سهام وندي
كاتب
يستحمّ السرد بعبق الأنثى أزهارا ورياحين، ففي جسدها يستيقظ المشتهى على نداء الرغبة المتّقدة.. فالجسد هو نبع السرد النسائي ولذّته، وفي الينابيع يكثر الماء ويورق السرد ويزهر .. فالجسد يمثّل غواية سحرية لسرد المرأة، حيث يتحوّل إلى بؤرة حبلى بالدلالة، يشكّل في نهاية الأمر لهب العملية الإبداعية، وزهرتها المخلّدة، ونارها الموقدة.
هذا الوعي المشبّع بالحس الجسدي والقادر على استيعاب الحركة الكونية الشمولية أثرى السرد النسائي، وجعله مطرّزا بعوامل الإثارة والإغراء.
ففي حضرة الجسد تتجاوز الكلمة الحرّة عشقها لحرية الانفلات من مدلولها المعجمي إلى عشقها للفعل الشعري وسياقاته الذهنية، حيث تتجاوز الدلالة خيال المتلقي الباحث عن مكامن المعنى في سطح النص .
إن حضور الجسد بأبعاده وعناصره حينا، وبغياب بعض عناصره وإبعادها أحيانا أخرى يوقض كوامن المتلقي، ويبقى يبحث عن مكامن ابتكار المعنى الذي يغيب ولا يتلاشى، فيشدّ القارئ لينتقل به من أحاسيسه الذاتية إلى فضاء العالم .
كتابة المرأة هي أسئلة الأنثى مع ذاتها ومع العالم المحيط بها، كما تبقى اللغة هي لبوس المرأة وفضاؤها الذي لا يخرج عن مدار الجسد المؤنّث، حيث نصيب الأنثى مخبوء في نسقها اللغوي المتقن لآليات التورية والمواربة عند التعبير عن الحقيقة، ذالك أن اللغة حجرة مغلقة، لكنها النافذة التي تسمح لها أيضا في الخروج من العتمة .
ومما يحقّق لذّة السرد عند المرأة استعانتها بقناع المجاز الذي يولّد شراهة الفضول من ظاهرة الخفاء والتجلّي لتبقى الأنساق التعبيرية في الكتابة النسائية موازية لحالات الإغلاق والتقفيل، كما أن ألفاظها الدالّة، تتجه في تلك الحركة الاندفاعية باتجاه الضوء والكشف، وكأن سرد المرأة طيف شبحي يغادر جسده ليتوحّد في الآخر .
لهذه الأسباب ولغيرها ارتأينا البحث عن مكامن لذّة السرد عند المرأة وعوامل الإثارة والإغراء عندها مركزين على النص ولا شيء غير النص .
1 – سرد الجسد وما يتوفّر عليه من غواية وإغراء
الرغبة كمون الانتظار، تحافظ على حالتها غير المنتهية، تستقطب مئات الصور الذهنية التي تستدعيها المؤثرات النفسية المرتبطة لا شعوريا بالجسد،حيث الغواية الحسيّة الكامنة، و (الذات) المؤنّثة، و(الجسد) المشتهى، و(الآخر) المذكّر المثير، مولّد فعل الميلاد والبعث. وهذا المذاق الذي يثيره الجسد، يستثير في ذهن المتلقي تداعيات، تفجّر في خياله صورا مذهلة، توجّه منظور (الرؤية) عنده إلى اتجاه جديد، تحقّق للأشياء بعدها المغاير، فتهدّم النظرة المألوفة للحقائق الخادعة.
فالمخيال السردي (النسائي)، يكتسب فاعليته من (الآخر المذكر) قربا أو بعدا، وهويّة (الذات المؤنثة) قرينة الأشياء المعادلة لها، وعملية التلاحم والاختراق، تصبح معادلا موضوعيا لحالة الذات، المرتبطة لا شعوريا بهذا الآخر المفجّر للطاقة الخيالية والمعمّق لها، بل إنّ السرد الأحادي، يتحوّل إلى حوار ثنائي، تخرج فيه الذات عن عزلتها، فتنجذب – من خلاله – إلى التأمّل والتدبير في أبعد الأمور.
إنّ الجسد الأنثوي المشتهى لا يبقى راقدا ساكنا، بل تحرّكه اللغة، فتعيد إليه حيويته وانطلاقاته، وتتحوّل حركية السرد فيه إلى عمليّة مغرية، نلمس فيها الغواية والإغراء، والأناقة التي تحقّق للنص لذّته، ووقعه المشتهى. فالجسد لَبوس اللغة في الكتابة النسائية، يستثير مكامنها، ويستحثّ صورها المكبوتة، يحمّلها رمزية تأويلها الثقافي المؤثّر، فيتحوّل السرد إلى شحنات عاطفية، يمتزج فيها المشهد الحسّي (المرئي) بالمعاني الذهنية (المجرّدة)، كما يتحوّل السرد من المرئي إلى أبعاد مجردة أكثر دلائلية.
فالجسد يجعل السرد حيويا، يمدّه بتلك الصور المتعدّدة الأبعاد، المحتملة الدلالة، خاصة إذا كانت الكتابة «على نحو خاص، ليست محايدة أو باردة، بل هي مرآة بلورية صقيلة، تجلو خوالج ومنازع صاحبها، وتعكس بصمته وهويته، ونبض روحه وجسده، من حيث احتسب أم لم يحتسب»(1). والمرأة المبدعة، تملك القدرة على الترحال في دقائق الأشياء وتفاصيلها التي استأثرت بولع الأنثى، فهي تملك من وسائل التخبئة والتورية، ومواربة القصد، ومحاولة تسمية الأشياء بغير أسمائها، ما تجعل نصوصها متميّزة مذهلة، وهذه الأقنعة، أو اللباس النصف شفاف، يحقّق من المتعة والإغراء ما لم يحقّقه العاري المكشوف، هذا ما تحسنه المرأة المبدعة الذي يمثّل عندها الوتر الذي تضرب عليه في تحقيق البؤرة الساخنة المحقّقة للذّة السرد وغواية النص.
وليس غريبا أن نجد جلّ المبدعات المغاربيات يضربن على هذا الوتر الحسّاس، حيث النظارة والجمال والإغراء، مفتاح المرأة لقلب الرجل، وحيث وقع الجسد في السرد النسائي، المحقّق للكثافة الجمالية المصاحبة للشحن العاطفية القادرة على الاجتذاب الفنّي الآسر.
يعتمد السرد النسائي على المواربة والتخفّي، يتخّذ منها مدخلا لاستنطاق المكبوت والساكن. فالموارد المرسلة، تظهر نصف ما تخفي، فهي تتمتّع بمقدار كبير من الرمز والتأويل، يجعلها قادرة على التطواف في غابات زاخرة من المعاني، ولا نملك من هذه الفنية الدقيقة، في نصوصنا النسائية المغاربية إلا قليلا من مرتكزاتها وعلاماتها، يمكن أن نستنير بها عند التحليل والتمثيل، كالحوار الذي جرى بين الساردة «صالحة» و»محمود» عبر الهاتف:
«………………
– ما هي علاقتك بالقهوة ؟
.. أتوقف عن الحركة تماما، ويمتلئ صدري بذلك الإحساس العجيب، الممزوج بالخوف، والعذوبة، والجمال، والحياء الذي كنت أنبض به، وأنا أتلقّى جوابه في التليفون:
– علاقة أخويّة!!
.. فأسأله..
– ومتى تمارس هذه الأخوّة؟
– في أيّ وقت..
.. ثم استطرد مستدركا:
– في الوقت المناسب..
.. أمسك بطرف الكلام مازحة:
– ولكنه، قد لا يكون وقتا مناسبا على الإطلاق، عندما يكون في السابعة صباحا مثلا..
.. ينفي بإصرار.. تتخذ معه مخارج الحروف وقعا قاسيا للغاية:
– لا.. لا بدّ أن يكون مناسبا دائما!
– في كلّ الظروف؟
– نعم.. في كل الظروف، مهما كانت..
.. أحسّ أنه صار بإمكاني أن أدخل في المزيد من التفاصيل بثقة وشجاعة، تقترب بي من منطقة الوضوح الكامل:
– بعد أن عرفت البعد الزمني لعلاقة الأخوّة هذه، هل لي أن أعرف بعدها المكاني؟
.. وقبل أن يجيب، أضيف سؤالا شبه صريح:
– أين تمارس أخوّتك للقهوة؟
يقول دونما تكلّف:
– في أي مكان..
.. أستغرق في حالة الثقة التي كانت تمنح صوتي بعض الإشراق الضاحك، وأقول بمزيج من الجديّة والهزل، وقد قصدت ذلك؛ لأحفظ لنفسي خط الرجعة فيما لو كان جوابه سلبيا:
– ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة؟
.. يجيب على الفور:
– يا ريت…!!..»(2).
تحاول الساردة، في هذا الحوار، أن تحافظ على المسافة بين الظلّ والعلن، بين التخبئة والمكاشفة، وتستعين في ذلك بالكثير من المواربة والمجاز والتورية؛ فالساردة طرحت الكثير من التساؤلات والإحالات التي تكشف عن مكامن الاستثارة والولع، فهي تعبّر عن دلالتها الجنسية بشيء من التلميح دون التصريح، متّكئة على اللغة في ستر الحقائق. ولعلّ نصيب الأنثى مخبوء في النسق اللغوي الكثيف، حيث تتخّذ من اللغة لحافا وغطاء في حجب الحقائق.
هذه التغطية الماكرة، تولّد في سرد المرأة شراهة الفضول، وشهوة المعرفة، حيث تمدّ النص بفاعليته الفنية. ولو أعدنا قراءة الحوار الذي جرى بين الساردة «صالحة» و»محمود» للاحظنا التالي:
– تواتر ذكر العبارات التالية: «.. علاقتك بالقهوة علاقة أخوية/ ممارسة هذه الأخوة … في الوقت المناسب/ أين تمارس أخوتك للقهوة … في أي مكان/ ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة … يا ريت..»
– تشترك الصياغات الدالّة – في معظمها – على الممارسة، وعدم الاستثناء، والقبول بالطرف الآخر.
– عملية المدّ والجزر استأثرت باهتمام المرأة أكثر من الرجل.
– اعتماد «الساردة» على بعض الظواهر الحسيّة، المعادلة للدلالة التي تريد تبليغها، وهي نكهة القهوة وممارستها، هذه النكهة التي تحمل شراهة «الساردة» وظمأها إلى (قهوة) مماثلة، تقتل جوعها وحاجتها، وقد وجدت ضالتها عند «محمود» الذي هو في حاجة إلى هذا الطعم ذي النكهة الفريدة، ومذاقه الموازي لمذاق القهوة التي أصبحت متاعا متاحا للطرفين على حدّ سواء: «… ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة؟.. يجيب على الفور: «يا ريت …».
– تتحول العبارات إلى (أزرار) تستدعي التأويل، في استكشاف المنفذ الذي أرادته الساردة، وقد أسهمت هذه الأزرار في بناء الآفاق القرائية المحتملة.
– إن عملية التعديل والاقتراح والاختيار والحسم، تمثّل قانونا ترتضيه الذات الساردة التي تتحاشى المواجهة العلنية كي تحافظ على المسافة بين الذات والآخر.
– إنّ القرائن المصاحبة، تساعد في إيجاد ما هو مخفي، مثل الجملة السردية اللاحقة: «… ويسألني: «هل توجد في عمارتكم شقة خالية…؟!..»(3).
إنّ هذه الأقنعة، التي هي لبوس المرأة، تحقّق حوافز مثيرة للقراءة، والتفسير والتأويل، مثلما تفتح أبواب البحث والمساءلة المنطلقة من الذات والجسد، لتصل إلى الآخر، عن طريق التخّفي تارة، والتجلّي والمشاهدة تارة أخرى.
و(أحلام مستغانمي) توظّف الجسد، وتنبش في خباياه وتفاصيله، سواء فيما يخصّ الذات، أو يخص الآخر، وفق إغراءات، نطلق عليها «مرايا» النص الأنثوية وتحولاته الطريفة، وقد استعرنا مصطلح المرايا للجمع بين نقيضين: العتبة والنور، الظلّ والعلن، التخفّي والتجلي. وهذه أقنعة تحسنها المرأة عبر تسمية الأشياء بغير مسمياتها. ورد على لسان الساردة «حياة»:
«… رحت أستعيد أنفاسي، أتنبّه للثوب الذي أتصبّب تحته عرقا، وأنا أراه يخلع جاكيته.. يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة؛ لاحتساء قهوة.
عاودتني أسئلتي، وأنا أنظر إليه.. كما تقرأ غجريّة الكف، رحت أقرأ هيأته بحدسي وحواسي فقط، لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوبا عليه، قدرا متعب الشفاه، فوضوي الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقص الرغبات، كرجل في الأربعين.
يسألني: «فيم تفكّرين؟..».
أجيب: «أحبّ الرّجال في الأربعين..».
يبتسم.. يردّ: «ولكنني لست الرّجل الذي تتوهمين!..».
يلقي برماد سيجارته في المنفضة، ويمدّ نحوي يده: «تعالي.. اجلسي قريبا منيّ..».
أتردّد بعض الشيء قبل أن أعترف: «إني أتصبّب عرقا، أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات..».
أتوقّع أن يقول: اخلعيها مثلا، لكنه يقول، وهو يسحبني إلى جواره: «أحب رائحتك.. لقد أحببت دائما لغة جسدك..».
ثم يواصل، وكأنّه يطمئنني: «إن جسدا لا رائحة له هو جسد أخرس…»(4).
تستعير (أحلام مستغانمي) الواجهة الأمامية المكشوفة للجسد، وتستحضر الدلالة الخلفية التي تشكّل بها عوالمها المضيئة، من خلال اللقطات الشعرية التي تتّكئ فيها عليه بتقنية كتابية فريدة ومتميّزة. فحركية السرد، وغوايته، تتوسّل بالجسد من أجل تثوير السياق الذهني للقارئ، بحيث تتعامل مع إشارة الجسد؛ لتثير شيئا خارج ذاتها، وخارج الجسد نفسه.
وتتحاشى (أحلام مستغانمي) المعنى الصريح والثابت؛ لتمرّ إلى دلالات أخرى غير محدودة، هي نتاج علاقة وموقع وسياق. على هذا الأساس، «يعتبر (غريماس) أن العالم المسمّى «محسوسا» عالم البحث عن الدلالة؛ إنّه يتمظهر، باعتباره فقط إمكانية معنى، ولكي يكتمل معناه، لا بد من أن يخضع لشكل معين. فالدلالة يمكنها أن تتوارى وراء كل المظاهر المحسوسة، إنّها توجد خلف الأصوات والصور والروائح، غير أنّها ليست في الأصوات أو الصور، باعتبارها مدركات»(5).
إنّ مناحي البعث والمساءلة والحوار التي انتهجتها (أحلام مستغانمي)، تنطلق من الجسد؛ لتصل إلى الآخر، وكأنها ترسم بالكلمات، ضمن فسيفساء جسدية، لتحقّق بذلك لذّة التشكيل، ومتعة الابتهاج حين تستجيب لنداء الجسد، وتحافظ، على الرغم من ذلك، على تلك المسافة بين الجسد وظلّه؛ لإثارة المتلقي، ولإبقائه على تلك الصورة الجسدية المرغوب فيها: «… بيننا مسافة أنفاس وقبلة، ولكنه لم يقبلني…»(6).
فأعضاء الجسد الأكثر ترميزا، تساعد في استقطاب الأبعاد الدلالية، مثلما تتميّز بسحر الملاحقة، وتوطيد الجسور بين الباث والمتلقي؛ «فعلاقة الجسد بالنص، تكمن في ذلك التداخل اللساني والواقعي بين المتن والجسد؛ أيّ: في العلاقة التكوينية التي ينسجها الجسد مع النص، فيهبه فيها كل معطياته الإدراكية: تخييلا ومتخيلا، ثم في كونه يشكّل النموذج المباشر للنص التخييلي.
الجسد – إذا- موضوع النص، ومنبع معطياته، ومنتجه، ومتلقيه في الآن نفسه، إنّه يشدّ النص إلى مسألة الوجود، كي يصغي لها، وينتجها تخييلا في الوقت الذي يختزن مجمل المعطيات المتخيّلة المغذّية للكتابة الحكائية، بشكل شعوري ولا شعوري»(7).
في سرد (أحلام مستغانمي)، يتحوّل الجسد إلى شكل هلامي، يمدّ النص بفيض لا شعوري من الدلالات؛ فهو يغيب ولا يتلاشى، ويعاود حركته الاستئنافية، بين مدّ وجزر، متّخذا من اللغة قناعا في كيفية كتابة الجسد للذات، وكتابة الذات للجسد. فالجسد هو طاقة النص التخييلية في السرد النسائي، حيث يسمح بتبادل الأدوار والوظائف، كما يسمح لحركية المشاعر والهواجس والأفكار، أن تدبّ في اللغة، وتمتلك مواقعها، وتفعّل طاقتها، داخل الجسد النصّي.
وهذا ما توظّفه (زهور كرام)، حين اتّخذت من الجسد مطيّة للبحث والتساؤل والمراجعة، مما جعلها تخرج عن الانسياق، والتقليد في التعامل مع الجسد، كمعيار أوّل، وكقيمة فنيّة، تستطيع من خلاله، تكثيف حركية المعرفة، بعيدا عن النسخ والتكرار والاستهلاك. ورد على لسان الساردة:
«… دخلت الغرفة، أفتّش عن نفسي التي كانت مستلقية في الأبيض، تحتسي عطر اللقاء، وتحلّق طيرا، صنعه الطفل من ورق الدفتر.. هذه المرّة، وجدت نفسي بسرعة.. عادة كنت أفقدها بعجالة، كانت «العمـة» تتقدم كالممحاة، تزيل أي أثر للنفس التواقة للعشق.. سألتني مرّة عنّي. فتلعثمت؛ لأني حينها، كنت أفقدني في حضرتها.
هذه المرّة، أعدتني بسرعة إلى شعري.. أطلقته.. أدخلت أنفي فيه، واستنشقت شعري، كان حاضرا.. موجودا.. كان هنا.. هو الذي قال لي لا تقصّيه، اتركيه يتحرّك فوق ظهرك، دعيه يرقص كلما اهتزت خطواتك.. إنه دليل على أنك على مقربة من الأغنية.. تمنيت لو كان شعري أكثر طولا.. لو غطّى كلّ جسدي.. لو رقص فوقي، وتماهى مع جسدي..
وقفت أمام المرآة أطلب طوله.. كان طويلا بعض الشيء.. بعض الشيء فقط، والمرآة لا تكذب، تضعني أمام حقيقته، لكني أحسّه أطول مما أراه.. الإحساس بالشيء أهم من رؤيته…»(8).
تعتمد (زهور كرام) على تثوير السياق الذهني للقارئ، الذي يجده مخزونا في متن النص، حيث توحي به الكلمة التي تحوّلت إلى إشارة ببعديها: الواقعي والرمزي. كما أنّ (زهور كرام) تلعب على سلطة العناصر المتفاعلة: «الأبيض/ القرنفل/ التحليق والطيران/ طول الشعر وتغطيته للجسد/ الرقص/ التماهي/ الإحساس بالطول…». وهذه الكلمات المتواترة، تملك طاقة إيحائية مجنّحة، تخرج عن التقريرية والمباشرة في صنع الحدث المتشظّي، الذي يفهم، من خلال القرائن المصاحبة، لتحديد الأبعاد المعرفية والاجتماعية للحدث المركزي النامي في الرواية (مقاومة جبّة العمّة وخرقها).
حين نقرأ النص، ونصغي لوحداته السردية أكثر، نشعر بتلك الأدخنة والحرائق المتعدّدة المصادر، تعيشها البطلة الساردة داخل جسدها، هذا الجسد الذي يبحث بلا هوادة عن تأكيد وجوده، وهويته، وإثبات حضوره، جسدا وذاتا ينبغي للآخر أن يعترف بها، حرّة، محرّرة، غير مقيّدة.
لقد تعاملت (زهور كرام)، من خلال «الساردة»،على جعل الجسد مركز إشعاع واستقطاب وإثارة، وهذا بدوره فتح آفاقا مغايرة ومفتوحة لممارسة السرد. فالجسد المستحضر، وما يحمل من مخيّلة ووجدان وذاكرة، رفع من مستوى السرد إلى الكتابة الشعرية الشفافة، المنسجمة مع طبيعة المرأة الأنثى التي تبحث عن ذاتها المفقودة، من خلال حركية السرد المالك لقدرة التجاوز والتجدّد، وعدم الاستكانة للجاهز والمتعارف عليه.
إنّّ النص مكان الذات، وسكن لها، والسرد عند المرأة، هو قراءة للذات والجسد، يثبت كينونتها وهويتها. فالمرأة، حين تكتب نصّها، تكون قد كتبت جسدها بعلاماته وإشاراته وأبجدياته ودواله، «ويمكن العودة إلى الجذر اللغوي لكلمة قراءة، في معاجمنا العربية، حتى ندرك أنّ الكلمة متعلّقة بالضم والجمع، تحمل المعنى الحسي، بل المعنى الجنسي الواضح، وذلك يحيلنا مرّة ثانية إلى علاقة اللغة بجسد العالم، وجسد المرأة، فالمعنى العميق، المتعلّق بالقراءة، ملتصق بالرحم، ومرتبط بجسد الأنثى وفيزيولوجيتها الأنثوية الخاصّة، حيث القرء ودلالاته، وحيث الاحتواء وحمل النطف والأجنّة،كلّ ذلك، يجعل المرأة/ الجسد، والجسد/ النص حاضنة الخصب والاستمرار والخلود»(9).
2- ظلال الحجب، أو الأقنعة النصف شفّافة:
تُبنى حركية السرد النسائي على فاعلية الأنثى «الساردة»، وجعلها في موقع المراوغ الذي يستخدم الكثير من الأقنعة والحجب الشفافة، ليخفي أكثر مما يظهر، ويستر أكثر مما يكشف. «فالقناع الشاف، أي القناع الذي يعرّف الواقع، لا تقتصر وظيفته الفنية على دلالاته المثيرة، في إطار عملية الحب، وما يتشعب منها، أو يتدفق إليها، بل يؤدي – أيضا – وظائف أخرى جمالية وفكرية»(10).
فالمرأة المبدعة، تحوّل المباح المعرّى إلى أقنعة، في استخدامها للألفاظ، كمؤشرات توحي بالبعد الجنسي، أو تتخذها أنثى الرواية سبيلا للبوح عن بعض مواجع الأنوثة، مستفيدة من ذاكرة الكلمات، وحمولاتها الثقافية، فتتحوّل المفردات إلى أزرار، تستدعي البعد الجنسي، كاستخدام المرأة المبدعة للقفل والمفتاح، ولذّة الاختراق والالتحام بالآخر المذكّر، كما تستخدم فعل الامتطاء والركوب والنزول، والدخول والخروج، والمفتوح والمغلق، والقلم والورق، وكلّ ما يندرج تحت عمليات الاختراق، وإضاءة المخبوء في مكامن الحجر السرية المعتّمة.
تشكّل هذه الإشارات اللغوية منابع فيض، تلج بها الجسد، فتحقّق شغف الالتحام، معتمدة على اللغة، في ارتحالها إلى مكامن السرّ، في كهوف الجسد الداخلية، حيث تجد لغة موازية للغة الجسد، تستخدمها كأقنعة مشحونة بدلالات غائبة، يشكلّها المتلقي في وجوه مختلفة. فتتحوّل الذات الساردة، في الرواية، إلى أتون مشتعل، تقتحم الممنوعات، وتقذف الكلمة في اتّساعها وضبابيتها، لتحضر الدلالة المنشودة التي يحدّدها السياق.
تكتب المرأة خلف الستائر الضبابية، خاصّة، إذا تعلّق الأمر بجسدها وبجوعها الجنسي، وبضراوة الرغبة. فالمرأة العربية، ما زالت تتكلّم من وراء حجاب، وكأنها ما زالت قربانا للفكر القمعي، وضحية للسلطة المستبدة، فحتّى المتحررات منهن، يلجأن إلى مدار أكثر اتساعا وضبابية، حين يتعلّق الأمر بالجنس والحبّ والرغبة، وقد تسعى المرأة المبدعة إلى أن تكتب خلف الستائر الضبابية؛ لتحقيق المتعة الفنيّة، وشدّ انتباه المتلقي.
ورد على لسان الساردة، في رواية «نخب الحياة» لـ (آمال مختار):
«… لم يعد البلاط يئن تحتنا، بل كان يصرخ.. كنت أحلم بأن يتكسّر، ونسقط من قمّة متعتنا في الفضاء، ونطير. نسقط من جديد، وإذا بنا في البحر نتلاطم بين الأمواج، بأجساد متشققة عطشا. ولن نعرف كيف نرتوي، نظل نتقاذف ماء المتعة، نتراشق به، نرشفه، نبصقه، نمتصّه، نتلمّظه، نسبح فيه، ونتخبّط، ثمّ نهتدي، ونشرب، ولا نرتوي.
نسقط، وإذا بنا في الأدغال، ننطّ على الأغصان الضخمة الغليظة، نقفز على الجذوع الضاربة في العمق، نجلس القرفصاء تحت الفيء، نتمدّد على الأوراق العريضة، نقضم الثّمر الغجري، يغطس هو في جوز الهند المشقّق، يمتصّ رحيقه، ويأكل لحمه، وألتهم ثمر الموز بنهم خرافي، ولا نشبع…»(11).
إنّ المادة اللغوية الجسدية، تتحرّك في فضاء العالم، بكثير من الدلالات الاحتمالية التي لاتخضع لدلالة واحدة. فقد تواتر ذكر: «الفضاء والطيران/ والبحر والأمواج/ والقذف/ والتخبّط/ والسباحة/ والأدغال والأغصان والجذوع/ والقضم/ والثمر الغجري/ وجوز الهند والموز/ والرحيق/ والأكل والالتهام ..».
فالألفاظ قد تحرّرت من صيغتها النهائية، وحملت قابلية التشكّل في وجوه مختلفة، ولكن، من خلال الانسجام والتناغم الداخلي في النص، تنفتح دلالات الألفاظ على الجنس، فلا تخطئه، ليتجسّد عنفوان الالتحام بين العاشق والمعشوق، ولتتحوّل الجمل السردية إلى ساحة غواية وسحر، والتهاب جسدي، تعدّى (إيروسية) الأشياء.
لقد رسمت الكاتبة الجسد، وهو في أشدّ عنفوانه وفورانه، مستخدمة الحركية الرمزية، تدفع الجسد إلى قول ما لم يقل، مفجّرة الصورة الحسيّة إلى عناصر انجذاب واتحاد. فالجسد، في الرواية النسائية، يتحوّل إلى مستقبل للحوافز والمثيرات الحسيّة، تمارس المؤلفة من خلاله لذّة التعبير، ولذّة التشكيل، ليتيه المتلقّي مع الإشارات والإيماءات المضاعفة للدلالة، المقوّية للتأويل.
من هنا، تتحقّق لذّة السرد ومتعته، ويتحوّل إلى وسيلة غواية وإغراء، تتوارد الدلالة إلى مداره، تأتي في صور كثيفة مفاجئة، ويستحيل السرد معالجة رمزية فنيّة، بأسلوب شاعري جميل، غنيّ المجاز، طافح الشاعرية، يزوّد النص بفاعلية التلقي التي تجعل المتلقي يتقبّل الملفوظات، ويصطنع الإيحاءات لها ولنفسه، منقّبا في بنية النص السطحية، ليكوّن أفقا دلاليا مولّدا لتشابكات النص في بعده العميق، الذي سيتماهى فيه بعد ذلك، مكرّسا صورة المرأة التي «تربط الحب بالجسد، انطلاقا من شكل تعاملها مع مكوّنات العالم، والتي تقدّم نظرة جديدة للجسد النسائي الذي حضر في مجمل الإبداعات والكتابات»(12).
وقد يتحوّل السرد النسائي إلى همسة مسموعة، أو ذرّة مرئية، أو رائحة خفيّة، تتلمّس طريقها، متابعة حركات (الآخر) مستشفّة دلالاته، حيث يتجلّى (الآخر) في مرآة (الأنثى) الكاتبة، يحقّق تلك اللغة المشحونة بمسافات التوتر. «فالكتابة ترجمة لإيقاع الجسد بكلّ ترنحاته وتوتّراته، وتسجيل للمكبوت، وتفجير له، في لغة لا تكف عن إعلان العشق والمتعة، والفرح والموت»(13).
وكعادتها، تحسن (أحلام مستغانمي) رسم الظلال على الأشياء بتفوّق، وهي تلبس اللغة، لتغطّي جسد الساردة، فتستحيل اللغة الموظّفة لغة حبلى بالدلالة الرمزية الموزّعة على مدار النص، وتغدو الصورة الشعرية التي يغلب عليها المجاز، إحدى الأقنعة التي تتحكم بمخيّلة القارئ في صنع المعنى المتمنّع الذي لا يهب نفسه بسهولة.
لقد وّظفت اللغة تحت وطأة لحظات الاشتعال الجسدي، فكانت ألفاظها وعباراتها قذفا بركانيّا، يمارس اجتياحه الملتهب على تضاريس النص، مستحدثا مساحات جديدة فيه. ورد على لسان الساردة:
«… يحدث للغة أن تكون أجمل منّا، بل نحن نتجمّل بالكلمات، نختارها كما نختار ثيابنا، حسب مزاجنا ونوايانا. هنالك أيضا، تلك الكلمات التي لا لون لها، ذات الشفافية الفاضحة، كامرأة خارجة توّا من البحر بثوب خفيف ملتصق بجسدها، إنها الأخطر حتما، لأنها ملتصقة بنا حدّ تقمصنا. وهذا الرجل الذي كان يصّر على الصمت… ما زال يربكني في كلّ حالاته، حتى عندما يخلع صمته.. ويلبس صوتي وكلماتي المبللة…»(14).
إنّ اللغة عند (أحلام مستغانمي) لا تقتصر وظيفتها على البيان والتبيين، وإنما تولّد المعنى من رحم النص، ووفق طاقتها الإيحائية الترميزية، هذه اللغة التي لا تبقى شرنقة للمعاني؛ وإنما تصبح إشعاعا للتفسير والتأويل، ضمن الدلالات المختلفة، المنتجة للمسار السردي الذي يحمل في أحشائه بذرة الحياة، والرغبة الكامنة في التحوّل، عبر مستويين: المستوى السردي، والمستوى الحدثي.
إنّ «الساردة»، حين تسعى للتأكيد على رؤيتها من خلال الحدث، فإنّها – أيضا – تسهم في نموّ السرد، ونسج صيرورته الدلالية، حين يملك طاقته على تغيير الدلالات الأصلية المشحونة فيه. فالسرد، حين يحافظ على معناه الخفي، المستتر وراء الكلمات، فإنّه، بالمقابل، يحمل بؤرة دلالية مرادفة، تجعله أكثر شفافية، وأكثر عريا. وبهذه الطريقة تحقّق الكاتبة ذلك الإغراء، وتلك الغواية التي لا تحتويها صفات الكلام العادي، أو المعاني المباشرة.
فآلية التحرّك الرمزي في السرد النسائي، تتّكئ على المعنى المرتكز على وظيفة الشيفرات الثقافية، ذلك أنه يستحضر الموجود في الذاكرة الجمعية. ومن هنا، يتحوّل النص إلى غابة من الرموز المشعّة، القادرة على محاورة عالم متعدّد الوجوه والرؤى. إنّ ما بين الجسد النصي والجسد الأنثوي علاقة محبوكة، مشفّرة في السرد النسائي، يجعل المرأة فعلا، وفاعلا، ولغة، وأنموذجا.
3 – الإضاءات المحدودة :
تولّد (الإضاءة المحدودة)، في النصوص السردية، الرغبة في المعرفة الكاملة، حيث تصعّد من عملية الترقّب والإلحاح، وتولّد الفضول النّهم لكشف ما لم يتمّ استكشافه، ومعرفة ما تلاشى من حقيقة الفعل الإبداعي.
فالنص الأدبي الذي يحافظ على تلك (الإضاءة المحدودة) غير الكاشفة، يدفع بالمتلقي إلى اقتناص البعد الخفي الراشح في ثنايا النص، ذلك أنّ الإبداع الحقيقي هو الذي يقتحم المتلقي، فيحمله على صنع نص موازٍ، نصٍ جديدٍ متجدّدٍ، بفعل التأويل، يشطح به، في حدود أبعاد القراءة، ولكن مع إبقاء تلك المسافة الرفيعة الفاصلة، حفاظا على إطار النص العام، بهذه الكيفية، تتحقّق لذّة النص ومتعته، ذلك أنّ النص لا يقدم نفسه بسهولة، بل يتمنّع ويمتنع، ويكابر ويشاكس.
إنّ الإبداع الحق، هو الكيان المولود بعسر آلام الكاتبة، ليس من السهل تجاوزه دون الإمعان في نظره، والإصغاء إليه، مّما يولّد حافزا لدى المتلقي في التأمل والبحث، والإصغاء لتلك المناطق الظليلة، محاولا رصدها، وتعيين دلالاتها الهاربة المتحوّلة، قصد إدخالها إلى بقعة الضوء، وإخراجها من دهاليزها الخلفية.
لكن النص الإبداعي يبقى مستعصيا على الإمساك به، كما يبقى تأويله سؤالا يؤسّس لأسئلة كثيرة تطرحها كلّ قراءة جديدة له، و«النص الذي يلد وينتج، هو، بالضرورة، نصا أنثويا»(15)، والمرأة بطبعها تتمنّع؛ لا تفرغ شحنتها وتوتّرها دفعة واحدة، بل تبقى محافظة على مسافة (الظلّ)، فلا تكشف جميع أوراقها.
والمرأة المبدعة تحافظ على خطّ الرجعة، وعلى مناطقها الخلفية من الضوء، وعلى سراديب نصّها من المكاشفة والتجلّي، كما تحافظ على تلك الحركة المراوِغة، متخذة من اللغة لباسا، ومن المجاز وسيلة، تمارس من خلالهما الحركات التحويلية المباغتة الدائبة على احتضان استعمالات فنية جديدة.
توظّف الكاتبة أدوات غير وثوقية عند طرح الأحداث، تعمل على حملنا على الإحساس بها، وبتلك الأشياء البسيطة، والدفع بها لخلق حبكة فنية تعتمدها كعنصر محفّز بسيط الإثارة، وكأنها تحاول التعريف بظروفها، والحفاظ على ذاتها المؤنّثة من الانكسار، لذا، فهي تسعى إلى أن تقرأ ذاتها قبل كتابتها وتوثيقها.
فـ (الذوات الساردة)، في الرواية النسائية، تحضر كشخصيات رئيسة، وكلّ شخصية تبحث عن حكايةٍ لملامحِ وضعها النفسي، وقد تصل إلى حيثيات لا تحبّ أن تعلن عنها، فتلجأ إلى المراوغة والمجاز تجنّبا للمكاشفة العلنية، وتحقيقا لعنصر (التشويق) المؤدّي إلى عنصر (التحفيز)، في قراءة الحكايات، ومتابعتها بشغف وفضول.
حين نلتفت إلى (زهور كرام)، نجدها من المتقنات لفعل المراوغة، المتمكنات من التصعيد المذهل للدلالة، بعيدا عن دائرة الضوء، لهذا، نجدها توظّف كلّ المبتكرات اللغوية التي تجعلها ماسكة بزمام السرد، فاعلة في الجذب والأسر، مستخدمة تقنية المجازات، والمخالفة في إرجاع الضمائر، وتخصيب النص بالنقاط المتتابعة التي تجعلها من مهمة القارئ/ المتلقي، في إكمال المعنى، واستخراج الدلالة. ولتقريب هذا الزعم، ننظر إلى هذا النص:
«… كانت تبكي.. فاطمة تكاد تكسر ضلوعي.. كانت تبكي.. تركتها تفعل، وأنا أساعدها على الإنغراس بين ضلوعي.. تركتها تغسل داخلها.. تجرف المحظور.. تخرج مع الدموع آهات.. تكبلني.. تعمق جرحي.. تأكلني.. توقظ تمرّدي على «العمّة» وأمثالها، على صالح وأشباهه، على كل من صنع مكانا في الطابور؛ يسرق دورا، والتاريخ بريء منه، يشهد أنّه كان نائما..
حين غنّى أبي الأغنية، فأزعجتهم، فولّوا هاربين، متعثّرين في أذيالهم، تخنقهم رائحة الأغنية.. كانت فوّاحة.. الأغنية..
أبي ما طلب البطاقات.. هل نطلب مكافأة عن العشق، كان يقول: «هل حماية البلد وظيفة».. كان يقول: «منه تعلمّت أبجدية العشق.. وأدركني العشق، وأنا- بعد– صغيرة، أخطو خطوات قصيرة، فأجدني أقف.. أتأمّل وردة متفتّحة.. تشدّني إليها.. تأكلني الرغبة في قطفها.. وأنا صغيرة..
حين أقترب من الوردة، تغمرني سعادة خارقة.. أتراجع خطوتين إلى الوراء، فأبتسم لها.. للوردة المتفتّحة التي كنت أرغب في قطفها، فعدلت عن الأمر حين غمرتني سعادة خارقة.. أنا هنا..(16)
تمثّل الساردة في الرواية مؤشّرا دلاليا على نوعية الوعي الذي تحمله الكاتبة في هذا النص، حيث ظلّ المعجم السردي محصورا في الذات «الساردة» التي تسعى إلى تفعيل الحركة من أجل الخروج من جبّة «العمّة»، ومن ثمّ، الخروج من هذا الطوّق الذي فرضه المجتمع، بعاداته وتقاليده التي تأسّست على الانبطاح والإذعان والتسليم، دون احترام حريّة الآخرين، بل، واحترام حريّة الفرد. هذه الرّواية تعبّر عن الذات، وحدود وعيها بنفسها، وبالآخر، من خلال تثبيت التحوّل وضمان ديمومة حركته التي لا تستكين إلى الجاهز، أو المتعارف عليه.
فنص (زهور كرام) هو نص الاختراق والتجاوز، تسعى فيه «الساردة» ومن ورائها مؤلفة الرواية، إلى صياغة الرجل سؤالا، من منطلق الوعي بالشروط المحدّدة لواقع العلاقة بين الجنسين، فطبيعة المنظور السردي هي طبيعة رؤية الساردة، إذ «الساردة»، من خلال قراءتها لذاتها، قرأت تاريخ الذاكرة والمجتمع فيها، فكانت حيوية السرد ناجمة من حيوية المعرفة، وحركية سؤالها.
هذا ما نلمسه في البياض أو النقاط المتتابعة التي تعبّر عن أحد مكوّنات التخصيب الدلالي التي تغيب ولا تتلاشى، يصنعها المتلقي من رحم النص، لأن الحركة التي تفجّرها تلك النقاط المتتابعة، تبقى نابضة في الخفاء إيقاعا، وحركة، ودلالة. وهي تخلق بذلك ثقافة مغايرة، تتمرّد على الواقع الاجتماعي الظالم.
فالكتابة السردية محكومة بقناع رمزي، أسهم في إثراء إشكالية البحث مبنى ومعنى، فكانت هذه الرواية مطيّة لبث الوعي الفطري العاجز عن المواجهة مع الآخر، كما كان حضور المرأة، بوصفها صوتا رئيسا، وصوتا بطوليا، تمرّدا على الكثير من القيود الاجتماعية. إن «الكتابة – إذًا – كسؤال يجرّ جرحه بدون توقف، تسعى بألم كبير إلى التواصل مع القارئ، من خلال مجموعة من الإيحاءات، حيث تعجز اللغة عن إعلان الوضوح»(17).
إنّ التنوّع، من حيث الرؤية، ومن حيث المنظور، طبيعة فطرية في المرأة، فرضتها سجيّة الاختلاف، ذلك أن «فكر الاختلاف ليس محرّما، أو إثما، بل هو نداء للتجاوز والإبداع، والحوار المتحرّر، لأن مجتمعا لا نعترف فيه باختلافاتنا، ولا نمارس فيه النقد كمهمّة فكرية جذرية، هو مجتمع يحاصره الموت من كلّ جانب، واغتيال للخيال والفعل الإبداعي المتحرّر»(18).
وإذا كانت المرأة المبدعة قد أثْرت فضاء الاختلاف، فإنّنا نشعر بذبذبات همسها المتفجّر، وطقوس رياحها المشحونة بأصوات جديدة، حيث (التيمات) السردية غير المألوفة، والشعرية المتجذّرة في الذات النسائية.
و(زهور كرام) صوت جديد غير متماثل، و مكرّر مع غيره، نلمس فيه اقتحاما للحدود الوهمية المتوارثة، حيث مفاهيم التوازن والشراكة، لا مفاهيم الغلبة والهيمنة. فالكاتبة أحسنت الانفتاح على الداخل الأنثوي، و على الحميمية النسائية، من خلال جماليات السرد، وفتنة اللغة. ورد على لسان الساردة، التي نجحت في تقويم الذات، تقويم الآخر، واختراق جبّة «العمّة»، أنيسها في ذلك «عطر القرنفل»، و«الآخر المنتظر»:
«… في الصباح، حين استيقظت، وأنا أغسل وجهي وأجففه، رفعت رأسي، فصدمتني الندبة منعكسة على المرآة.. تأكدت أنّها الضريبة الأولى عن أسماء أصبحت لها أرجل، ثم ابتسم، وأخذ القلادة إلى أنفه، وأغمض عينيه، وامتص الرحيق، وامتصني. وقبّل القلادة، وقبّلني، ثمّ قال: «إنّنا على العهد سائران».
ومن العجب المدهش أن اللقاء احتضنه مذاق غريب، قطرة عسل صاف انسابت بين شفتينا، تشهد القلادة أن القبلة انتصرت على الندبة، وهزمت اللحظة، ورددت أغنية صاعدة من الروح تقول: «إننا لم نمتهن لغة الخيانة».
طربت نفسي بها، وأخذت أردّدها في صمتي حتىّ لا أحرّك شفتي، وأكتشف ذوبان قطرة العسل.. أمسك بنفسي، وأسبر أغوار روحي، وأغمض عيني، فأصل عوالم تجمد الزيف فيها.. إني مهيأة الآن للتحليق، وملء الأجواء عبيرا.. ورسم ملامح الوجود في الفضاء الرحب.. أن أطير.. وأطير.. وأنسج وجودي، بأني ما خضعت للجبّة.. ما هادنت العمّة.. وأستعجل مجيء المطر لأغتسل حتى الموت…»(19).
في هذا الملفوظ، نلمس في حركيته السردية بعض المفردات الساكنة في معبد الرومانسية: كالاحتضان، والعسل، والشفة، والقلادة، واللحظة، والأغنية، والروح، والتحليق، والعبير، والأجواء، والطيران، والمطر.. كما نلمس تلك اللغة الباطنية المتعلقة بروح خفية، وكأنها مشحونة بأصوات داخلية، تمدّ النص بطاقة الفعل والتجاوز والانتصار، بمساعدة الآخر الذي يمثل ديمومة الحركة، وتحوّل الحياة.
إنّ السرد عند (زهور كرام) شبكة متداخلة من الخلفيات المتعلقة بالمرأة وعالمها، هذا العالم الذي يريد خرق الفضاء الأرضي المتغطرس، الذي لا يتجاوب مع متطلبات الحياة، وضرورة الواقع. فالساردة في «رواية قلادة قرنفل» متمرّدة على الواقع الاستلاب؛ استلاب المرأة في حركيتها، وعلاقتها بالآخر.
وإذا كانت «الساردة» لا تستطيع إعلاء صوت الأنثى، فإنها استطاعت إعلاء «عطر القرنفل» الذي وظّفته كمجاز لغرفتها، وعذريتها، وعشقها، فكانت طاقة اجتماعية معطلة، عوضتها بـ (القرنفل) وعطره الفواح الذي كان دليلا على (الآخر) الذي تجاوب معه.
إذا، لقد أحسنت (زهور كرام) الخفاء، والهروب ما بين الحرف والكلمة، وتوظّف الفواصل والتعجب وعلامات الاستفهام؛ كدلالات ضمنية، تتشكّل بغيرها في نظام العلاقات الداخلية للسرد، فتتبرعم تحت لحائها دلالات أخرى تقبع في داخل النص، ويستولدها المتلقي خارج النص، لتضاف أصوات ودلالات أخرى لا تحصى، ويتحوّل المعنى إلى طيف طليق، يغادر جسد الرواية، ليتوحّد مع غيره، في حركة نارية تحويلية متجاوزة لدلالتها الظاهرة المباشرة، والانطلاق في فضاء المتعدّد واللا محدود، يغذّيها الصعود التخييلي الذي تمتهنه الساردة ومن ورائها مؤلّفة الرواية.
ونتيجة لهذا، نلمس سعة فضاء الاختلاف في الرواية النسائية – قوّة وضعفا – صعودا وهبوطا – تبعا لمستوى الكاتبة، وحمولتها المعرفية، وموهبتها، على الرغم من الظواهر الفنيّة المتماثلة والمتكرّرة.
وها هي الكاتبة الليبية (فوزية شلابي) قد أحسنت المراوغة وسط تلك الضبابية التي تغيب ولا تتلاشى. فقد ورد على لسان الساردة «صالحة»، في محاورتها لـ«محمود»:
«… تقدّم في غروره العلني المعتاد، كان أنيقا، مثلما هو دائما، مبتسما، متكلما في استعراضية واضحة، حاولت أن أتجاهله، وأتظاهر بالانشغال بالتحدّث إلى سالم، الذي كان يمشي على يميني..!
– أهلا صالحة..
التفت إليه مدهوشة، في محاولة لتصنّع دور المستغرب المفاجأ:
– محمود…؟!
يمدّ يده دونما عناء، فيما تمتدّ يدي بتثاقل باد لأصافحه، ثمّ أسلب يدي من قبضته التي تحوّلت فيها أصابعه إلى قضبان قاهرة، هي مزيج من العنف والحنان والشوق..!
– كيف حالك..؟!
أجيبه، وأنا – بعد – منهمكة في سلب يدي، وإيجاد معنى لترويكة العنف، والحنان، والشوق التي أستجمعها في تلك اللحظة المحدودة، المباغتة، العلنية:
– ماشي، الحمد لله..!
أطالع السماء الواسعة.. قمر تخدشه خطوط باهتة، قمر يناوش الأرض، فتتفتّت في الضوء.
عاشق يبوح/ بحر هاجع في الوله/ صحراء تنثر شعرها الفضي في الأسود الداكن، فيغرق الرسامون في الانتشاء، قمر يصقل وجهه، فتنغرز عينيّ في نظرات محمود الرسمية… ينسكب الليل فوق تفاصيل المشهد، ثقيلا/ غامقا/ صعبا/ طويلا/ كسولا…
يلم الطريق بعضه، ويفرّ هاربا، مخلّفا حفرة واسعة.. تتصلب قدماي..
يعربد في داخلي سؤالي قلقا.. يحرق عيني خيطا من العرق الشديد الحموضة، المتفجّرة في جبهتي، فأغمضها قليلا..
يقف «محمود» على الحافة المقابلة للحفرة، يمدّ عصاه المتعجرفة، ويقول: «هيا امسكي بها!.. هيا لتعبري بسلام..!
يغمّني صدى صوته المتردّد في جوف الحفرة: «.. آم !.. آم ! .. آم…
يتحرّك جسدي كلّه دفعة واحدة، رافضا هذه العصا/ الأفعى التي تقطر أنيابها سمّا…»(20).
فعلى امتداد هذه الجمل السردية المتواترة، ظلّت الساردة «صالحة»، تراوح مكانها، من خلال الجمل الضبابية التي تركت المادّة السردية في طيّ الكتمان، بدون أن تفصح أو تعلن. واقتصرت على ردّ الفعل النفسي الذي نقلته من مجاله الحسّي إلى مجاله النفسي، فتحوّل السرد إلى حالة نفسية ملغّمة، وقنبلة وجدانية موقوتة، نجهل فيها ما يحدث، كلّ ذلك، يتمّ بواسطة النجوى، وتباريح الوجع الأنثوي الذي لا نلمسه إلاّ من خلال الهمسات التي توحي بها المقاطع الصوتية المتواترة.
فالكاتبة تسرف في التشفيف، وكأنها بين القيد والانعتاق، خاصّة، فيما يتعلّق بالرغبة والجنس، تلجأ المرأة المبدعة إلى التأويل؛ وقد تنزلق في متاهة المجازات نتيجة إشكالياتها المتناقضة مع الآخر، فتلجأ إلى كبح جماح الدلالة على الكشف، وكأنها تغالب شيطان اللغة، وتجابه سلطتها وهيمنتها، فتدخل في التعتيم والغموض، متجنّبة التعرية الجسورة، والوعي الكاشف دون الحسم في الأشياء، وكأنها تحافظ على الأشياء أن تبقى في الظلّ، أو في بقع البياض، بعيدا عن اللون. هذا ما يظهر جليا وواضحا في المقطع السردي الموالي:
«… يتفجّر جسدي بالعرق، أتفحصه، فأكتشف ذلك العري الذي يجرّدني من كبريائي وعنادي، فأبدو أمام «محمود» واضحة/ علنية/ ممتلئة بالعشق حتّى أقصى حدود الإبداع..!
– لن يهزمن هذا العري..! .. أغمغم، ثمّ ما يلبث صوتي أن يرتفع صادحا: «لا..! .. لا..! .. لا..! واندفع نحو الحفرة، فيما تتلاشى معالم وجه «محمود» الواقف على حافتها المقابلة.
يجذبني «سالم» من ذراعي في استحياء واعتذار: «انتبهي..! لقد كنت على وشك التعثّر في صندوق القمامة..!! …»(21).
إنّ مواطن الحضور الطاغي للآخر، الذي اقتحم الممنوعات والمحرّمات بكلّ جرأة، والرغبة التي عوت في جسد الساردة، والوعي الذي فجّر سيلا من الأسئلة والشكوك، كلّ هذه العوامل، ولّدت الكثير من الصراعات المخبّأة في الأعماق، لتخرج إلى السطح مقنّعة، عاجزة عن المواجهة مع الآخر.
إنّ المرأة، في صراع مع ذاتها، وعقلها، وجسدها، بما يفرضه هذا الجسد من علاقات شرعية وغير شرعية، حاولت أن تقيم التوازن، من خلال سيطرة صوت العقل على صوت الجسد الذي نلمسه من خلال القرائن المصاحبة:
« انتبهي.. لقد كنت على وشك التعثّر في صندوق القمامة…».
إنّ هذه التقنية السردية التي تفعّل الوظيفة الإيحائية، القائمة على خلخلة التصورات والدلالات المباشرة؛ لتجعل المعاني المبثوثة غير مدركة بطريقة علنية مباشرة، من شأنه أن يزرع النص بعوامل الإثارة والإغراء، ويحقّق متعة النص ولذّته القائمة على البحث والتنقيب عن الدلالة الهاربة المستعصية، حين تتحدّد سبل الإضاءة، وتتحوّل اللغة إلى سكن يختفي فيه المعنى ولا يبين.
يؤدّي هذا النوع من السرد إلى إغراء المتلقي في صنع المعنى الغائب. و «المرأة ليست – كل حين – معنية بجسدها، ليست كل حين تلبس لبوس الإغراء والفتنة، قد تنشر عطرها، تبثّ أريجها، وتحمل الكلمات حلاوة شهدها في مواقف تأنيث الروح وتجميل الأنوثة ..
لكنّها، في مواقف أخرى، هي الإنسان الشجاع الذي يقف ضدّ الظلم، هو الذي لا ينظر إلى الحياة بمنظور الذكورة والأنوثة فقط، بل يتماشى مع ذلك الموقف الذي يعلن هذا الوجود الذي يقتحمه الذكر والأنثى ليحقّق لوجوده معنى الحياة، ذلك المعنى الأنثوي «باعتبار تأنيث لفظ الحياة»، ليتم التوالد فيه والإخصاب، وليس بالتلاقح الفطري فحسب، بل بالتلاقح الذي ينشأ في معمل الفكر والتخيّل، لدّى كلّ من الذكر والأنثى، تدخل الأنثى الكلمات وعوالمها هذا المعمل، فيتم فيه الإخصاب، ويأتي الفعل الكاتب الذي لقح الكلمات وعوالمها، فولّد الإبداع في معمل الإخصاب لدى المرأة التي لم تنتظر فيه الذكر ليلقح لها إبداعها، بل صنعت لمعملها نواة ذكورية من ذاتها»(22).
الهوامش
1 – نجيب العوفي، عوالم سردية (متخيّل القصّة والرواية بين المغرب والمشرق)، دار النشر المعرفه، الرباط، ط.1، 2000، ص. 100.
2 – فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا ط1 1985 . ص. 32 – 33..
3 – المصدر السابق ص 35 .
-4 أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، دار الآداب بيروت ط5 1998ص.181- 182.
5 – فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص.40.
6 – أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص. 180.
-7 فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، مرجع سابق، ص. 19-20.
-8 زهور كرام، قلادة قرنفل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء ط1 2004 . ص. 104- 105.
9 – فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2005، ص. 17.
10 – صلاح صالح، سرد الآخر (الأنا والآخر عبر اللغة السردية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2003، ص. 161.
-11 آمال مختار، نخب الحياة،دار الآداب، بيروت، ط1 1993. ص. 12- 13.
-12 زهور كرام، السرد النسائي العربي، شركة النشر والتوزيع الدار البيضاء ط1 2004 . ص. 64.
-13 محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف، إفريقيا الشرق الدار البيضاء ط1 ص. 118.
14 – أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص. 32.
15 – عبدالله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي ط1 1996 ص. 65.
-16 زهور كرام، قلادة قرنفل، ص. 124- 125.
-17 محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاق، مرجع سابق، ص.118.
-18 المرجع نفسه، ص. 117.
19 – زهور كرام، قلادة قرنفل، ص. 179.
-20 فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، ص.113.
-21 فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، ص. 113- 114.
22 – عالي القرشي، نص المرأة من الحكاية إلى كتابة التأويل، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ط.1، 2000، ص. 36.
الأخضر بن السائح
كاتب وأكاديمي من الجزائر
هذا الوعي المشبّع بالحس الجسدي والقادر على استيعاب الحركة الكونية الشمولية أثرى السرد النسائي، وجعله مطرّزا بعوامل الإثارة والإغراء.
ففي حضرة الجسد تتجاوز الكلمة الحرّة عشقها لحرية الانفلات من مدلولها المعجمي إلى عشقها للفعل الشعري وسياقاته الذهنية، حيث تتجاوز الدلالة خيال المتلقي الباحث عن مكامن المعنى في سطح النص .
إن حضور الجسد بأبعاده وعناصره حينا، وبغياب بعض عناصره وإبعادها أحيانا أخرى يوقض كوامن المتلقي، ويبقى يبحث عن مكامن ابتكار المعنى الذي يغيب ولا يتلاشى، فيشدّ القارئ لينتقل به من أحاسيسه الذاتية إلى فضاء العالم .
كتابة المرأة هي أسئلة الأنثى مع ذاتها ومع العالم المحيط بها، كما تبقى اللغة هي لبوس المرأة وفضاؤها الذي لا يخرج عن مدار الجسد المؤنّث، حيث نصيب الأنثى مخبوء في نسقها اللغوي المتقن لآليات التورية والمواربة عند التعبير عن الحقيقة، ذالك أن اللغة حجرة مغلقة، لكنها النافذة التي تسمح لها أيضا في الخروج من العتمة .
ومما يحقّق لذّة السرد عند المرأة استعانتها بقناع المجاز الذي يولّد شراهة الفضول من ظاهرة الخفاء والتجلّي لتبقى الأنساق التعبيرية في الكتابة النسائية موازية لحالات الإغلاق والتقفيل، كما أن ألفاظها الدالّة، تتجه في تلك الحركة الاندفاعية باتجاه الضوء والكشف، وكأن سرد المرأة طيف شبحي يغادر جسده ليتوحّد في الآخر .
لهذه الأسباب ولغيرها ارتأينا البحث عن مكامن لذّة السرد عند المرأة وعوامل الإثارة والإغراء عندها مركزين على النص ولا شيء غير النص .
1 – سرد الجسد وما يتوفّر عليه من غواية وإغراء
الرغبة كمون الانتظار، تحافظ على حالتها غير المنتهية، تستقطب مئات الصور الذهنية التي تستدعيها المؤثرات النفسية المرتبطة لا شعوريا بالجسد،حيث الغواية الحسيّة الكامنة، و (الذات) المؤنّثة، و(الجسد) المشتهى، و(الآخر) المذكّر المثير، مولّد فعل الميلاد والبعث. وهذا المذاق الذي يثيره الجسد، يستثير في ذهن المتلقي تداعيات، تفجّر في خياله صورا مذهلة، توجّه منظور (الرؤية) عنده إلى اتجاه جديد، تحقّق للأشياء بعدها المغاير، فتهدّم النظرة المألوفة للحقائق الخادعة.
فالمخيال السردي (النسائي)، يكتسب فاعليته من (الآخر المذكر) قربا أو بعدا، وهويّة (الذات المؤنثة) قرينة الأشياء المعادلة لها، وعملية التلاحم والاختراق، تصبح معادلا موضوعيا لحالة الذات، المرتبطة لا شعوريا بهذا الآخر المفجّر للطاقة الخيالية والمعمّق لها، بل إنّ السرد الأحادي، يتحوّل إلى حوار ثنائي، تخرج فيه الذات عن عزلتها، فتنجذب – من خلاله – إلى التأمّل والتدبير في أبعد الأمور.
إنّ الجسد الأنثوي المشتهى لا يبقى راقدا ساكنا، بل تحرّكه اللغة، فتعيد إليه حيويته وانطلاقاته، وتتحوّل حركية السرد فيه إلى عمليّة مغرية، نلمس فيها الغواية والإغراء، والأناقة التي تحقّق للنص لذّته، ووقعه المشتهى. فالجسد لَبوس اللغة في الكتابة النسائية، يستثير مكامنها، ويستحثّ صورها المكبوتة، يحمّلها رمزية تأويلها الثقافي المؤثّر، فيتحوّل السرد إلى شحنات عاطفية، يمتزج فيها المشهد الحسّي (المرئي) بالمعاني الذهنية (المجرّدة)، كما يتحوّل السرد من المرئي إلى أبعاد مجردة أكثر دلائلية.
فالجسد يجعل السرد حيويا، يمدّه بتلك الصور المتعدّدة الأبعاد، المحتملة الدلالة، خاصة إذا كانت الكتابة «على نحو خاص، ليست محايدة أو باردة، بل هي مرآة بلورية صقيلة، تجلو خوالج ومنازع صاحبها، وتعكس بصمته وهويته، ونبض روحه وجسده، من حيث احتسب أم لم يحتسب»(1). والمرأة المبدعة، تملك القدرة على الترحال في دقائق الأشياء وتفاصيلها التي استأثرت بولع الأنثى، فهي تملك من وسائل التخبئة والتورية، ومواربة القصد، ومحاولة تسمية الأشياء بغير أسمائها، ما تجعل نصوصها متميّزة مذهلة، وهذه الأقنعة، أو اللباس النصف شفاف، يحقّق من المتعة والإغراء ما لم يحقّقه العاري المكشوف، هذا ما تحسنه المرأة المبدعة الذي يمثّل عندها الوتر الذي تضرب عليه في تحقيق البؤرة الساخنة المحقّقة للذّة السرد وغواية النص.
وليس غريبا أن نجد جلّ المبدعات المغاربيات يضربن على هذا الوتر الحسّاس، حيث النظارة والجمال والإغراء، مفتاح المرأة لقلب الرجل، وحيث وقع الجسد في السرد النسائي، المحقّق للكثافة الجمالية المصاحبة للشحن العاطفية القادرة على الاجتذاب الفنّي الآسر.
يعتمد السرد النسائي على المواربة والتخفّي، يتخّذ منها مدخلا لاستنطاق المكبوت والساكن. فالموارد المرسلة، تظهر نصف ما تخفي، فهي تتمتّع بمقدار كبير من الرمز والتأويل، يجعلها قادرة على التطواف في غابات زاخرة من المعاني، ولا نملك من هذه الفنية الدقيقة، في نصوصنا النسائية المغاربية إلا قليلا من مرتكزاتها وعلاماتها، يمكن أن نستنير بها عند التحليل والتمثيل، كالحوار الذي جرى بين الساردة «صالحة» و»محمود» عبر الهاتف:
«………………
– ما هي علاقتك بالقهوة ؟
.. أتوقف عن الحركة تماما، ويمتلئ صدري بذلك الإحساس العجيب، الممزوج بالخوف، والعذوبة، والجمال، والحياء الذي كنت أنبض به، وأنا أتلقّى جوابه في التليفون:
– علاقة أخويّة!!
.. فأسأله..
– ومتى تمارس هذه الأخوّة؟
– في أيّ وقت..
.. ثم استطرد مستدركا:
– في الوقت المناسب..
.. أمسك بطرف الكلام مازحة:
– ولكنه، قد لا يكون وقتا مناسبا على الإطلاق، عندما يكون في السابعة صباحا مثلا..
.. ينفي بإصرار.. تتخذ معه مخارج الحروف وقعا قاسيا للغاية:
– لا.. لا بدّ أن يكون مناسبا دائما!
– في كلّ الظروف؟
– نعم.. في كل الظروف، مهما كانت..
.. أحسّ أنه صار بإمكاني أن أدخل في المزيد من التفاصيل بثقة وشجاعة، تقترب بي من منطقة الوضوح الكامل:
– بعد أن عرفت البعد الزمني لعلاقة الأخوّة هذه، هل لي أن أعرف بعدها المكاني؟
.. وقبل أن يجيب، أضيف سؤالا شبه صريح:
– أين تمارس أخوّتك للقهوة؟
يقول دونما تكلّف:
– في أي مكان..
.. أستغرق في حالة الثقة التي كانت تمنح صوتي بعض الإشراق الضاحك، وأقول بمزيج من الجديّة والهزل، وقد قصدت ذلك؛ لأحفظ لنفسي خط الرجعة فيما لو كان جوابه سلبيا:
– ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة؟
.. يجيب على الفور:
– يا ريت…!!..»(2).
تحاول الساردة، في هذا الحوار، أن تحافظ على المسافة بين الظلّ والعلن، بين التخبئة والمكاشفة، وتستعين في ذلك بالكثير من المواربة والمجاز والتورية؛ فالساردة طرحت الكثير من التساؤلات والإحالات التي تكشف عن مكامن الاستثارة والولع، فهي تعبّر عن دلالتها الجنسية بشيء من التلميح دون التصريح، متّكئة على اللغة في ستر الحقائق. ولعلّ نصيب الأنثى مخبوء في النسق اللغوي الكثيف، حيث تتخّذ من اللغة لحافا وغطاء في حجب الحقائق.
هذه التغطية الماكرة، تولّد في سرد المرأة شراهة الفضول، وشهوة المعرفة، حيث تمدّ النص بفاعليته الفنية. ولو أعدنا قراءة الحوار الذي جرى بين الساردة «صالحة» و»محمود» للاحظنا التالي:
– تواتر ذكر العبارات التالية: «.. علاقتك بالقهوة علاقة أخوية/ ممارسة هذه الأخوة … في الوقت المناسب/ أين تمارس أخوتك للقهوة … في أي مكان/ ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة … يا ريت..»
– تشترك الصياغات الدالّة – في معظمها – على الممارسة، وعدم الاستثناء، والقبول بالطرف الآخر.
– عملية المدّ والجزر استأثرت باهتمام المرأة أكثر من الرجل.
– اعتماد «الساردة» على بعض الظواهر الحسيّة، المعادلة للدلالة التي تريد تبليغها، وهي نكهة القهوة وممارستها، هذه النكهة التي تحمل شراهة «الساردة» وظمأها إلى (قهوة) مماثلة، تقتل جوعها وحاجتها، وقد وجدت ضالتها عند «محمود» الذي هو في حاجة إلى هذا الطعم ذي النكهة الفريدة، ومذاقه الموازي لمذاق القهوة التي أصبحت متاعا متاحا للطرفين على حدّ سواء: «… ما رأيك لو شاركتك هذه الأخوّة؟.. يجيب على الفور: «يا ريت …».
– تتحول العبارات إلى (أزرار) تستدعي التأويل، في استكشاف المنفذ الذي أرادته الساردة، وقد أسهمت هذه الأزرار في بناء الآفاق القرائية المحتملة.
– إن عملية التعديل والاقتراح والاختيار والحسم، تمثّل قانونا ترتضيه الذات الساردة التي تتحاشى المواجهة العلنية كي تحافظ على المسافة بين الذات والآخر.
– إنّ القرائن المصاحبة، تساعد في إيجاد ما هو مخفي، مثل الجملة السردية اللاحقة: «… ويسألني: «هل توجد في عمارتكم شقة خالية…؟!..»(3).
إنّ هذه الأقنعة، التي هي لبوس المرأة، تحقّق حوافز مثيرة للقراءة، والتفسير والتأويل، مثلما تفتح أبواب البحث والمساءلة المنطلقة من الذات والجسد، لتصل إلى الآخر، عن طريق التخّفي تارة، والتجلّي والمشاهدة تارة أخرى.
و(أحلام مستغانمي) توظّف الجسد، وتنبش في خباياه وتفاصيله، سواء فيما يخصّ الذات، أو يخص الآخر، وفق إغراءات، نطلق عليها «مرايا» النص الأنثوية وتحولاته الطريفة، وقد استعرنا مصطلح المرايا للجمع بين نقيضين: العتبة والنور، الظلّ والعلن، التخفّي والتجلي. وهذه أقنعة تحسنها المرأة عبر تسمية الأشياء بغير مسمياتها. ورد على لسان الساردة «حياة»:
«… رحت أستعيد أنفاسي، أتنبّه للثوب الذي أتصبّب تحته عرقا، وأنا أراه يخلع جاكيته.. يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة؛ لاحتساء قهوة.
عاودتني أسئلتي، وأنا أنظر إليه.. كما تقرأ غجريّة الكف، رحت أقرأ هيأته بحدسي وحواسي فقط، لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوبا عليه، قدرا متعب الشفاه، فوضوي الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقص الرغبات، كرجل في الأربعين.
يسألني: «فيم تفكّرين؟..».
أجيب: «أحبّ الرّجال في الأربعين..».
يبتسم.. يردّ: «ولكنني لست الرّجل الذي تتوهمين!..».
يلقي برماد سيجارته في المنفضة، ويمدّ نحوي يده: «تعالي.. اجلسي قريبا منيّ..».
أتردّد بعض الشيء قبل أن أعترف: «إني أتصبّب عرقا، أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات..».
أتوقّع أن يقول: اخلعيها مثلا، لكنه يقول، وهو يسحبني إلى جواره: «أحب رائحتك.. لقد أحببت دائما لغة جسدك..».
ثم يواصل، وكأنّه يطمئنني: «إن جسدا لا رائحة له هو جسد أخرس…»(4).
تستعير (أحلام مستغانمي) الواجهة الأمامية المكشوفة للجسد، وتستحضر الدلالة الخلفية التي تشكّل بها عوالمها المضيئة، من خلال اللقطات الشعرية التي تتّكئ فيها عليه بتقنية كتابية فريدة ومتميّزة. فحركية السرد، وغوايته، تتوسّل بالجسد من أجل تثوير السياق الذهني للقارئ، بحيث تتعامل مع إشارة الجسد؛ لتثير شيئا خارج ذاتها، وخارج الجسد نفسه.
وتتحاشى (أحلام مستغانمي) المعنى الصريح والثابت؛ لتمرّ إلى دلالات أخرى غير محدودة، هي نتاج علاقة وموقع وسياق. على هذا الأساس، «يعتبر (غريماس) أن العالم المسمّى «محسوسا» عالم البحث عن الدلالة؛ إنّه يتمظهر، باعتباره فقط إمكانية معنى، ولكي يكتمل معناه، لا بد من أن يخضع لشكل معين. فالدلالة يمكنها أن تتوارى وراء كل المظاهر المحسوسة، إنّها توجد خلف الأصوات والصور والروائح، غير أنّها ليست في الأصوات أو الصور، باعتبارها مدركات»(5).
إنّ مناحي البعث والمساءلة والحوار التي انتهجتها (أحلام مستغانمي)، تنطلق من الجسد؛ لتصل إلى الآخر، وكأنها ترسم بالكلمات، ضمن فسيفساء جسدية، لتحقّق بذلك لذّة التشكيل، ومتعة الابتهاج حين تستجيب لنداء الجسد، وتحافظ، على الرغم من ذلك، على تلك المسافة بين الجسد وظلّه؛ لإثارة المتلقي، ولإبقائه على تلك الصورة الجسدية المرغوب فيها: «… بيننا مسافة أنفاس وقبلة، ولكنه لم يقبلني…»(6).
فأعضاء الجسد الأكثر ترميزا، تساعد في استقطاب الأبعاد الدلالية، مثلما تتميّز بسحر الملاحقة، وتوطيد الجسور بين الباث والمتلقي؛ «فعلاقة الجسد بالنص، تكمن في ذلك التداخل اللساني والواقعي بين المتن والجسد؛ أيّ: في العلاقة التكوينية التي ينسجها الجسد مع النص، فيهبه فيها كل معطياته الإدراكية: تخييلا ومتخيلا، ثم في كونه يشكّل النموذج المباشر للنص التخييلي.
الجسد – إذا- موضوع النص، ومنبع معطياته، ومنتجه، ومتلقيه في الآن نفسه، إنّه يشدّ النص إلى مسألة الوجود، كي يصغي لها، وينتجها تخييلا في الوقت الذي يختزن مجمل المعطيات المتخيّلة المغذّية للكتابة الحكائية، بشكل شعوري ولا شعوري»(7).
في سرد (أحلام مستغانمي)، يتحوّل الجسد إلى شكل هلامي، يمدّ النص بفيض لا شعوري من الدلالات؛ فهو يغيب ولا يتلاشى، ويعاود حركته الاستئنافية، بين مدّ وجزر، متّخذا من اللغة قناعا في كيفية كتابة الجسد للذات، وكتابة الذات للجسد. فالجسد هو طاقة النص التخييلية في السرد النسائي، حيث يسمح بتبادل الأدوار والوظائف، كما يسمح لحركية المشاعر والهواجس والأفكار، أن تدبّ في اللغة، وتمتلك مواقعها، وتفعّل طاقتها، داخل الجسد النصّي.
وهذا ما توظّفه (زهور كرام)، حين اتّخذت من الجسد مطيّة للبحث والتساؤل والمراجعة، مما جعلها تخرج عن الانسياق، والتقليد في التعامل مع الجسد، كمعيار أوّل، وكقيمة فنيّة، تستطيع من خلاله، تكثيف حركية المعرفة، بعيدا عن النسخ والتكرار والاستهلاك. ورد على لسان الساردة:
«… دخلت الغرفة، أفتّش عن نفسي التي كانت مستلقية في الأبيض، تحتسي عطر اللقاء، وتحلّق طيرا، صنعه الطفل من ورق الدفتر.. هذه المرّة، وجدت نفسي بسرعة.. عادة كنت أفقدها بعجالة، كانت «العمـة» تتقدم كالممحاة، تزيل أي أثر للنفس التواقة للعشق.. سألتني مرّة عنّي. فتلعثمت؛ لأني حينها، كنت أفقدني في حضرتها.
هذه المرّة، أعدتني بسرعة إلى شعري.. أطلقته.. أدخلت أنفي فيه، واستنشقت شعري، كان حاضرا.. موجودا.. كان هنا.. هو الذي قال لي لا تقصّيه، اتركيه يتحرّك فوق ظهرك، دعيه يرقص كلما اهتزت خطواتك.. إنه دليل على أنك على مقربة من الأغنية.. تمنيت لو كان شعري أكثر طولا.. لو غطّى كلّ جسدي.. لو رقص فوقي، وتماهى مع جسدي..
وقفت أمام المرآة أطلب طوله.. كان طويلا بعض الشيء.. بعض الشيء فقط، والمرآة لا تكذب، تضعني أمام حقيقته، لكني أحسّه أطول مما أراه.. الإحساس بالشيء أهم من رؤيته…»(8).
تعتمد (زهور كرام) على تثوير السياق الذهني للقارئ، الذي يجده مخزونا في متن النص، حيث توحي به الكلمة التي تحوّلت إلى إشارة ببعديها: الواقعي والرمزي. كما أنّ (زهور كرام) تلعب على سلطة العناصر المتفاعلة: «الأبيض/ القرنفل/ التحليق والطيران/ طول الشعر وتغطيته للجسد/ الرقص/ التماهي/ الإحساس بالطول…». وهذه الكلمات المتواترة، تملك طاقة إيحائية مجنّحة، تخرج عن التقريرية والمباشرة في صنع الحدث المتشظّي، الذي يفهم، من خلال القرائن المصاحبة، لتحديد الأبعاد المعرفية والاجتماعية للحدث المركزي النامي في الرواية (مقاومة جبّة العمّة وخرقها).
حين نقرأ النص، ونصغي لوحداته السردية أكثر، نشعر بتلك الأدخنة والحرائق المتعدّدة المصادر، تعيشها البطلة الساردة داخل جسدها، هذا الجسد الذي يبحث بلا هوادة عن تأكيد وجوده، وهويته، وإثبات حضوره، جسدا وذاتا ينبغي للآخر أن يعترف بها، حرّة، محرّرة، غير مقيّدة.
لقد تعاملت (زهور كرام)، من خلال «الساردة»،على جعل الجسد مركز إشعاع واستقطاب وإثارة، وهذا بدوره فتح آفاقا مغايرة ومفتوحة لممارسة السرد. فالجسد المستحضر، وما يحمل من مخيّلة ووجدان وذاكرة، رفع من مستوى السرد إلى الكتابة الشعرية الشفافة، المنسجمة مع طبيعة المرأة الأنثى التي تبحث عن ذاتها المفقودة، من خلال حركية السرد المالك لقدرة التجاوز والتجدّد، وعدم الاستكانة للجاهز والمتعارف عليه.
إنّّ النص مكان الذات، وسكن لها، والسرد عند المرأة، هو قراءة للذات والجسد، يثبت كينونتها وهويتها. فالمرأة، حين تكتب نصّها، تكون قد كتبت جسدها بعلاماته وإشاراته وأبجدياته ودواله، «ويمكن العودة إلى الجذر اللغوي لكلمة قراءة، في معاجمنا العربية، حتى ندرك أنّ الكلمة متعلّقة بالضم والجمع، تحمل المعنى الحسي، بل المعنى الجنسي الواضح، وذلك يحيلنا مرّة ثانية إلى علاقة اللغة بجسد العالم، وجسد المرأة، فالمعنى العميق، المتعلّق بالقراءة، ملتصق بالرحم، ومرتبط بجسد الأنثى وفيزيولوجيتها الأنثوية الخاصّة، حيث القرء ودلالاته، وحيث الاحتواء وحمل النطف والأجنّة،كلّ ذلك، يجعل المرأة/ الجسد، والجسد/ النص حاضنة الخصب والاستمرار والخلود»(9).
2- ظلال الحجب، أو الأقنعة النصف شفّافة:
تُبنى حركية السرد النسائي على فاعلية الأنثى «الساردة»، وجعلها في موقع المراوغ الذي يستخدم الكثير من الأقنعة والحجب الشفافة، ليخفي أكثر مما يظهر، ويستر أكثر مما يكشف. «فالقناع الشاف، أي القناع الذي يعرّف الواقع، لا تقتصر وظيفته الفنية على دلالاته المثيرة، في إطار عملية الحب، وما يتشعب منها، أو يتدفق إليها، بل يؤدي – أيضا – وظائف أخرى جمالية وفكرية»(10).
فالمرأة المبدعة، تحوّل المباح المعرّى إلى أقنعة، في استخدامها للألفاظ، كمؤشرات توحي بالبعد الجنسي، أو تتخذها أنثى الرواية سبيلا للبوح عن بعض مواجع الأنوثة، مستفيدة من ذاكرة الكلمات، وحمولاتها الثقافية، فتتحوّل المفردات إلى أزرار، تستدعي البعد الجنسي، كاستخدام المرأة المبدعة للقفل والمفتاح، ولذّة الاختراق والالتحام بالآخر المذكّر، كما تستخدم فعل الامتطاء والركوب والنزول، والدخول والخروج، والمفتوح والمغلق، والقلم والورق، وكلّ ما يندرج تحت عمليات الاختراق، وإضاءة المخبوء في مكامن الحجر السرية المعتّمة.
تشكّل هذه الإشارات اللغوية منابع فيض، تلج بها الجسد، فتحقّق شغف الالتحام، معتمدة على اللغة، في ارتحالها إلى مكامن السرّ، في كهوف الجسد الداخلية، حيث تجد لغة موازية للغة الجسد، تستخدمها كأقنعة مشحونة بدلالات غائبة، يشكلّها المتلقي في وجوه مختلفة. فتتحوّل الذات الساردة، في الرواية، إلى أتون مشتعل، تقتحم الممنوعات، وتقذف الكلمة في اتّساعها وضبابيتها، لتحضر الدلالة المنشودة التي يحدّدها السياق.
تكتب المرأة خلف الستائر الضبابية، خاصّة، إذا تعلّق الأمر بجسدها وبجوعها الجنسي، وبضراوة الرغبة. فالمرأة العربية، ما زالت تتكلّم من وراء حجاب، وكأنها ما زالت قربانا للفكر القمعي، وضحية للسلطة المستبدة، فحتّى المتحررات منهن، يلجأن إلى مدار أكثر اتساعا وضبابية، حين يتعلّق الأمر بالجنس والحبّ والرغبة، وقد تسعى المرأة المبدعة إلى أن تكتب خلف الستائر الضبابية؛ لتحقيق المتعة الفنيّة، وشدّ انتباه المتلقي.
ورد على لسان الساردة، في رواية «نخب الحياة» لـ (آمال مختار):
«… لم يعد البلاط يئن تحتنا، بل كان يصرخ.. كنت أحلم بأن يتكسّر، ونسقط من قمّة متعتنا في الفضاء، ونطير. نسقط من جديد، وإذا بنا في البحر نتلاطم بين الأمواج، بأجساد متشققة عطشا. ولن نعرف كيف نرتوي، نظل نتقاذف ماء المتعة، نتراشق به، نرشفه، نبصقه، نمتصّه، نتلمّظه، نسبح فيه، ونتخبّط، ثمّ نهتدي، ونشرب، ولا نرتوي.
نسقط، وإذا بنا في الأدغال، ننطّ على الأغصان الضخمة الغليظة، نقفز على الجذوع الضاربة في العمق، نجلس القرفصاء تحت الفيء، نتمدّد على الأوراق العريضة، نقضم الثّمر الغجري، يغطس هو في جوز الهند المشقّق، يمتصّ رحيقه، ويأكل لحمه، وألتهم ثمر الموز بنهم خرافي، ولا نشبع…»(11).
إنّ المادة اللغوية الجسدية، تتحرّك في فضاء العالم، بكثير من الدلالات الاحتمالية التي لاتخضع لدلالة واحدة. فقد تواتر ذكر: «الفضاء والطيران/ والبحر والأمواج/ والقذف/ والتخبّط/ والسباحة/ والأدغال والأغصان والجذوع/ والقضم/ والثمر الغجري/ وجوز الهند والموز/ والرحيق/ والأكل والالتهام ..».
فالألفاظ قد تحرّرت من صيغتها النهائية، وحملت قابلية التشكّل في وجوه مختلفة، ولكن، من خلال الانسجام والتناغم الداخلي في النص، تنفتح دلالات الألفاظ على الجنس، فلا تخطئه، ليتجسّد عنفوان الالتحام بين العاشق والمعشوق، ولتتحوّل الجمل السردية إلى ساحة غواية وسحر، والتهاب جسدي، تعدّى (إيروسية) الأشياء.
لقد رسمت الكاتبة الجسد، وهو في أشدّ عنفوانه وفورانه، مستخدمة الحركية الرمزية، تدفع الجسد إلى قول ما لم يقل، مفجّرة الصورة الحسيّة إلى عناصر انجذاب واتحاد. فالجسد، في الرواية النسائية، يتحوّل إلى مستقبل للحوافز والمثيرات الحسيّة، تمارس المؤلفة من خلاله لذّة التعبير، ولذّة التشكيل، ليتيه المتلقّي مع الإشارات والإيماءات المضاعفة للدلالة، المقوّية للتأويل.
من هنا، تتحقّق لذّة السرد ومتعته، ويتحوّل إلى وسيلة غواية وإغراء، تتوارد الدلالة إلى مداره، تأتي في صور كثيفة مفاجئة، ويستحيل السرد معالجة رمزية فنيّة، بأسلوب شاعري جميل، غنيّ المجاز، طافح الشاعرية، يزوّد النص بفاعلية التلقي التي تجعل المتلقي يتقبّل الملفوظات، ويصطنع الإيحاءات لها ولنفسه، منقّبا في بنية النص السطحية، ليكوّن أفقا دلاليا مولّدا لتشابكات النص في بعده العميق، الذي سيتماهى فيه بعد ذلك، مكرّسا صورة المرأة التي «تربط الحب بالجسد، انطلاقا من شكل تعاملها مع مكوّنات العالم، والتي تقدّم نظرة جديدة للجسد النسائي الذي حضر في مجمل الإبداعات والكتابات»(12).
وقد يتحوّل السرد النسائي إلى همسة مسموعة، أو ذرّة مرئية، أو رائحة خفيّة، تتلمّس طريقها، متابعة حركات (الآخر) مستشفّة دلالاته، حيث يتجلّى (الآخر) في مرآة (الأنثى) الكاتبة، يحقّق تلك اللغة المشحونة بمسافات التوتر. «فالكتابة ترجمة لإيقاع الجسد بكلّ ترنحاته وتوتّراته، وتسجيل للمكبوت، وتفجير له، في لغة لا تكف عن إعلان العشق والمتعة، والفرح والموت»(13).
وكعادتها، تحسن (أحلام مستغانمي) رسم الظلال على الأشياء بتفوّق، وهي تلبس اللغة، لتغطّي جسد الساردة، فتستحيل اللغة الموظّفة لغة حبلى بالدلالة الرمزية الموزّعة على مدار النص، وتغدو الصورة الشعرية التي يغلب عليها المجاز، إحدى الأقنعة التي تتحكم بمخيّلة القارئ في صنع المعنى المتمنّع الذي لا يهب نفسه بسهولة.
لقد وّظفت اللغة تحت وطأة لحظات الاشتعال الجسدي، فكانت ألفاظها وعباراتها قذفا بركانيّا، يمارس اجتياحه الملتهب على تضاريس النص، مستحدثا مساحات جديدة فيه. ورد على لسان الساردة:
«… يحدث للغة أن تكون أجمل منّا، بل نحن نتجمّل بالكلمات، نختارها كما نختار ثيابنا، حسب مزاجنا ونوايانا. هنالك أيضا، تلك الكلمات التي لا لون لها، ذات الشفافية الفاضحة، كامرأة خارجة توّا من البحر بثوب خفيف ملتصق بجسدها، إنها الأخطر حتما، لأنها ملتصقة بنا حدّ تقمصنا. وهذا الرجل الذي كان يصّر على الصمت… ما زال يربكني في كلّ حالاته، حتى عندما يخلع صمته.. ويلبس صوتي وكلماتي المبللة…»(14).
إنّ اللغة عند (أحلام مستغانمي) لا تقتصر وظيفتها على البيان والتبيين، وإنما تولّد المعنى من رحم النص، ووفق طاقتها الإيحائية الترميزية، هذه اللغة التي لا تبقى شرنقة للمعاني؛ وإنما تصبح إشعاعا للتفسير والتأويل، ضمن الدلالات المختلفة، المنتجة للمسار السردي الذي يحمل في أحشائه بذرة الحياة، والرغبة الكامنة في التحوّل، عبر مستويين: المستوى السردي، والمستوى الحدثي.
إنّ «الساردة»، حين تسعى للتأكيد على رؤيتها من خلال الحدث، فإنّها – أيضا – تسهم في نموّ السرد، ونسج صيرورته الدلالية، حين يملك طاقته على تغيير الدلالات الأصلية المشحونة فيه. فالسرد، حين يحافظ على معناه الخفي، المستتر وراء الكلمات، فإنّه، بالمقابل، يحمل بؤرة دلالية مرادفة، تجعله أكثر شفافية، وأكثر عريا. وبهذه الطريقة تحقّق الكاتبة ذلك الإغراء، وتلك الغواية التي لا تحتويها صفات الكلام العادي، أو المعاني المباشرة.
فآلية التحرّك الرمزي في السرد النسائي، تتّكئ على المعنى المرتكز على وظيفة الشيفرات الثقافية، ذلك أنه يستحضر الموجود في الذاكرة الجمعية. ومن هنا، يتحوّل النص إلى غابة من الرموز المشعّة، القادرة على محاورة عالم متعدّد الوجوه والرؤى. إنّ ما بين الجسد النصي والجسد الأنثوي علاقة محبوكة، مشفّرة في السرد النسائي، يجعل المرأة فعلا، وفاعلا، ولغة، وأنموذجا.
3 – الإضاءات المحدودة :
تولّد (الإضاءة المحدودة)، في النصوص السردية، الرغبة في المعرفة الكاملة، حيث تصعّد من عملية الترقّب والإلحاح، وتولّد الفضول النّهم لكشف ما لم يتمّ استكشافه، ومعرفة ما تلاشى من حقيقة الفعل الإبداعي.
فالنص الأدبي الذي يحافظ على تلك (الإضاءة المحدودة) غير الكاشفة، يدفع بالمتلقي إلى اقتناص البعد الخفي الراشح في ثنايا النص، ذلك أنّ الإبداع الحقيقي هو الذي يقتحم المتلقي، فيحمله على صنع نص موازٍ، نصٍ جديدٍ متجدّدٍ، بفعل التأويل، يشطح به، في حدود أبعاد القراءة، ولكن مع إبقاء تلك المسافة الرفيعة الفاصلة، حفاظا على إطار النص العام، بهذه الكيفية، تتحقّق لذّة النص ومتعته، ذلك أنّ النص لا يقدم نفسه بسهولة، بل يتمنّع ويمتنع، ويكابر ويشاكس.
إنّ الإبداع الحق، هو الكيان المولود بعسر آلام الكاتبة، ليس من السهل تجاوزه دون الإمعان في نظره، والإصغاء إليه، مّما يولّد حافزا لدى المتلقي في التأمل والبحث، والإصغاء لتلك المناطق الظليلة، محاولا رصدها، وتعيين دلالاتها الهاربة المتحوّلة، قصد إدخالها إلى بقعة الضوء، وإخراجها من دهاليزها الخلفية.
لكن النص الإبداعي يبقى مستعصيا على الإمساك به، كما يبقى تأويله سؤالا يؤسّس لأسئلة كثيرة تطرحها كلّ قراءة جديدة له، و«النص الذي يلد وينتج، هو، بالضرورة، نصا أنثويا»(15)، والمرأة بطبعها تتمنّع؛ لا تفرغ شحنتها وتوتّرها دفعة واحدة، بل تبقى محافظة على مسافة (الظلّ)، فلا تكشف جميع أوراقها.
والمرأة المبدعة تحافظ على خطّ الرجعة، وعلى مناطقها الخلفية من الضوء، وعلى سراديب نصّها من المكاشفة والتجلّي، كما تحافظ على تلك الحركة المراوِغة، متخذة من اللغة لباسا، ومن المجاز وسيلة، تمارس من خلالهما الحركات التحويلية المباغتة الدائبة على احتضان استعمالات فنية جديدة.
توظّف الكاتبة أدوات غير وثوقية عند طرح الأحداث، تعمل على حملنا على الإحساس بها، وبتلك الأشياء البسيطة، والدفع بها لخلق حبكة فنية تعتمدها كعنصر محفّز بسيط الإثارة، وكأنها تحاول التعريف بظروفها، والحفاظ على ذاتها المؤنّثة من الانكسار، لذا، فهي تسعى إلى أن تقرأ ذاتها قبل كتابتها وتوثيقها.
فـ (الذوات الساردة)، في الرواية النسائية، تحضر كشخصيات رئيسة، وكلّ شخصية تبحث عن حكايةٍ لملامحِ وضعها النفسي، وقد تصل إلى حيثيات لا تحبّ أن تعلن عنها، فتلجأ إلى المراوغة والمجاز تجنّبا للمكاشفة العلنية، وتحقيقا لعنصر (التشويق) المؤدّي إلى عنصر (التحفيز)، في قراءة الحكايات، ومتابعتها بشغف وفضول.
حين نلتفت إلى (زهور كرام)، نجدها من المتقنات لفعل المراوغة، المتمكنات من التصعيد المذهل للدلالة، بعيدا عن دائرة الضوء، لهذا، نجدها توظّف كلّ المبتكرات اللغوية التي تجعلها ماسكة بزمام السرد، فاعلة في الجذب والأسر، مستخدمة تقنية المجازات، والمخالفة في إرجاع الضمائر، وتخصيب النص بالنقاط المتتابعة التي تجعلها من مهمة القارئ/ المتلقي، في إكمال المعنى، واستخراج الدلالة. ولتقريب هذا الزعم، ننظر إلى هذا النص:
«… كانت تبكي.. فاطمة تكاد تكسر ضلوعي.. كانت تبكي.. تركتها تفعل، وأنا أساعدها على الإنغراس بين ضلوعي.. تركتها تغسل داخلها.. تجرف المحظور.. تخرج مع الدموع آهات.. تكبلني.. تعمق جرحي.. تأكلني.. توقظ تمرّدي على «العمّة» وأمثالها، على صالح وأشباهه، على كل من صنع مكانا في الطابور؛ يسرق دورا، والتاريخ بريء منه، يشهد أنّه كان نائما..
حين غنّى أبي الأغنية، فأزعجتهم، فولّوا هاربين، متعثّرين في أذيالهم، تخنقهم رائحة الأغنية.. كانت فوّاحة.. الأغنية..
أبي ما طلب البطاقات.. هل نطلب مكافأة عن العشق، كان يقول: «هل حماية البلد وظيفة».. كان يقول: «منه تعلمّت أبجدية العشق.. وأدركني العشق، وأنا- بعد– صغيرة، أخطو خطوات قصيرة، فأجدني أقف.. أتأمّل وردة متفتّحة.. تشدّني إليها.. تأكلني الرغبة في قطفها.. وأنا صغيرة..
حين أقترب من الوردة، تغمرني سعادة خارقة.. أتراجع خطوتين إلى الوراء، فأبتسم لها.. للوردة المتفتّحة التي كنت أرغب في قطفها، فعدلت عن الأمر حين غمرتني سعادة خارقة.. أنا هنا..(16)
تمثّل الساردة في الرواية مؤشّرا دلاليا على نوعية الوعي الذي تحمله الكاتبة في هذا النص، حيث ظلّ المعجم السردي محصورا في الذات «الساردة» التي تسعى إلى تفعيل الحركة من أجل الخروج من جبّة «العمّة»، ومن ثمّ، الخروج من هذا الطوّق الذي فرضه المجتمع، بعاداته وتقاليده التي تأسّست على الانبطاح والإذعان والتسليم، دون احترام حريّة الآخرين، بل، واحترام حريّة الفرد. هذه الرّواية تعبّر عن الذات، وحدود وعيها بنفسها، وبالآخر، من خلال تثبيت التحوّل وضمان ديمومة حركته التي لا تستكين إلى الجاهز، أو المتعارف عليه.
فنص (زهور كرام) هو نص الاختراق والتجاوز، تسعى فيه «الساردة» ومن ورائها مؤلفة الرواية، إلى صياغة الرجل سؤالا، من منطلق الوعي بالشروط المحدّدة لواقع العلاقة بين الجنسين، فطبيعة المنظور السردي هي طبيعة رؤية الساردة، إذ «الساردة»، من خلال قراءتها لذاتها، قرأت تاريخ الذاكرة والمجتمع فيها، فكانت حيوية السرد ناجمة من حيوية المعرفة، وحركية سؤالها.
هذا ما نلمسه في البياض أو النقاط المتتابعة التي تعبّر عن أحد مكوّنات التخصيب الدلالي التي تغيب ولا تتلاشى، يصنعها المتلقي من رحم النص، لأن الحركة التي تفجّرها تلك النقاط المتتابعة، تبقى نابضة في الخفاء إيقاعا، وحركة، ودلالة. وهي تخلق بذلك ثقافة مغايرة، تتمرّد على الواقع الاجتماعي الظالم.
فالكتابة السردية محكومة بقناع رمزي، أسهم في إثراء إشكالية البحث مبنى ومعنى، فكانت هذه الرواية مطيّة لبث الوعي الفطري العاجز عن المواجهة مع الآخر، كما كان حضور المرأة، بوصفها صوتا رئيسا، وصوتا بطوليا، تمرّدا على الكثير من القيود الاجتماعية. إن «الكتابة – إذًا – كسؤال يجرّ جرحه بدون توقف، تسعى بألم كبير إلى التواصل مع القارئ، من خلال مجموعة من الإيحاءات، حيث تعجز اللغة عن إعلان الوضوح»(17).
إنّ التنوّع، من حيث الرؤية، ومن حيث المنظور، طبيعة فطرية في المرأة، فرضتها سجيّة الاختلاف، ذلك أن «فكر الاختلاف ليس محرّما، أو إثما، بل هو نداء للتجاوز والإبداع، والحوار المتحرّر، لأن مجتمعا لا نعترف فيه باختلافاتنا، ولا نمارس فيه النقد كمهمّة فكرية جذرية، هو مجتمع يحاصره الموت من كلّ جانب، واغتيال للخيال والفعل الإبداعي المتحرّر»(18).
وإذا كانت المرأة المبدعة قد أثْرت فضاء الاختلاف، فإنّنا نشعر بذبذبات همسها المتفجّر، وطقوس رياحها المشحونة بأصوات جديدة، حيث (التيمات) السردية غير المألوفة، والشعرية المتجذّرة في الذات النسائية.
و(زهور كرام) صوت جديد غير متماثل، و مكرّر مع غيره، نلمس فيه اقتحاما للحدود الوهمية المتوارثة، حيث مفاهيم التوازن والشراكة، لا مفاهيم الغلبة والهيمنة. فالكاتبة أحسنت الانفتاح على الداخل الأنثوي، و على الحميمية النسائية، من خلال جماليات السرد، وفتنة اللغة. ورد على لسان الساردة، التي نجحت في تقويم الذات، تقويم الآخر، واختراق جبّة «العمّة»، أنيسها في ذلك «عطر القرنفل»، و«الآخر المنتظر»:
«… في الصباح، حين استيقظت، وأنا أغسل وجهي وأجففه، رفعت رأسي، فصدمتني الندبة منعكسة على المرآة.. تأكدت أنّها الضريبة الأولى عن أسماء أصبحت لها أرجل، ثم ابتسم، وأخذ القلادة إلى أنفه، وأغمض عينيه، وامتص الرحيق، وامتصني. وقبّل القلادة، وقبّلني، ثمّ قال: «إنّنا على العهد سائران».
ومن العجب المدهش أن اللقاء احتضنه مذاق غريب، قطرة عسل صاف انسابت بين شفتينا، تشهد القلادة أن القبلة انتصرت على الندبة، وهزمت اللحظة، ورددت أغنية صاعدة من الروح تقول: «إننا لم نمتهن لغة الخيانة».
طربت نفسي بها، وأخذت أردّدها في صمتي حتىّ لا أحرّك شفتي، وأكتشف ذوبان قطرة العسل.. أمسك بنفسي، وأسبر أغوار روحي، وأغمض عيني، فأصل عوالم تجمد الزيف فيها.. إني مهيأة الآن للتحليق، وملء الأجواء عبيرا.. ورسم ملامح الوجود في الفضاء الرحب.. أن أطير.. وأطير.. وأنسج وجودي، بأني ما خضعت للجبّة.. ما هادنت العمّة.. وأستعجل مجيء المطر لأغتسل حتى الموت…»(19).
في هذا الملفوظ، نلمس في حركيته السردية بعض المفردات الساكنة في معبد الرومانسية: كالاحتضان، والعسل، والشفة، والقلادة، واللحظة، والأغنية، والروح، والتحليق، والعبير، والأجواء، والطيران، والمطر.. كما نلمس تلك اللغة الباطنية المتعلقة بروح خفية، وكأنها مشحونة بأصوات داخلية، تمدّ النص بطاقة الفعل والتجاوز والانتصار، بمساعدة الآخر الذي يمثل ديمومة الحركة، وتحوّل الحياة.
إنّ السرد عند (زهور كرام) شبكة متداخلة من الخلفيات المتعلقة بالمرأة وعالمها، هذا العالم الذي يريد خرق الفضاء الأرضي المتغطرس، الذي لا يتجاوب مع متطلبات الحياة، وضرورة الواقع. فالساردة في «رواية قلادة قرنفل» متمرّدة على الواقع الاستلاب؛ استلاب المرأة في حركيتها، وعلاقتها بالآخر.
وإذا كانت «الساردة» لا تستطيع إعلاء صوت الأنثى، فإنها استطاعت إعلاء «عطر القرنفل» الذي وظّفته كمجاز لغرفتها، وعذريتها، وعشقها، فكانت طاقة اجتماعية معطلة، عوضتها بـ (القرنفل) وعطره الفواح الذي كان دليلا على (الآخر) الذي تجاوب معه.
إذا، لقد أحسنت (زهور كرام) الخفاء، والهروب ما بين الحرف والكلمة، وتوظّف الفواصل والتعجب وعلامات الاستفهام؛ كدلالات ضمنية، تتشكّل بغيرها في نظام العلاقات الداخلية للسرد، فتتبرعم تحت لحائها دلالات أخرى تقبع في داخل النص، ويستولدها المتلقي خارج النص، لتضاف أصوات ودلالات أخرى لا تحصى، ويتحوّل المعنى إلى طيف طليق، يغادر جسد الرواية، ليتوحّد مع غيره، في حركة نارية تحويلية متجاوزة لدلالتها الظاهرة المباشرة، والانطلاق في فضاء المتعدّد واللا محدود، يغذّيها الصعود التخييلي الذي تمتهنه الساردة ومن ورائها مؤلّفة الرواية.
ونتيجة لهذا، نلمس سعة فضاء الاختلاف في الرواية النسائية – قوّة وضعفا – صعودا وهبوطا – تبعا لمستوى الكاتبة، وحمولتها المعرفية، وموهبتها، على الرغم من الظواهر الفنيّة المتماثلة والمتكرّرة.
وها هي الكاتبة الليبية (فوزية شلابي) قد أحسنت المراوغة وسط تلك الضبابية التي تغيب ولا تتلاشى. فقد ورد على لسان الساردة «صالحة»، في محاورتها لـ«محمود»:
«… تقدّم في غروره العلني المعتاد، كان أنيقا، مثلما هو دائما، مبتسما، متكلما في استعراضية واضحة، حاولت أن أتجاهله، وأتظاهر بالانشغال بالتحدّث إلى سالم، الذي كان يمشي على يميني..!
– أهلا صالحة..
التفت إليه مدهوشة، في محاولة لتصنّع دور المستغرب المفاجأ:
– محمود…؟!
يمدّ يده دونما عناء، فيما تمتدّ يدي بتثاقل باد لأصافحه، ثمّ أسلب يدي من قبضته التي تحوّلت فيها أصابعه إلى قضبان قاهرة، هي مزيج من العنف والحنان والشوق..!
– كيف حالك..؟!
أجيبه، وأنا – بعد – منهمكة في سلب يدي، وإيجاد معنى لترويكة العنف، والحنان، والشوق التي أستجمعها في تلك اللحظة المحدودة، المباغتة، العلنية:
– ماشي، الحمد لله..!
أطالع السماء الواسعة.. قمر تخدشه خطوط باهتة، قمر يناوش الأرض، فتتفتّت في الضوء.
عاشق يبوح/ بحر هاجع في الوله/ صحراء تنثر شعرها الفضي في الأسود الداكن، فيغرق الرسامون في الانتشاء، قمر يصقل وجهه، فتنغرز عينيّ في نظرات محمود الرسمية… ينسكب الليل فوق تفاصيل المشهد، ثقيلا/ غامقا/ صعبا/ طويلا/ كسولا…
يلم الطريق بعضه، ويفرّ هاربا، مخلّفا حفرة واسعة.. تتصلب قدماي..
يعربد في داخلي سؤالي قلقا.. يحرق عيني خيطا من العرق الشديد الحموضة، المتفجّرة في جبهتي، فأغمضها قليلا..
يقف «محمود» على الحافة المقابلة للحفرة، يمدّ عصاه المتعجرفة، ويقول: «هيا امسكي بها!.. هيا لتعبري بسلام..!
يغمّني صدى صوته المتردّد في جوف الحفرة: «.. آم !.. آم ! .. آم…
يتحرّك جسدي كلّه دفعة واحدة، رافضا هذه العصا/ الأفعى التي تقطر أنيابها سمّا…»(20).
فعلى امتداد هذه الجمل السردية المتواترة، ظلّت الساردة «صالحة»، تراوح مكانها، من خلال الجمل الضبابية التي تركت المادّة السردية في طيّ الكتمان، بدون أن تفصح أو تعلن. واقتصرت على ردّ الفعل النفسي الذي نقلته من مجاله الحسّي إلى مجاله النفسي، فتحوّل السرد إلى حالة نفسية ملغّمة، وقنبلة وجدانية موقوتة، نجهل فيها ما يحدث، كلّ ذلك، يتمّ بواسطة النجوى، وتباريح الوجع الأنثوي الذي لا نلمسه إلاّ من خلال الهمسات التي توحي بها المقاطع الصوتية المتواترة.
فالكاتبة تسرف في التشفيف، وكأنها بين القيد والانعتاق، خاصّة، فيما يتعلّق بالرغبة والجنس، تلجأ المرأة المبدعة إلى التأويل؛ وقد تنزلق في متاهة المجازات نتيجة إشكالياتها المتناقضة مع الآخر، فتلجأ إلى كبح جماح الدلالة على الكشف، وكأنها تغالب شيطان اللغة، وتجابه سلطتها وهيمنتها، فتدخل في التعتيم والغموض، متجنّبة التعرية الجسورة، والوعي الكاشف دون الحسم في الأشياء، وكأنها تحافظ على الأشياء أن تبقى في الظلّ، أو في بقع البياض، بعيدا عن اللون. هذا ما يظهر جليا وواضحا في المقطع السردي الموالي:
«… يتفجّر جسدي بالعرق، أتفحصه، فأكتشف ذلك العري الذي يجرّدني من كبريائي وعنادي، فأبدو أمام «محمود» واضحة/ علنية/ ممتلئة بالعشق حتّى أقصى حدود الإبداع..!
– لن يهزمن هذا العري..! .. أغمغم، ثمّ ما يلبث صوتي أن يرتفع صادحا: «لا..! .. لا..! .. لا..! واندفع نحو الحفرة، فيما تتلاشى معالم وجه «محمود» الواقف على حافتها المقابلة.
يجذبني «سالم» من ذراعي في استحياء واعتذار: «انتبهي..! لقد كنت على وشك التعثّر في صندوق القمامة..!! …»(21).
إنّ مواطن الحضور الطاغي للآخر، الذي اقتحم الممنوعات والمحرّمات بكلّ جرأة، والرغبة التي عوت في جسد الساردة، والوعي الذي فجّر سيلا من الأسئلة والشكوك، كلّ هذه العوامل، ولّدت الكثير من الصراعات المخبّأة في الأعماق، لتخرج إلى السطح مقنّعة، عاجزة عن المواجهة مع الآخر.
إنّ المرأة، في صراع مع ذاتها، وعقلها، وجسدها، بما يفرضه هذا الجسد من علاقات شرعية وغير شرعية، حاولت أن تقيم التوازن، من خلال سيطرة صوت العقل على صوت الجسد الذي نلمسه من خلال القرائن المصاحبة:
« انتبهي.. لقد كنت على وشك التعثّر في صندوق القمامة…».
إنّ هذه التقنية السردية التي تفعّل الوظيفة الإيحائية، القائمة على خلخلة التصورات والدلالات المباشرة؛ لتجعل المعاني المبثوثة غير مدركة بطريقة علنية مباشرة، من شأنه أن يزرع النص بعوامل الإثارة والإغراء، ويحقّق متعة النص ولذّته القائمة على البحث والتنقيب عن الدلالة الهاربة المستعصية، حين تتحدّد سبل الإضاءة، وتتحوّل اللغة إلى سكن يختفي فيه المعنى ولا يبين.
يؤدّي هذا النوع من السرد إلى إغراء المتلقي في صنع المعنى الغائب. و «المرأة ليست – كل حين – معنية بجسدها، ليست كل حين تلبس لبوس الإغراء والفتنة، قد تنشر عطرها، تبثّ أريجها، وتحمل الكلمات حلاوة شهدها في مواقف تأنيث الروح وتجميل الأنوثة ..
لكنّها، في مواقف أخرى، هي الإنسان الشجاع الذي يقف ضدّ الظلم، هو الذي لا ينظر إلى الحياة بمنظور الذكورة والأنوثة فقط، بل يتماشى مع ذلك الموقف الذي يعلن هذا الوجود الذي يقتحمه الذكر والأنثى ليحقّق لوجوده معنى الحياة، ذلك المعنى الأنثوي «باعتبار تأنيث لفظ الحياة»، ليتم التوالد فيه والإخصاب، وليس بالتلاقح الفطري فحسب، بل بالتلاقح الذي ينشأ في معمل الفكر والتخيّل، لدّى كلّ من الذكر والأنثى، تدخل الأنثى الكلمات وعوالمها هذا المعمل، فيتم فيه الإخصاب، ويأتي الفعل الكاتب الذي لقح الكلمات وعوالمها، فولّد الإبداع في معمل الإخصاب لدى المرأة التي لم تنتظر فيه الذكر ليلقح لها إبداعها، بل صنعت لمعملها نواة ذكورية من ذاتها»(22).
الهوامش
1 – نجيب العوفي، عوالم سردية (متخيّل القصّة والرواية بين المغرب والمشرق)، دار النشر المعرفه، الرباط، ط.1، 2000، ص. 100.
2 – فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا ط1 1985 . ص. 32 – 33..
3 – المصدر السابق ص 35 .
-4 أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، دار الآداب بيروت ط5 1998ص.181- 182.
5 – فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص.40.
6 – أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص. 180.
-7 فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، مرجع سابق، ص. 19-20.
-8 زهور كرام، قلادة قرنفل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء ط1 2004 . ص. 104- 105.
9 – فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2005، ص. 17.
10 – صلاح صالح، سرد الآخر (الأنا والآخر عبر اللغة السردية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2003، ص. 161.
-11 آمال مختار، نخب الحياة،دار الآداب، بيروت، ط1 1993. ص. 12- 13.
-12 زهور كرام، السرد النسائي العربي، شركة النشر والتوزيع الدار البيضاء ط1 2004 . ص. 64.
-13 محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف، إفريقيا الشرق الدار البيضاء ط1 ص. 118.
14 – أحلام مستغانمي، فوضى الحواس، ص. 32.
15 – عبدالله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي ط1 1996 ص. 65.
-16 زهور كرام، قلادة قرنفل، ص. 124- 125.
-17 محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاق، مرجع سابق، ص.118.
-18 المرجع نفسه، ص. 117.
19 – زهور كرام، قلادة قرنفل، ص. 179.
-20 فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، ص.113.
-21 فوزية شلابي، رجل لرواية واحدة، ص. 113- 114.
22 – عالي القرشي، نص المرأة من الحكاية إلى كتابة التأويل، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ط.1، 2000، ص. 36.
الأخضر بن السائح
كاتب وأكاديمي من الجزائر