أهل أكباد غلاظ من فحول الفحول ، ولكنه لضعاف القلوب سخيفي العقول عاري الرؤوس ، وهذا هو مقتضى خطاب العذل ، الذي يتأبى على الجبار أن تصرعه امرأة .

كما يجري إلغاء القصة بسند من الرواة وفحول الثقافة كالأصمعي الذي يجعلها أشبه بلعب التسليات الروائية الإمتاعية ، لا أكثر ، أو أنها مجرد دلع أميري إمبراطوري من جراء الترف وسرف العيش . حتى لا نعلم ولا باسم هذا الأمير العاشق اللعاب في عشقه والعابث في دلعه .

هذا كله من نتائج الضاغط النسقي الذي يفرض شرطه على معطيات الثقافة ، فيخلق شخصية العاذل الثقافي الذي يتقنع بأقنعة متعددة ليفرض شروط النسق الفحولي وينسخ أي خطاب آخر مضاد لفحولية الثقافة ، وشخصية الفحل الجبار.

ولقد كان خطاب العشق بما فيه من فتح عقلي وذهني وذوقي هو الخطاب المتحدي لخطاب الفحولة بتفرده وقطعيته ونفيه للآخر ، وكان من الممكن لخطاب العشق أن يفتح مجالا للتعدد والإنسانية في العشرة وحب الآخر والرضى بإنسانية الحياة وتعدديتها ، غير أن الثقافة أقوى من أن تهون ، ولذا تدفع بحراسها لكي يحموا حقوقها الفحولية المكتسبة ، ويتولوا دفع الدخيل عبر تشويهه ، ولقد رأينا كيف أن مفكرين قدامى ومحدثين تولوا نسخ خطاب الحب وتشويهه ، من دون وعي منهم أنهم يتكلمون بلسان النسق ، وهم في الواقع مسخرون من الضاغط النسقي في عمى ثقافي يبدو معه أنهم يتكلمون باسم العلم والتاريخ ، ولكنهم أصوات نسقية فحولية تسهم في تعزيز فحولة الثقافة ، وفرض الصوت الواحد غير القابل للتعدد والرافض للهامش في وصاية ثقافية مترسخة .

هكذا ينتهي خطاب الحب ليكون خطاب مرضيا بدلا من أن يكون خطابا في تأسيس نوع من الجنوسة المتعددة ، وينتهي إلى جنوسة نسقية ، ولقد ورد في القاموس أن ( العاذل ) هو عرق الاستحاضة[33] ، ولاشك أن المجاز الثقافي هنا يكشف عن نوع من النزف الثقافي الجارح لجسد الثقافة ، بما إن الاستحاضة هي الحيض غير الطبيعي وهي النزف الزائد عن حده ، وهذه هي وظيفة العاذل بوصفه شخصية ثقافية تستنزف النسق الثقافي حتى لتؤطره . وهذه واحدة من أخطر وسائل الثقافة الفحولية في فرض النسق الواحد ، وإحداث نوع من العمى الثقافي لكي لا نرى الخلل . ونظل في جنوسة نسقية .

الأداة النسقية

سبق أن أشرت إلى مفهوم ( المؤلف المزدوج )[34] وذلك حينما تتولى الثقافة كتابة أنساقها الخاصة من تحت الخطاب ، أي خطاب ، وفي حالتنا هذه يصح أن نقول إن الشعراء والرواة لم يكونوا يتكلمون بلسان حالهم الذاتي ، وإنما هم أدوات نسقية تتكلم بلسان النسق وشرط الثقافة ، لا عن وعي وتعمد ، ولكن يأتي هذا عبر المضمر النسقي ، المخبوء في ضمير الثقافة ، وهو مضمر عميق حتى ليخفى على ناقد علماني ، مثلما تخفى على من قبله ، ولذا يأتي خطاب العشق خطابا لا واقعيا ، ومن ثم لا إنسانيا ، من حيث كان يجب أن يكون أقوى دلالات الإنسانية ، غير أنه يستفحل بفعل النسق وبكون الثقافة مؤلفا آخر بإزاء المؤلف المعهود . لذا يأتي الخطاب معبرا عن كليات مجازية راسخة ، ويجري عزل العاشق عن المعشوق مثلما يجري عزل العاشق عن خطاب العشق ذاته ، فالعاشق لا يتزوج معشوقته ـ كما هو القانون الشعري ـ وكذا هي المحبة تصبح كتلة بلاغية وقولية متحدة السمات والمجازات ، حتى لكأننا أمام خطاب واحد منذ أول قصيدة حب مروية إلى آخر أغنية يرددها مطرب شبابي حديث ، مع تولع شعبي شامل بهذا وذاك ، وفي الوقت ذاته انفصال بين ما نتولع به وما نتصوره ذاتيا وما نعيشه واقعا ، وكأنما نحن في مؤامرة جماعية ضد الحب ، وهذه أهم وأخطر علامات النسق .

وينتهي الأمر بإزاحة خطاب الحب إلى الهامش ، وإخراجه من المتن ، وينتهي أجمل خطابات الثقافة وأكثرها إنسانية ليكون خطابا مجازيا بلاغيا كاذبا ، وجد للزينة البلاغية ولصناعة الترانيم والمواويل ، ويظل وهما في مقابل خطاب الفحولة والتفحيل النسقي ، وهي النسقية التي لا تسمح بقيام حوار أو تفاعل إيجابي بين خطابين ، خطاب الحب وخطاب الفحولة ، ولا بد من نسخ أحدهما لمصلحة الآخر ، وهذا هو ما قد جرى ويجري فعلا ، حيث يظل الإنساني مجازيا ، بينما يظل الواقع فحوليا . وكلنا شركاء في هذه المؤامرة الثقافية . ويظل الزواج السردي جنوسة نسقية ، ونحن في عمى نقدي مزمن عن هذا وذاك .


[1] ابن رشيق : العمدة 2 / 122 ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، بيروت 1972 .
[2] ناقشت هذا في : تأنيث القصيدة ، ص 83 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / بيروت 1999 .
[3] انظر : النقد الثقافي ، الفصل الثاني ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / بيروت 2000 .
[4] عن هذين المصطلحين ، انظر : السابق ، الفصل الثاني .
[5] العمدة 2 / 117
[6] من النوادر هنا أنظر : ثقافة الوهم ، عن فتاة وفتى ومشهد الموت ، ص 165 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / بيروت 1998 .
[7] ديوانه ، ص 492 ، دار صادر / دار بيروت ، بيروت 1960 .
[8] ديوانه ، ص 176 ، ت . حسين نصار ، مكتبة مصر ، القاهرة 1979 .
[9] ابن قتيبة : الشعر والشعراء 260 ، تحقيق دي خويه ، بريل ، لايدن 1904 .
[10] ديوانه ، ص 25 .
[11] الشرق الأوسط ، محيي الدين اللاذقاني : رسالة من سيدة غاضبة 6 / 2 / 2002 .
[12] ثقافة الوهم 163
[13] ديوانه ، ص 175 .
[14] أبو هلال العسكري : الصناعتين ص 76 ، تحقيق : علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ، مكتبة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1952 .
[15] صادق جلال العظم : الحب والحب العذري، ص ص 81 83 85 ، دار الجرمق ، دمشق ، ط 4 ، د . ت .
[16] الطاهر لبيب : سوسيولوجيا الغزل العربي ، الشعر العذري نموذجا ، ص 182 ، دار الطليعة ، بيروت 1988 ( ترجمة مصطفى السناوي ) .
[17] إبراهيم ناجي : ديوانه ص 303 دار العودة ، بيروت 1973 .
[18] العظم : الحب والحب العذري 104 ، 110 .
[19] السابق 55 .
[20] أبو الفرج الأصفهاني : الأغاني 14 / 167 ، دار الفكر ، مكتبة الرياض الحديثة ، الرياض ، د . ت .
[21] أنظر العمدة 2 / 124
[22] الأغاني 15 / 105
[23] العمدة 2 / 122 .
[24] ابن سلام : طبقات فحول الشعراء 2 / 545 ، ت . محمود محمد شاكر ، مطبعة المدني ، القاهرة 1974 .
[25] الحصري القيرواني : زهر الآداب 2 / 618 ، شرح زكي مبارك ، ت . محمد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة التجارية الكبرى ، القاهرة 1953 .
[26] المسعودي : مروج الذهب 3 / 160
[27] الأغاني 1 / 51 .
[28] انظر : النقد الثقافي ، الفصل الثاني والثالث .
[29] سوف أخص ذلك بوقفة خاصة ، وإن كنت أؤكد ندرته ومحدوديته وعجزه عن مواجهة النسق الفحولي .
[30] غادة السمان : جريدة الحياة 13 / 2 / 2002 .
[31] الأغاني 1/ 161
[32] السابق .
[33] الفيروزبادي : القاموس ( ع ذ ل ) .
[34] النقد الثقافي ، ص 74 .


.

 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...