نقوس المهدي
كاتب
أول فعل إجرائي يتوجب القيام به عند تناول هذا الموضوع تناولا موضوعيا يكمن في القطيعة مع المصطلحات المتداولة اليومية التي يستعملها المجتمع بصدده من أجل تسميته ونعته وتوصيفه وتقويمه. ونقصد بالخصوص ثلاثة مصطلحات هي الدعارة والعهر والبغاء. لماذا؟ لأنها تسميات تحمل في طياتها حكما أخلاقيا سلبيا ضد المرأة التي تمارس الجنس مقابل أجر، فتعتبرها مستحقة لوصمة العار وللتهميش.
ومفهوم البغاء نفسه، الذي يبدو أكثر حيادا، لا يخلو من حكم قيمة لأنه يعتبر المرأة البغي ظالمة لنفسها، وللرجل، وللمجتمع، ولوطنها في آن واحد. وحدها البغي تُحمَّل مسؤولية ذلك البغْي المتعدد وتسمى بغيا. ويتضمن مصطلح البغاء أيضا معنى الرغبة، موهما إيانا أن البغي تقبل ممارسة الجنس مقابل أجر ليس فقط لأنها محتاجة، بل لأنها تحب الجماع وتقبل عليه وتقبله خارج الشرعية الدينية والقانونية مع عدة رجال. والسؤال الذي يطرح هنا هو التالي: هل “البغي” امرأة تحب ممارسة الجنس فعلا؟ هل تحب فعلا ممارسته مع عدة رجال؟ هل تحب فعلا ممارسته خارج كل شرعية؟
انطلاقا من هذه الملاحظات النقدية الأولية، يبدو جليا أن تعامل المجتمع مع “بائعات الهوى” يركز عليهن لوحدهن بالأساس، ويعتبرهن حرات في اختيارهن هذا، ومسؤولات رئيسيات عن تفشي الظاهرة وتضخمها، بل عن وجودها. إن الذاكرة الاجتماعية نسيت أن العمل الجنسي المقدس هو بداية تاريخ العمل الجنسي، وفي ذلك النسيان البنيوي تملص المجتمع من مسؤوليته التاريخية وتحميلها المرأة لوحدها.
من هنا، لا يجوز لعالم الاجتماع أن يستعمل المصطلحات التي يستعملها “الإنسان العادي” في تسميته التقويمية للظاهرة. عليه أن يتعامل مع الظاهرة كشيء حتى يحقق القطيعة مع الحس المشترك ومع المفاهيم المتداولة. فالرهان هو إنتاج معرفة موضوعية عن الظاهرة وليس إعادة إنتاج الأحكام الأخلاقية التي يفرزها المجتمع لتحصين ذاته وللتحلل من مسؤولياته. لا بد من استعمال مفهوم محايد وموضوعي لتسمية الظاهرة ولتحليلها. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المفهوم الذي أصبح الآن متداولا في الأوساط العلمية هو مفهوم العمل الجنسي.
فمن جهة، لا يؤشر هذا المفهوم على وجود رغبة جنسية شاذة لدى العاملة الجنسية لممارسة الجنس مقابل نقود، ولا يحمل في طياته حكما أخلاقيا ضد العاملة الجنسية من جهة ثانية. من مزاياه الأخرى أنه يجعل من العاملة الجنسية مجرد فاعلة، قليلا ما تكون حرة وسيدة نفسها في سوق العمل الجنسي. ثم إن مفهوم العمل الجنسي يسوي بين المرأة والرجل إذ ينسحب على كل فاعل جنسي يمارس الجنس مقابل أجر بغض النظر عن هويته الجنسية. إن مفهوم العمل الجنسي يفك الارتباط التقليدي بين المرأة والجنس المأجور ليجعل من هذا الأخير نشاطا يمس الرجل أيضا. إن الربط بين الجنس والأجر هو ما يميز العمل الجنسي بالأساس، دون الحاجة إلى إضافة اعتبارات أخلاقية.
وهو الربط الذي يسمح بالتمييز بين العمل الجنسي وبين الرشوة الجنسية. المقصود بهذه الأخيرة قبول ممارسة الجنس مع شخص معين قادر على تقديم هدايا أو إسداء خدمات بفضل موقعه الاجتماعي. إن الرشوة الجنسية لا تُقدَّمُ لأي كان، وهي عادة لا ترتبط بالإعالة، وإنما تحيل على إرادة الحصول على خيرات أو خدمات غير مستحقة. فإذا كان الدافع الأساسي للعامل الجنسي هو البحث عن القوت اليومي (في أغلبية الحالات)، فإن الراشية الجنسية لا تعيش بفضل المتاجرة بجسدها.
لنعد هنا برهة إلى أرسطو الذي اعتبر أن العلاقة مع الزوجة لا تتموقع في حقل المتعة، وإنما في حقل الإنجاب والاقتصاد، وهو الشيء الذي يفسر لماذا ترتبط المتعة بغير الزوجة، بالخليلات والعاملات الجنسيات. وينحو إنجلز نفس المنحى تقريبا حين يبين كيف أن مأسسة الزواج الأحادي تعني بالخصوص أحادية جنسية مفروضة على المرأة-الزوجة حتى يتحقق صفاء النسب، في حين يستمر الرجل-الزوج في ربط علاقات خارج الزواج من أجل المتعة. وهذا الأمر واضح تماما في تاريخ الإسلام الذي سمح للرجل بامتلاك جواري، علاوة على أنه لم يفرض الأحادية الزوجية عليه. ويرى عبد الوهاب بوحديبة أن هذه الخصوصية الإسلامية هي المسؤولة عن استمرار هلوسة الرجل العربي بالتعدد، وبالبحث الدائم عن الزوجة المضادة التي غالبا ما يجدها اليوم وبسهولة أكبر في العاملة الجنسية.
إن وجود حد أدنى من العمل الجنسي في كل مجتمع أبيسي ظاهرة عادية تقوم بوظائف معينة وتلبي حاجيات خاصة. ومن ثم السؤال التالي: ما هي وظائف العمل الجنسي في مغرب اليوم؟ بالإمكان التمييز بين ثلاث وظائف، اقتصادية، تربوية، إيروسية.
الوظيفة الاقتصادية
سواء أكان منظما أو غير منظم، ممأسسا أو غير ممأسس، صريحا أو سريا، يمكِّن العمل الجنسي الدولة من تحقيق أرباح مالية مهمة ومن وتنشيط الدورة الاقتصادية. ففي الثمانينيات من القرن الماضي، دخل الاقتصاد المغربي في أزمة أصبحت مُفرزة لبطالة الشباب بشكل بنيوي. واتجه ذلك الاقتصاد إلى القطاع السياحي من أجل در العملة الصعبة. وتحولت السياحة تدريجيا إلى سياحة جنسية لا تقول اسمها، سياحة يستفيد منها فاعلون اجتماعيون متعددون : شركات سفر، وسائل مواصلات، فنادق، عمال جنسيون، أسر العمال الجنسيين، مساعدو العمال الجنسيين، شركات خمور، سوق مخدرات، علب ليلية، صالونات تجميل وحلاقة، بعض الموظفين... من هنا، يمكن القول أن العمل الجنسي أصبح يساهم في تنشيط الاقتصاد الوطني وفي “حل” أزمة بطالة الشباب. أصبح العمال الجنسيون شريحة من فئة المأجورين في القطاع الخدماتي دون أن يكون لديهم أدنى وعي بهذه الهوية. فهم لا يدركون أنفسهم كمجموعة مستغلة من طرف أرباب عمل غير مهيكلين وغير ممأسسين بدورهم.
رغم كونه يشكل شغلا حقيقيا، لا يُشخَّص العمل الجنسي كذلك في الإحصاءات الوطنية نظرا لاعتبارات دينية واجتماعية وقانونية، وهو الشيء الذي يبين مدى تعسفية وقصور مقاييس إحصاءات السكان النشيطين. ويبين من جهة أخرى العلمنة الموضوعية للسلوكات الجنسية رغم سيادة الأخلاق الجنسية الإسلامية ورغم ترجمتها في قانون جنائي يجرم الفساد والبغاء والقوادة بشكل واضح. إن هذا التناقض بين قانون صارم وبين ليونة تطبيقية انتقائية يسمح للدولة أن تضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة تبقى “وفية” لإسلاميتها الدستورية، ومن جهة أخرى، تسمح للعمل الجنسي أن يوجد في واضحة النهار (والليل) وأن يقوم بتأدية وظائفه النفعية المتعددة.
على مستوى الفرد، أصبح العمل الجنسي أقصر طريق لإعالة الذات. فحينما يعجز الفرد عن إعالة ذاته بفضل عمل مشروع ومعترف به اجتماعيا، يجد أمامه العمل الجنسي كأقصر وأسهل طريق. طريق تنهجه المرأة أكثر من الرجل ليس بالنظر إلى شذوذ أو إلى شبقية أكبر، وإنما نظرا لتراكم تاريخي جعل من درجة تأهيل المرأة وتمكينها درجة أدنى، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة بطالتها. إن البطالة النسوية هي الطريق السيار نحو العمل الجنسي.
على مستوى الأسرة، لا بد من الإشارة إلى تواطؤها. إن وقع تفقير الأسر المغربية أشد من تأثير الدين والأخلاق، بمعنى أن الكثير من الأسر لا تتغاضى فحسب عن عمل بناتها الجنسي، بل أصبحت تشجعها بشكل مباشر على ممارسة ذلك العمل. و لا يتعلق الأمر بنساء الأسرة فقط، فالرجال متواطئون أيضا. فإذا كانت بعض الأمهات لا يترددن في تشجيع بناتهن مباشرة على العمل الجنسي، فإن الآباء والإخوان يغضون الظرف عن ذلك على الأقل. لم يبق الرجل حاميا لشرف البنت أو الأخت إذ يضطر إلى التحول إلى مستفيد من شغل إناثه في السوق الجنسية اللاشرعية. كل ذلك بدافع البطالة والحاجة والفقر. في الكثير من الأسر، أصبح دخل العاملة الجنسية هو الدخل الرئيسي إن لم يكن الوحيد. ومن هنا أهميته وأهمية المكانة الجديدة للعاملة الجنسية في الأسرة من جراء دورها الجديد. نحن الآن بعيدون كل البعد عما قالته جرمان تيليون بصدد الاحتفاظ ببنات الأسرة لأولاد الأسرة. فأولاد الأسرة الآن يقدمون أخواتهم أو بنات أعمامهم إلى رجال أجانب في إطار علاقة جنسية غير شرعية، لا أخلاقية، مأجورة.
الوظيفة التربوية
ترتفع نسب العمل الجنسي في المغرب لأن الجنسانية غير المأجورة لا زالت تعاني من إكراهات كثيرة ومتنوعة، وذلك رغم “اللبرلة” الجنسية التي تشكل الوجه الأساسي في السياسة الجنسية غير المهيكلة للدولة. فعلا، هناك انفتاح جنساني على مستوى العلاقات في صفوف الشباب. فحسب الأبحاث الميدانية التي أنجزتها في الموضوع (انظر كتابنا “الشباب، السيدا (الأيدز) والإسلام”، الدار البيضاء، 2000، بالفرنسية)، تبدأ العلاقات الجنسية في سن الثالثة أو الرابعة عشرة، وذلك بالنسبة لكلا الجنسين. إنها في الكثير من الأحيان علاقات سطحية، غير مكتملة، تحافظ على ما أسميناه “بكارة اتفاقية”، بمعنى أنها تجارب جنسية متنوعة ومتعددة دون افتضاض. يعني هذا الانفتاح في صفوف المراهقين أن التعلم الجنسي (بالنسبة للفتيان) بدأ يتحرر نسبيا من اللجوء إلى العاملة الجنسية.
وفي آن واحد، بدأ التعلم الجنسي ينفك نسبيا عن إطار الزواج بالنسبة للفتاة لأنها لم تعد تنتظر الزواج لكي تعيش أول تجاربها الجنسية. هذا التطور الذي يحصل الآن في المجتمع يبين أن العاملة الجنسية بدأت تفقد احتكارها في تلقين الدروس الجنسية التطبيقية الأولى. لكن، لا بد من الإقرار بأن الكثير من المراهقين والشبان عاجزين عن الحصول على شريكة جنسية أو في حالة الحصول عليها لا تكون العلاقة الجنسية مكتملة ومرضية، بالنظر إلى انعدام مكان مناسب أو بالنظر إلى ضرورة الاحتفاظ بالبكارة أو خوفا من حمل غير مرغوب فيه. ومن ثم، يتوجه الشاب نحو العاملة الجنسية لكي يكتشف الجنس أو لكي يعيش تجربة جنسية مكتملة. وهكذا نجد أن وظيفة التعلم الجنسي التطبيقي وظيفة لا تزال العاملة الجنسية تقوم بها بالنسبة للشاب المغربي، خصوصا في العالم القروي.
الوظيفة الإيروسية
أما بالنسبة إلى الرجل المتزوج، فالعاملة الجنسية تشكل فرصة للهروب من جنسانية زوجية جدية، أو روتينية ومملة. فالجنسانية الزوجية في المغرب لا تزال، بشكل عام، جنسانية جدية، بمعنى أنها تقوم على الاحترام بين الزوجين. فالزوج يميل إلى أشياء والزوجة تميل إلى أشياء أخرى لكن لا أحد يجرؤ على مصارحة الآخر بما يحبه جنسيا، وبالتالي تبقى العلاقة على الصعيد الجنسي علاقة محدودة، “كلاسيكية” كما يقال.
وهذا الاحترام على الصعيد الجنسي يمنع من الاستغلال الكلي للجسد ويمنع من متعة الكلام البذيء أثناء الجماع لأن الكلام البذيء الذي يُنطَق به أثناء الجماع يخلق الإثارة ويغني المتعة. أيضا، يمنع الاحترام الزوجي من التعبير عن الاستيهامات وعن “الشذوذ”. ومن ثم، يظل هناك إحباط وحرمان داخل الجنسانية الزوجية. ولكي يلبي هذا الإحباط، نجد الزوج يلجأ إلى خدمات العاملة الجنسية من أجل التعبير الكلي عن جنسانيته ومن أجل تفجير طاقاته التي لا يفجرها مع الزوجة. لا نعثر على نفس الشيء عند المرأة المغربية لأنها لم تصل بعد إلى وعي جنسي كامل، أي إلى وعي بحقوقها الجنسية، فالحركات النسائية المغربية نفسها لا تدرج القضية الجنسية في ملفها المطلبي. هناك تخلف كبير على هذا الصعيد.
هذا لا يعني أبدا انعدام الزوجات اللائي يخن أزواجهن لاعتبارات متعوية صرفة. وهناك اليوم بعض الأبحاث الصحفية الاستطلاعية التي تبين بأن بعض النساء المغربيات الثريات يوظفن جنسيا بعض الشبان مقابل أجر، قصد المتعة الجنسية البحتة، وهو الشيء نفسه الذي تقوم به بعض السائحات الأجنبيات. من هنا، يمكن الخلوص إلى أن تحقيقا إضافيا لجنسانية الإنسان المتزوج يتم في إطار العمل الجنسي. فكثيرا ما يتحول الزواج إلى آلية تحجب وتمنع بعض النزوات من التعبير عن ذاتها ومن تحقيق ذاتها لأنها تعتبر نزوات شاذة.
ولهذا فإن الشذوذ الجنسي بكل أشكاله يجد نسبيا حقلا للتعبير عن ذاته في سوق العمل الجنسي. ذلك أن العلاقة مع العامل الجنسي علاقة عابرة بين شخصين ليست بينهما سابق معرفة ولن تجمعهما علاقة دائمة. هذه المجهولية تحرر الزبون من عقده ومن كل اعتبارات الأخلاق الجنسية الرسمية. بالإضافة لذلك، لا يفكر الزبون الذي يؤدي ثمنا في متعة العامل الجنسي، كما أن هذه الأخير يعمل من أجل كسب نقود ولا يعمل من أجل الحصول على لذة، مما يحرر الزبون من خوف عدم إشباع الشريك. وهو هم حاضر في معظم الأحيان في العلاقة الزوجية أو العشقية. إن العلاقة الجنسية المأجورة علاقة جنسية محضة، إنها جنس دون حب ودون نبل، إنها جنس عارٍ وجنس من أجل جنسانية الزبون. وهذا التعريف للعلاقة الجنسية المأجورة يحرر الزبون من مخاوفه ويسمح له بالتعبير عن نفسه دون قيود أو احتراز. تكمن الوظيفة الإيروسية إذن في تحقيق لذة كاملة إن صح التعبير وفي تمكين الزبون من الإفراغ الكلي للطاقات وللشذوذ وللمكبوتات، وهو الإفراغ الضروري للتوازن النفسي.
إن قيام العمل الجنسي بهذه الوظائف يجعل منه ظاهرة “عادية” بالمعنى الدوركهايمي (نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم)، فهو عمل يلبي طلبات اقتصادية واجتماعية ونفسية. الآن، يطلب من السوسيولوجيا أن تتدخل في تشخيص وتحليل ومعالجة الظاهرة لأن العمل الجنسي تضخم وأصبح بنيويا، اجتماعيا وذهنيا. ما نشاهده اليوم، (الآن وهنا)، هو تضخم العمل الجنسي استجابة لأزمة شغل وتشغيل، وخصوصا لأزمة أخلاق. في نظرنا، لا تكمن أزمة الأخلاق في توظيف الجسد قصد ضمان الإعالة الدنيا الضرورية (بعض الفقهاء أباحوا ذلك)، بل في الاستجابة العمياء إلى مطلب الاستهلاك السائد، وفي إرادة الاغتناء، مهما كانت الوسيلة.
.
ومفهوم البغاء نفسه، الذي يبدو أكثر حيادا، لا يخلو من حكم قيمة لأنه يعتبر المرأة البغي ظالمة لنفسها، وللرجل، وللمجتمع، ولوطنها في آن واحد. وحدها البغي تُحمَّل مسؤولية ذلك البغْي المتعدد وتسمى بغيا. ويتضمن مصطلح البغاء أيضا معنى الرغبة، موهما إيانا أن البغي تقبل ممارسة الجنس مقابل أجر ليس فقط لأنها محتاجة، بل لأنها تحب الجماع وتقبل عليه وتقبله خارج الشرعية الدينية والقانونية مع عدة رجال. والسؤال الذي يطرح هنا هو التالي: هل “البغي” امرأة تحب ممارسة الجنس فعلا؟ هل تحب فعلا ممارسته مع عدة رجال؟ هل تحب فعلا ممارسته خارج كل شرعية؟
انطلاقا من هذه الملاحظات النقدية الأولية، يبدو جليا أن تعامل المجتمع مع “بائعات الهوى” يركز عليهن لوحدهن بالأساس، ويعتبرهن حرات في اختيارهن هذا، ومسؤولات رئيسيات عن تفشي الظاهرة وتضخمها، بل عن وجودها. إن الذاكرة الاجتماعية نسيت أن العمل الجنسي المقدس هو بداية تاريخ العمل الجنسي، وفي ذلك النسيان البنيوي تملص المجتمع من مسؤوليته التاريخية وتحميلها المرأة لوحدها.
من هنا، لا يجوز لعالم الاجتماع أن يستعمل المصطلحات التي يستعملها “الإنسان العادي” في تسميته التقويمية للظاهرة. عليه أن يتعامل مع الظاهرة كشيء حتى يحقق القطيعة مع الحس المشترك ومع المفاهيم المتداولة. فالرهان هو إنتاج معرفة موضوعية عن الظاهرة وليس إعادة إنتاج الأحكام الأخلاقية التي يفرزها المجتمع لتحصين ذاته وللتحلل من مسؤولياته. لا بد من استعمال مفهوم محايد وموضوعي لتسمية الظاهرة ولتحليلها. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المفهوم الذي أصبح الآن متداولا في الأوساط العلمية هو مفهوم العمل الجنسي.
فمن جهة، لا يؤشر هذا المفهوم على وجود رغبة جنسية شاذة لدى العاملة الجنسية لممارسة الجنس مقابل نقود، ولا يحمل في طياته حكما أخلاقيا ضد العاملة الجنسية من جهة ثانية. من مزاياه الأخرى أنه يجعل من العاملة الجنسية مجرد فاعلة، قليلا ما تكون حرة وسيدة نفسها في سوق العمل الجنسي. ثم إن مفهوم العمل الجنسي يسوي بين المرأة والرجل إذ ينسحب على كل فاعل جنسي يمارس الجنس مقابل أجر بغض النظر عن هويته الجنسية. إن مفهوم العمل الجنسي يفك الارتباط التقليدي بين المرأة والجنس المأجور ليجعل من هذا الأخير نشاطا يمس الرجل أيضا. إن الربط بين الجنس والأجر هو ما يميز العمل الجنسي بالأساس، دون الحاجة إلى إضافة اعتبارات أخلاقية.
وهو الربط الذي يسمح بالتمييز بين العمل الجنسي وبين الرشوة الجنسية. المقصود بهذه الأخيرة قبول ممارسة الجنس مع شخص معين قادر على تقديم هدايا أو إسداء خدمات بفضل موقعه الاجتماعي. إن الرشوة الجنسية لا تُقدَّمُ لأي كان، وهي عادة لا ترتبط بالإعالة، وإنما تحيل على إرادة الحصول على خيرات أو خدمات غير مستحقة. فإذا كان الدافع الأساسي للعامل الجنسي هو البحث عن القوت اليومي (في أغلبية الحالات)، فإن الراشية الجنسية لا تعيش بفضل المتاجرة بجسدها.
لنعد هنا برهة إلى أرسطو الذي اعتبر أن العلاقة مع الزوجة لا تتموقع في حقل المتعة، وإنما في حقل الإنجاب والاقتصاد، وهو الشيء الذي يفسر لماذا ترتبط المتعة بغير الزوجة، بالخليلات والعاملات الجنسيات. وينحو إنجلز نفس المنحى تقريبا حين يبين كيف أن مأسسة الزواج الأحادي تعني بالخصوص أحادية جنسية مفروضة على المرأة-الزوجة حتى يتحقق صفاء النسب، في حين يستمر الرجل-الزوج في ربط علاقات خارج الزواج من أجل المتعة. وهذا الأمر واضح تماما في تاريخ الإسلام الذي سمح للرجل بامتلاك جواري، علاوة على أنه لم يفرض الأحادية الزوجية عليه. ويرى عبد الوهاب بوحديبة أن هذه الخصوصية الإسلامية هي المسؤولة عن استمرار هلوسة الرجل العربي بالتعدد، وبالبحث الدائم عن الزوجة المضادة التي غالبا ما يجدها اليوم وبسهولة أكبر في العاملة الجنسية.
إن وجود حد أدنى من العمل الجنسي في كل مجتمع أبيسي ظاهرة عادية تقوم بوظائف معينة وتلبي حاجيات خاصة. ومن ثم السؤال التالي: ما هي وظائف العمل الجنسي في مغرب اليوم؟ بالإمكان التمييز بين ثلاث وظائف، اقتصادية، تربوية، إيروسية.
الوظيفة الاقتصادية
سواء أكان منظما أو غير منظم، ممأسسا أو غير ممأسس، صريحا أو سريا، يمكِّن العمل الجنسي الدولة من تحقيق أرباح مالية مهمة ومن وتنشيط الدورة الاقتصادية. ففي الثمانينيات من القرن الماضي، دخل الاقتصاد المغربي في أزمة أصبحت مُفرزة لبطالة الشباب بشكل بنيوي. واتجه ذلك الاقتصاد إلى القطاع السياحي من أجل در العملة الصعبة. وتحولت السياحة تدريجيا إلى سياحة جنسية لا تقول اسمها، سياحة يستفيد منها فاعلون اجتماعيون متعددون : شركات سفر، وسائل مواصلات، فنادق، عمال جنسيون، أسر العمال الجنسيين، مساعدو العمال الجنسيين، شركات خمور، سوق مخدرات، علب ليلية، صالونات تجميل وحلاقة، بعض الموظفين... من هنا، يمكن القول أن العمل الجنسي أصبح يساهم في تنشيط الاقتصاد الوطني وفي “حل” أزمة بطالة الشباب. أصبح العمال الجنسيون شريحة من فئة المأجورين في القطاع الخدماتي دون أن يكون لديهم أدنى وعي بهذه الهوية. فهم لا يدركون أنفسهم كمجموعة مستغلة من طرف أرباب عمل غير مهيكلين وغير ممأسسين بدورهم.
رغم كونه يشكل شغلا حقيقيا، لا يُشخَّص العمل الجنسي كذلك في الإحصاءات الوطنية نظرا لاعتبارات دينية واجتماعية وقانونية، وهو الشيء الذي يبين مدى تعسفية وقصور مقاييس إحصاءات السكان النشيطين. ويبين من جهة أخرى العلمنة الموضوعية للسلوكات الجنسية رغم سيادة الأخلاق الجنسية الإسلامية ورغم ترجمتها في قانون جنائي يجرم الفساد والبغاء والقوادة بشكل واضح. إن هذا التناقض بين قانون صارم وبين ليونة تطبيقية انتقائية يسمح للدولة أن تضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة تبقى “وفية” لإسلاميتها الدستورية، ومن جهة أخرى، تسمح للعمل الجنسي أن يوجد في واضحة النهار (والليل) وأن يقوم بتأدية وظائفه النفعية المتعددة.
على مستوى الفرد، أصبح العمل الجنسي أقصر طريق لإعالة الذات. فحينما يعجز الفرد عن إعالة ذاته بفضل عمل مشروع ومعترف به اجتماعيا، يجد أمامه العمل الجنسي كأقصر وأسهل طريق. طريق تنهجه المرأة أكثر من الرجل ليس بالنظر إلى شذوذ أو إلى شبقية أكبر، وإنما نظرا لتراكم تاريخي جعل من درجة تأهيل المرأة وتمكينها درجة أدنى، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة بطالتها. إن البطالة النسوية هي الطريق السيار نحو العمل الجنسي.
على مستوى الأسرة، لا بد من الإشارة إلى تواطؤها. إن وقع تفقير الأسر المغربية أشد من تأثير الدين والأخلاق، بمعنى أن الكثير من الأسر لا تتغاضى فحسب عن عمل بناتها الجنسي، بل أصبحت تشجعها بشكل مباشر على ممارسة ذلك العمل. و لا يتعلق الأمر بنساء الأسرة فقط، فالرجال متواطئون أيضا. فإذا كانت بعض الأمهات لا يترددن في تشجيع بناتهن مباشرة على العمل الجنسي، فإن الآباء والإخوان يغضون الظرف عن ذلك على الأقل. لم يبق الرجل حاميا لشرف البنت أو الأخت إذ يضطر إلى التحول إلى مستفيد من شغل إناثه في السوق الجنسية اللاشرعية. كل ذلك بدافع البطالة والحاجة والفقر. في الكثير من الأسر، أصبح دخل العاملة الجنسية هو الدخل الرئيسي إن لم يكن الوحيد. ومن هنا أهميته وأهمية المكانة الجديدة للعاملة الجنسية في الأسرة من جراء دورها الجديد. نحن الآن بعيدون كل البعد عما قالته جرمان تيليون بصدد الاحتفاظ ببنات الأسرة لأولاد الأسرة. فأولاد الأسرة الآن يقدمون أخواتهم أو بنات أعمامهم إلى رجال أجانب في إطار علاقة جنسية غير شرعية، لا أخلاقية، مأجورة.
الوظيفة التربوية
ترتفع نسب العمل الجنسي في المغرب لأن الجنسانية غير المأجورة لا زالت تعاني من إكراهات كثيرة ومتنوعة، وذلك رغم “اللبرلة” الجنسية التي تشكل الوجه الأساسي في السياسة الجنسية غير المهيكلة للدولة. فعلا، هناك انفتاح جنساني على مستوى العلاقات في صفوف الشباب. فحسب الأبحاث الميدانية التي أنجزتها في الموضوع (انظر كتابنا “الشباب، السيدا (الأيدز) والإسلام”، الدار البيضاء، 2000، بالفرنسية)، تبدأ العلاقات الجنسية في سن الثالثة أو الرابعة عشرة، وذلك بالنسبة لكلا الجنسين. إنها في الكثير من الأحيان علاقات سطحية، غير مكتملة، تحافظ على ما أسميناه “بكارة اتفاقية”، بمعنى أنها تجارب جنسية متنوعة ومتعددة دون افتضاض. يعني هذا الانفتاح في صفوف المراهقين أن التعلم الجنسي (بالنسبة للفتيان) بدأ يتحرر نسبيا من اللجوء إلى العاملة الجنسية.
وفي آن واحد، بدأ التعلم الجنسي ينفك نسبيا عن إطار الزواج بالنسبة للفتاة لأنها لم تعد تنتظر الزواج لكي تعيش أول تجاربها الجنسية. هذا التطور الذي يحصل الآن في المجتمع يبين أن العاملة الجنسية بدأت تفقد احتكارها في تلقين الدروس الجنسية التطبيقية الأولى. لكن، لا بد من الإقرار بأن الكثير من المراهقين والشبان عاجزين عن الحصول على شريكة جنسية أو في حالة الحصول عليها لا تكون العلاقة الجنسية مكتملة ومرضية، بالنظر إلى انعدام مكان مناسب أو بالنظر إلى ضرورة الاحتفاظ بالبكارة أو خوفا من حمل غير مرغوب فيه. ومن ثم، يتوجه الشاب نحو العاملة الجنسية لكي يكتشف الجنس أو لكي يعيش تجربة جنسية مكتملة. وهكذا نجد أن وظيفة التعلم الجنسي التطبيقي وظيفة لا تزال العاملة الجنسية تقوم بها بالنسبة للشاب المغربي، خصوصا في العالم القروي.
الوظيفة الإيروسية
أما بالنسبة إلى الرجل المتزوج، فالعاملة الجنسية تشكل فرصة للهروب من جنسانية زوجية جدية، أو روتينية ومملة. فالجنسانية الزوجية في المغرب لا تزال، بشكل عام، جنسانية جدية، بمعنى أنها تقوم على الاحترام بين الزوجين. فالزوج يميل إلى أشياء والزوجة تميل إلى أشياء أخرى لكن لا أحد يجرؤ على مصارحة الآخر بما يحبه جنسيا، وبالتالي تبقى العلاقة على الصعيد الجنسي علاقة محدودة، “كلاسيكية” كما يقال.
وهذا الاحترام على الصعيد الجنسي يمنع من الاستغلال الكلي للجسد ويمنع من متعة الكلام البذيء أثناء الجماع لأن الكلام البذيء الذي يُنطَق به أثناء الجماع يخلق الإثارة ويغني المتعة. أيضا، يمنع الاحترام الزوجي من التعبير عن الاستيهامات وعن “الشذوذ”. ومن ثم، يظل هناك إحباط وحرمان داخل الجنسانية الزوجية. ولكي يلبي هذا الإحباط، نجد الزوج يلجأ إلى خدمات العاملة الجنسية من أجل التعبير الكلي عن جنسانيته ومن أجل تفجير طاقاته التي لا يفجرها مع الزوجة. لا نعثر على نفس الشيء عند المرأة المغربية لأنها لم تصل بعد إلى وعي جنسي كامل، أي إلى وعي بحقوقها الجنسية، فالحركات النسائية المغربية نفسها لا تدرج القضية الجنسية في ملفها المطلبي. هناك تخلف كبير على هذا الصعيد.
هذا لا يعني أبدا انعدام الزوجات اللائي يخن أزواجهن لاعتبارات متعوية صرفة. وهناك اليوم بعض الأبحاث الصحفية الاستطلاعية التي تبين بأن بعض النساء المغربيات الثريات يوظفن جنسيا بعض الشبان مقابل أجر، قصد المتعة الجنسية البحتة، وهو الشيء نفسه الذي تقوم به بعض السائحات الأجنبيات. من هنا، يمكن الخلوص إلى أن تحقيقا إضافيا لجنسانية الإنسان المتزوج يتم في إطار العمل الجنسي. فكثيرا ما يتحول الزواج إلى آلية تحجب وتمنع بعض النزوات من التعبير عن ذاتها ومن تحقيق ذاتها لأنها تعتبر نزوات شاذة.
ولهذا فإن الشذوذ الجنسي بكل أشكاله يجد نسبيا حقلا للتعبير عن ذاته في سوق العمل الجنسي. ذلك أن العلاقة مع العامل الجنسي علاقة عابرة بين شخصين ليست بينهما سابق معرفة ولن تجمعهما علاقة دائمة. هذه المجهولية تحرر الزبون من عقده ومن كل اعتبارات الأخلاق الجنسية الرسمية. بالإضافة لذلك، لا يفكر الزبون الذي يؤدي ثمنا في متعة العامل الجنسي، كما أن هذه الأخير يعمل من أجل كسب نقود ولا يعمل من أجل الحصول على لذة، مما يحرر الزبون من خوف عدم إشباع الشريك. وهو هم حاضر في معظم الأحيان في العلاقة الزوجية أو العشقية. إن العلاقة الجنسية المأجورة علاقة جنسية محضة، إنها جنس دون حب ودون نبل، إنها جنس عارٍ وجنس من أجل جنسانية الزبون. وهذا التعريف للعلاقة الجنسية المأجورة يحرر الزبون من مخاوفه ويسمح له بالتعبير عن نفسه دون قيود أو احتراز. تكمن الوظيفة الإيروسية إذن في تحقيق لذة كاملة إن صح التعبير وفي تمكين الزبون من الإفراغ الكلي للطاقات وللشذوذ وللمكبوتات، وهو الإفراغ الضروري للتوازن النفسي.
إن قيام العمل الجنسي بهذه الوظائف يجعل منه ظاهرة “عادية” بالمعنى الدوركهايمي (نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم)، فهو عمل يلبي طلبات اقتصادية واجتماعية ونفسية. الآن، يطلب من السوسيولوجيا أن تتدخل في تشخيص وتحليل ومعالجة الظاهرة لأن العمل الجنسي تضخم وأصبح بنيويا، اجتماعيا وذهنيا. ما نشاهده اليوم، (الآن وهنا)، هو تضخم العمل الجنسي استجابة لأزمة شغل وتشغيل، وخصوصا لأزمة أخلاق. في نظرنا، لا تكمن أزمة الأخلاق في توظيف الجسد قصد ضمان الإعالة الدنيا الضرورية (بعض الفقهاء أباحوا ذلك)، بل في الاستجابة العمياء إلى مطلب الاستهلاك السائد، وفي إرادة الاغتناء، مهما كانت الوسيلة.
.
صورة مفقودة