بعد براءة أخبار الأدب: ماذا نحن فاعلون؟
طارق الطاهر
بعد معركة قانونية دامت لشهور، تصدي لها ــ علي المستوي القانوني ــ نخبة من المحامين من نقابة الصحفيين ومؤسسة أخبار اليوم والمحامي محمود عثمان والمحامي القدير ناصر أمين، قضت محكمة جنح بولاق برئاسة المستشار إيهاب الراهب رئيس المحكمة، ببراءة الزميل الأديب أحمد ناجي من تهمة خدش الحياء العام، وبراءتي من تهمة التقصير في أداء عملي.
هذه المعركة القانونية وازاها استنفار شديد من قبل المثقفين والكتاب والصحفيين، الذين رأوا في مثل هذه الاتهامات عودة للوراء، فلأول مرة يقف رئيس تحرير ليحاكم لنشر نص أدبي، حدث قبل ذلك أن تقدم ممن ينصبون أنفسهم محامين عن أخلاق المجتمع ببلاغات للنيابة العامة، وكان مصيرها الحفظ، لكن في هذه المرة رأت النيابة أن تحرك الدعوي القضائية، التي اعتبرتها قطاعات واسعة عودة لتطبيق دعاوي الحسبة، حتي لو تم إلباسها مواد في قانون العقوبات أو غيره من القوانين.
بالتأكيد لم تكن المعركة سهلة، لكنها كانت مخيفة علي مستوي الحريات، هذه الحريات التي نعتبرها لا تخص فئة أو شريحة في المجتمع، بل هي حق لنا جميعا، وأنه لا تقدم لأية أمة، ما لم تحم الحق الأصيل لأي مجتمع في أن يتمتع بحريته غير منقوصة، ولا تعني الحرية.. الفوضي، ولكن تعني ضوابط ملزمة للجميع، فلا يوجد في أي دولة تحترم مبدعيها أن تقوم بجر المبدعين والصحفيين والأدباء إلي ساحات المحاكم لأنهم عبروا عما يرونه صحيحا، الأفكار والإبداعات السبيل الوحيد لمواجهتها هي تقديم الأفكار الأخري، والإبداعات النقد هو فقط الحاكم لها أو عليها.
من هنا فوجئنا بكم كبير من المثقفين الذين أرادوا أن يتقدموا ببلاغات في أنفسهم متحملين معنا مسئولية النشر، كما نشر أدباء وكتاب مقالات ضد محاكمة الإبداع.
وفي جلسة ديسمبرالماضي تقدم المحامي البارع والقدير ناصر أمين بقائمة تضم 12 مثقفا لرئيس محكمة جنح بولاق، طالبا شهاداتهم حول النص المنشور، الذي أصرت النيابة علي أنه مقال، وأصررت من جانبي في التحقيقات التي أجريت معي أنه فصل من رواية، بل شرحت الفارق الدقيق بين الرواية والمقال والتحقيق، وهذا مثبت في محضر التحقيقات، كما انحزت إلي أن العمل فن روائي متخيل، لكن علي أية حال اختار القاضي ثلاثة أسماء: محمد سلماوي، صنع الله إبراهيم، ود. جابر عصفور، وبالفعل أدلي سلماوي وصنع الله بشهادتين أنتصرا فيها لمفهوم الإبداع، بينما تأخر د. جابر قليلا عن الجلسة، فعندما وصل إلي القاعة كانت النيابة العامة تعلق علي الشهادات، فطلب الإدلاء بشهادته، لكن المحكمة اعتذرت مكتفية بالشهادتين السابقتين.
أعتقد أن مرافعة ناصر أمين هي مرافعة ستسجل ليس في وثائق المحاكم المصرية فقط، بل في تاريخ الثقافة المصرية، هذه المرافعة التي لفتت الأنظار بشدة إلي التضارب الواضح بين مواد الدستور وبين المواد التي يحاكم فيها ناجي، مواد الدستور التي تمنع الحبس في قضايا النشر، بينما مازالت المواد القانونية تتيح للقاضي الحبس، الأخطر أن ناصر أمين أراد أن يرسخ مبدأ هاما وهو لا محاكمة علي خيال، فقد قال في عبارات يجب أن نتبناها جميعا، حتي تتحول إلي مادة قانونية فقد قال أن القانون ذاهب إلي الواقعية المطلقة من خلال تحليل الأعمال بدقة شديدة، لذلك غير مقبول أن يستخدم عبارات خيالية، بعكس الأعمال الأدبية والفنية، فالأديب مطالب بأن يستخدم كل العبارات التي يصل بها القارئ إلي عنان السماء، لذا فالقاعدة القانونية والأدبية دائما علي تناقض، ولا يوجد قانون يلزم الأدباء باستخدام ألفاظ معينة ولا يجرم استخدامها.
من وجهة نظري أن مرافعة ناصر وضعت تعريفا جديدا وربما متناقضا لما هو سائد في المواد القانونية التي وضعت منذ أكثر من سبعين عاما، وتحديدا فيما يتعلق بالتهمة الأساسية التي حوكم بها ناجي، وهي خدش الحياء العام، فقد أعاد ناصر هذه المواد رابطا بينها وبين أسباب لجوء المشرع لها، وقد شرح ذلك في حواره مع موقع مبتدا قائلا: " النصوص القانونية الحالية التي تعالج "خدش الحياء العام"، بالية، خرجت في منتصف القرن الماضي، وبحثت كيفية معالجة تبول الأشخاص في الشوارع، وكيفية مواجهة رسم راقصة صورة لها وهي شبه عارية، هذه النصوص لا يجوز تطبيقها علي الأعمال الأدبية، لنفرض أن كاتبًا يصور حياة القاهرة في الأربعينيات، ووصف الصور سالفة الذكر، باعتبارها ركنا من الحياة المصرية في تلك الحقبة الزمنية، لا يجوز محاكمته بخدش الحياء العام، ما دام من دوره التعامل مع الواقع ونقله، فالأديب إذا رسم الواقع بشكل أجمل مما هو عليه يكون قد خان قواعده الأدبية، وإذا نقله كما كان عليه يكون قد كسر قاعدة قانونية، لذا لابد من معاملة الأديب بشكل مختلف، وهذا ليس استثناءً شخصياً، إذ نسميه ضمانات عملية إطلاق الإبداع".
ما يجب أن تتبناه " أخبار الأدب" هو كيف نحول جملة ناصر أمين إلي واقع فعلي، والجملة التي أقصدها " ضمانات عملية إطلاق الإبداع"، بالفعل نحتاج في هذا الوقت تحديدا إلي قانون يحمي الإبداع، من هنا أدعو كل المثقفين ورجال القانون إلي أن نصوغ مواد قانونية واضحة في هذا المجال، يتبناها مجلس النواب.
أيضا سيسجل التاريخ الثقافي بارتياح كبير الخطوة التي أقدمت عليها المحكمة، عندما وافق رئيسها المستشار إيهاب الراهب، علي طلب ناصر أمين، بالاستعانة بثلاثة من المثقفين للإدلاء بأقوالهم في هذه القضية، وهي سابقة تدخل بالفعل تحت " عملية ضمان إطلاق الإبداع"، وهؤلاء الذين ذهبوا ليس للدفاع عن نص بعينه، بقدر ما دافعوا عن مجمل تاريخ الثقافة المصرية، التي تعتبر خط الدفاع الأول عن هذا الوطن، فكثيرون يرددون أن الثقافة هي قوة مصر الناعمة، ولكن للأسف هناك من لا يدركون هذه القيمة، ولن أكون مبالغا، إذا قلت إن كثيرين ممن يقفون معنا اليوم من الأشقاء العرب، إنما يشعرون أنهم يريدون أن يسدوا ما عليهم لهذا الوطن، الذي تعلم بعضهم فيه، والذي تنفسوا من خلاله ثقافة وفنا، فقد أتاحت لي الظروف في الفترة الأخيرة أن أسافر لأكثر من قطر عربي، وأسمع كبار مسئوليهم وهم يتحدثون عن فضل مصر عليهم، وأنهم لا يستطيعون نسيان هذا الفضل، ومنذ أقل من ثلاثة أسابيع كان يزور مصر وفد رفيع المستوي من الكتاب والفنانين ورجال الاعلام المغاربة، ويروي الفنان العربي الكبير عبد الوهاب الدوكالي، كيف أنه جاء لمصر في الستينيات بدعوة من إذاعة صوت العرب، ليقضي علي أبعد تقدير خمسة عشر يوما، إلا أنه في الحقيقة مكث أكثر من أربع سنوات، لأنه علي حد تعبيره تعرف علي شخصيات ربما لا يقرب عليها الإنسان أو يراها في صورة مثل عبد الوهاب، أم كلثوم، عباس محمود العقاد، عبد الرحمن الخميسي، صالح جودت وغيرهم..»أناس جعلوا مني هذا الإنسان الذي أمامكم« هذا الشعور الجارف الذي صنعته الثقافة والفن المصري في نفس الدوكالي، هو الذي جعله ورفاقه وكثيرين من بلدان عربية يأتون ليذهبوا إلي شرم الشيخ في رسالة واضحة للعالم أجمع بتضامنهم معنا.
إن الثقافة المصرية وهي تمتلك رصيدها المؤثر، لا يمكن أن تنسي قضاة عظاما، تصدوا لمحاولات تشويه هذه الصورة، فمن منا ينسي القاضي الجليل الذي برأ ألف ليلة وليلة، ولولا حكمته لكانت الليالي ممنوعة من مصر، فعندما أصدرت هيئة قصور الثقافة فترة رئاسة د. أحمد مجاهد " ألف ليلة وليلة" في سلسلة الذخائر التي كان يرأس تحريرها الروائي الكبير الراحل جمال الغيطاني، وقدمت بلاغات لنيابات أمن الدولة العليا، تم حفظ البلاغات لسابق الفصل في الواقعة، ومن منا ــ أيضا ــ ينسي محمد بك نور الذي برأ طه حسين، وبرأ معه حق الاجتهاد والاختلاف، ومن منا ينسي الحكم الشهير للقاضي أحمد سميح الذي قال لا حكم علي خيال، ومن منا ينسي إبداعات ومواقف المستشار الجليل أشرف العشماوي، وغيره.
" أخبار الأدب" في هذه المعركة لم تكن وحدها، بل أنا علي المستوي الشخصي أدين بالكثير للذين دعموني، حتي من كانوا غاضبين مني، كانوا أول من ساندوني، وأذكر منهم الصديق العزيز د. صابر عرب وزير الثقافة الأسبق الذي كان غاضبا مما كنا نكتبه عن فترة توليه وزارة الثقافة، إلا أنه نسي ذلك، وبادر للاتصال بي معلنا تضامنه الكامل.
.