عبد النور إدريس - رحلة المؤنث في وجدان الشعر العربي...

"والآخر عند الذات الفحولية ليس سوى كائن أنثوي مختصر في جسد شبقي مشتهِ"

تعتبر المرأة محور اهتمام الشعراء التي وصفوها على مر العصور بأحلى وأجمل النسيب وقد كانت صورتها واضحة المعالم بشعر الغزل والأموي على الخصوص، باعتباره عصر الغزل الذهبي، والإبداع الشعري حول المرأة بما أنه يشكل الإرهاصات الأولى لبناء معمار الشخصية الأنثوية التي امتلك فيها الرجل الشاعر أولا والسارد ثانيا هوية المؤنث وأخرجها من حدود أبعادها الجنسية، وسواء كان هذا الشعر حقيقة أو تجربة مُتخيلة ما زالت المرأة مُلهمة للأدباء الشعراء وقد شغلت حيزا وافرا من وجدان الإنسان العربي حيث كانت المرأة منذ العصر الجاهلي حتى نزار قباني هي ثلاثية:الأنوثة والجسد والهوية، مارس فيه الخيال الفني ثورته على القيود والمحرمات باعتباره ينمو وفق منطقه الداخلي ليشكل خصوبة رمزية في الممارسات الإنسانية.
إن حقيقة الشعر العربي كنسق لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الإطار السياسي والاجتماعي الذي أنشأه وبلور احتفاليته الثقافية بالوعي العربي.
إن العمل الأدبي في تحركه نحو إنتاج العالم المعيش لا يستطيع السقوط في المباشرية كإعادة الإنتاج المادي لواقعه وإنما ينزع نحو تكثيف المثال الفني لينسج مكانه عالما آخر لا يتماثل مع الصورة الفنية للمعيش الشيء الذي يضع بين أيدينا افتراض حضور الطابع المثالي لامرأة النسيب كمثل أعلى للجمال الأنثوي وعودة الشعر الأموي إلى الصورة الفنية للشعر الجاهلي الذي كان يمتح من صورة المرأة المثال الوثيقة الصلة بالمعتقدات الدينية والأسطورية وتنحدر منها لتعشش في المخيال العربي مند القدم.
لهذا فإن طرحنا لمجموعة من الأسئلة من شأنه أن يثير تلك العلاقة الجدلية بين الإنتاج الفني واستهلاكه الاجتماعي، ومن ذلك.
- ما هي أسباب تواجد وحدة الصورة للمرأة في الشعر العربي؟
- ما هي الدوافع التي حركت وساعدت الشعراء لمدح الجمال الأنثوي في العصر الأموي؟
- ما هي الطرق التي عبّر بها شعراء "الحجاز" عن مكنونات قلوبهم وخوالجهم وعاطفة الحب لديهم؟
- هل تعكس مقاييس الجمال المُنشَد الذوق العربي في تجلياته الواقعية أم إنها تعبر عن مثل أعلى للجمال طافح مترسب عن معتقد ديني أو أُسطوري سابق؟
- كـيف يـكون الإبـداع الشعـري شخصيا ويعـبر عـن ذات الـشاعر، وجماعيا ويعبر عن جسد القبيلة في نفس الوقت؟
- ما هي مقاييس تصنيف الشعر عند الأمويين انطلاقا من مظاهر تشطير البيت العربي إلى واجهة للحرائر وأخرى للجواري؟
- ما هي صورة المرأة المثال في شعر الغزل الأموي بملامحها الجسدية والمعنوية؟
- ألا يساعد الحفر اللغوي على فهم الإسطير الفهم الأمثل؟
- هل الاستفحال الشعري تعبير عن فحولة المجتمع أم فحولة ممكنة للغة؟
لاشك أن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة يعطي لهذه الدراسة تصميما خاصا قد يجيب عن تساؤلات النقد الأدبي، حيث إن الدراسات التي طرقت لشعر الغزل لم تكن ترسم بشكل واضح صورة للمرأة العربية فـ "قلما حفلت الدراسات التي تتناول شعر الغزل على امتداد العصور الأدبية العربية بشأن المرأة " ().
وقد اعتمدت في هذا الدراسة المنهجية التي تعتبر العملية الفنية نفيا مستمرا لذاتها ومحيطها نحو خلق وحدة نسقية منسجمة للشكل بمضمونه، كما نضع في اعتبارنا العلاقة السوسيولوجية بين مرسل ومتلقي الصورة الشعرية.
ما هي إذن، أهم المؤشرات التي تفاعلت بالسلب والإيجاب في وجدان الشعر الأموي؟
1-المؤشرات البارزة في حركية شعر الغزل.
يرتبط تطور الشعر بمدى إمكانية تطور حياة المجتمع ولعل من أهم الأسباب التي أثرت في الاتجاهات الأدبية للعصر الأموي وخاصة من حيث حضور هاجس المجتمع في موضوعات الشعر وصوره وألفاظه وأساليبه، والتي أثرت بالسلب والإيجاب في تمظهرات الإشكال السياسي والاجتماعي والثقافي بالإبداع الفني ومدى الحضور القوي لهذه التجليات في تطور مفهوم الممارسة الشعرية كحقيقة واقعية متجانسة تستبدل تشكيلها الواقعي باللفظ والصورة الشعرية.
1-1- المؤشر السياسي
إن هذا المؤشر من أبرز المؤشرات التي طبعت العصر الأموي و"لئن كان للأمويين الغلبة في الوصول إلى الحكم، فإنهم لم يستطيعوا غلبة المعارضة نهائيا فأدركوا أن حكمهم يحتاج إلى الاستقرار، وأن هذا الاستقرار بحاجة إلى دهاء سياسي" ([ii]).
ومن آثار هذا الدهاء أن حرك بنو أمية النعرة القبلية بين العنصر العربي وغيرهم من المسلمين، فكان طبيعيا أن تشب نارها في الشعر وبذلك ساهموا في أن يفتح "سوق عكاظ" بابه من جديد في وجه التراشق الشعري بين المكونات المختلفة لمعارضيهم بالحجاز والعراق والشام.
كما أحدثوا شرخا بمشاعر الذاكرة والنفس العربيتين لما حوّلوا مركز الخلافة من بلد الحجاز إلى الشام.
وقد ساهم هذا المؤشر في الظهور القوي للمؤشر الاجتماعي.
1-2- المؤشر الاجتماعي
بعد انتهاج بني أمية لسياسة الفتوحات وانفتاح البلاد العربية على حضارة الترف البيزنطية والفارسية، كان لتدفق الأموال كبير الأثر في تميُّز دهائهم السياسي لإسكات المعارضين وخاصة أصحاب الحق الشرعي في الخلافة بالحجاز، حيث عالج بنوأمية هذه المعارضة "بالمال الوفير أغدقوه عليهم بلا حساب، وأبعدوهم عن المشاركة في السياسة والحكم "([iii]). وقد أنجب حجاز الترف شعراء كالعرجي والأحوص والحارث بن خالد المخزومي الذين رسموا في شعرهم الملامح الأولى للمرأة التي سنجدها كاملة عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة.
ولقد أصبح الانغماس في الملذات شيئا مباحا ومظهرا تتسم به هذه الحقبة وخاصة بالحجاز الذي ازدهر فيه الغناء والإيقاع وفنون اللهو في الغفلة المتعمدة للرقيب الذي غض الطرف "عمّا انهمك فيه الناس من لهو وترف وغناء وحرية التمتع بملك اليمين من سبايا الهند وفارس والروم وسواها من البلدان"([iv]).
هكذا استمتع المجتمع الحجازي باسترخائه حيث إنه خلع ثوب الجهاد ومضى يتمتع بجني الفتوحات، جمالا ومالا، فكان الغزل "أشبه موضوعات الشعر بالغناء، ومطلب النفوس من هذا مطلبها من ذاك، ومن هنا كان التجاوب بين حالتيهما: فمن آثار الموسيقى في الحجاز توجيهها موضوع الشعر إلى الغزل"([v]).
1-2-1- الوضعية المجتمعية للمرأة بين ظاهرتي الحجاب و"ملك اليمين".
يتحدد الأسر كواحد من الأسباب المباشرة لظاهرة الرق باعتباره أهم مصادرها الرئيسية وقد تعمقت العلاقة بين الرجل والمرأة المسترَقَّة من الناحية الجنسية بحكم ورودها في النص القرآني كملك اليمين تقول الآية: ﴿ وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم ﴾ سورة النساء الآية 3.
- فما هي انعكاسات ظاهرة "ملك اليمين" على نفسية المرأة العربية؟
- وما هي القاعدة الواقعية التي جعلت عمر بن أبي ربيعة ناطقا رسميا باسم المرأة الحرة؟
إن التفتح الواسع على عدد النساء "الجواري"اللواتي أضفن التنوع في الجمال الأنثوي وحسن الصوت والغناء بالبيت الأموي حيث كان منهن الروميات والفارسيات والسنديات والهنديات...
وقد أدى الاستغراق في المجون والخلاعة إلى الابتعاد عن فحوى النص القرآني الذي أسس هذه الإجازة الشرعية "ملك اليمين" كتدبير مؤقت، فأخذ المجتمع الأموي ينهل من الحضارة التي وفدت عليه الشيء الذي "أقحم على الحرائر عوامل القلق والتمزق النفسي حين فهم الرجل خطأ حرية التمتع "بملك اليمين"فانقاد إلى قيانه وجواريه، وذا الميل الفطري المنجذب بمادية أحاسيسه إلى اللذة الجسدية"([vi])
إن هذا التفسخ والاستغراق في التمتع بالجسد الأنثوي المتنوعة مصادر جماله وفتنته قاد البحث إلى أن نفترض وجود أزمة للزواج بالمجتمع الأموي وبالتالي إعراض الرجال عن زوجاتهم، الشيء الذي أضر بالحرائر من النساء العربيات كما أضر بهن الحجاب الذي عزلهن عن المجتمع "ذلك أن المرأة الحرة لا تباع ولا تشترى فلا ينبغي لها أن تبرز محاسنها إلا على حَليلها، بينما تبرز الجارية محاسنها لأنها مادة تجارية في سوق الرقيق تباع وتُشترى"([vii]). إن الحجاب قد ألحق الحرة العربية بالظل وقد انشطر البيت الإسلامي إلى شطرين: شطر للحرائر وشطر للجواري.
فالحرائر قد فرض عليهم منطق الحجاب لزوم بيوتهن، يقول تعالى: ﴿يا أيها النبئ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن﴾ سورة الأحزاب الآية 59.
وكان من الانعكاسات المباشرة للحجاب، عدم خروج الحرائر بأية زينة أو طيب، ويمكن القول بأن هذه الوضعية جعلت المرأة الحرة تحاول صياغة وعي خاص بها لشد الذكر العربي إلى مفاتنها الشيء الذي دفع بها إلى منافسة الجواري في إبراز محاسنها، وهي معركة شاملة ذات بعد انفلاتي من بعض أحكام الشرع الإسلامي، تحمل في جوهرها سمات معركة تستبد بالمضمون لكي تستحكم الاستبداد بالشكل.
فالمرأة الحرة " ربَّما سعت بجسدها الأنثوي لأن تكون "خليلة" لزوجها بعد أن كانت حليلة مما يسَّر للشعراء إثر هذه المنافسة سبيلا لاقتناص الصور التي تلائم ميولهم في غفلة الرقيب"([viii]).
لقد أُعجب الحجازيون بالأسيرات فأصبحوا أسرى لجمالهن وفتنتهن ودلالهن فكان الإعراض عن الزوجات بالجسد المستورد الوافد من الأمصار.
1-2-2- معركة الحرائر لاستعادة المكانة المفقودة
- كيف عبًّرت المرأة الأموية الحرة عن رغبتها في خرق الطابوهات وتكريس استمرارها أحيانا؟
أثار حكم بني أمية النعرة القبلية ودعوة الجاهلية فعاد الشعر للتداول باعتباره هو ديوان العرب، فعمدت المرأة المحصنة إلى إحياء ذكرى الجاهلية في النفوس وإغراء الشعراء للتشبيب بمفاتنها واستعراض خباياها النفسية والجسدية "إذا ماكانت عزباء، فيقبل عليها الخطاب، أما المتزوجات فلِثَني الرجل عن أفعاله واستعادته إلى بيته"([ix]).
- كيف عبّرت العبقرية الشعرية العربية عن ذاتها؟
- وما هي تلك الخصوصية التعبيرية؟
فبعدما رقَّقَ الغناء وتعاطي الجواري من طبع البداوة بالحجاز كان لشعر الغزل في الحرائر مفعول الرقيب على الأخلاق المتشعبة المسالك في جغرافيا تضاريس وعي المجتمع العربي الجاهلي حيث لم يكن الشاعر الجاهلي بوقا للقبيلة فقط وإنما لسانها والمعبر عنها إذ ضَمن شعره مُلتقى عواطف القبيلة ومحامدها وسجل أيامها ووقائعها كصدى لها بالإضافة إلى كونه أنشد الشعر كقيتارة للتعبير عن نفسه، فالغزل في رأي ابن قتيبة "غرض بذاته ولكنه غرض لغيره"، "فهذه النكسة الجاهلية كان لها أثرها في الحياة الأدبية في هذه الفترة (العصر الأموي) من ناحية الكم والكيف جميعا، فقد أتاحت لتيار النشاط الأدبي الجاهلي أن يمضي في سبيله، وأن يغمر الحياة بأمواجه المندفعة في صخب وعنف، بعد أن تهاوت السدود التي تمنعه أو تحاول تلطيفه وتهذيبه"([x]). وقد وُصف العصر الشعري الأموي بعصر الرجعة"إذ جعلت الحياة الأدبية تُراجع فيه نشاطها الذي عرفته في العصر الجاهلي، كما أرادت أن تجعل من نشاطها فيه صورة من ذلك النشاط الجاهلي وامتدادا له"([xi]).
ولعـل ما يثبت فرضية كون عمر بن أبي ربيعة ناطق رسمي باسم المرأة العربية الحجازية هو كونه" رسم لها طريق الخلاص حين أنطقها، في شعره، بكل ما تريد البوح به وأعلى من شأنها، وناصرها في صراعها مع الجواري والـقيان بُـغـية إثبات وجـودها كائـنا لـه حــق الـحـرية والـحـياة"([xii]). وعندما جعلها عاشقة لا معشوقة حرّك غيرة الرجال على نسائهم المُهمَلات.
- هل هناك شروطا نظرية يمكن من خلالها تحديد الشعر الأموي في حدود الإباحية والعذرية؟
- بأي معنى يمكن أن ندعو قصيدة النسيب الأموية إباحية؟
فشعر الغزل بما هو صحافة العصر الأموي قد سجَّل أخبار النساء لتحريك غيرة الذكر العربي على أُنثاه وإعادة تمكينه من اكتشافها في مداها الأخلاقي الواسع وقد استعملته بنات الخلفاء، فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وشريفات آل البيت كسكينة بنت الحسين التي كانت تستقبل الشعراء في دارها، وعائشة بنت طلحة بنت الصحابي، ومما يزكي الدور الترويجي المؤثر في نفسية العربي واستجابته له قصة الدارمي الشاعر الذي ترك الشعر وكانت عودته لشعر الغزل وسيلة لذر الربح على تاجر خُمُر العراق، حيث تعَشَّقَ صاحبة الخمار الأسود يقول صاحب الأغاني في ذلك " فلم تبق مليحة في المدينة إلا اشترت خمارا أسودا وباع التاجر ما كان معه"([xiii])
يقول الشاعر الدارمي:
قـــل للمليحة في الخمار الأسود * ماذا فعلت بزاهــــد متعبّــــــد
قد كان شمّر للصلاة ثيابــــه * حتى خطرت لـــــــه بباب المسجد
رُدي عليه صلاته وصيامـــه * لا تقتليه بحَــقّ ديـــن محمــــد
لقد صارت المرأة العربية الشريفة أُغنية في قصيدة.. والقصيدة أُغنية على أوتار المغنيات فكان أن تحولت عقلية العربي بفعل سحر شعر الغزل الذي يسعر القلوب ويستفزُّ العقول ويستخفُّ الحليم، من عشق الجواري إلى التهافت على الحرائر، شارك في هذه الصيرورة مغنيات حادقات، صار لهن مكانة وموكب ودار، أمثال جميلة وعزة الميلاء وسلاَّمة القس وقد كان تأثيرهن في الشعر والشعراء واضحا جليا.
2- صورة المرأة المثال في شعر الغزل الحِسِّي
2-1- شبقية الشعر العربي بين الخفاء والتجلِّي
لقد كان من آثار العنصر الثابث للنعرة القبلية، شُعور العنصر العربي بتفوقه كما "أثر في رجعة الشعراء إلى البادية أو إلى الشعر الجاهلي، يستمدون منه اللفظ والمضمون مما شكل منحى بارزا في مناحي شعر الغزل بنوعيه" ([xiv]).
فما هو سبب عودة شعراء العصر الأموي لأوصاف المرأة في العصر الجاهلي بالرغم من السمة الحضرية التي أبرزت اختلافهم كعنصر متحول عن الشعراء البدو الجاهليين؟.
إذا سلَّمنا بفرضية وجود المرأة المثال في المعتقدات الدينية والأسطورية بالبيئة الجاهلية، فإن عودة شعراء الغزل الأموي إلى نحت نفس الصورة للمرأة تثبت وجود صورة أقدم للمرأة هي المثال أو الأصل الذي احتداه كل الشعراء، هذه المرأة الأيقونة، التي تضمَّنت كل الصفات الأنثوية المتحركة بوجدان ومخيال الإنسان العربي، وكانت عناصر الأنموذج كاملة يتجاذبهها الحضور والغياب الواقعي الشيء الذي جعل الشعراء، جاهليين وأمويين يحتدون الأصل المفقود.
وقد أتت صورة المرأة في شعر عمر بن أبي ربيعة مماثلة لصورة المرأة الجاهلية نظرا إلى لتشابه في المحاسن المعتمدة على مغازلة المخيال الذكوري من خلال مرجعية اللغة كنسق فحولي، "ومن هنا نستطيع أن نزعم أن اليعْرُُبِي امتزج مع بعيره امتزاجا فاذَّاً بل إنه تماهى فيه حتَّى يمكن أن يقال إن هناك عملة واحدة لها وجهان: وجه إنساني هو اليعربي وآخر حيواني هو البعير"([xv])، بينما نجد أن سحر المرأة الجاهلية والصورة التي رسمها الشعراء لها تمثل الذوق العربي أصدق تمثيل، تُجسد تلك الوحدة المشتركة للوجدان العربي والتي تأكدت في الثوابث الفنية والتخيُّلية التي تنتظم بنية القصيدة العربية، بنية حية للخلق الفني تُشكلها الوحدة النفسية والشعورية والتي جعلت من مقومات الجمال خاصية مشتركة في شعر الغزل فـ"كل حبيبة، صورة مثالية للمرأة العربية التي لفتت الأنظار وسلبت الألباب ودخلت القلوب دون استئذان "([xvi]).
هذا السحر عند خليل رفيق عطوي "يكمن في تكامل أوصافها، فالعيون نرجس تفعل في المرء فعل الخمر والسهام، والحواجب قسيّ على الجبين الصبوح، والشعر ليل يتدلى على المثنين فيحيط وجها كأنه الشمس أو القمر نورا يشعشع في الخدود الوردية والثغر أقحوان واللَّمى خمر، والريق شهد والأسنان لؤلؤ"([xvii])، كل هذا يدفع بالبحث إلى تأكيد الصورة المثال للمرأة العربية، فهوس العربي بثقل العجز وامتلاء الساق يؤكد الرؤية الشبقية للشعر الجاهلي وما تلاه من شعر العصور اللاحقة، لهذا "فإن اليعاريب قد ابتدعوا ما يمكن أن نسميه (تناسخ الأجساد ) وخلاصته أن تغدو المرأة على هيئة الناقة في بعض أجزاء وعلى صورة الفَرْسَة أو الحجر أو الفُريسة في سائر الأعضاء" ([xviii]).
إن حضور النموذج السائد والمألوف والتعامل معه على مستوى المثال استطاعت الذات العربية أن تستحضر جل الموضوعات الممثلة لهذا النموذج بما أن الذات هي الضامنة لوحدة هذه الموضوعات "فإذا كان الشاعر العربي قد بلغ الذروة في التخييل القصصي من خلال وصف الناقة وتصورها بقرة أو ثورا أو نعامة أو قطاة، فإنه قد ظل ملتزما بهذا الاتجاه العام، مما يدل على أن وصف الناقة كان محكوما بتقليد تخيلي ترسخ منذ الزمن" ([xix]).
فالشاعر يُحمِّل واقعه دلالات رمزية "فنراه يستعمل تلك النقلة الأسلوبية المعروفة ليحث ناقته على السير بعدما يعدها ويهيئها ويختار لها من النعوت والأوصاف ما يجعلها قادرة على الضرب في عرض الصحراء لتجتاز به هذا العالم الذي يريد أن يخلفه وراء ظهره إلى عالم آخر يحلم به ويعمل له...".([xx])، فالناقة الموجودة في القصيدة هي عامل موضوعي ينتقل بها الشاعر إلى عالم السيادة والحرية والانتصار.
إن أنْوَقَة صورة المرأة الجاهلية لدى الأعرابي حقيقة وعتها المرأة الأعرابية"فجهدت جهدها لتشكيل بدنها على مثال بدن الناقة في بعض وعلى رسم بدن الفرسة في بعض الآخر"([xxi]).
فالعربي لا ينظر إلى امرأته إلا من خلال ملامح الناقة والفرسة اللَّذَيْن يملآن عليه حياته وتشكيلات حواسه، وقد كان من الطبيعي أن يصبح المقياس"الناقوي" هو المقياس الذي يقيس به الأعرابي المرأة.
فالعرب بهذا منذ الجاهلية حتى العصر الأموي، رسموا امرأة واحدة للجمال الأنثوي المثالي، فلم تختلف أوصافها عند جميع الشعراء إلا في تفاصيل صغيرة لم يكن حظ الاختلاف فيها واردا فيما يخص البدانة وعظم الردف والأوراك، "فقد صور الشاعر الجاهلي حبيبته بدينة سمينة ضخمة الأوراك، عظيمة العجز، ذلك لتأثره بالقيم الجاهلية التي كانت سائدة في عصره، فبدانة المرأة دليل على ترفها وغناها و"أرستقراطيتها"وهذا، بدوره، دليل على أن الشاعر فارس شجاع في الوصول إلى بنات الطبقة المُتميّزة في عصره"([xxii])
وكانت صورة المرأة بالشعر الجاهلي مقرونة بالبدانة التي تؤهلها للقيام بوظيفة الأمومة والخصوبة الجنسية يقول نورمان بريل "إن الأعمال الفنية اللافتة للنظر في تماثيل ما قبل التاريخ كانت تماثيل المرأة المصنوعة من الحجر الجيري، وتمثل امرأة بدينة في كل أعضائها لتمثل الخصوبة أو الأمومة "([xxiii]).
واستمرت المرأة صدى لتهويمات الشاعر الأموي، حين غلغل النظر في جسدها وتمادى في التعبير عن ميله إلى هذا الجسد، بما فيه من إغراء وفتنة ألهبت أنينه فكشفت ظنونه، فالمرأة عنده "سمينة، ضخمة العجيزة، ثقيلة الأرداف، وكان ذلك من أسباب حقها في الوجود...لأن المرأة الرّسْحاء لا شهادة لها ولا حق في الحياة..على ذمة عمر"([xxiv])
فلو كانت نساء الأعراب رسحاوات لما احتاج الإسطير إلى هذا الكم الهائل من المنع والتضييق على المرأة في لباسها وزينتها.
إن العين الليبيدية للشعر العربي كانت متحكمة في تشكيل التقطيعات الجسدية لنحت صورة المرأة التي اكتملت فيها أوصاف الجمال "حتما لم تكن محبوبات الشعراء كلهن على هذه الصورة التي تمت خطوطها وبلغت حد الكمال في الحسن، وإنما أضاف إليها الشعراء أوصافا من متخيَّلهم. غير أنه من المستبعد أن تكون كل هذه الأوصاف من صنع خيال الشاعر لا وجود لها في الواقع"([xxv]).
لقد عبّر الشعر الجاهلي والأموي عن قمة ما أنتجته حضارة العين باعتبارها أداة الاستقبال التي يجري التركيز عليها كمركزية ثقافية تُهمّش الحواس الأخرى، حيث أصبح الجسد يستقبل العالم عبر حس واحد.
2-2- لوحة فنية شعرية لصورة المرأة المثال.
إن الوردة بأجزائها المكونة لها، فالوردة جميلة بتناسق أجزائها وتكوينها التشكيلي العام، فعندما نريد صياغة كل المحاسن التي تغنى بها الشعراء لتكوين الجسد "المثال" في جسم الوردة الواحد لا يمكن أن نحصل إلا على تمثال لآلهة أنثى كما رسمتها الحضارات القديمة، صورة ارتبطت بالمقدس واحتلت تشبيهاتهم لترمز إلى المرأة المُؤلهة التي عُبدت في الماضي لِما تحققه من خصوبة "هذا وقد رمز الجاهليون للمرأة بالأصنام فمنات واللات والعُزى كانت أصناما لآلهة إناث كما رمزوا لها بالقَلُّوص والنخلة والسدرة والشجرة والنار والسحابة والشمس"([xxvi]).
ونظرا إلى وحدة وجمالية الوردة فقد حبّذت رسمها ابتداء من الصدر والنهد، والخصر، والبطن، والردف ثم الفخذ لينطبع في الأذهان التناسق الجسدي للصورة الشعرية للمرأة مع تناسق الطول والقد."فعندما يستعصي العثور على معنى للكل، بإمكان المحلل أن يعود للأجزاء، فقد لا يدل الكل إلا من خلال أجزائه، أو قد تختلف دلالة الكل عن دلالة الأجزاء المكونة له، تلك حالة الجسد وتلك حالة دلالاته وأشكاله ومعانيه"([xxvii]).
الصدر والنهد:
وصف الشاعر العربي صدر المرأة فجعله مثيرا وفاتحا للكون الجنسي وشهيا تتجاوز حدوده العالم الحسّي، فشبهوه بالرمانة في استدارته، وبحُق العاج لصفائه وبياضه، وبالحمام وبالمرمر، وبالثمار، وقد سمَّى بعضهم النهدين ثمارا لنحور، وسُميت المرأة بأسماء شكل نهديها، فالكاعب التي كان نهداها في أول بروزهما، والناهد غير الكعوب من حيث كبرالنهدين، وقد جاء ذكر( الكواعب الأتراب) بالقرآن الكريم.
أما الجمبل من الحلمات ما كان نافرا ورديا، تُسمّى نقطة العنبر، يقول النابغة الذبياني:
والبطن ذو عُكَن خميص ُُُ طيّه * والصدر تنفجه بثدي مُقعد.
الخــصـر:
أحب العرب من الخصور الضّامر والنحيل والناعم وهو الحزام الأنثوي الذي يفصل بين عقل الاشتهاء واشتهاء العقل، بين أعلى الجسد وبين ما أسفله أعباؤه لا حصر لها، فهو يحمل صدرا بارزا ومكتنزا ونهدين يفيضان بالحلم والشهوة، ومشدود بردفين عظيمين مستديرين يمنحان الناظر عشق الحياة.قال ابن الدمينة:
عقيليّة، أما مَلاتُ إزارها * فدِعْصُ، وأما خصرها فبتيلُ ُ
(دعص= قطعة مستديرة بتيل = ضامر)
وقال ابن الرومي:
وشربت كأس مدامة من كفهــا * مقرونة بمدامة من ثغرهـا
وتمايلت فضحكت من أردافهـــا * عجبا ولكني بكيت لخصرها.
الـبـطن:
تولّه العرب واحتل وجدانهم الشعري السمين والممتلئ من جسد المرأة فشبّهوا البطن وطيّاته بالأقمشة وبالأمواج المترقرقة، ثم ما لبث الذوق أن تحوّل إلى محبّة البطن الضامر، قليل الارتفاع، ففي البطن مكمن أخاذ من مكامن الإثارة والاشتهاء، إنه السُّرة، والواسعة منها رسمها بعض الشعراء وصفا بمُذهُنُ العاج، إشارة إلى اتساعها وقالوا: إنها تسِع أوقِية من المسك.قال بشر بن أبي خازم:
نبيلة موضِعِ الحِجلين خَود * وفي الكشحين والبطن اضمرارُ
وقال النابغة الذبياني:
والبطنُ ذو عُكَنٍ لطيف طيُّه * والنَّحر تنفُجُهُ بثَذيٍ مُقعدِ
وقال عنترة بن شدّاد:
وبطن كبطن السّابريّةِ ليِّن * أَقَبُّ لطيف ضامرُ الكشحِ مُدمَجُ
الـرّدف:
الرّدفان هما بُؤرة الشهوة عند العربي، وأكثر ما تمتاز به المرأة في المخيال العربي، وقد أحب العرب الأرداف الضخمة الممتلئة وكانت عندهم فُسحة مُضيئة في خريطة الجمال والأنوثة والرغبة لديهم، وقد شبّهوا الردفين بكثيب الرمل، بالدعص، وبالموج، يقول النابغة الذبياني:
مخطوطة المتنين،غير مفاضة * ريَّا الروادف، بضّة المتجرّد.
وقال ابن الدمينة:
عقيليّة،أما مَلاتُ إزارها * فدِعْصُ، وأما خصرها فبتيلُ ُ
ويقول جميل بثينة:
مخطوطة المتنين مُضمَرة الخَشا * ريَّا الروادف، خلقها ممكور.
ويقول عمر بن أبي ربيعة:
خَدَلَّجَة اذا انصرفت * رأيت وشاحها قلقا
وساقا تملأ الخُلخـــا * لَ فيه تراه مُختَنقا.
الـفـخذ:
أما الفخدان، ففيهما الإغواء والإغراء والشهوة، فهما تفضيان إلى مكامن السحر والجمال، ولذا كانت الفخذ الجميلة هي اللَّفاء المكتنزة، تتناسق مع عظم الردف وتدويره وقالوا إنه أنعم من الحرير وألين من الزبد، والساق المثال عندهم هي الساق الرّيّا الممتلئة القوية.وشبَّهوا الساقين بعمودين من المرمر.
يقول النابغة الذبياني:
سقط النضيف ولم تُرد إسقاطه * فتناولنه واتَّقَتنا،بالــــيد
بمخضَّب رخص كأن بنانـه * عنم على أغصانه لم يُعقد
ويقول امرئ القبس:
وكسح لطيف كالجديل مُخضَرّ * وساق كأُنبوب السقي المُذَلَّل.
الطول والقد:
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "لا يفوتَنَّكُم الطول والبياض، فهما علامتا الجمال".
فالتشبيه لهذه الخاصية كان له حظ وافر من المعاني فشُبه بقضيب البان، قضيب الخيزران، والرمح وشبَّهوا المرأة الطويلة بتمثال في كنيسة.
يقول النابغة الذبياني:
أو دمية من المرمر، مرفوعة * بُنيت بآجُر، يشاد بقَرمَد
ويقول عمر بن أبي ربيعة:
تمشي الهُوينا، إذا مشت فُضُلا * وهي كمثل العسلوج في الشجر.
الأطـراف:
لقد حازت الأطراف اهتمام الشعراء باعتبارهما ركنا من أركان الجاذبية وعمودا من أعمدة الشهوة، فالنظرة الجشطالتية للعربي لجسد المرأة ترتكز على ساقيها البضّتين، وذراعيها الناعمين الأملسين.
لماذا حظي الساقان بذلك الاهتمام؟ يرد خليل عبد الكريم ذلك إلى أن" الأعرابي كان (ولا يزال) يعتبر الساقين الممتلئين الخَدَلَّجين شارة موثقة وعلامة مؤكدة على أن المَرَة التي تملكهما تهب متعة مضاعفة ومن هنا ينطلق التشديد على سترهما وتغطيتهما"([xxviii]).
وقد شبّهوا الساعد بصفيحة من فضة من شدّة البياض، أما الكف فله فعل السحر في الجذب والفتنة، وخاصة إذا أخفت بهما المرأة وجهها أو سترت بهما مفاتنها إذا تجرّدت، أو إذا أشارت بهما للوداع، أو مدّتهما للسُقيا.
شبَّه الشعراء الأنامل بالعنم، وهو شجر ليّن الأغصان أحمر الثمر، وبالعاج واللؤلؤ.قال امرئ القيس:
سِباط البَنان والعرانين والقنا * لِطَافِ الخصور في تمام وإكمال.
وقال دو قلةُ المنبجّي:
امتد من أعضادها قصب * فَعم تلته مرافق دُردُ
والمعصمان فما يُرى لهما * من نعمة وبَضاضَة زندُ
ولها بنان لو أردت لـــــه * عقدا بكَفّكَ أمكنَ العَقدُ
الـحركـة:
لقد نظر العربي إلى هذه الأوصاف الجسدية في تناسقها وهي تشغل حيزا في الفضاء فاعتبر حركة المرأة عنصرا من عناصر الفتنة والإغراء دلالها له مغناطيس وجاذبية بخلاف السكون الذي يعطل الإثارة ويجمّد تضاريس الجسد، وقد جاء الشعر ناتئا بأوصاف تُمجد الحركة في الأنثى حيث وصفوها بغصن البان، حقف النّقا، المهاة، مسير الغمامة، خطو القطا والنعام.يقول الأعشى:
غراء فرعاء مصقول عوارضها * تمشي الهُوينا، كما يمشي الوَجيُ الوَحلُ
أما عمر بن ابي ربيعة فقال في ذلك:
بيضا حسانا خرائدا قُطُفا * يمشين هونا كمشية البقر.
لقد تركتُ الوجه بما هو عاصمة الجسد وحبات الجمال فيه كما صوَّره الشعر العربي بالمرأة المثال بكل من العصر الجاهلي والأموي إلى حين الحديث عن الشعر العذري.
ونظرا إلى صعوبة تجميع هذه الخصائص الجسدية إلا في مخيلة شبقية وقد عُرف عن الشعراء سعة التخيُّل والشطح في التوهُّم فإن " الصور التي يعرضها الشعراء في قصائدهم ومعلقاتهم...الخ، محض خيال، مجرد وهم أو على الأقل هي أماني عشّشت في أدمغتهم أو نماذج مثالية لم يجدها الشعراء في الواقع فأودعوها أبياتهم"([xxix]).
إن الصور التي كان يتلقاها المجتمع العربي كانت تدمجه بحماس في الواقع الإنساني والانتقال به إلى عالم المتعة الجمالية وتشكيل عواطفه وصياغة عالمه الذاتي ولهذا فإن الانفعال مع مزيج الخطوط والألوان، هو العاطفة السامية، التي أثارها الشعر في الإنسان العربي ومازالت تلك الجينات الوراثية المعنوية راسخة تُهيمن على ذوق العربي المعاصر الذي سكنت تصوراته عن المرأة في القواميس والمعاجم فأصبح كل مايهمه"وما أهمه هو الجسد الأنثوي وإن شئت الدقة شطره الأسفل أما باقي آفاقها، النفسية والمعنوية والأدبية والروحية...فهو خارج حدود حُسبانه وبعيد عن اهتمامه وقصِيّ عن تفكيره..."([xxx]).
3- طبيعة الصورة النرجسية في شعر عمر بن أبي ربيعة.
لقد بعث عمر بن أبي ربيعة صورا شعرية حية للمرأة العربية رغم الفرق الشاسع بين صور البداوة للشعر الجاهلي الذي استلهم منه صوره، وصور الحاضرة التي اختلطت بجمال المرأة الرومية والفارسية والهندية، الشيء الذي يؤكد لنا أن شعره كان إعلانا في اتجاه واحد، وهو إبراز محاسن محصنات العرب واعتبار شعره صناعة مقصودة لدغدغة عواطف المستمع العربي واستدعاء أسماعه وجعله يعمل حقيقة على تحرير المرأة من "عقالها"رغم اقتناعه المبدئي بحريتها، "والواقع أن المرأة في هذا الشعر الحضري لم تتحرر من عقدة الرجل نفسه فنراها في شعره حبيبة طاهرة الود، صادقة العهد حينا، وغادرة لا تصون عهدا ولا ترعى أمانة الغياب حينا آخر" ([xxxi])، ومن مظاهر عدم أمانتها مساهمة عمر بن أبي ربيعة في تجديد الصورة العامة للغزل حيث تحولت المرأة في شعره إلى عاشقة تتهافت على لقياه حيث أصبحت شخصيته في عالم الحرائر موضوعا للغزل في شعره بينما السائد هو كون المرأة هي المعشوقة.
وقد كان تميُّز غزليات عمر بن أبي ربيعة عن باقي الغزليين هو ما أسْمَيْتُه "غزل المرآة" وهو شعر تحوّل فيه الشاعر إلى موضوع ومن عاشق إلى معشوق فهو المطلوب من النساء والمعرِض عنهن بدلاله" وقد فَتَنَ عمر النساء وتيّمهن فأخذن يطرينه ويتهالكن علية حتّى فُتِن بنفسه، فلم يتغن ّبحبِّه إيّاهن كما تغنّى بِحُبِّهنّ إيّاه " ([xxxii])، حيث قال:
قالت لتِرْب لها تحدِّثها * انفسدنَّ الطواف في عمر
قومي تَصًدَّيْ له ليعرفنا * ثم اغمزيه يا أخت في خَفَرٍ
قالت لها: قد غمزته فأبى * ثم اسبطرَّت تسعى على أثري.
( اسبطرت = أسرعت)
كما قال أيضا:
أرسلتْ هندُ ُ إلينا رسولا * عاتبا: أنْ ما لنا لا نراكا؟
فيم قد أجمعت عنا صدودا؟* أأردت الصرم:أم ما عداكا؟
إن كنت حاولت َغيضي بهجري * فلقد أدركتَ ما قد كفاكا
قلتُ: مهما تجدى بي، فإني * أظهر الودّ لكم فوق ذاكا.
إنه لا يتحدث عن حبه، إن نرجسيته تظهر في كونه يفخر بنفسه ويشيد بجماله ويصور إعجاب النساء به وقد يشاركه في تلك الطفرة النرجسية ما قاله جميل بن معمر في نفسه على لسان صاحبته.
إنّي، عشيّة رُحتُ، وهي حزينة * تشكو اليَّ صبابة، لصبورُ
وتقول: بِتْ عندي، فديتك، ليلة * أشكوإليك، فإن ذاك يسير
3-1- استمرار حضور الدنجوانية في وجدان الشعر الأموي.
- هل استمرت الدنجوانية الشعرية (خيالا ولغة) في شعر عمر بن أبي ربيعة بعد الدنجوانية العبثية لإمرئ القيس؟([xxxiii])
لقد نهج عمر بن أبي ربيعة منهج امرئ القيس إجمالا فانسابت في شعره نفس العبثية التي صاغ فيها نفس البناء القصصي ونفس النهل من المعجم البلاغي والاصطلاحي له والتي نسجها "في انسلاله إلى خِدر الحبيبة دون أن تمنعه عين كاشح واشٍ من الوصول إليه، بُغية إقامة ليلة، ثم ينسل كالحباب مع خيوط الفجر الأولى، وما أحد من الناس يعرف...ولكن إذا كان امرئ القيس ملكا ضليلا فقدَ عرشه، فإن عمر قد انتصر له بعد زمان، فحافظ على العرش وتزيّا بزيِّه، دون أن يتربع عليه، لأن دورا آخر مع المرأة ينتظره"([xxxiv]).
فهذا عمر بن أبي ربيعة دخل خِدر "نعم" في ثوب امرئ القيس حين دخل خِدر "عنيزة" وحين حمله الشوق إليها، فانساب بين الخيام انسيابَ الحُباب حتى أدركها فتولَّهت ثم لانت، فهدّأ من روعها. قال عمر بن أبي ربيعة:
وخفض مني الصوت أقبلت مشية * الحُباب وشخصي خِشية الحي أَزوَرُ
فحَيَّيتُ إذ فاجأتها فتولَّهــت * وكادت بمكنون التحية تُجـهـر
وقالت وعضَّت بالبنان فضحتني * وأنت امرؤ ميسور أمرِكَ أعسَـــــــرُ
إن هذه الأبيات تنسجم كليا مع ما جاء به امرئ القيس في معلقته حيث قال:
سموت إليها بعد ما نام أهلها * سُمُوَّ حُباب الماء حالاً على حالِ
فقالت سَباكَ الله إنَّكَ فاضِحي * ألست ترى السُمَّار والناس أحوالي.
وقد تجسدت هذه الدنجوانية في قرب الشاعر من معشوقته وملامسة جسدها كذات وبذلك يتحطم التمثال ويجري نبذ المعشوقة للبحث عن تمثال آخر لا زال لم يتحوّل إلى واقع حي عند الشاعر.
2-3- الشعر العربي بين رقة الإحساس وخشونة اللغة.
إن التشبيه ملاك الغزل فهو المرتكز الأول للعمل الفنِّي وقد عاش الشاعر العربي ثُنائية الرقة /الخشونة في حياته الأدبية، فالرقة تعبير عن الحياة الداخلية التي يبدو فيها الإحساس جليّا وخشونة الحياة الخارجية التي تبدو في الصور التي تعكس ذاك الإحساس الرهيف.فإذا كان من طبيعة شاعر الغزل الرقة فإن حياة الخشونة والقسوة لم تُسعفه في صياغة هذه الرقة في صور مماثلة لاحساساته.
وقد نأتي لوصف العينين بالشعر الأموي والجاهلي فنجد أن أجمل ما استقاه التخيُّل الشعري حول العيون، ما كانت واسعة وتُسمّى النجلاء والسوداء الحدقة وتسمى الكحلاء، وذات البياض الشديد والسواد الشديد، وتسمى الحوراء وذات الأهداب الطويلة الكثة وتسمى الوطفاء...وقد أسهب العرب في وصف العيون، فشبَّهوها بعيون المَها، وعيون البقر.قال عمر بن أبي ربيعة:
لها من الريم عيناه ولفتَتُهُ * ونجوةُ السَّابق المختال إذ صهلا.
أما امرئ القيس فإحساسه الرهيف بكل ما في نظرة المحبوبة من عطف وحنان قد أثَّر في وِجدانه الشعري بالاستجابة والتفاعل من تذوق الجمال وسُمو الرُّؤية الحسِّية، " لكننا حين ننشد التعبير عن هذه العين الجميلة الواسعة، وهذه النظرة العميقة النافذة، وهذا الحنان الذي يشع منها والعطف الذي يفيض عنها لا نجد عند الشاعر غير نظرة بقرة وحشية مُطْفِل من وحش وجرة"([xxxv]) ويعود عمر بن أبي ربيعة للتعبير بالصورة الخارجية الجافة عن طراوة العاطفة الداخلية في وصف مشية المرأة.
بيضا حِسانا خرائدا قُطُفاً * يمشين هَوْناً كمشية البقر.
وفي وصف امرئ القيس لطول أصابع صاحبته وجمال تكوينها ونعومتها وطراوتها حيث" وقف يتأملها، وتمثلت له تعبث في عالمه النفسي وتستثير مشاعره تضغطها أو تفرج عنها، بهذه الأصابع، كيف تشاء...فلمّا جاء يعبر عن ذلك كله كان كل ما وجد حوله أساريع ظبي أو مساويك إسحل"([xxxvi]).
ولم يستطع العربي التخلص من الحياة التي لم تنفصل عن وجدانه ولم تفارق نفسيته وذاكرته تلك الممارسات العنيفة في غزواته أو في ميدان القتال ومن هنا جاءت تلك الصفات الخشنة التي ألفها وسيطرت على علاقته بالمرأة عندما يختلي بها وهي صفاة وأفعال وأسماء حددت قاموس علاقته مع المرأة وقد اتسمت بالخشونة والعنف والعدوانية وهي"بالنسبة إليهم أفعال معتادة يمارسونها بمنتهى السهولة بصفة دورية منتظمة أي أنها معلم طبيعي من معالم معيشتهم وليست استثنائية أو شادة أو فاذة"([xxxvii]).
4- صورة المرأة المثال في شعر الغزل العذري.
لقد أدرك الإسلام العالم العذري ونظم علاقة الرجل بالمرأة بما هي ثمرة من ثمار العفة، وقد يكون الحرمان من الدوافع الجوهرية لقيام العذرية التي تتشكل تعاليمها من الحديث عن الحبيبة والذي لا ينفصل عن الفهم العميق للطرف الآخر عاطفة وطباعا نظرا إلى تما هي العذري وحبيبته في روح واحدة.فبما أن الشاعر هو قيثارة نفسه وصدى لقبيلته نجد أن الشاعر العربي عندما عبَّر عن مكنونات وخوالج القبيلة كان ضميرا لها يعكس أزماتها ورغباتها، ولما كان قيثارة نفسه نجد في شعره تعففا"وهذا الغزل العفيف الذي هو في حقيقة الأمر مرآة صادقة لطموح هذه البادية إلى المثل الأعلى في الحب من جهة ولبراءتها من ألوان الفساد التي كانت تغمر أهل مكة والمدينة من جهة أخرى"([xxxviii]).
فالحب العذري يحتاج إلى شروط نشأة وتطور منها:مساهمة القبيلة في إقصاء الجسد الأنثوي والحيلولة دون منحه صيغته الطبيعية للتفاعل والتحقُّق، فهذا المنع والتعطيل لفاعلية علاقة العشق وتحققها عبر المسلك الطبيعي، الزواج، هو الذي يجعل اللغة تأخذ دور الفاعلية التعويضية وتستعير لتقوم بتفجير المعجم وتوليد الخيال.
- ما هي دلالة ترعرع الغزل "الإباحي" بحاضرة الحجاز وانتشار العذري منه بباديتها؟
- هل هناك علاقة جدلية بين الإسلام وعذرية الشعر الأموي؟
4-1- جدلية العلاقة بين الإسلام والعذرية الأدبية وسياسة الدولة.
لقد سيطرت الأعراف والتقاليد على حيوية المجتمع الأموي فسقطت حقوق المرأة في حرية الحب واختيار الزوج وإبداء الرأي دون أن يشارك الشاعر حبيبته من الخلاص، بل أصبح يشترك في غالب الأحيان في اشتداد وثاقها حينما يصور ملامحها الجسدية والنفسية في شعره فتنكشف هويتها لأهلها ليستحكم العرف قويا بمنعه من التزوج بها، وقد عبّر مجنون ليلى عن لاعقلانية هذا الحرمان بقوله:
أليس من البلوى التي لا شوى لها * بأن زُوِّجت كلبا وما بُذِلَتْ لِيا.
لقد اتخذ هذا البوح معنى المس بعفة القبيلة وشرفها في توجهه إلى امرأة واحدة "في مجتمع لم يكن قد تحلل من نزعات البداوة وخصوصا نزعة الاعتقاد بأن المرأة دون الرجل ومُجلبة للعار، فأحاطها بسوار من الأوهام لا ينبغي لها تجاوزه، ولذلك منعوها من الحب...وبالتالي، أسقطوا من عالمها حب الرجل لها، وبثِّه إيّاها نجواه وشكواه، لأن في ذلك استباحة تُقلق القبيلة كلها، وتنال من كبريائها"([xxxix]).
أمّا بخصوص ما تشكله العلاقة بين المدرسة العذرية وسياسة الحكم، فإن ذيوع التوجه العذري في الشعر يعتبر توجها معاديا لتخطيطها وقد أدركت السلطة أنذاك البعد الاجتماعي والسياسي لشعر العذريين وهي التي كانت تشجع على المجون والانغماس في كل ما من شأنه وضع التيه أمام أصحاب الحق الشرعي في الحكم، من ذلك نفهم تصدّي الدولة لهذا الشعر وليس صدفة أن يهدُر والي المدينة دم جميل بُثينة العاشق المكتفي بامرأة واحدة، وأن يترك عمر بن أبي ربيعة يتعرض حتّى لنساء الأشراف في الحج وحول المقدسات الإسلامية.
ويمكن أن نُجيز بدفع شكوى أهل المُشَبَّب بها إلى الوالي بجميل بثينة بما أن "الشاعر العذري قد شبّب بحبيبته، وباح بسرها فافتضح أمرها وشاع خبرها، لأنه تشبيب بواحدة لها أهل وربع"([xl]).
وقد كان الحرمان هو القاسم المشترك بين العذريين بما أن النسيب ببنات القبيلة يعتبر مسّا بحرمة وكرامة القبيلة، من ذلك كانت العفة كبت وحرمان تفجَّر قولا شعريا نائحا آملا في القرب والوصال.ونتساءل مع الناقد رفيق عطوي"هل العشق ضروري للنسيب؟ أم أن النسيب عمل فنِّي يعبر به الشاعر عمّا يجول في نفسه وحسب، مستعينا بما يحيط به؟" ([xli]).ونضيف تساؤلا آخر لا يقل مشاكسة: هل يعتبر التشبيب بالحبيبة ضروريا للعشق؟
4-2- الخصائص الجسدية والنفسية بالمدرسة العذرية.
عندما نسائل الخصائص الجسدية والنفسية للمرأة بشعر هذه المدرسة، نجد أنها أقرب إلى تقليد الصورة القديمة منها إلى التجديد والإبداع"وإن كان الجديد في وقوفها عند الملامح الجسدية، حيث برزت حقيقة الحرمان، فإذا هو رغبة في متعة الأرداف والعجيزة والمتن والريق والثغر الندي"([xlii]).
وقد أنتجت هذه المدرسة من الشعراء، جميل بن معمر (جميل بثينة)، كثير عزة، قيس ولبنى، مجنون ليلى، عروة بن خزام وعفراء العذرية.
وقد عبَّر الشعر العذري عن الملامح الجسدية والحسية للمرأة ونسج صورة يمكن أن نصفها بالصورة المثال، التي رقق الإسلام من آفاقها حتى أصبحت شفافة، كحورية تجسدت أوصافها وترسّخت عبر الديانة الإسلامية..فللمرأة عند العذريين قامة كالرمح اعتدالا وخصر ضامر وجلد رقيق وثغر ندي، وريق عذب، وأسنان عذبة، مفلَّجة ذات أشر، وجيد ظبية، والعين عين جُؤدر والمُقلة كحلاء نجلاء والصدر كتلة من فضة وخد مليح فضلا عن طيب رائحة يستهوي عناقها. وقد جاءت المرأة في الشعر العذري ذات ملامح حقيقية، فقد وصفها الشاعر وهو ينظر في عينيها ووجهها حيث خلاصة البراءة والعفة والجمال الروحي والمعنوي، ولم يكن يحيد عن وجهها لينتقل لباقي جسدها بالتفرس والتَّملي حتى تقف علية عين الرقيب التي لا تغفل وقد أقامتها القبيلة لحراسة نسائها.
لقد تطرق الناقد عبد القادر القط بعدما تخلص من الموقف النفسي والفكري السابق إلى وضع شعر عمر بن أبي ربيعة في موضع جديد يتجاوز النزعة الحسية لشعره على اعتبار" إن غاية الشاعر الأولى كانت غاية فنية، يقصد بها أن يفلح في رواية تلك الحركة المادية والنفسية للزائر العاشق..ولم يكن همّ الشاعر أن يصف متعه أو يتحدث عن شهواته أو يصف محاسن صاحبته وصفا تفصيليا "حسيا" يمكن من أجله أن تطلق عليه هذه الصفة."([xliii])
وقد اعتبر الإشارات الغرامية في رائية عمر بن أبي ربيعة المشهورة(أمن آل نعم أنت غاد "مبكر") أبعد ما تكون عن "الحسية" بمعناها المعروف في الأدب والفن "فالقصيدة تنتهي في أغلب الأحيان بالإشارة إلى متعة حسية يسيرة لا تتناسب مع الجهد الذي صوره الشاعر قبل اللقاء، وكأنما هدف الشاعر أن يصوّر هذا الجهد وذلك الاحتيال للقاء بكل ما يحملان من لحظات نفسية، فإذا انتهى إلى اللقاء كان الحديث عنه مجرد الإشارة أو الرمز"([xliv]).
ولإكمال صورة المرأة في الشعر الأموي الذي اعتبرناه استمرارا لنفس الصورة التي حاكها خيال الشعر الجاهلي، سنتطرق إلى أوصاف الوجه بما هو النسق الثقافي الذي نهل منه شعراء الغزل العفيف بدءا بالتطرق للجبين والجبهة، والعينين والحاجب، الأنف والفم والثغر والأسنان.
الجبين والجبهة:
لقد أحب العرب الجبهة مسترسلة عريضة، واسعة من دون إفراط، فإذا زاد اتِّساعها أصبحت غير مطلوبة. قال النابغة الذبياني:
قامت تتراءى بين سِجْفَيْ كِلَّةٍ * كالشمس يومَ طلوعها بالأُسْعُدِ.
العينان:
إن العين تفيض بأنقى الإحساسات يتجمع فيها كل خصائص النفس البشرية، ففيها الحب حيث يعبر الإنسان بها دون لغة، فالعين تعكس المرح والابتسامة كما أنها تحتضن الدمعة والأحزان.
وأجمل العيون عند العرب ما كانت واسعة تشمل الناظر إليها بازدواجية التفاعل معها قد تُفيق المُخمر من نشوة المدام وقد تجعل الصاحي مُتيّما بدون خمر.قال ذو الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا * فعولان بالألباب ما تفعل الخمرُ
وقال النابغة الذبياني:
نظرَتْ إليك بحاجةٍ لم تقضِها * نظَرَ المريضِ الى وجوهِ العُوَّدِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لها من الريم عيناه ولفْـتَـَتُهُ * ونجوةُ السَّابق المختال إذ صهلا.
وقال أبو فراس:
وبيض بألحان العيون كأنما * هززن سيوفا واستللن خناجرا
تصدّين لي يوما بمنعرج * فغادرن قلبي بالتصبُّر غادرا
وقال بشار بن برد:
إن العيون التي في طرفها حور * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حي لا حراك * وهن أضعف خلق الله إنسانا.
الأنـف:
إنه قصر لعاصمة الجسد وعنوان لأعراسه وهتافات اللذة به، يُجَمِّلُ إذا جَمُلَ، ويقبِّح إذا قَبُح، وأجمل الأنوف عند العرب الأشمُّ، وقد وصف العرب المرأة التي تحمل الأنف القصير، الصغير الأرنبة، والمستوي القصبة بالزلفاء قال حازم القرطبّي:
ومارن أشمُّ قد تنزَّهت * أوصافه عن خَنَسٍ وعن قَـنَا.
الثغـر، الأسنان والابتسامة
إن الثغر ينبوع المتعة حيث تمتزج النفسان المحبتان حين تتلامس الشفاه، التلامس الذي يشكل المثل الأعلى لوظيفة اللمس بما أن القبلة هي رسول الحب بين المحبين.قال عمر بن أبي ربيعة:
كأن فاها إذا ما جئت طارقها * خمرُ ُ بِبَيْسانَ أو ما عَتَّقَتْ جَدَرُ.
وقال عنترة بن شداد:
وبين ثناياها إذا ما تَبَسَّمَتْ * مُديرُ مُدامٍ يمْزِجُ الراحَ بالشَّهْدِ.
وقد شبّه العرب الأسنان بالأقحوان والنّدى والبَرَدِ، كما أحبوها محزّزة ومفرَّقة بما هي دالة على صغر السن.
قال طرفة بن العبد في ذلك:
بادِن تجلو إذا ما ابتسمت * عن شَتيتٍ كأقاحي الرّمل غُرَّ
هذه الابتسامة التي جاءت عند طرفة بن العبد تعتبر سر من أسرار الجمال، وسرّ تأخذ المرأة بتلابيبه تعطيه من تشاء فيتولَّهُ ويُغرم وتحرمه من تشاء فيموت المحروم كمدا وقهرا.
قال طرفة بن العبد:
وإذا تضحك تُبدي حَبَبا * كرُضاب المسك بالماء الخَصِرْ ([xlv]).
وقال ذو الرمة:
أسيلة مجرى الدَّمع هيفاء طَفُلَة * رَداحًًُ ُ كإيماضِ البُروقِ ابتسامُها
كأن على فيها وما ذُقتُ طعمه * زُجاجة خمرٍ ضاق عنها مُدامـــُها.
وقال نزار قباني:
وصاحبتي إذا ضحكت
يسيل الليل موسيقا (...)
تفنن حين تطلقها
كحُقِّ الورد تنسيقا(...)
أيا ذات الفم الذّهبي
رُشِّي الليل... موسيقا.
هكذا فإذا كان العضو الواحد عند الشعراء قد تلقى سلسلة من التسميات فالدكتور سعيد بنگراد قد أرجع ذلك"إلى النمذجة الثقافية المسبقة التي تثبت العضو ضمن دوائر متعددة: دائرة الوظيفة ودائرة النسق الثقافي الجمالي ودائرة الفعل الغريزي"([xlvi])، فالتسمية يعتبرها النقد السيميولوجي تمييز،" ولكنها تعد أيضا إفرازا لردود الفعل النفسية والغريزية عند الآخر"([xlvii]).
5- طبيعة صورة المرأة في شعر جميل بن معمر.
- ماهي الملامح الجسدية والنفسية بالمدرسة العذرية لجميل بن معمر؟
إن الشاعر العذري يتجه إلى نفسه لينقل إحساسه عبر الكلمات التي تنساب في وجدانه الشعري رقراقة صافية.
هذا الوجدان المُنسحق الذي فاض على كيانه النفسي يجعل الشاعر العذري يُعطي معشوقته القدرة على الانفلات من الزمن بدوام الشباب وخلوده، كما قال جميل:
تقــول بثينـة لمــّا رأت * فنونــا من الشّعر الأحمر
كبرتَ جميل وأودىَ الشّبابُ * فقلت: بثينُ ألا فاقصري
أتنسيـْن أيّـامنــا باللــوى * وأيّامنا بذوي الأجفـــري
وإذ لمّتي كجنـاح الغـــرابــ * تطلي بالمســــك والعنبر
قريبان مربّعُـــنا واحـدُ ُ * فكيف كبُرْتُ ولم تكبُري
بعدما أخلد جميل جسد حبيبته، تطرق لتماهي روحه بروحها قبل ولادتها ويُؤكد أنّ حبَّهُ بعد الموت هو حبّ غير منقوص العهد، فأعطى لحُبِّه تجرده الكامل من الشهوة الحيوانية فهو بذلك يُمنِّ نفسه من وجهة النظر الإسلامية بِبُثينة الحورية تُشكِّل تقواه وورعه المقاييس المُثلى للتحقق في قوله:
تعلّق روحي روحها قبل خلقها * ومن بعدها كُنّا نِطافا وفي المهد
فزاد كما زِدْنا فأصبح ناميـا * وليس إذا مِتْنا بِمُنْتَقِصِ العهد
ولكنه باقٍ على كلِّ حالــةٍ * وزائرُنا في ظُلمَةِ القبر واللحد.
إن صورة المرأة المثال بالشعر الأموي العذري عميقة الجذور بمخيال الشعر العربي منذ الجاهلية "وتبلغ الصورة الرمزية ذروتها في تشبيه المرأة المثال، فيتأكد بذلك أن تلك الصورة ليست محاكاة لصورة امرأة واقعية، وإنّما هي إبداع لمثال فنّي يتجاوز به الشاعر الواقع، ويصل به إلى العبادة، فالمرأة التمثال عمل فنّي يسمو على الزمن، فهي رمز الجمال الخالد الذي لا يدوي والشباب الأبدي الذي لا يزول...وترتفع صورة التمثال برمز المرأة إلى آفاق دينية سامية، فتغدو معبودة تُنقش لها التماثيل، وتخلد بها إلهة للحب والجمال والحياة، ورمزا للكمال" ([xlviii]).
5-1- العذريون وتقليدية الشعر العربي.
عزا الناقد رفيق عطوي العودة إلى الشعر الجاهلي واستلهام الأصالة منه إلى الاختلاط بالأعاجم الذي أثر على اللغة العربية من حيث العجمة واللحن فنقل الشاعر الأموي صوره الغزلية من الماضي تارة بإضافة مساحيق لإخفاء معالمها وتارة بالإبداع على منوالها، بينما عزا عبد الله الغدّامي إلى كون ّ العصر الجاهلي قد شهد ميلاد النسق الثقافي الفحولي الذي تمت العودة إليه وتمثله مع مطلع العصر الأموي"([xlix])
وقد جاءت صورة المرأة عند الشعراء العذريين تقليدية تمتح من العناصر الفنية لصورة المرأة في الجاهلية فلم يخرج ذي الرمّة وهو الناسك في محراب الحب المسبِّح بآياته في وصفه لصاحبته "ميّ" عن الصورة التي كانت تسكن مخيلة امرئ القيس"فاطمة" والنابغة الذبياني "نعم"وطرفة بن العبد "خولة " فلما شبّه الأقدمون المرأة بالظبية لم يخرج ذي الرمة من نسق هذا التصور وإن كان قد أضاف إليها أضواء جديدة من شعاع الضحى فبدت صورتها أحلى وعشقها أمتن، قال في ذلك:
برّاقة الجيد واللبات واضحة * كأنها ظبية أفضى بها كَبَبُ.
نلاحظ أن الروح السامية في هذا الشعر تُنبئ عن تطور نوعي فيما أسميناه بحضارة العين لدى العربي، لقد تعددت زوايا النظر فتلطف الإحساس ولان الحوار الداخلي للشاعر فتهذبت معانيه النفسية وارتقى نظامه الذهني وفاضت على اللغة العربية التي عجزت عن الإحاطة بتلك المعاني فكان من شاعر العصر الأموي إلا أن أعاد تكرا ر نفس أساليب إحداث الرغبة لدى المتلقي ولم يفتح الخطاب اللغوي آفاقا إبداعية جديدة فكان عجز المعجم عن نقل تلك الأحاسيس الجياشة المترعة بالوله والشوق.
5-2- المرأة المثال في مضمار الفحولة الشعرية العربية.
إن صورة المرأة المثال في وجدان العربي شعريا قد حملها النسق الثقافي المفتوح على الاستفحال اللغوي المترسخ إلى استكناه صورة النسق المُهيمن، فصورة المرأة المثال قد انغرست في الوجدان العام الثقافي العربي وخلقت لدى الوعي الشعري عدم إمكانية خروجه عن أنموذج الفحولة الشعرية التي استغلتها حرائر الحجاز في استنهاض الفَحْلِيَّة العربية، إذا صح التعبير، لدفع العربي المتهالك على الجوارى لحماية شرفه وبقاء نوعه، وقد نجحن في إعادة تسويق الفحولة عبر شعر عمر بن ابي ربيعة إذ كان الشاعر هو الأصل في اختزال الوعي العام والمسؤول عن استشراء المخيال العام للقبيلة، لإحداث تلك الرغبة في عودة الحجازي إلى نسقه الثقافي الأصلي وذلك بعودة عمر إلى الجزيرة البلاغية الجاهلية بما هي أرضية التصورات المثالية حول المرأة وبما أن هذه التصورات لم تكن حاضرة فقط في اللغة بل كانت متجذرة بالقيم كمنظومة أخلاقية تسكن الذاكرة الذهنية والسلوكية للذات العربية." فليس في طبع الثقافة الذكورية أن تتحمل أو تقبل (واقعية) الجسد المؤنث، ومن الضروري لهذه الثقافة أن يكون التأنيث قصيا ووهميا لكي تظل الأنوثة (مجازا) ومادة للخيال، في هذه الحالة-فقط- تكون الأنوثة جذابة ومطلوبة في المخيال الثقافي، وتنتهي جاذبيتها بمجرد تحوّلها إلى واقع محسوس".([l])
إن اندفاعية شعر عمر نحو الإباحي قد ساهم في تشكيله نواة النسق الفحولي التي تزكي الشرط الفحولي باحتوائه على عناصر ومقومات استدراج الرغبة الليبيدية كقانون فحولي لاستمرار سوق القيم الشعرية.
فقانون الفحولة الشعرية المُنبني على الرغبة والرهبة قد جعل الحرائر يختر عن شخصيتين:
- شخصية عمر المشبِّب بهن وبنفسه لتشكيل الرهبة عند العربي من فجور المحصنات.
وشخصية مضمرة لمن ستُعيده الرغبة بالعلاقة مع الرهبة إلى العودة إلى العشق الأصلي بما يتجذر لدى الوعي العام العربي من خصوبة وكمال الصفات لدى أصل النسق الثقافي تلك العودة التي وإن أثنت العربي عن الاستمرار في شبقيته وأزهدته في تهتك الجواري، كانت هي التحول الثقافي الذي صنع شعراء النسق كما رسّخ الأعراف الجاهلية الشعرية والقيمية لدى جميع عصور الشعر العربي.
الخاتمة:
هناك آفاق تصورية ومنهجية لدراسة الشعر العربي في تاريخيته، لقد تمت مقاربتنا لهذا الشعر من تجاوز الواقع اليومي المعيش إلى بناء الفعل التخيّلي، ومن الاعتماد على الحضور التاريخي لإحاطة القراءة بضرورة التعبير عن الرمزي المنغرس في الطقوس حيث سيطرة الانفعال بالعالم المرئي وتشكيله كانطباع عبر الصورة الشعرية.
فهل استطاعت اللغة أن تنقل حقيقة ما أحسّه العربي من أحاسيس جيّاشة بداخله اتجاه الأنثى التي عشقها؟
إن الشاعر العربي كان يقرض الشعر مأخوذا بسحر المرأة"المثال" إذ إن ميكانيزمات اللغة الشعرية لا تبين عن سلطتها إلا إذا باينت وتخلّصت من ثقل الواقع على شحناتها العاطفية.
إن شعراء العصر الأموي قد استوحوا لغة امرئ القيس وتشبيهاته وصوره وقيمه الجمالية واستخدموا عباراته وألفاظه بعينها فهذا الوصف لا يمت إلى اتجاه حسّي ولا يصدر عن تجربة واقعية، وبذاك وجب انتفاء عناصر التمييز والتفارُق بين العصرين على المستوى المتخيّل الفنّي.
فالذوق الشعري العام في قطار الشعر العربي عبّر عن تجليات متشابهة من العصر الجاهلي حتّى الشعر الحديث الشيء الذي يدفعنا للقول بأن زمن القصيدة العربية لم تكن يوما ما ناشزا من فضاء الذاكرة العربية، ذاكرة امرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، وبدر شاكر السياب، وأمل دنقل، وأدونيس ونزار قباني عميد الاستفحال الشعري لكل الأزمنة...
ولم تكن المرأة كموضوع وذات بالقصيدة العربية في يوم من الأيام هاربة من بيت الطاعة، ولم تكن دهشة الوعي العربي من اختلاف صورتها الشعرية والواقعية دافعا لرصد الاختلاف في الإحساس العربي والإيحاء الذي تُضفيه اللغة على الإحساس الشعري.
- لماذا كان الشعر ديوانا للعرب؟ تساؤل يُلخص جوابه كل تاريخ القصيدة العربية في صراعها مع القوافي.
فلما يوصف الكلام الشعري كهجاء وفخر ومدح يعيد الشعر إنتاج سلطة البلاطات وأُمرائها، ولما يعبّر عن الوجدان العربي في تجلياته تتحول القصيدة إلى كائن شفاف يعيد صياغة الأسئلة، لمن هذا الشعر؟ وما هي حدود علاقاته مع الآخر، وهل تكفي كيمياء الأحاسيس للقول باستمرار القريض الشعري حاضرا في جل العصور الأدبية؟ كيف انتشت اللغة بقدرتها على التعبير عن نفس تلك الإحساسات؟ وما مدى محدوديتها لمّا استعملها امرئ القيس ومزجها عمر بن أبي ربيعة بكيانه ووجدانه وأنطقها جميل بن معمر من فيض روحه؟ مستلهمين جميعهم المرجعية الأسطورية والدينية في رسم الصورة المثالية الحاضرة دوما وأبدا في المخيال العربي.
1- د. رفيق خليل عطوي، "صورة المرأة في شعر الغزل الأموي"، دار العلم للملايين بيروت لبنان، الطبعة الأولى، أكتوبر سنة 1986، ص:7
2- نفس المرجع السابق ص:40.
3- نفس المرجع السابق ص:28.
4- نفس المرجع السابق ص:28.
5- نجيب محمد البهبيتي "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري " دار الثقافة، الدار البيضاء سنة 1982 الصفحة:129.
6- د.رفيق خليل عطوي ص:11.
7- د.رفيق خليل عطوي، نفس المرجع السابق الصفحة:52.
8- نفس المرجع السابق ص:11.
9- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي ص:54.
10- د.محمد طه الحاجري، في تاريخ النقد والمذاهب الأدبية،دار النهضة العربية،بيروت 1982،الصفحة:70.
11- نفس المرجع السابق ص:148.
12- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي ص:12.
13- الأغاني، بولاق،الجزء الثاني، ص:179.
14- نفس المرجع السابق ص:27.
15- خليل عبد الكريم، العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، الانتشار العربي سينا للنشر الصفحة:66.
16- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي، الصفحة:202
17- نفس المرجع السابق ص:30.
18- المرأة والعرب، حفرية في الاسطير المخيم، الصفحة:86.
19- د.حميد لحمداني، الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم (العصر الجاهلي)، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، الطبعة الأولى،1997 ص:82.
20- د. سعيد الأيوبي، عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي، مكتبة المعارف، الرباط،1986 الصفحة:540.
21- المرأة والعرب، حفرية في الإسطير المخيم، الصفحة:86.
22- إميل ناصيف، أروع ما قيل في جمال المرأة، دار الجيل، بيروت، سلسلة "أروع ما قيل "العدد 16 الصفحة 5.
23- بزوغ العقل البشري، ترجمة إسماعيل خفي ص:166 نقلا عن د. علي البطل،الصورة في الشعر العربي،ص: 56
24- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي، الصفحة:369.
25- صورة المرأة في شعر الجاهلية وصدر الإسلام، دراسة تحليلية نقدية، أطروحة لنيل شهادة دكتوراة الدولة، إنجاز:علي بيهي، تحت إشراف د.يونس لوليدي سنة 2001.
26- عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي، الصفحة:398.
27- د. سعيد بنگراد،السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها،منشورات الزمن شرفات سلسلة 11،مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء2003 ص:128
28- المرأة والعرب، حفرية في الإسطير المخيم،الصفحة:236.
29- المرأة والعرب، حفرية في الاسطير المخيم، الصفحة:11.
30- نفس المرجع السابق ص:16.
31- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي،الصفحة:11و12.
32- طه حسين، حديث الأربعاء، الجزء الأول، دار المعارف القاهرة، 1925،الصفحة:314..
33- لقد تغزل امرئ القيس عند إحساسه بقرب أجله على رأس قبر امرأة من بنات الملوك حيث دُفن بجوارها وقد قال:
أجارتنا إن المزار قريب * وإنّي مقيم ما قام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا * وكل غريب للغريب نسيب.
34- نفس المرجع السابق ص:35.
35- محمد مفتاح، في سيمياء الشعر القديم، دراسة نظرية وتطبيقية، دار الثقافة، البيضاء الطبعة الأولى،سنة 1982، الصفحة:183.
36- نفس المرجع ص:183.
37 - المرأة والعرب، حفرية في الاسطير المخيم،الصفحة:222.
38- حديث الأربعاء، الجزء الأول، الصفحة:190.
39- صورة المرأة في شعر الغزل الأموي،الصفحة:262.
40- نفس المرجع السابق ص:262.
41- نفس المرجع السابق ص:276.
42- نفس المرجع السابق ص:34.
43- د. عبد القادر القط،في الشعر الإسلامي والأموي، دار النهضة العربية،بيروت، 1987،الصفحة:174.
44- نفس المرجع السابق،ص:174-175.
45- الحبب= ماء الأسنان الخَصِر=البارد
-[xlvi] سعيد بنگراد،السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها،منشورات الزمن شرفات سلسلة 11،مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء2003 ص:131.
47- المرجع السابق، ص131.
48- د.ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية، الصورة الشعرية لدى امرئ القيس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى،سنة 1992،الصفحة 327.
49- عبد الله الغدّامي "النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية،المركز الثقافي العربي،الدارالبيضاء الطبعة الاولى سنة 2000 ص:223.
50- عبد الله الغَدّامي "المرأة واللغة-2-"ثقافة الوهم، مقاربة حول المرأة والجسد واللغة، المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 1998 ص:42.


.

صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...