نقوس المهدي
كاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لعلَّ هذه الرسالةَ النفيسة تُعَدُّ المُصنَّفَ الوحيد الذي يجمع في أثنائه تلك الفروقَ الدقيقة الكثيرة التي تُتّخَذُ عمدةً في التعرُّف إلى اسم الجنس وعلمه، والتفريق بينهما لفظاً ومعنىً، والقولُ نفسه بالنسبة إلى اسم الجنس والنكرة، وعلم الجنس واسمه المقترن بـ (أل) الاستغراقيَّة الجنسيَّة، وغير ذلك من المسائل الأخرى التي تُطالعنا فيها.
ولعلّ أهميّتها تكمنُ في أنَّ النحاة قبل القرنين السابع والثامن الهجريين (القرن الثامن يمكن أنْ يُعدَّ قرنَ مصنّفها) يكتفون في هذه المسألة باتّخاذ ما جاء في كتاب سيبويه منها عمدتَهم وضالّتَهم، على الرغم من أنَّه لم يُشِرْ إلى بعض الفروق إلَّا إيماءً، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ تلك الفروق وما يدورُ في فلك علم الجنس واسمه لم تستوِ على سوقها، فالمبرّد وابن السراج والزمخشري لم يُزَوِّدونا في تآليفهم بما يُمْكِنُ أنْ يُعَدَّ من باب الاستدراك أو الزيادة على ما في كتاب سيبويه، زيادَةً على أنَّ هنالك بعضَ النحويّين كابن جنّي وأبي علي الفارسي وغيرِهما قد تناسوها فيما عُدْنا إليه من تآليفهم النحويَّة.
ولعلَّ هذين القرنين يُعَدُّ قصبُ السبق فيهما في هذه المسألة بأيدي نحاتهما كابن مالك وابن يعيشَ وابن الحاجب وابن عصفورٍ وغيرهم، وبخاصّةٍ مُصنِّف هذه الرسالة الشيخ يحيى المغربي الذي أَذْهَبُ من غير تردُّدٍ إلى أنَّ قصب السبق في هذه المسألة في هذين القرنين وغيرهما من القرون السابقة واللاحقة بنحويّيها كأبي حيان والمرادي والسيوطي وأصحاب مظان الحواشي والشروح المختلفة كالصبّان والشيخ خالد الأزهري والشيخ يس الحمصي وغيرهم – يكاد يكون بيده من حيثُ عدّةُ الفروق واستقصاؤها وتعليلها وتوضيحُها وغير ذلك، ولست أنكِرُ أَنَّه قد أهمل استقصاء الأعلام الجنسيَّة التي تطالِعُنا في العربية كما استقصاها غيره من السابقين واللاحقين؛ لأنَّها لا تدور في فلك موضوع رسالته هذه، كما يبدو بيِّناً من عنوانها.
ولقد رأيتُ أنْ أُمَهِّدَ لهذه الرسالة بالحديث عن مصنِّفها الذي أهمَلَتْه مظانّ التراجم المختلفة، إذْ لم تزوِّدنا بما يمكنُ أنْ نُقَدّم به صورةً وافيةً كاملةً عن سيرته من حيثُ شيوخُه وتلاميذهُ وتآليفه، وأُسَرتُه، وغيرُ ذلك من المسائل التي يُمْكِنُ أن تدورَ في فلك هذه السيرة، ولعلَّ عمدَتنا فيها تقومُ على ما طالَعنا في رسالته هذه ورسالة (أيّ المشدَّدة) من الأعلام التي يُمْكِنُ أنْ تكون لشيوخٍ قد تلقَّى بعضَ علومه منهم في بعض الحَلقات العلميَّة، وما طالعنا به إسماعيل باشا البغداديّ في (هدية العارِفين) من معلوماتٍ قليلةٍ، إنْ عَدَدْنا يحيى المغربي الذي ترجَمَ له هو مصنّف هذه الرسالة.
وَأتْبَعْتُ ذلك بإسهامات النحويّين المختلفة في هذه المسألة، الأوائِلِ والمتأخّرين؛ ليبدو إسهامُ مُصنِّفها بيِّناً، يَسُدُّ فراغاً في مكتبتنا النحويَّة فيها، وَوَصْفِ مخطوطتها الوحيدة.
ورأيتُ أنْ أَسْلُك فيها مسلكاً أشرحُ فيه غوامِضَها، مصطلحاتٍ وعباراتٍ وغيرهما، وأُفَضِّل فيما يتراءى لي موجزاً مُتَّخِذاً عمدتي في ذلك مظانَّ النحو واللغة وغيرهما؛ لتكتمِل في مواضع الإِيجازِ، وتتمَّ الفائدةُ التي نَنْشُدُها. وزينَّتْ آخرها بفهرسين للأعلام والموضوعات، لتسهُلَ العودةُ إلى مسائلها المختلفة، وثالثٍ للمراجع التي اتَّخَذْتُها عمدتي في تحقيق هذه الرسالة.
وبعدُ فالله أسألُ أنْ يوفقّنا عالمين ومتعلّمين لخدمة لغتنا العربيَّة، لغة القرآن الكريم، وأسألُهُ المغفِرَةَ إنْ زَلَلْتُ وجزيلَ الثواب إنْ أصبْتُ، وهو المولى، خيرُ ناصرٍ ومُعين.
مُصَنّف رسالة في الفرق بين علم الجنس واسم الجنس
يحيى المَغْرِبيّ
لعلَّ مظانَّ التراجم المختلفة وغيرها لم تزوِّدنا بما يمكن أنْ نَتَّخذه عمدَتنا في توضيح ما يدور في فلك سيرة هذه الشخصيَّة من حيثُ الأسرةُ والتنقّلات والتآليف وغيرها، إذْ أهملته تماماً إلَّا ما طالعنا به إسماعيل باشا البغدادي في (هديَّة العارفين) حملاً على ما مرَّ: "المَغْربيُّ: يحيى بن محمد بن أحمد بن سليمان المَغْرِبيّ، الصوفيّ، نزيل الحرمين، من تلاميذ ابن سبعين، مات في حدود سنة 685هـ، خمسٍ وثمانين وستمائة. صنّف الوراثة المحمَّدية والفصول الذاتية في الرد على أستاذه ابن سبعين". ولقد نقل ما مرَّ عمرُ رضا كحالة في كتابه (معجم المؤلِّفين)، والقولُ نفسه مع أسماء الحمصي في فهرسها (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريَّة، علوم العربية، النحو).
ويتراءى ليّ أَنَّ مصَنِّف هذه الرسالة إِمَّا أَنْ يكونَ شخصاً مَغْرِبيّاً آخر غير المشار إِليه، وإِمَّا إنْ يكون هنالك خطأٌ في تحديد سنة وفاته، ولعلَّ الأَوَّل أظهرُ وأرجح، ويعزِّزه تلك الأعلام التي تطالِعنا في رسالته هذه ورسالة (أي)، وهي أَعلامٌ لمصَنّفين يمكن أَنْ يكون بعضهم معاصراً له، وغالب ظنِّي أَنَّه كان يلتقيهم في حلقات الدرس مريداً وطالبَ علمٍ، إِذا استثنينا ابن التلمِسانيّ الفهريّ المتوفى سنة 644هـ وابن عروة خاعة الذي لم نُوَفَّقْ في الاهتداء إليه. ويعزّز ما نذهب إِليه أَيضاً أَنَّ ابن سبعين فيلسوف أندلس متصوِّف، لا نحوي، فمن البدّهيّ أَن يكون تلميذه يحيى المغربي متصوفاً لا نحوياً في الغالب، ويبدو ذلك بيِّناً في رسالته "الوراثة المحمدية والفصول الذاتية".
وهذه الأعلام هي أبو محمد الحسن بن قاسم المرادي المتوفي سنة 749هـ، إِذ طالعنا في هذه الرسالة ورسالة (أَي)، والإمام الحافظ ابن مرزوق، والشاطبيّ اللذان ورد ذكرهما في رسالة (أي) أيضاً: "واستُشْكِل كلامُ المعد على هذه الصور الست بأحكامها المذكورة، حتى قال الإمام الحافظ ابن مرزوق: إِنَّ هذا البيت أشكلُ بيتٍ في هذا الرجز، لاقتضائه حصر الإعراب في صورة واحدة مركّبة من عدمين هما عدم الإضافة، وعدم الصدر، نحو: أَيّ قائم، فاقتضى بمفهومه البناء في [جميع] ما بقي من الصور، وليس كذلك لما عَلِمْتَ من أنَّ البناء إِنَّما هو في صورة واحدة، وهي السادسة، وأجاب هو عن ذلك بأَنَّ الأجوبة – وإِنْ كثرت- فالذي أقول به: إنَّ (ما لم) بمعنى (إِلَّا)، والمعنى: وأُعِربَتْ في جميع الصور إِلّا إِذا أُضيفَتْ، وانحذف الصدرُ، وعليه قولُ عائشةَ – رضي الله عنها-: (ما خُيِّرَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إِلَّا اختار أَيسرهما ما لم يكن إِثماً)، أَي: إِلَّا إذا كان إِثماً، فلا تخيّر فيه، ولا يختاره، فالاستثناء منقطع، ولو بقيت (ما لم) على حالها لزم أن يُخَيّر بين المأثوم به وغيره، ولا يصلح. وأجاب غيرهُ بجواب حسن، وهو الذي عليه المرادي والشاطبيّ، وغيرهما، أَنَّ النفي منصبٌّ ....".
ولعلَّ ابنَ مرزوق الوارد في هذا النص هو محمد بن أَحمد بن محمد بن مرزوق العجيسي الخطيب (710هـ-781هـ)، صاحبُ (إيضاح السالك على أَلفية ابن مالك في النحو)، وهو فيقهٌ أَصوليّ محدّث نحويّ، مفسّر، أَقام في مصر فترةً،
ثم رجع إِلى تلمسان مسقط رأَسه، ويظهر لي أَنَّه المراد؛ لأنَّه لم يطالعني ابن مرزوق آخر قد شرح أَلفيّة ابن مالك، ويُعَزّز ذلك كونهُ في مصر ومعاصِراً للشيخ المغربي مصنّف هذه الرسالة.
أَما الشاطبيّ الوارد ذكره في هذا النص أيضاً فيظهر لي أَنَّه إِبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، أَبو إِسحق، الشهير بالشاطبي المتوفى سنة 790هـ، وهو فيه أصولي لغويّ مفسّر، وهو صاحبُ (شرح على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة)، ويعزِّز ذلك شرحه لألفية ابن مالك السابق، وكونهُ معاصراً لمصنّف هذه الرسالة، ومِمَّن أقام في مصر، وأنَّ الشيخ عثمان النجدي قد نقل عنه في رسالته (أي) المشددة، التي قمنا بتحقيقها: "وهذا جوابٌ دقيق، أفاد معناه أَبو إِسحق الشاطبي وغيره ....".
وبعد فيظهرُ لي أَنَّ مصنِّف هذه الرسالة مَغْرِبيُّ آخر غير الذي ترجم له إسماعيل باشا البغدادي – كما مرَّ- على الرغم من أنه يمكن أَن يقال إِنَّه كان من المعمَّرين على أَنَّ ولادته كانت في العقد الخمسين من القرن السابع الهجري، وعلى أنْ يكون عمره وقت تلقيه العلم من ابن سبعين المتوفي سنة 69هـ قريباً من عشر سنوات، وهو عمر يجعلنا نذهب إِلى أَنَّه قد كان معاصراً لابن مالك صاحب الألفية المتوفّي سنة 664هـ، وهي مسأَلة تجعلنا نذهب إِلى احتمال تلقّيه العلم عنه أَيضاً، وبخاصة أَنَّ شيوخَهُ الذين رجَّحنا تلقيه العلم منهم قد أَقاموا في مصر محطّ أنظار العلماء وكعبتهم في هذه الفترة، ويُعَزّز ذلك إِطلاق لقب مولى عليه، وهو لقبٌ كان يُطْلَقُ على علماء الأزهر في القرن الثامن الهجري وبعده – كما يتراءى لي-.
أمّا وفاته فيمكن أَنْ تكون قبل سنة 750هـ، على أَنْ يكون قد تلقَّى العلم من الشاطبي أَو نقل عنه بعد أَن قضى ردحاً طويلاً من عمره، وهي مسأَلةٌ تكاد تكونُ نادرةً.
ويظهر لي أَنّهُ يمكِنُ أَنْ يُعَدَّ من شيوخه أَو من نَقَلَ عنهم من الذين كانوا في عصره حملاً على ما مرّ إِبراهيم الشاطبي، وابن مرزوق، والمرادي، وممن نقل عنهم من غيرهم ابن سبعين، وابن مالك لكون رسالة (أي) المشار إليها تدور في فلك قوله:
أيُّ كمـا وأُعْرِبَتا ما لـم تُضَـفْ
وصـدْرُ وصلِهـا ضميـرٌ انحـذَفْ
أَمَّا ما يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ من تآليفه حملاً على ما مرَّ أيضاً فما يلي:
(1) رسالة في الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، وهي الرسالة التي نحقّقها.
(2) رسالة أَي، وهي تدور في فلك قول ابن مالك السابق، وأولها: "ومن إِملائه – رحمه الله تعالى- حين كان يدرّس في كتاب التسهيل، على قول ابن مالك في ألفيته ...."، وآخرها: "فتلك ستة كاملة، وإِن اعتَبَرْتَ وجودَ الضمير مع تمام الصلة، وهي من صور الإِعراب، نحو: أيّهم هو قام – كانت صور الإِعراب ستة، فالمجموع سبع، انتهى، وصلى الله على سيّدنا محمد، على آله وصحبه، وسلم".
(3) الوراثة المحمّدية والفصولُ الذاتيّة، ولقد اهتديْتُ إلى نصٍّ طويل مُقْتَبَس منها، طالعنا به المقرّي في (نفح الطيب): "ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور، وأظنُّ اسمه يحيى بن أحمد بن سليمان، وسمّاها بالوراثة المحمّدية والفصول الذاتيّة – ما صورته: فإِنْ قيل ما الدليل على أَنَّ هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه؟ قلنا: عدم النظير، واحتياج الوقت إِليه، وظهور المشار إِليها عليه، ونصيحته لأهل الملّة، ورحمته المطلقة للعالم المطلق، ومحبّته لأعدائه، وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه ...."، وهي مسأَلةٌ تصحُّ إِنْ أَجَزْنا كونه من تلاميذ ابن سبعين كما مرَّ.
النحويّون ومسأَلة الفرقِ بين علم الجنس واسمه
لعلَّ هذه المسألةَ لم تكن مشهورةً أَو شائعةً أو لم يتنبَّه إِليها النحويّون الأوائِلُ قبلَ عصر الشيخ يحيى المغربي في الغالب (القرن الثامن الهجري) مصَنِّف هذه الرسالة، ولعلَّ ما يُعَزِّزُ ما نذهب إِليه أَنَّ سيبويهِ والمبرّدَ وغيرَهما من النحويّين اللاحقين لم يشيروا إلى بعض الفروق إِلَّا إِيماءً، فسيبويهِ يُفْرِدُ لعلم الجنس واسمه باباً من غيرِ أَنْ يُصَرِّحَ بهذا المصطلح فيه "هذا بابٌ من المعرفة يكونُ فيه الاسمُ الخاصُّ شائِعاً في الأمّة"، وجاء فيه ما يلي: "ليس واحِدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوَهَّمُ به واحدٌ دون آخَرَ له اسمٌ غيرُه، نحوُ قولِكَ للأسد: أَبو الحارث وأسامَةُ، وللثعلب: ثُعَالَةُ وأبو الحصينِ سَمْسَمٌ، وللذئبِ: دَأَلانُ وأَبو جِعدَةَ ....... فكلُّ هذا يجري خبرُهُ مجرى خبرِ عبدالله، ومعناه إِذا قلت: هذا أَبو الحارِث، أَو هذا ثُعالةُ – أنَّك تريدُ هذا الأسدَ، وهذا الثعلبَ، وليس معناه كمعنى زيدٍ وإِنْ كانَ معرفةً .... وإذا قُلْتَ: هذا أَبو الحارثِ فأَنت تُريدُ هذا الأسد، أَي: هذا الذي سَمِعتَ باسمه، أو هذا الذي قد عرفْتَ أَشباهَه. ولا تريدُ أن تُشير إِلى شيءٍ قد عُرِفَ بعينه قبلَ ذلك كمعرفته زيداً. ولكنَّه أراد هذا الذي كلُّ واحد من أمّته له هذا الاسمُ، فاخْتُصّ هذا المعنى باسم كما اختُصَّ الذي ذكرنا بزيدٍ؛ لأنَّ الأسد يتصرَّفُ تصرُّفَ الرجل، ويكونُ نكرةً، فأَرادوا أسماءً لا تكون إِلَّا معرفةً، وتلزَمُ ذلك المعنى. وإِنَّما منعَ الأسدَ وما أَشبهه أَنْ يكونَ له اسمٌ معناه معنى زيدٍ- أَنَّ الأُسْدَ وما أشبهها ليست بأَشياءَ ثابتةٍ مُقيمةٍ مع الناس فيحتاجوا إلى أَسماءٍ يعرفون بها بعضاً من بعض ....." ، ويتبيَّن لنا من هذا النصِّ أنّ سيبويهِ قد زَوَّدَنا إِيماءً بِحَدِّ علم الجنس وأَنَّه يُعامَلُ لفظاً معاملةَ المعرفة في العربيَّة، وأَنَّهُ لم يُدَوِّنْ تلك الفروق الكثيرة الدقيقة التي تطالِعُنا عند الشيخ يحيى المغربيّ وغيره مِمّنْ هم في عصره وبعده.
ويتراءى للنحويّين في عصري ابن مالك والشيخ يحيى المغربيّ وبعدهما من هذا النصّ وغيره في هذا الباب – أنَّ سيبويهِ في حدِّه علمَ الجنس إِيماءً قد ذكر فرقاً بينه وبين اسمه إِيماءً أيضاً، لِنَسْتَمِع إِلى المرادي: "والجميعُ يشتركُ في مطلق صورةِ الأسد، فإِنْ وُضِعَ لها من حيثُ خصوصُها فهو علم الجنس، أو من حيثُ عُمومُها فهو اسم الجنس. وفي كلام سيبويهِ إِيماءٌ إِلى هذا الفرق ...." ، وابنِ الحاجب: "فلا بُدَّ من التخيُّلِ في تقديرها أعلاماً، قال سيبويهِ كلاماً معناه أنَّ هذه الألفاظ موضوعةٌ للحقائق المعقولة المتَّحِدة في الذهن ......"، والأشمونيّ: "وفي كلام سيبويهِ الإشارةُ إلى الفرق، فإِنَّ كلامه في هذا حاصِلُهُ أَنَّ هذه الأسماءَ موضوعَةٌ للحقائق المتّحدة في الذهن ..."، وقيل إِنَّ سيبويهِ لم يُبيِّنْ معنى اسم الجنس اتِّكالاً على ظهورِه عندَهم، ولذلك طالَعنا بالإِشارة.
والقولُ نفسُهُ مع أبي العبّاس المبرد من حيثُ إِغفالُ المصطلح النحويّ والفروق بين هذين الاسمين إِلّا إِيماءً، إِذْ يكاد كلامه في هذه المسأَلة يدور في فلك كلام سيبويه على الرغم من أَنَّه قد عقد لها بابين في (المقتضب): "هذا بابُ المعرفة الداخِلَة على الأجناس"، على الرغم من أَنَّ الباب الثانِيَ يكادُ يكون البابَ الأولَ نَفْسَه من غير زيادَةٍ إِلَّا في بعض الأمثلة.
ويظهر لي أَنَّ النحويّين قبل عصري ابن مالك والشيخ يحيى المغربيّ مُصنِّفِ هذه الرسالة قد تناسَوا هذه المسأَلة تماماً إِذا استثنينا تلك الإِيماءاتِ التي تطالِعنا في كلام سيبويهِ والمبردِ كما مرَّ، وأَبي القاسم الزمخشري، وأبي بكر بن السّراج، إِذْ لم يَرِدْ ذكرُها في مظانِّهم التي عُدْتُ إِليها، ومن هؤلاءِ أبو علي الفارسي، وابنُ جنّي، وابنُ بابشاذ، والصيمريّ، وابنُ فارسٍ، وابنُ الخشّاب. أَمَّا أبو القاسم الزمخشري فيظهر لي أَنَّه أشار إِلى هذه المسألة إيماءً على الرغم من أنّه يطالِعُنا بمصطلح علم الجنس واسمه: "وقد سمَّوا ما يَتَّخذونه ويألفونه من خيلهم وإِبلهِمْ وغَنَمِهِمْ وكلابِهم وغير ذلك بأعلام، كلُّ واحِدٍ منها مختَصٌ بشخصٍ بعينه، يعرفونه به كالأعلام في الأتاسيّ .... وما لا يُتَّخَذُ ولا يُؤْلَفُ، فيُحتاجُ إلى التمييز بين أفراده كالطير والوحوش وأحناش الأرض، وغيرِ ذلك، فإِنَّ العلم فيه للجنس بأسرِهِ، وليس بعضُهُ أولى به من بعضٍ، فإِذا قلتَ: أَبو بَراقِش وابن دَأْيَة وأسامة وثعالة وابن قِترة وبنت طَبَقٍ – فكأنك قلتَ: الضربُ الذي من شأَنه كيتَ وكيتَ، ومن هذه الأجناسِ ماله اسمُ جنسٍ واسمُ علمٍ كالأسد وأُسامَةَ والثعلب وثُعالَةَ ..."، فهو في هذا النص يذكر إيماءً أَنّ علم الجنس ليس كالعلم الشخصي الذي يَخْتَصُّ شخصاً بعينِهِ، لا يُشارِكُهُ فيه غيرُهُ، أَمَّا علم الجنس فليسَ كذلك، إِذ يختَصُّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الجنس.
ويتراءى لي أَنَّ الزمخشريّ في هذه المسأَلة يدورُ في فلك ما في كتاب سيبويهِ منها، والقولُ نفسُهُ مع ابن السّراج الذي يَكْتَفَي بنقل بعضِ ما في الكتاب: "قال سيبويه: فإِذا قلتَ: هذا أَبو الحارِث فأَنت تريدُ: هذا الأسد، أَيْ: هذا الذي سمعتَ باسمِهِ، أَو هو الذي عَرفْتَ أشباهَهُ، ولا تريدُ أَنْ تُشيرَ إِلى شيءٍ قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيداً وعمراً، ولكنه أراد هذا الذي كلُّ واحدٍ من أمته له هذا الاسمُ، وإنَّما مَنَعَ الأسدَ وما أشْبَهَهُ أنْ يكونَ له اسمٌ معناه معنى زيدٍ – أَنَّ الأُسْدَ وما أشبهها ليست بأَشياءَ ثابتَةٍ مقيمَة مع الناس ...".
ويظهرُ لي أَنَّ قصبَ سبق التفصيل في هذه المسأَلة من حيثُ تدوينُ الفروقِ بين علم الجنس واسمه يكادُ يكونُ بأَيدي نُحاة القرنين السابع والثامن الهجريين (عصري ابن مالك ومُصَنّف هذه الرسالة)، ولعلَّ مُصَنِّفَ هذه الرسالة يُعَدُّ أَوَّل من أَفردها بمُصنَّف خاصّ، جمع فيه فروقها الكثيرةَ، ولستُ مغالِياً إِنْ قلتُ إِنّ هذه الرسالة تُعَدُّ أوفى وأكمل ما يطالِعُنا في هذه المسألة في هذه الفترة، ولعلَّ ما يُعَزِّزُ ما نذهب إِليه أَنَّ ما في مظانِّ نحوييها يكادُ يكونُ موجزاً بالإِضافة إِلى ما فيها، فابنُ يعيشَ (ت: 643هـ) في شرحه لكلام أبي القاسم الزمخشري يطالِعُنا بالفرق بين العلم الشخصي والعَلم الجنسيّ، وأَنَّ الثانِيَ يُعَدُّ معرفةً لفظاً نكرةً معنىً؛ لأَنَّه يشملُ جميع أفراد الجنس، فهو يُعامَلُ معامَلَةَ المعرفة من حيثُ عَدَمُ اقترانه بحرف التعريف، وعدمُ الإِضافة، والمنعُ من الصرف إِنْ توافَرَتْ علَّةٌ أخرى زيادةُ على العلميّة، ومجيءُ النكرة حالاً منه، نحوُ: هذا أسامَةُ مقبلاً، ورأَيت ثُعالَة مولِيّاً، والقولُ نفسُهُ مع ابن الحاجب (ت: 646هـ) في شرحه لكلام أبي القاسم الزمخشري أيضاً: "فلا بُدَّ من التخيُّلِ في تقدِيرها أعلاماً، قال سيبويهِ كلاما معناه أَنَّ هذه الألفاظَ موضوعَةٌ للحقائِقِ المعقولة المتَّحِدَةِ في الذهن بينك وبين مخاطِبِك ...".
والقولُ نفسُهُ أَيضاً مع ابن مالك (ت: 672هـ): "وقد وضعوا لبعضِ الأجناسِ أَعلاماً أَعطَوْها في اللفظ ما للأعلام الشخصيّة من الاستغناء من تعريفٍ بأَداةٍ أَو إِضافَةٍ، وَقصدوا بها ما يُقْصَدُ باسم الجنس غير العلم إِذا قُرِنَ بأل من استِغرْاقٍ أَو عهدٍ .... فأُسامَةُ صالِحٌ للمعنيَيْن إِلاَّ أَنَّ الأسدَ لا يدلُّ على أَحدِهما إِلَّا مقروناً بأل أو ما يقوم مقامَها، وأسامَةُ يدلُّ عليهما بنفسه ...".
وابنُ عصفورٍ (ت: 669هـ) يكتفي في هذه المسأَلة بأَنَّ أسماء الأجناس لا يُعْرَفُ تَعريفُها من تنكيرها إِلَّا بالاستقراء؛ لأنَّها تقع على أَشياءَ مفردةٍ، ويَعُدُّ ما لا يَتَعَرَّفُ منها بأَل وما تجيءُ النكرةُ منه حالاً – معرفةً، أَمَّا ما يوصَفُ بالنكرة ويقبل حرفَ التعريف فهو نَكرةٌ.
أَمَّا الشيخُ يحيى المغربيّ مُصَنَّفُ هذه الرسالة فيظهر لي أَنَّ قصبَ السبق في هذه المسأَلة بيده من حيثُ مواضِعُ الاتفاق والافتراق استقصاءً وتبويباً وتعليلاً مستعيناً بما تلقَّاه من بعض شيوخه في حلقات الدرس– كما سيأَتي-، ولعلَّ هذه المسأَلة تبدو بَيِّنَةً في تلك الفروق التي تطالِعُنا في هذه الرسالة:
(1) أَنَّهما مُتّفقانِ في المعنى، من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ منهما موضوعٌ للفرد الواحدِ البدليِّ لا الشمولي، فلا فرق بينهما إِلَّا في اللفظ الذي يَكْمُنُ في معاملةِ العرب لعلم الجنس مُعاملَةَ العلمِ الشخصيّ من حيثُ عَدُّهُ من المعارف، إِذْ عُوْمِلَ معَامَلتها في الابتداء به، ومجيء النكرة حالاً منه، والمَنْعِ من الصرف إِذا توافَرَتْ فيه علَّهٌ أخرى زيادةً على العلميَّة كالتاء في أُسامَةَ، والألفِ والنونِ المزيدتين في كيسانَ علماً للغَدْرِ، وسُبْحانَ علماً للتسبيح، ووزنِ الفعل كما في بناتِ أَوْبَر علماً لضرب رديءٍ من الكمأة.
(2) أَنَّ هنالك فرقاً في المعنى بينهما، لأنَّ الحكم اللفظيَّ في العربيَّة لا بُدَّ له من معنىً يطابِقُهُ ويصاحِبُهُ، ولذلك قيلَ إِنَّ اسم الجنس كأَسَدٍ موضوعٌ للفرد البدليّ الخارجي (خارج الذهن)، أَمَّا علمُ الجنس كأَسامَةَ وثُعالَةَ فموضوعٌ للماهيّة المتّحدة التي لا تَعَدُّدَ فيها، وعليه فهي متعيِّنَةٌ لا عامةٌ تشمل أفرادَ الجنس كالنكرة.
(3) أَنَّ كليهما موضوعٌ للماهيَّة، ولكنَّ علم الجنس ملاحَظٌ فيه قيدُ الحضور في الذهن، إِمَّا ذهنُ المخَاطَبِ وإِمَّا ذهْنُ الواضع – كما سيأَتي فيما بعد- على الرغم من أَنَّ الحضور واقِعٌ في كليهما، وشَتَّانَ ما بينهما، من حيثُ كونُ أَحدِهما ملحوظاً والآخر غير ملحوظٍ.
(4) أَنَّ كليهما موضوع للماهيَّة على أَنَّ علم الجنس موضوعٌ لها من حيثُ هيَ هيَ (من حيثُ هي نَفْسُها مقصودَةٌ لا لأفراد)، أَمَّا اسمه فلها من حيثُ إِبْهامُها في المواضع المتعدّدة وَفْقَ عارِض الأذهان والأزمان والأمكنة.
(5) أَنَّ كليهما موضوعٌ للماهيَّة أَيضاً على أَنَّ اسم الجنس تبدو فيه في فردٍ خارج بَدَليّ (خارج ذهن الواضع أو المخاطب، وبدلي من المسمى لا شمولي)، أَمَّا علمه فليس كذلك.
(6) أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ لفردٍ بدِليٍّ، وعليه فهو نَكِرَةٌ أَو كالنكرِة، أَمَّا علمه فللعموم الشمولي لا البدليّ، وعليه فهو كالمحلَّى بـ(أل) الاستغراقية – كما سيأَتي فيما بعد-.
(7) أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ للماهيَّة لا بقيد وجودها في الذهن (متعيّنة في الذهن ومحدَّدة) أَو خارِجِهِ، أَمَّا علمه فبقيد الذهن فقط.
ولعلَّ إِسهامَ الشيخ يحيى المغربيّ في هذه المسأَلة من حيثُ الفروقُ الكثيرةُ الدقيقَةُ وغَيْرُها من المسائل التي تطالِعُنا في هذه الرسالة – يبدو بَيِّناً بجلاءٍ بالإضافة إلى ما يُطالِعُنا في مظانّ النحو المختلفة وبخاصَّةٍ الحواشي والشروحُ التي تَتَّسِمُ بالاستقصاء والزيادة والتعليل وشرحِ كثيرٍ من المسائل النحويَّة التي تبدو موجَزةً غيرَ مستوفاةٍ، فأَبو حيّان النحوي (ت: 745هـ) يذكر أَنَّ شيخه أَبا الحسن الضائع قد ذهب إلى أَنَّ علم الجنس وُضِعَ لمعقولية الأسد الذهنيّة زيادةً على عَدِّه معرفةً لفظاً نكرةً معنى: "وتحقُّقُ العلميَّة في مِثْلِ هذا يعسُرُ، فإِنَّ أَسامَةَ يُطْلِقُ على كلِّ أَسدٍ: ولهذا زعم بعضُهم أَنَّه نكرةٌ في المعنى، وعومل معاملة المعرفة لفظاً وإِنْ كان شائعاً في جنسه، وكان شيخُنا أَبو الحسن بن الضائع – رحمه الله- يذهب إلى أَنَّ أسامة وُضعَ لمعقولية الأسد الذهنيَّة، وذلك معنىً مفرد، ولا يمكن تكثيرُه ولا شياعه في الذهن، وإِن كانْ في الخارج ينطلق على كثيرين، وأَنَّ أَسداً وُضع شائعاً في جنسه مقصوداً به في الخارج، فهذا فوقُ ما بينهما".
والمراديّ (ت: 749هـ) في شرحه لما جاء في ألفية ابن مالك من هذه المسألة يذهب إلى أَنَّ هناك فرقاً بينَهما في المعنى؛ لأنَّ التفرقة في اللفظ تؤذِنُ بفرق في المعنى، فَعَلَمُ الجنس وُضِعَ عنده للدلالة على معنى الأسديّة المعقولة التي لا توجد إلَّا في الذهن لا في خارجه، أَمَّا اسمُه فللدلالة على الشياع. والتحقيقُ عنده في هذه المسأَلة: "أَنْ تقولَ: اسمُ الجنس هو الموضوع للحقيقة الذهنيّة من حيثُ هيَ هيَ، فَأَسَدٌ موضوعٌ للحقيقة من غير اعتبارِ قيدٍ معها أَصلاً، وعلَمُ الجنس كأَسامَةَ موضوعٌ للحقيقة باعتبار حضورها الذهنيّ الذي هو نوعٌ شخصيٌّ لها مع قطع النظر عن
إِفرادها، ونظيرُهُ المعرَّف باللام التي للحقيقة والماهيَّة ..... والجميع يشترك في مطلق صورة الأسد، فإِن وُضِعَ لها من حيثُ خصوصُها فعلم الجنس، أَو من حيثُ عمومُها فهو اسمُ الجنس".
وابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ) في (شرح شذور الذهب) و(شرح اللمحة البدرية) يذهب إلى حدّ علم الجنس فقط من حيثُ كونُه يُعَيِّنُ مسمَّاه تعيينَ ذي الأداة الجنسيَّة أَو الحضوريَّة، ويذكرُ أَنَّ كثيراً من الضعفاء يَسْتَشْكِلُ تعريفَهُ: "وكثيرٌ من الضعفاء يستكشلُ التعريفَ في علم الجنس، وربما غلط بعض النحاة في ذلك سفهاً بغير علم، ومَن استشكل ذلك فليستشكِلِ التعريفَ بالألِف واللام الجنسيَّة، أَو الحضوريَّة فيما مثَّلْنَا به؛ لأنَّ علم الجنس لا يُسْتَعْمَل إِلَّا هذين الاستعمالين".
والسيوطيّ يذكرُ أَنَّهما مُلْتَبسان لصدق كلٍّ منهما على كلّ فرد من أَفراد الجنس، وأَنَّ بعض النحاة عدَّهما من باب الترادف، وأَنَّ علم الجنس نكرةٌ حقيقةً، أَو أَنَّه معرفةٌ مجازاً، ويدورُ في هذه المسأَلة في فلك ما يطالِعنا عند المرادي كما مرَّ. وذكرَ في (الأشباه والنظائر في النحو) أَنَّ في تحقيق علمية أَسامة – نقلاً عن ابن العلج في البسيط – أَربعةَ أَقوالٍ:
(1) أَنَّهُ موضوعٌ للجنس بأَسره على أَنَّه بمنزلة المعرَّف بأَل الجنسيَّة، وأَنَّهُ نكرةٌ في المعنى، وتعريفُه لفظيّ، وهو قول أَبي سعيد وابن بابشاذ وابن يعيش.
(2) أَنَّه موضوعٌ للحقيقة المتحَّدة في الذهن على أَنَّه بمنزلة المعرّف بأَل العهديّة الذهنيَّة، والفرقُ بين أَسامَة وأَسدٍ في هذا القول أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ لكلّ فرد من أفراد النوع على طريق البدل، فالتعدُّد فيه من أَصل الوضع، أَمَّا التعدد في العلم الجنسي فيجيء ضمنا لا قصداً، وهو قولُ ابن الحاجب.
(3) أَنَّه إِذا أُطْلِقَ على الواحد يكونُ قد أُطلق على ما وُضِعَ له، وإِذا أُطْلِقَ على الجميع فلكونه مندرجاً تحت الوضع الأول لإطلاق وضع اللفظ عليه أَولاً، ثم أَصبح يُطْلَقُ عليه مرّةً ثانيةً وثالثةً وَفْقَ أَشخاصه من غير تصوّر أَنَّ الثاني والثالث هما الأول أَو غيره؛ وعليه فإِنَّه لم يتعلَّق بوضْعِه غرضٌ صحيح، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إِلى أَنَّ الواحد من جفاة العرب يشتق اسماً من خلقة وحشٍ أو فعله يُطلقه عليه لكونه غريباً أَو عجيباً، والقولُ نفسه في إِطلاق هذا الاسم مرةً ثانيةً أَو ثالثةً على مثل ذلك الوحش إِذا وقع نَظَرُهُ عليه من غير قيدِ كون الثاني أَو الثالث هو الأول نفسه الذي وُضِعَ له الاسم، إِذْ يكتفى في هذه المسأَلة بكون الثاني أَو الثالث من جنس الأول الذي وُضِعَ له العلم.
(4) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للدلالة على القدّرِ المشترك بين الحقيقة الذهنيَّة والوجوديَّة، لأنَّ لفظ أسامة يدلّ على الحيوان المفترس عريضالأعالي، وهما صفتان يشترك فيهما الذهن والوجود الذي يقتضي التعدُّد الذي يُعدُّ من اللوازم، على أَنَّه ليس مقصوداً بالوضع، بخلاف اسم الجنس الذي يُعَدُّ تَعَدُّدُه مقصوداً بالوضع.
وينتهي السيوطي مِمّا مرَّ إلى أَنَّ هنالك فرقاً في الأحكام اللفظية بينهما زيادةً على الفرق في المعنى، ويُعَزِّزهُ نصُّ أَهل اللغة عليه.
ولعلَّ إِسهامَ الشيخ يحيى المغربي مصنِّف هذه الرسالة يبدو بيّناً بجلاءٍ في هذه المسأَلة بالإضافة إلى ما يُطالعنا في حواشي النحو المتأَخرة التي يدور ما فيها في فلك الشرح والتعليل والتبويب والزيادة واستقصاء المسائل المختلفة في مظانِّها لجمعها وإِكمال ما يتراءى لهم أَنَّه بحاجة إلى ذلك، ولعلَّ (شرح التصريح على التوضيح) و(حاشية الصَّبان على شرح الأشموني) يُعَزّزان ما نذهب إِليه، على الرغم من أَنَّ مصَنّفيهما لم يَطّلِعا في هذه المسأَلة على ما في هذه الرسالة؛ وعليه فإِنَّ هذه المسأَلة فيهما تكاد تكون غيرَ مستوفاةٍ من حيثُ الفروقُ الكثيرةُ الدقيقة التي تطالِعنا في رسالة الشيخ المغربي، فالصّبان يطالعنا ببعض الفروق من خلال حدِّ علمي الجنس والشخص، منها:
(1) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للحقيقة المعيّنة ذهناً باعتبار حضورها فيه، أَمَّا اسمُ الجنس فموضوعٌ للحقيقة المعيّنة ذهناً من غير هذا الاعتبار، وقيل إِنَّه كالنكرة موضوعٌ للفرد المنتشر.
(2) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للحقيقة من حيثُ تَعْيُّنُها ذهناً على أَنَّ الصدق حاصل غيرُ مقصودٍ في وضعه، أَمَّا اسمُهُ فهو ما وُضِعَ لها من حيثُ صدقُها على أَنَّ الصدقَ هو المُعْتَبَرُ الملحوظُ في وضعه، أَمَّا التعيين ذهناً فحاصلٌ غيرُ مقصودٍ في وضعه، فيكونُ للحقيقة جهتان، جهةُ تَعَيُّنِها ذهناً، وجهةُ صدِقها على كثيرين.
وبعدُ فيتّضح لنا مِمّا مرَّ أَن رسالة الشيخ المغربي تُعَدُّ أَوفى استقصاءً وجمعاً وتبويباً وتعليلاً مِمّا يطالعنا في مظانّ النحو المختلفة وبخاصة تلك التي يُعَدُّ مُصَنِّفوها لاحقين له، ولعلَّ هذه الرسالة تسدُّ فراغاً في مكتبتنا النحويّة لم يستطع أَصحاب الحواشي المتأَخِّرون إِحكام سدِّهَ على الرغم من أَنَّ شروحهم وحواشيهم المختلفة تهدف إلى الجمع والاستقصاء والشرحِ والتعليل كما مرَّ، ولعل ما يشفع لهم أَنَّهم لم يطلعوا عليها.
نسخَةُ (رسالةٌ في الفرق بين علم الجنس واسمِ الجنس) الفريدةُ
لعلَّ يدي لم تصل إلَّا إلى نسخة فريدةٍ لهذه الرسالة النفيسة، وهي نسخَةٌ تحمل عنوانها واسمَ مصنّفها، وتكادُ تخلو تماماً من عوادي الدهر المختلفة التي تطالِعُنا في مخطوطاتٍ أُخَرَ كثيرةٍ، والقولُ نفسه بالنسبة لخلوّها من السقط، والتصحيف أو التحريف، على الرغم من أَنَّها تخلو من اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وهي من مخطوطات دار الكتب الظاهريّة، تقعُ هي ورسالةُ (أَي المشدّدة) للمصنّف نفسه في ثماني أوراق من مجموع عدد أَوراقه تسعٌ وستون ورقةً (6867 عام)، ومن الغريب أَنَّ أَسماء الحمصي، مُصَنِّفةُ (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريّة، علوم العربية، النحو: 204) – لم تشر إلى هذه الرسالة على الرغم من أَنَّها طالعتنا فيه برسالة (أَي المشدّدة) المشار إِليها، وهي رسالة يتلو عنوانُها عنوانَ هذه الرسالة في ورقة الغلاف، فذكرت أَنَّ أَوراقها ثماني أَوراق على الرغم من أَنَّ عدد أَوراقها أَربعٌ (سبع صفحات تقريباً)، أَمَّا رسالة الفرق بين علم الجنس واسم الجنس) فأَوراقها أَربعٌ أَيضاً زيادةً على ورقة الغلاف (سبع صفحات)، في كلِّ ورقةٍ أَحدَ عشرَ سطراً، في كلّ سطر سبع كلمات تقريباً، وتُرِكَ هامشٌ بعرض (4سم).
وكُتِبَتْ هذه الرسالة ورسالة (أَي المشدّدة) بالسواد. بخَطٍ معجم، يخلو من الشكل، أَمَّا الإِشارات ورؤوس العبارات فبالحمرة، وتخلو هذه المخطوطة تماماً من الشطب، أَو التصحيف أَو التحريف أَو عوادي الدهر المختلفة تماماً، وهي مسأَلة تزيدنا ثقةً في تحقيقها ونشرها. وأَوراق هاتين الرسالتين تغاير أَوراق المجموع (61-68 ورقة) المشار إِليه نوعاً وخطّاً.
وزُيَّنَتْ هذه الرسالة ببعض التعليقات التوضيحيّة لِما يتراءى للمالك غموضُهُ، ويظهر لي أَنَّ ناسخ مخطوطتي هاتين الرسالتين واحد. وتَضُمُ ورقةُ الغلاف الأولى عنواني هاتين الرسالتين وصفحةً أخرى من مخطوطةٍ أخرى، والقولُ نفسه بالنسبة لورقة الغلاف الأخيرة، إِذْ تضُمُّ صفحةً أخرى تدور في فلك حذف الخبر وجوباً إِذا كان المبتدأ نصّاً صريحاً في القسم.
وفي مكتبة الأوقاف العامّة في بغداد نسختان مخطوطتان لرسالة في اسم الجنس لصالح السعدي الموصلي المتوفى سنة 1244هـ، أَوَّلها: "الحمد لله الوهاب جلائل النعم، والسلامُ على المفرد العلم، سيدنا محمد المبعوث إِلى أشرف الأمم ..."، وتقع النسخة الأولى في ورقتين (6/5620 مجاميع)، أَمَّا الثانية ففي ورقة واحدة (3/6165 مجاميع). ولم أُوَفَّقْ في الوصول إلى هذه الرسالة على الرغم من أَنَّ مصَنّفَها متأَخِّر عن مصنِّفِ هذه الرسالة التي نحقِّقُها.
.
المقدمة
لعلَّ هذه الرسالةَ النفيسة تُعَدُّ المُصنَّفَ الوحيد الذي يجمع في أثنائه تلك الفروقَ الدقيقة الكثيرة التي تُتّخَذُ عمدةً في التعرُّف إلى اسم الجنس وعلمه، والتفريق بينهما لفظاً ومعنىً، والقولُ نفسه بالنسبة إلى اسم الجنس والنكرة، وعلم الجنس واسمه المقترن بـ (أل) الاستغراقيَّة الجنسيَّة، وغير ذلك من المسائل الأخرى التي تُطالعنا فيها.
ولعلّ أهميّتها تكمنُ في أنَّ النحاة قبل القرنين السابع والثامن الهجريين (القرن الثامن يمكن أنْ يُعدَّ قرنَ مصنّفها) يكتفون في هذه المسألة باتّخاذ ما جاء في كتاب سيبويه منها عمدتَهم وضالّتَهم، على الرغم من أنَّه لم يُشِرْ إلى بعض الفروق إلَّا إيماءً، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ تلك الفروق وما يدورُ في فلك علم الجنس واسمه لم تستوِ على سوقها، فالمبرّد وابن السراج والزمخشري لم يُزَوِّدونا في تآليفهم بما يُمْكِنُ أنْ يُعَدَّ من باب الاستدراك أو الزيادة على ما في كتاب سيبويه، زيادَةً على أنَّ هنالك بعضَ النحويّين كابن جنّي وأبي علي الفارسي وغيرِهما قد تناسوها فيما عُدْنا إليه من تآليفهم النحويَّة.
ولعلَّ هذين القرنين يُعَدُّ قصبُ السبق فيهما في هذه المسألة بأيدي نحاتهما كابن مالك وابن يعيشَ وابن الحاجب وابن عصفورٍ وغيرهم، وبخاصّةٍ مُصنِّف هذه الرسالة الشيخ يحيى المغربي الذي أَذْهَبُ من غير تردُّدٍ إلى أنَّ قصب السبق في هذه المسألة في هذين القرنين وغيرهما من القرون السابقة واللاحقة بنحويّيها كأبي حيان والمرادي والسيوطي وأصحاب مظان الحواشي والشروح المختلفة كالصبّان والشيخ خالد الأزهري والشيخ يس الحمصي وغيرهم – يكاد يكون بيده من حيثُ عدّةُ الفروق واستقصاؤها وتعليلها وتوضيحُها وغير ذلك، ولست أنكِرُ أَنَّه قد أهمل استقصاء الأعلام الجنسيَّة التي تطالِعُنا في العربية كما استقصاها غيره من السابقين واللاحقين؛ لأنَّها لا تدور في فلك موضوع رسالته هذه، كما يبدو بيِّناً من عنوانها.
ولقد رأيتُ أنْ أُمَهِّدَ لهذه الرسالة بالحديث عن مصنِّفها الذي أهمَلَتْه مظانّ التراجم المختلفة، إذْ لم تزوِّدنا بما يمكنُ أنْ نُقَدّم به صورةً وافيةً كاملةً عن سيرته من حيثُ شيوخُه وتلاميذهُ وتآليفه، وأُسَرتُه، وغيرُ ذلك من المسائل التي يُمْكِنُ أن تدورَ في فلك هذه السيرة، ولعلَّ عمدَتنا فيها تقومُ على ما طالَعنا في رسالته هذه ورسالة (أيّ المشدَّدة) من الأعلام التي يُمْكِنُ أنْ تكون لشيوخٍ قد تلقَّى بعضَ علومه منهم في بعض الحَلقات العلميَّة، وما طالعنا به إسماعيل باشا البغداديّ في (هدية العارِفين) من معلوماتٍ قليلةٍ، إنْ عَدَدْنا يحيى المغربي الذي ترجَمَ له هو مصنّف هذه الرسالة.
وَأتْبَعْتُ ذلك بإسهامات النحويّين المختلفة في هذه المسألة، الأوائِلِ والمتأخّرين؛ ليبدو إسهامُ مُصنِّفها بيِّناً، يَسُدُّ فراغاً في مكتبتنا النحويَّة فيها، وَوَصْفِ مخطوطتها الوحيدة.
ورأيتُ أنْ أَسْلُك فيها مسلكاً أشرحُ فيه غوامِضَها، مصطلحاتٍ وعباراتٍ وغيرهما، وأُفَضِّل فيما يتراءى لي موجزاً مُتَّخِذاً عمدتي في ذلك مظانَّ النحو واللغة وغيرهما؛ لتكتمِل في مواضع الإِيجازِ، وتتمَّ الفائدةُ التي نَنْشُدُها. وزينَّتْ آخرها بفهرسين للأعلام والموضوعات، لتسهُلَ العودةُ إلى مسائلها المختلفة، وثالثٍ للمراجع التي اتَّخَذْتُها عمدتي في تحقيق هذه الرسالة.
وبعدُ فالله أسألُ أنْ يوفقّنا عالمين ومتعلّمين لخدمة لغتنا العربيَّة، لغة القرآن الكريم، وأسألُهُ المغفِرَةَ إنْ زَلَلْتُ وجزيلَ الثواب إنْ أصبْتُ، وهو المولى، خيرُ ناصرٍ ومُعين.
مُصَنّف رسالة في الفرق بين علم الجنس واسم الجنس
يحيى المَغْرِبيّ
لعلَّ مظانَّ التراجم المختلفة وغيرها لم تزوِّدنا بما يمكن أنْ نَتَّخذه عمدَتنا في توضيح ما يدور في فلك سيرة هذه الشخصيَّة من حيثُ الأسرةُ والتنقّلات والتآليف وغيرها، إذْ أهملته تماماً إلَّا ما طالعنا به إسماعيل باشا البغدادي في (هديَّة العارفين) حملاً على ما مرَّ: "المَغْربيُّ: يحيى بن محمد بن أحمد بن سليمان المَغْرِبيّ، الصوفيّ، نزيل الحرمين، من تلاميذ ابن سبعين، مات في حدود سنة 685هـ، خمسٍ وثمانين وستمائة. صنّف الوراثة المحمَّدية والفصول الذاتية في الرد على أستاذه ابن سبعين". ولقد نقل ما مرَّ عمرُ رضا كحالة في كتابه (معجم المؤلِّفين)، والقولُ نفسه مع أسماء الحمصي في فهرسها (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريَّة، علوم العربية، النحو).
ويتراءى ليّ أَنَّ مصَنِّف هذه الرسالة إِمَّا أَنْ يكونَ شخصاً مَغْرِبيّاً آخر غير المشار إِليه، وإِمَّا إنْ يكون هنالك خطأٌ في تحديد سنة وفاته، ولعلَّ الأَوَّل أظهرُ وأرجح، ويعزِّزه تلك الأعلام التي تطالِعنا في رسالته هذه ورسالة (أي)، وهي أَعلامٌ لمصَنّفين يمكن أَنْ يكون بعضهم معاصراً له، وغالب ظنِّي أَنَّه كان يلتقيهم في حلقات الدرس مريداً وطالبَ علمٍ، إِذا استثنينا ابن التلمِسانيّ الفهريّ المتوفى سنة 644هـ وابن عروة خاعة الذي لم نُوَفَّقْ في الاهتداء إليه. ويعزّز ما نذهب إِليه أَيضاً أَنَّ ابن سبعين فيلسوف أندلس متصوِّف، لا نحوي، فمن البدّهيّ أَن يكون تلميذه يحيى المغربي متصوفاً لا نحوياً في الغالب، ويبدو ذلك بيِّناً في رسالته "الوراثة المحمدية والفصول الذاتية".
وهذه الأعلام هي أبو محمد الحسن بن قاسم المرادي المتوفي سنة 749هـ، إِذ طالعنا في هذه الرسالة ورسالة (أَي)، والإمام الحافظ ابن مرزوق، والشاطبيّ اللذان ورد ذكرهما في رسالة (أي) أيضاً: "واستُشْكِل كلامُ المعد على هذه الصور الست بأحكامها المذكورة، حتى قال الإمام الحافظ ابن مرزوق: إِنَّ هذا البيت أشكلُ بيتٍ في هذا الرجز، لاقتضائه حصر الإعراب في صورة واحدة مركّبة من عدمين هما عدم الإضافة، وعدم الصدر، نحو: أَيّ قائم، فاقتضى بمفهومه البناء في [جميع] ما بقي من الصور، وليس كذلك لما عَلِمْتَ من أنَّ البناء إِنَّما هو في صورة واحدة، وهي السادسة، وأجاب هو عن ذلك بأَنَّ الأجوبة – وإِنْ كثرت- فالذي أقول به: إنَّ (ما لم) بمعنى (إِلَّا)، والمعنى: وأُعِربَتْ في جميع الصور إِلّا إِذا أُضيفَتْ، وانحذف الصدرُ، وعليه قولُ عائشةَ – رضي الله عنها-: (ما خُيِّرَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إِلَّا اختار أَيسرهما ما لم يكن إِثماً)، أَي: إِلَّا إذا كان إِثماً، فلا تخيّر فيه، ولا يختاره، فالاستثناء منقطع، ولو بقيت (ما لم) على حالها لزم أن يُخَيّر بين المأثوم به وغيره، ولا يصلح. وأجاب غيرهُ بجواب حسن، وهو الذي عليه المرادي والشاطبيّ، وغيرهما، أَنَّ النفي منصبٌّ ....".
ولعلَّ ابنَ مرزوق الوارد في هذا النص هو محمد بن أَحمد بن محمد بن مرزوق العجيسي الخطيب (710هـ-781هـ)، صاحبُ (إيضاح السالك على أَلفية ابن مالك في النحو)، وهو فيقهٌ أَصوليّ محدّث نحويّ، مفسّر، أَقام في مصر فترةً،
ثم رجع إِلى تلمسان مسقط رأَسه، ويظهر لي أَنَّه المراد؛ لأنَّه لم يطالعني ابن مرزوق آخر قد شرح أَلفيّة ابن مالك، ويُعَزّز ذلك كونهُ في مصر ومعاصِراً للشيخ المغربي مصنّف هذه الرسالة.
أَما الشاطبيّ الوارد ذكره في هذا النص أيضاً فيظهر لي أَنَّه إِبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، أَبو إِسحق، الشهير بالشاطبي المتوفى سنة 790هـ، وهو فيه أصولي لغويّ مفسّر، وهو صاحبُ (شرح على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة)، ويعزِّز ذلك شرحه لألفية ابن مالك السابق، وكونهُ معاصراً لمصنّف هذه الرسالة، ومِمَّن أقام في مصر، وأنَّ الشيخ عثمان النجدي قد نقل عنه في رسالته (أي) المشددة، التي قمنا بتحقيقها: "وهذا جوابٌ دقيق، أفاد معناه أَبو إِسحق الشاطبي وغيره ....".
وبعد فيظهرُ لي أَنَّ مصنِّف هذه الرسالة مَغْرِبيُّ آخر غير الذي ترجم له إسماعيل باشا البغدادي – كما مرَّ- على الرغم من أنه يمكن أَن يقال إِنَّه كان من المعمَّرين على أَنَّ ولادته كانت في العقد الخمسين من القرن السابع الهجري، وعلى أنْ يكون عمره وقت تلقيه العلم من ابن سبعين المتوفي سنة 69هـ قريباً من عشر سنوات، وهو عمر يجعلنا نذهب إِلى أَنَّه قد كان معاصراً لابن مالك صاحب الألفية المتوفّي سنة 664هـ، وهي مسأَلة تجعلنا نذهب إِلى احتمال تلقّيه العلم عنه أَيضاً، وبخاصة أَنَّ شيوخَهُ الذين رجَّحنا تلقيه العلم منهم قد أَقاموا في مصر محطّ أنظار العلماء وكعبتهم في هذه الفترة، ويُعَزّز ذلك إِطلاق لقب مولى عليه، وهو لقبٌ كان يُطْلَقُ على علماء الأزهر في القرن الثامن الهجري وبعده – كما يتراءى لي-.
أمّا وفاته فيمكن أَنْ تكون قبل سنة 750هـ، على أَنْ يكون قد تلقَّى العلم من الشاطبي أَو نقل عنه بعد أَن قضى ردحاً طويلاً من عمره، وهي مسأَلةٌ تكاد تكونُ نادرةً.
ويظهر لي أَنّهُ يمكِنُ أَنْ يُعَدَّ من شيوخه أَو من نَقَلَ عنهم من الذين كانوا في عصره حملاً على ما مرّ إِبراهيم الشاطبي، وابن مرزوق، والمرادي، وممن نقل عنهم من غيرهم ابن سبعين، وابن مالك لكون رسالة (أي) المشار إليها تدور في فلك قوله:
أيُّ كمـا وأُعْرِبَتا ما لـم تُضَـفْ
وصـدْرُ وصلِهـا ضميـرٌ انحـذَفْ
أَمَّا ما يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ من تآليفه حملاً على ما مرَّ أيضاً فما يلي:
(1) رسالة في الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، وهي الرسالة التي نحقّقها.
(2) رسالة أَي، وهي تدور في فلك قول ابن مالك السابق، وأولها: "ومن إِملائه – رحمه الله تعالى- حين كان يدرّس في كتاب التسهيل، على قول ابن مالك في ألفيته ...."، وآخرها: "فتلك ستة كاملة، وإِن اعتَبَرْتَ وجودَ الضمير مع تمام الصلة، وهي من صور الإِعراب، نحو: أيّهم هو قام – كانت صور الإِعراب ستة، فالمجموع سبع، انتهى، وصلى الله على سيّدنا محمد، على آله وصحبه، وسلم".
(3) الوراثة المحمّدية والفصولُ الذاتيّة، ولقد اهتديْتُ إلى نصٍّ طويل مُقْتَبَس منها، طالعنا به المقرّي في (نفح الطيب): "ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور، وأظنُّ اسمه يحيى بن أحمد بن سليمان، وسمّاها بالوراثة المحمّدية والفصول الذاتيّة – ما صورته: فإِنْ قيل ما الدليل على أَنَّ هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه؟ قلنا: عدم النظير، واحتياج الوقت إِليه، وظهور المشار إِليها عليه، ونصيحته لأهل الملّة، ورحمته المطلقة للعالم المطلق، ومحبّته لأعدائه، وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه ...."، وهي مسأَلةٌ تصحُّ إِنْ أَجَزْنا كونه من تلاميذ ابن سبعين كما مرَّ.
النحويّون ومسأَلة الفرقِ بين علم الجنس واسمه
لعلَّ هذه المسألةَ لم تكن مشهورةً أَو شائعةً أو لم يتنبَّه إِليها النحويّون الأوائِلُ قبلَ عصر الشيخ يحيى المغربي في الغالب (القرن الثامن الهجري) مصَنِّف هذه الرسالة، ولعلَّ ما يُعَزِّزُ ما نذهب إِليه أَنَّ سيبويهِ والمبرّدَ وغيرَهما من النحويّين اللاحقين لم يشيروا إلى بعض الفروق إِلَّا إِيماءً، فسيبويهِ يُفْرِدُ لعلم الجنس واسمه باباً من غيرِ أَنْ يُصَرِّحَ بهذا المصطلح فيه "هذا بابٌ من المعرفة يكونُ فيه الاسمُ الخاصُّ شائِعاً في الأمّة"، وجاء فيه ما يلي: "ليس واحِدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوَهَّمُ به واحدٌ دون آخَرَ له اسمٌ غيرُه، نحوُ قولِكَ للأسد: أَبو الحارث وأسامَةُ، وللثعلب: ثُعَالَةُ وأبو الحصينِ سَمْسَمٌ، وللذئبِ: دَأَلانُ وأَبو جِعدَةَ ....... فكلُّ هذا يجري خبرُهُ مجرى خبرِ عبدالله، ومعناه إِذا قلت: هذا أَبو الحارِث، أَو هذا ثُعالةُ – أنَّك تريدُ هذا الأسدَ، وهذا الثعلبَ، وليس معناه كمعنى زيدٍ وإِنْ كانَ معرفةً .... وإذا قُلْتَ: هذا أَبو الحارثِ فأَنت تُريدُ هذا الأسد، أَي: هذا الذي سَمِعتَ باسمه، أو هذا الذي قد عرفْتَ أَشباهَه. ولا تريدُ أن تُشير إِلى شيءٍ قد عُرِفَ بعينه قبلَ ذلك كمعرفته زيداً. ولكنَّه أراد هذا الذي كلُّ واحد من أمّته له هذا الاسمُ، فاخْتُصّ هذا المعنى باسم كما اختُصَّ الذي ذكرنا بزيدٍ؛ لأنَّ الأسد يتصرَّفُ تصرُّفَ الرجل، ويكونُ نكرةً، فأَرادوا أسماءً لا تكون إِلَّا معرفةً، وتلزَمُ ذلك المعنى. وإِنَّما منعَ الأسدَ وما أَشبهه أَنْ يكونَ له اسمٌ معناه معنى زيدٍ- أَنَّ الأُسْدَ وما أشبهها ليست بأَشياءَ ثابتةٍ مُقيمةٍ مع الناس فيحتاجوا إلى أَسماءٍ يعرفون بها بعضاً من بعض ....." ، ويتبيَّن لنا من هذا النصِّ أنّ سيبويهِ قد زَوَّدَنا إِيماءً بِحَدِّ علم الجنس وأَنَّه يُعامَلُ لفظاً معاملةَ المعرفة في العربيَّة، وأَنَّهُ لم يُدَوِّنْ تلك الفروق الكثيرة الدقيقة التي تطالِعُنا عند الشيخ يحيى المغربيّ وغيره مِمّنْ هم في عصره وبعده.
ويتراءى للنحويّين في عصري ابن مالك والشيخ يحيى المغربيّ وبعدهما من هذا النصّ وغيره في هذا الباب – أنَّ سيبويهِ في حدِّه علمَ الجنس إِيماءً قد ذكر فرقاً بينه وبين اسمه إِيماءً أيضاً، لِنَسْتَمِع إِلى المرادي: "والجميعُ يشتركُ في مطلق صورةِ الأسد، فإِنْ وُضِعَ لها من حيثُ خصوصُها فهو علم الجنس، أو من حيثُ عُمومُها فهو اسم الجنس. وفي كلام سيبويهِ إِيماءٌ إِلى هذا الفرق ...." ، وابنِ الحاجب: "فلا بُدَّ من التخيُّلِ في تقديرها أعلاماً، قال سيبويهِ كلاماً معناه أنَّ هذه الألفاظ موضوعةٌ للحقائق المعقولة المتَّحِدة في الذهن ......"، والأشمونيّ: "وفي كلام سيبويهِ الإشارةُ إلى الفرق، فإِنَّ كلامه في هذا حاصِلُهُ أَنَّ هذه الأسماءَ موضوعَةٌ للحقائق المتّحدة في الذهن ..."، وقيل إِنَّ سيبويهِ لم يُبيِّنْ معنى اسم الجنس اتِّكالاً على ظهورِه عندَهم، ولذلك طالَعنا بالإِشارة.
والقولُ نفسُهُ مع أبي العبّاس المبرد من حيثُ إِغفالُ المصطلح النحويّ والفروق بين هذين الاسمين إِلّا إِيماءً، إِذْ يكاد كلامه في هذه المسأَلة يدور في فلك كلام سيبويه على الرغم من أَنَّه قد عقد لها بابين في (المقتضب): "هذا بابُ المعرفة الداخِلَة على الأجناس"، على الرغم من أَنَّ الباب الثانِيَ يكادُ يكون البابَ الأولَ نَفْسَه من غير زيادَةٍ إِلَّا في بعض الأمثلة.
ويظهر لي أَنَّ النحويّين قبل عصري ابن مالك والشيخ يحيى المغربيّ مُصنِّفِ هذه الرسالة قد تناسَوا هذه المسأَلة تماماً إِذا استثنينا تلك الإِيماءاتِ التي تطالِعنا في كلام سيبويهِ والمبردِ كما مرَّ، وأَبي القاسم الزمخشري، وأبي بكر بن السّراج، إِذْ لم يَرِدْ ذكرُها في مظانِّهم التي عُدْتُ إِليها، ومن هؤلاءِ أبو علي الفارسي، وابنُ جنّي، وابنُ بابشاذ، والصيمريّ، وابنُ فارسٍ، وابنُ الخشّاب. أَمَّا أبو القاسم الزمخشري فيظهر لي أَنَّه أشار إِلى هذه المسألة إيماءً على الرغم من أنّه يطالِعُنا بمصطلح علم الجنس واسمه: "وقد سمَّوا ما يَتَّخذونه ويألفونه من خيلهم وإِبلهِمْ وغَنَمِهِمْ وكلابِهم وغير ذلك بأعلام، كلُّ واحِدٍ منها مختَصٌ بشخصٍ بعينه، يعرفونه به كالأعلام في الأتاسيّ .... وما لا يُتَّخَذُ ولا يُؤْلَفُ، فيُحتاجُ إلى التمييز بين أفراده كالطير والوحوش وأحناش الأرض، وغيرِ ذلك، فإِنَّ العلم فيه للجنس بأسرِهِ، وليس بعضُهُ أولى به من بعضٍ، فإِذا قلتَ: أَبو بَراقِش وابن دَأْيَة وأسامة وثعالة وابن قِترة وبنت طَبَقٍ – فكأنك قلتَ: الضربُ الذي من شأَنه كيتَ وكيتَ، ومن هذه الأجناسِ ماله اسمُ جنسٍ واسمُ علمٍ كالأسد وأُسامَةَ والثعلب وثُعالَةَ ..."، فهو في هذا النص يذكر إيماءً أَنّ علم الجنس ليس كالعلم الشخصي الذي يَخْتَصُّ شخصاً بعينِهِ، لا يُشارِكُهُ فيه غيرُهُ، أَمَّا علم الجنس فليسَ كذلك، إِذ يختَصُّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الجنس.
ويتراءى لي أَنَّ الزمخشريّ في هذه المسأَلة يدورُ في فلك ما في كتاب سيبويهِ منها، والقولُ نفسُهُ مع ابن السّراج الذي يَكْتَفَي بنقل بعضِ ما في الكتاب: "قال سيبويه: فإِذا قلتَ: هذا أَبو الحارِث فأَنت تريدُ: هذا الأسد، أَيْ: هذا الذي سمعتَ باسمِهِ، أَو هو الذي عَرفْتَ أشباهَهُ، ولا تريدُ أَنْ تُشيرَ إِلى شيءٍ قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيداً وعمراً، ولكنه أراد هذا الذي كلُّ واحدٍ من أمته له هذا الاسمُ، وإنَّما مَنَعَ الأسدَ وما أشْبَهَهُ أنْ يكونَ له اسمٌ معناه معنى زيدٍ – أَنَّ الأُسْدَ وما أشبهها ليست بأَشياءَ ثابتَةٍ مقيمَة مع الناس ...".
ويظهرُ لي أَنَّ قصبَ سبق التفصيل في هذه المسأَلة من حيثُ تدوينُ الفروقِ بين علم الجنس واسمه يكادُ يكونُ بأَيدي نُحاة القرنين السابع والثامن الهجريين (عصري ابن مالك ومُصَنّف هذه الرسالة)، ولعلَّ مُصَنِّفَ هذه الرسالة يُعَدُّ أَوَّل من أَفردها بمُصنَّف خاصّ، جمع فيه فروقها الكثيرةَ، ولستُ مغالِياً إِنْ قلتُ إِنّ هذه الرسالة تُعَدُّ أوفى وأكمل ما يطالِعُنا في هذه المسألة في هذه الفترة، ولعلَّ ما يُعَزِّزُ ما نذهب إِليه أَنَّ ما في مظانِّ نحوييها يكادُ يكونُ موجزاً بالإِضافة إِلى ما فيها، فابنُ يعيشَ (ت: 643هـ) في شرحه لكلام أبي القاسم الزمخشري يطالِعُنا بالفرق بين العلم الشخصي والعَلم الجنسيّ، وأَنَّ الثانِيَ يُعَدُّ معرفةً لفظاً نكرةً معنىً؛ لأَنَّه يشملُ جميع أفراد الجنس، فهو يُعامَلُ معامَلَةَ المعرفة من حيثُ عَدَمُ اقترانه بحرف التعريف، وعدمُ الإِضافة، والمنعُ من الصرف إِنْ توافَرَتْ علَّةٌ أخرى زيادةُ على العلميّة، ومجيءُ النكرة حالاً منه، نحوُ: هذا أسامَةُ مقبلاً، ورأَيت ثُعالَة مولِيّاً، والقولُ نفسُهُ مع ابن الحاجب (ت: 646هـ) في شرحه لكلام أبي القاسم الزمخشري أيضاً: "فلا بُدَّ من التخيُّلِ في تقدِيرها أعلاماً، قال سيبويهِ كلاما معناه أَنَّ هذه الألفاظَ موضوعَةٌ للحقائِقِ المعقولة المتَّحِدَةِ في الذهن بينك وبين مخاطِبِك ...".
والقولُ نفسُهُ أَيضاً مع ابن مالك (ت: 672هـ): "وقد وضعوا لبعضِ الأجناسِ أَعلاماً أَعطَوْها في اللفظ ما للأعلام الشخصيّة من الاستغناء من تعريفٍ بأَداةٍ أَو إِضافَةٍ، وَقصدوا بها ما يُقْصَدُ باسم الجنس غير العلم إِذا قُرِنَ بأل من استِغرْاقٍ أَو عهدٍ .... فأُسامَةُ صالِحٌ للمعنيَيْن إِلاَّ أَنَّ الأسدَ لا يدلُّ على أَحدِهما إِلَّا مقروناً بأل أو ما يقوم مقامَها، وأسامَةُ يدلُّ عليهما بنفسه ...".
وابنُ عصفورٍ (ت: 669هـ) يكتفي في هذه المسأَلة بأَنَّ أسماء الأجناس لا يُعْرَفُ تَعريفُها من تنكيرها إِلَّا بالاستقراء؛ لأنَّها تقع على أَشياءَ مفردةٍ، ويَعُدُّ ما لا يَتَعَرَّفُ منها بأَل وما تجيءُ النكرةُ منه حالاً – معرفةً، أَمَّا ما يوصَفُ بالنكرة ويقبل حرفَ التعريف فهو نَكرةٌ.
أَمَّا الشيخُ يحيى المغربيّ مُصَنَّفُ هذه الرسالة فيظهر لي أَنَّ قصبَ السبق في هذه المسأَلة بيده من حيثُ مواضِعُ الاتفاق والافتراق استقصاءً وتبويباً وتعليلاً مستعيناً بما تلقَّاه من بعض شيوخه في حلقات الدرس– كما سيأَتي-، ولعلَّ هذه المسأَلة تبدو بَيِّنَةً في تلك الفروق التي تطالِعُنا في هذه الرسالة:
(1) أَنَّهما مُتّفقانِ في المعنى، من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ منهما موضوعٌ للفرد الواحدِ البدليِّ لا الشمولي، فلا فرق بينهما إِلَّا في اللفظ الذي يَكْمُنُ في معاملةِ العرب لعلم الجنس مُعاملَةَ العلمِ الشخصيّ من حيثُ عَدُّهُ من المعارف، إِذْ عُوْمِلَ معَامَلتها في الابتداء به، ومجيء النكرة حالاً منه، والمَنْعِ من الصرف إِذا توافَرَتْ فيه علَّهٌ أخرى زيادةً على العلميَّة كالتاء في أُسامَةَ، والألفِ والنونِ المزيدتين في كيسانَ علماً للغَدْرِ، وسُبْحانَ علماً للتسبيح، ووزنِ الفعل كما في بناتِ أَوْبَر علماً لضرب رديءٍ من الكمأة.
(2) أَنَّ هنالك فرقاً في المعنى بينهما، لأنَّ الحكم اللفظيَّ في العربيَّة لا بُدَّ له من معنىً يطابِقُهُ ويصاحِبُهُ، ولذلك قيلَ إِنَّ اسم الجنس كأَسَدٍ موضوعٌ للفرد البدليّ الخارجي (خارج الذهن)، أَمَّا علمُ الجنس كأَسامَةَ وثُعالَةَ فموضوعٌ للماهيّة المتّحدة التي لا تَعَدُّدَ فيها، وعليه فهي متعيِّنَةٌ لا عامةٌ تشمل أفرادَ الجنس كالنكرة.
(3) أَنَّ كليهما موضوعٌ للماهيَّة، ولكنَّ علم الجنس ملاحَظٌ فيه قيدُ الحضور في الذهن، إِمَّا ذهنُ المخَاطَبِ وإِمَّا ذهْنُ الواضع – كما سيأَتي فيما بعد- على الرغم من أَنَّ الحضور واقِعٌ في كليهما، وشَتَّانَ ما بينهما، من حيثُ كونُ أَحدِهما ملحوظاً والآخر غير ملحوظٍ.
(4) أَنَّ كليهما موضوع للماهيَّة على أَنَّ علم الجنس موضوعٌ لها من حيثُ هيَ هيَ (من حيثُ هي نَفْسُها مقصودَةٌ لا لأفراد)، أَمَّا اسمه فلها من حيثُ إِبْهامُها في المواضع المتعدّدة وَفْقَ عارِض الأذهان والأزمان والأمكنة.
(5) أَنَّ كليهما موضوعٌ للماهيَّة أَيضاً على أَنَّ اسم الجنس تبدو فيه في فردٍ خارج بَدَليّ (خارج ذهن الواضع أو المخاطب، وبدلي من المسمى لا شمولي)، أَمَّا علمه فليس كذلك.
(6) أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ لفردٍ بدِليٍّ، وعليه فهو نَكِرَةٌ أَو كالنكرِة، أَمَّا علمه فللعموم الشمولي لا البدليّ، وعليه فهو كالمحلَّى بـ(أل) الاستغراقية – كما سيأَتي فيما بعد-.
(7) أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ للماهيَّة لا بقيد وجودها في الذهن (متعيّنة في الذهن ومحدَّدة) أَو خارِجِهِ، أَمَّا علمه فبقيد الذهن فقط.
ولعلَّ إِسهامَ الشيخ يحيى المغربيّ في هذه المسأَلة من حيثُ الفروقُ الكثيرةُ الدقيقَةُ وغَيْرُها من المسائل التي تطالِعُنا في هذه الرسالة – يبدو بَيِّناً بجلاءٍ بالإضافة إلى ما يُطالِعُنا في مظانّ النحو المختلفة وبخاصَّةٍ الحواشي والشروحُ التي تَتَّسِمُ بالاستقصاء والزيادة والتعليل وشرحِ كثيرٍ من المسائل النحويَّة التي تبدو موجَزةً غيرَ مستوفاةٍ، فأَبو حيّان النحوي (ت: 745هـ) يذكر أَنَّ شيخه أَبا الحسن الضائع قد ذهب إلى أَنَّ علم الجنس وُضِعَ لمعقولية الأسد الذهنيّة زيادةً على عَدِّه معرفةً لفظاً نكرةً معنى: "وتحقُّقُ العلميَّة في مِثْلِ هذا يعسُرُ، فإِنَّ أَسامَةَ يُطْلِقُ على كلِّ أَسدٍ: ولهذا زعم بعضُهم أَنَّه نكرةٌ في المعنى، وعومل معاملة المعرفة لفظاً وإِنْ كان شائعاً في جنسه، وكان شيخُنا أَبو الحسن بن الضائع – رحمه الله- يذهب إلى أَنَّ أسامة وُضعَ لمعقولية الأسد الذهنيَّة، وذلك معنىً مفرد، ولا يمكن تكثيرُه ولا شياعه في الذهن، وإِن كانْ في الخارج ينطلق على كثيرين، وأَنَّ أَسداً وُضع شائعاً في جنسه مقصوداً به في الخارج، فهذا فوقُ ما بينهما".
والمراديّ (ت: 749هـ) في شرحه لما جاء في ألفية ابن مالك من هذه المسألة يذهب إلى أَنَّ هناك فرقاً بينَهما في المعنى؛ لأنَّ التفرقة في اللفظ تؤذِنُ بفرق في المعنى، فَعَلَمُ الجنس وُضِعَ عنده للدلالة على معنى الأسديّة المعقولة التي لا توجد إلَّا في الذهن لا في خارجه، أَمَّا اسمُه فللدلالة على الشياع. والتحقيقُ عنده في هذه المسأَلة: "أَنْ تقولَ: اسمُ الجنس هو الموضوع للحقيقة الذهنيّة من حيثُ هيَ هيَ، فَأَسَدٌ موضوعٌ للحقيقة من غير اعتبارِ قيدٍ معها أَصلاً، وعلَمُ الجنس كأَسامَةَ موضوعٌ للحقيقة باعتبار حضورها الذهنيّ الذي هو نوعٌ شخصيٌّ لها مع قطع النظر عن
إِفرادها، ونظيرُهُ المعرَّف باللام التي للحقيقة والماهيَّة ..... والجميع يشترك في مطلق صورة الأسد، فإِن وُضِعَ لها من حيثُ خصوصُها فعلم الجنس، أَو من حيثُ عمومُها فهو اسمُ الجنس".
وابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ) في (شرح شذور الذهب) و(شرح اللمحة البدرية) يذهب إلى حدّ علم الجنس فقط من حيثُ كونُه يُعَيِّنُ مسمَّاه تعيينَ ذي الأداة الجنسيَّة أَو الحضوريَّة، ويذكرُ أَنَّ كثيراً من الضعفاء يَسْتَشْكِلُ تعريفَهُ: "وكثيرٌ من الضعفاء يستكشلُ التعريفَ في علم الجنس، وربما غلط بعض النحاة في ذلك سفهاً بغير علم، ومَن استشكل ذلك فليستشكِلِ التعريفَ بالألِف واللام الجنسيَّة، أَو الحضوريَّة فيما مثَّلْنَا به؛ لأنَّ علم الجنس لا يُسْتَعْمَل إِلَّا هذين الاستعمالين".
والسيوطيّ يذكرُ أَنَّهما مُلْتَبسان لصدق كلٍّ منهما على كلّ فرد من أَفراد الجنس، وأَنَّ بعض النحاة عدَّهما من باب الترادف، وأَنَّ علم الجنس نكرةٌ حقيقةً، أَو أَنَّه معرفةٌ مجازاً، ويدورُ في هذه المسأَلة في فلك ما يطالِعنا عند المرادي كما مرَّ. وذكرَ في (الأشباه والنظائر في النحو) أَنَّ في تحقيق علمية أَسامة – نقلاً عن ابن العلج في البسيط – أَربعةَ أَقوالٍ:
(1) أَنَّهُ موضوعٌ للجنس بأَسره على أَنَّه بمنزلة المعرَّف بأَل الجنسيَّة، وأَنَّهُ نكرةٌ في المعنى، وتعريفُه لفظيّ، وهو قول أَبي سعيد وابن بابشاذ وابن يعيش.
(2) أَنَّه موضوعٌ للحقيقة المتحَّدة في الذهن على أَنَّه بمنزلة المعرّف بأَل العهديّة الذهنيَّة، والفرقُ بين أَسامَة وأَسدٍ في هذا القول أَنَّ اسم الجنس موضوعٌ لكلّ فرد من أفراد النوع على طريق البدل، فالتعدُّد فيه من أَصل الوضع، أَمَّا التعدد في العلم الجنسي فيجيء ضمنا لا قصداً، وهو قولُ ابن الحاجب.
(3) أَنَّه إِذا أُطْلِقَ على الواحد يكونُ قد أُطلق على ما وُضِعَ له، وإِذا أُطْلِقَ على الجميع فلكونه مندرجاً تحت الوضع الأول لإطلاق وضع اللفظ عليه أَولاً، ثم أَصبح يُطْلَقُ عليه مرّةً ثانيةً وثالثةً وَفْقَ أَشخاصه من غير تصوّر أَنَّ الثاني والثالث هما الأول أَو غيره؛ وعليه فإِنَّه لم يتعلَّق بوضْعِه غرضٌ صحيح، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إِلى أَنَّ الواحد من جفاة العرب يشتق اسماً من خلقة وحشٍ أو فعله يُطلقه عليه لكونه غريباً أَو عجيباً، والقولُ نفسه في إِطلاق هذا الاسم مرةً ثانيةً أَو ثالثةً على مثل ذلك الوحش إِذا وقع نَظَرُهُ عليه من غير قيدِ كون الثاني أَو الثالث هو الأول نفسه الذي وُضِعَ له الاسم، إِذْ يكتفى في هذه المسأَلة بكون الثاني أَو الثالث من جنس الأول الذي وُضِعَ له العلم.
(4) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للدلالة على القدّرِ المشترك بين الحقيقة الذهنيَّة والوجوديَّة، لأنَّ لفظ أسامة يدلّ على الحيوان المفترس عريضالأعالي، وهما صفتان يشترك فيهما الذهن والوجود الذي يقتضي التعدُّد الذي يُعدُّ من اللوازم، على أَنَّه ليس مقصوداً بالوضع، بخلاف اسم الجنس الذي يُعَدُّ تَعَدُّدُه مقصوداً بالوضع.
وينتهي السيوطي مِمّا مرَّ إلى أَنَّ هنالك فرقاً في الأحكام اللفظية بينهما زيادةً على الفرق في المعنى، ويُعَزِّزهُ نصُّ أَهل اللغة عليه.
ولعلَّ إِسهامَ الشيخ يحيى المغربي مصنِّف هذه الرسالة يبدو بيّناً بجلاءٍ في هذه المسأَلة بالإضافة إلى ما يُطالعنا في حواشي النحو المتأَخرة التي يدور ما فيها في فلك الشرح والتعليل والتبويب والزيادة واستقصاء المسائل المختلفة في مظانِّها لجمعها وإِكمال ما يتراءى لهم أَنَّه بحاجة إلى ذلك، ولعلَّ (شرح التصريح على التوضيح) و(حاشية الصَّبان على شرح الأشموني) يُعَزّزان ما نذهب إِليه، على الرغم من أَنَّ مصَنّفيهما لم يَطّلِعا في هذه المسأَلة على ما في هذه الرسالة؛ وعليه فإِنَّ هذه المسأَلة فيهما تكاد تكون غيرَ مستوفاةٍ من حيثُ الفروقُ الكثيرةُ الدقيقة التي تطالِعنا في رسالة الشيخ المغربي، فالصّبان يطالعنا ببعض الفروق من خلال حدِّ علمي الجنس والشخص، منها:
(1) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للحقيقة المعيّنة ذهناً باعتبار حضورها فيه، أَمَّا اسمُ الجنس فموضوعٌ للحقيقة المعيّنة ذهناً من غير هذا الاعتبار، وقيل إِنَّه كالنكرة موضوعٌ للفرد المنتشر.
(2) أَنَّ علم الجنس موضوعٌ للحقيقة من حيثُ تَعْيُّنُها ذهناً على أَنَّ الصدق حاصل غيرُ مقصودٍ في وضعه، أَمَّا اسمُهُ فهو ما وُضِعَ لها من حيثُ صدقُها على أَنَّ الصدقَ هو المُعْتَبَرُ الملحوظُ في وضعه، أَمَّا التعيين ذهناً فحاصلٌ غيرُ مقصودٍ في وضعه، فيكونُ للحقيقة جهتان، جهةُ تَعَيُّنِها ذهناً، وجهةُ صدِقها على كثيرين.
وبعدُ فيتّضح لنا مِمّا مرَّ أَن رسالة الشيخ المغربي تُعَدُّ أَوفى استقصاءً وجمعاً وتبويباً وتعليلاً مِمّا يطالعنا في مظانّ النحو المختلفة وبخاصة تلك التي يُعَدُّ مُصَنِّفوها لاحقين له، ولعلَّ هذه الرسالة تسدُّ فراغاً في مكتبتنا النحويّة لم يستطع أَصحاب الحواشي المتأَخِّرون إِحكام سدِّهَ على الرغم من أَنَّ شروحهم وحواشيهم المختلفة تهدف إلى الجمع والاستقصاء والشرحِ والتعليل كما مرَّ، ولعل ما يشفع لهم أَنَّهم لم يطلعوا عليها.
نسخَةُ (رسالةٌ في الفرق بين علم الجنس واسمِ الجنس) الفريدةُ
لعلَّ يدي لم تصل إلَّا إلى نسخة فريدةٍ لهذه الرسالة النفيسة، وهي نسخَةٌ تحمل عنوانها واسمَ مصنّفها، وتكادُ تخلو تماماً من عوادي الدهر المختلفة التي تطالِعُنا في مخطوطاتٍ أُخَرَ كثيرةٍ، والقولُ نفسه بالنسبة لخلوّها من السقط، والتصحيف أو التحريف، على الرغم من أَنَّها تخلو من اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وهي من مخطوطات دار الكتب الظاهريّة، تقعُ هي ورسالةُ (أَي المشدّدة) للمصنّف نفسه في ثماني أوراق من مجموع عدد أَوراقه تسعٌ وستون ورقةً (6867 عام)، ومن الغريب أَنَّ أَسماء الحمصي، مُصَنِّفةُ (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهريّة، علوم العربية، النحو: 204) – لم تشر إلى هذه الرسالة على الرغم من أَنَّها طالعتنا فيه برسالة (أَي المشدّدة) المشار إِليها، وهي رسالة يتلو عنوانُها عنوانَ هذه الرسالة في ورقة الغلاف، فذكرت أَنَّ أَوراقها ثماني أَوراق على الرغم من أَنَّ عدد أَوراقها أَربعٌ (سبع صفحات تقريباً)، أَمَّا رسالة الفرق بين علم الجنس واسم الجنس) فأَوراقها أَربعٌ أَيضاً زيادةً على ورقة الغلاف (سبع صفحات)، في كلِّ ورقةٍ أَحدَ عشرَ سطراً، في كلّ سطر سبع كلمات تقريباً، وتُرِكَ هامشٌ بعرض (4سم).
وكُتِبَتْ هذه الرسالة ورسالة (أَي المشدّدة) بالسواد. بخَطٍ معجم، يخلو من الشكل، أَمَّا الإِشارات ورؤوس العبارات فبالحمرة، وتخلو هذه المخطوطة تماماً من الشطب، أَو التصحيف أَو التحريف أَو عوادي الدهر المختلفة تماماً، وهي مسأَلة تزيدنا ثقةً في تحقيقها ونشرها. وأَوراق هاتين الرسالتين تغاير أَوراق المجموع (61-68 ورقة) المشار إِليه نوعاً وخطّاً.
وزُيَّنَتْ هذه الرسالة ببعض التعليقات التوضيحيّة لِما يتراءى للمالك غموضُهُ، ويظهر لي أَنَّ ناسخ مخطوطتي هاتين الرسالتين واحد. وتَضُمُ ورقةُ الغلاف الأولى عنواني هاتين الرسالتين وصفحةً أخرى من مخطوطةٍ أخرى، والقولُ نفسه بالنسبة لورقة الغلاف الأخيرة، إِذْ تضُمُّ صفحةً أخرى تدور في فلك حذف الخبر وجوباً إِذا كان المبتدأ نصّاً صريحاً في القسم.
وفي مكتبة الأوقاف العامّة في بغداد نسختان مخطوطتان لرسالة في اسم الجنس لصالح السعدي الموصلي المتوفى سنة 1244هـ، أَوَّلها: "الحمد لله الوهاب جلائل النعم، والسلامُ على المفرد العلم، سيدنا محمد المبعوث إِلى أشرف الأمم ..."، وتقع النسخة الأولى في ورقتين (6/5620 مجاميع)، أَمَّا الثانية ففي ورقة واحدة (3/6165 مجاميع). ولم أُوَفَّقْ في الوصول إلى هذه الرسالة على الرغم من أَنَّ مصَنّفَها متأَخِّر عن مصنِّفِ هذه الرسالة التي نحقِّقُها.
.