نقوس المهدي
كاتب
محاكم التفتيش هذه المرة لا تقتصر على رجال الدين الإسلامي أو حتى المسيحي كما في حالة زيدان، وإنما ضمت فئة جديدة من المحتسبين هم الأدباء أنفسهم.
في العدد الأوّل من مجلة الناقد يوليو 1988، التي كانت تصدر من لندن نشر الناقد الأدبي صبري حافظ مقالة بعنوان “الأدب في محاكم التفتيش” كانت المقالة تُناقش المعركة التي نشبت عقب ترجمة ونشر رواية الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا “مَنْ قَتَلَ موليرو” التي ظهرت ترجمتها عن سلسلة روايات عالمية التي تصدرها “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، بدأت المعركة بمقالة السّيد الغضبان في جريدة “الشّعب” والتي يدعو فيها إلى مصادرة الرواية والتحقيق مع مترجمها؛ لما تضمّنته من تعبيرات خادشة للحياء.
ولولا أن مؤلف الرواية ليس مصريًّا لكان المدعي طالب بمثوله أمام القضاء المصري وتطبيق القانون عليه، وهو الأمر الذي أحدث سجالاً عنيفًا وقتها، حيث قام الأزهر باعتباره الجهة المسؤولة التي يعمل في إطار جامعتها الدكتور حامد أبو حامد مترجم الرواية بالتحقيق معه، وهو ما جعل أقلامًا كثيرة تخرج وتدافع عن حرية التعبير إلخ..
لم تكن هذه الحادثة هي الحادثة الوحيدة فقد أوردَ الدكتور صبري حافظ نماذج مُختلفة في مقالته، فقد تكرّر الأمر مرارًا وبصيغ مُختلفة على حدّ قوله وَصلت من دعاة الظلام والتكفيريين إلى الاعتداء الجسدي كما حدث لمسرحية في قرية “كودية السلام” في الصعيد فاقتحموا المسرح بالجنازير وأراقوا الدماء بدعوى مخالفتهم لتعاليم الإسلام في العرض المسرحي، أو الترهيب والتهديد كما حدث في ندوة عقدتها جامعة المنيا للاحتفال بمهرجان عميد الأدب العربي، فاقتحم المتشدِّدون المسرح الذي كنت تقام عليه الندوة في الجامعة، وقاموا بترويع الحاضرين والمتحدثين بل وتكفير كل «الذين تحلّقوا حول اسم الكافر والمتشكِّك طه حسين»، ولولا إصرار الناقد محمود أمين العالم الذي كان يتحدّث باستكمال حديثه صارخًا «لن أبرح هذا المنبر حتى لو جرى دمي فوقه، وسأوصل كلامي حتى الشّهادة» لكانوا حققوا ما ابتغوا من اقتحامهم الحرم الجامعي، بالانتصار على حرية الفكر.
الخروج عن الآداب العامة
في عام 2001 شهدت مصر أزمة الروايات الثلاث وإن كانت في الحقيقة أربع روايات، فقد بدأت الأزمة بصدور الطبعة الثانية لرواية حيد حيدر “وليمة لأعشاب البحر”، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وإن كانت الطبعة الأولى خرجت في القاهرة عام 1988، دون أزمة أو حتى لم يشعر بها أحد، لكن استغل أحد أعضاء الحزب الوطني الأزمة خاصّة بعدما صعّدت جريدة الشعب الأزمة فخرج طلاب جامعة الأزهر وقاموا بمظاهرات في المدينة الجامعية انتهت بقطعهم للطريق العام وصدامات بين الطّلاب وبين قوات الأمن، نتج عنها أعداد كبيرة مِن الجرحى وتدمير المباني وعدد كبير من السّيارات، وتبيّن مشاركة بعض أعضاء هيئة التدريس في التحريض ومنهم قيادات في الحزب الوطني (الحاكم) وقتها.
وكانت فحوى الاتهام للرواية «أنها احتوت على مساس بالذات الإلهية وخروج على الآداب العامة»، وكانت تصريحات وزير الثقافة فاروق حسني آنذاك خلال الأزمة منحازة تمامًا إلى حرية التعبير، كما شكّل لجنة من أبرز نُقاد الأدب جاء تقريرها في جانب نشر الرواية، وانحازت إلى الوزير كثرة غالبة من المثقفين، وانتهى الأمر بإغلاق حزب العمل، كتأكيد لانتصار حرية الفكر والإبداع على خفافيش الظلام.
لكن بعد أزمة الروايات الثلاث (“أحلام مُحرّمة” لمحمود حامد، و”أبناء الخطأ الرومانسي” لياسر شعبان، و”قبل وبعد” لتوفيق عبدالرحمن) تغيّر الأمر تمامًا بعد الاتهامات التي وجهّها عضو في جماعة الإخوان المُسلمين للروايات الثلاث، إذ رأى أنّها تنتهك الآداب العامة بمشاهد وألفاظ خادشة، وقدّم استجوابًا في مجلس الشعب لوزير الثقافة المصري في ذلك الوقت فاروق حسني، وبناءً عليـه تمت المصادرة، من دون أن يحرّك الوزير المخوّل به الدفاع عن المبدعين وحرية التعبير ساكنًا كما فعل في أزمة وليمة لأعشاب البحر، هنا تغيّر أمر الوزير وغلب على حديثه الخروج عن الآداب العامة، وحماية المجتمع المصري المُحافظ –بطبيعته- وحماية السّلام الاجتماعيّ.
وخاصم الوزير جزءًا كبيرًا من المثقفين الذين أيّدوه في المرّة الأولى، وتغيُّر موقف الوزير كان راجعًا لتغّير الموقف السياسي الذي هَادَنَ جماعة الإخوان في هذه الأزمة، على عكس المرة السّابقة، بل أقال القائمين على أمر السلسلة وهو ما يعدُّ انتصارًا لمحاكم التفتيش التي رضخ لها الوزير واستجاب لأكثر مما طلبت، فقد اعتبر الوزير في تصريح له لجريدة الشرق الأوسط وقتها أن إصدار “هذه الروايات التي تستخدم لغة سوقية في وصف المشهد الجنسي قَصَدَ منها إثارة أزمة في المجتمع المصري، وإنّ مَن يكتب مُدافعًا عنها في الصحافة هم يساريون لا يقف إلى جانبهم أحد”. وقد برّر وقوفه إلى جانب المثقفين في أزمة رواية “وليمة لأعشاب البحر” كان سياسيًا بحيث أن الأزمة كانت مفتعلة ـ حسب قوله ـ ومدفوعة من الخارج، ولكنّي وقفت في مواجهتهم في الأزمة الحالية لأنها داخلية، ويقع على مسؤوليتي كوزير الدفاع عن القيم والأخلاق الاجتماعية.
بالأمس القريب نهاية شهر أكتوبر 2015 المنصرم، تمّت إحالة الكاتب والصحفي أحمد ناجي إلى الجنايات هو ورئيس تحرير أخبار الأدب الأستاذ طارق الطاهر بتهمة أن الروائي انتهك الآداب العامة بنشره مقالاً في جريدة أخبار الأدب (وإن كان في الأصل، هو فصل من رواية بعنوان “استخدام الحياة” نشرت في عام 2014 عن دار التنوير). الغريب أن العدد الذي جاء فيه الفصل عُني بأفضل عشر روايات إيروتيكية في تاريخ الرواية، لكن الاتهام شمل أحمد ناجي بصفته صاحب المقال ورئيس التحرير الذي لم يقم بدوره في المراجعة والتدقيق كما جاء في عريضة الدعوة، التي شملت أيضًا أنه “نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء”.
محاكم تفتيش مسيحية
لم تقتصر محاكم التفتيش على رجال الدين الإسلامي أو المتشددين منهم بل انضم إليهم متشددو الدين المسيحي، وهو ما ظهر واضحًا إثر نشر الدكتور يوسف زيدان روايته “عزازيل” التي حصلت على البوكر في 2008، فهاجم رجال الدين المسيحي الرواية لأنهم وجدوا فيها إحياء لتراث مهمّش هو التراث الهرطوقي الذي اختلفت الكنائس القديمة الشرقية والغربية مع دعاته، وأيضًا انتقادهم لأفكاره الجريئة التي تخالف العقيدة المسيحية التي يؤمنون بها، وهو ما أدخله في سياق محاكم تفتيش دينية، وصلت به إلى ساحة المحاكم، وهو الأمر الذي تجاوز «عزازيل» بعد صدور كتابه «اللاهوت العربي»، حيث وجهت إلى هذه المرة تهم ازدراء الأديان الثلاثة، التوحيدية أو الكتابية أو الإبراهيمية.
استدعت هذه الأحداث محاكم التفتيش إلى الذهن بعد حصول الأديب المصري إبراهيم عبدالمجيد مؤخّرًا على جائزة الرّواية العربيّة كتارا عن روايته «أداجيو» التيصدرت طبعتها عن دار نهضة مصر، فما إن أعلنت أسماء الفائزيْن المصرييْن في الجائزة، وهما إبراهيم عبدالمجيد في فئة الرواية المطبوعة وسامح الجباس عن فئة الرواية المخطوطة عن رواية «حبل قديم وعقدة مشدودة» حتى خرجت الأصوات المهاجمة للفائزيْن بل وصلت إلى أن نادت الكاتبة المصرية سلوى بكر، كما جاء في التحقيق الذي تضمّن رأيها في جريدة الوطن المصرية، مطالبة المجلس الأعلى للثقافة (دون أن توضح جهة اختصاصه بالمسألة) «بالتحقيق القضائي مع الكتّاب الـ240 كلهم بل وسحب الجنسية المصرية منهم» وإن كانت في تصريحات أخرى لها في البوابة نيوز نفت هذه التصريحات، أما الشاعرة فاطمة ناعوت فقد شَطَحَ خيالها إلى مناطق بعيدة حيث قرنت بين العداء المؤقت والعداء الاستراتيجي ووضعتهما في سلة واحدة حيث قالت «عداؤنا لقطر يفوق بمراحل عدائنا لإسرائيل لأنها خانت ميثاق العرب ومثلما نرفض التطبيع مع إسرائيل نرفض التطبيع مع قطر التي سخّرت جزيرتها ودولاراتها ومسابقاتها لإخضاع مصر، وللأسف هناك 200 ممن أطلق عليهم أدباء شاركوا في تلك المهزلة».
وهذه المصادرة هي ما يعيد الأذهان إلى محاكم التفتيش لكن هذه المرة من قبل الأدباء إزاء بعضهم البعض. التفكير في تهافت الكثيرين في التقديم لجائزة كتارا رغم وجود أزمة سياسية بين مصر وقطر، وخروج الكثير من المثقفين في مظاهرات تدين تصرفات قطر بانحيازها للإخوان المسلمين، يستوجب إعادة التفكير في مفاد حكايةرويت من قبل «أن واحدًا من الجمهور كان قد سأل (يوسف إدريس) -في ندوة من ندواته- أيهما أسبق من الآخر تلبية لحاجة الإنسان: الخبز أم الحرية؟! فرد يوسف إدريس قائلا: الحرية؛ لأنّها السبيل الوحيد أمامك للحصول على الخبز». قد يبدو في كثير من الأحيان الكلام مجرد كلام، لكن يعجز عن الفعل إذا ما تصادف مع قوت يوميه.
محاكم تفتيش عربية
تأتي حكاية الروائي الجزائري كمال داوود الذي يكتب عمودًا يوميًا في جريدة «لوكوتيديان دوران» (الصادرة بالفرنسية) وصاحب رواية «مورسو.. تحقيق مضاد» وهي روايته الأولى وقد حققت نجاحًا لا يُنكر، فرُشِّحَتْ للفوز بجائزتي الغونكور والرونودو، وترجمت إلى 15 لغة ليس من بينها اللغة العربية، لتبين كيف أنّ فكر المُصادرة ومحاكم التفتيش هما المهيمنان على العقلية العربية. فما إن حلّ ضيفًا على القناة الفرنسية الثانية في حلقة “لم ننم بعد” حتى أَطلقَ عدّة تصريحات مثيرة تتعلّقُ بموقفه من قضايا اللُّغة والدين والانتماء. ومن هذا إجابته عن وجود هوية عربية قال «أنا لم أشعر بنفسي يومًا عربيًا»، وكشف أن “هذا الحديث عادة ما يسبب له تهجمات ضد شخصه”، ليؤكد أنه “جزائري وليس عربيا” لأن العروبة ليست جنسية، واعتبر أن “العروبة احتلال وسيطرة”. أما عن موقفه من الدين فاعترف بأنه كان إسلاميًّا في بداية شبابه بسبب غياب بدائل أيديولوجية أو فلسفية تطرح أمام الفرد الجزائري، وأضاف أن “الشّاب الجزائري يجد نفسه مجبولاً على الإسلاموية منذ صغره باعتباره فكرًا شموليًّا”، وقال إن «علاقة العرب بربهم هي من جعلتهم متخلفين» أثارت هذه التصريحات هجومًا شرسًا عليه وصل بخروج فتوى من مسؤول تنظيم جبهة الصحوة السّلفيّة بالجزائر عبدالفتاح زيراوي حمداش «بتكفيره والمطالبة بإعدامه علنًا» وهذه الفتوى حسب ردود فعل الواقع الثقافي الجزائري تعيد الأذهان إلى سنوات التسعينات التي لم يندمل جرحها بعد كما عبّر الصحفي والرّوائي بشير مفتي في تصريحه للجزيرة نت، ولم تكن دعوة خدّاش إزاء داوود هي الوحيدة فقد سبقتها دعواتٌ أخرى كثيرة كان أبرزها دعوته عام 2013 إلى إحراق كتب ومُؤلفات أدونيس بتهمة الإلحاد أيضًا.
الأغرب في قضية خداش ـ داوود أن كثيرًا من الكُتّاب والمُثقفين انحرفوا بالنقاش إلى الحديث عن روايته و«مُستواها» و«الجهات المُريبة» التي احتفت به في الخارج في نسيان شبه تام لجوهر القضية المُتعلقة بمُواجهة الكلمة بالسيف كما ذكر الصحفي الجزائري أحمد دلباني في مقالته عن هذه القضية والتي أحالها حسب عنوان مقاله إلى «توحّش الإسلام الرَّاديكالي وخيانة المُثقفين».
محاكم التفتيش في الأدب العربي قديمة وربما تستدعي في الذهن قضية طه حسين وكتاب الشعر الجاهلي عام 1926، أو حتى ما أثير في أزمة ترقية الدكتور نصر حامد أبو زيد التي انتهت إلى التفرقة بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وتبعات القضية، إلى قضية ألف ليلة وليلة ومصادرة الكتاب وغيرها.. لكن الجديد أن محاكم التفتيش هذه المرة لا تقتصر على رجال الدين الإسلامي أو حتى المسيحي كما في حالة زيدان، وإنما ضمت فئة جديدة من المحتسبين هم الأدباء أنفسهم الذين يشهرون التهم في وجوه زملائهم كما جاء في دعوى سلوى بكر ضدّ مَنْ قدَّموا في جائزة كتارا، وهو الأمر الذي يدعو للحيرة والتساؤل عن علاقة المثقف بالمثقف، التي تصل في أحد وجوهها إلى اعتبارها خيانة من المثقف لزميله.
.
في العدد الأوّل من مجلة الناقد يوليو 1988، التي كانت تصدر من لندن نشر الناقد الأدبي صبري حافظ مقالة بعنوان “الأدب في محاكم التفتيش” كانت المقالة تُناقش المعركة التي نشبت عقب ترجمة ونشر رواية الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا “مَنْ قَتَلَ موليرو” التي ظهرت ترجمتها عن سلسلة روايات عالمية التي تصدرها “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، بدأت المعركة بمقالة السّيد الغضبان في جريدة “الشّعب” والتي يدعو فيها إلى مصادرة الرواية والتحقيق مع مترجمها؛ لما تضمّنته من تعبيرات خادشة للحياء.
ولولا أن مؤلف الرواية ليس مصريًّا لكان المدعي طالب بمثوله أمام القضاء المصري وتطبيق القانون عليه، وهو الأمر الذي أحدث سجالاً عنيفًا وقتها، حيث قام الأزهر باعتباره الجهة المسؤولة التي يعمل في إطار جامعتها الدكتور حامد أبو حامد مترجم الرواية بالتحقيق معه، وهو ما جعل أقلامًا كثيرة تخرج وتدافع عن حرية التعبير إلخ..
لم تكن هذه الحادثة هي الحادثة الوحيدة فقد أوردَ الدكتور صبري حافظ نماذج مُختلفة في مقالته، فقد تكرّر الأمر مرارًا وبصيغ مُختلفة على حدّ قوله وَصلت من دعاة الظلام والتكفيريين إلى الاعتداء الجسدي كما حدث لمسرحية في قرية “كودية السلام” في الصعيد فاقتحموا المسرح بالجنازير وأراقوا الدماء بدعوى مخالفتهم لتعاليم الإسلام في العرض المسرحي، أو الترهيب والتهديد كما حدث في ندوة عقدتها جامعة المنيا للاحتفال بمهرجان عميد الأدب العربي، فاقتحم المتشدِّدون المسرح الذي كنت تقام عليه الندوة في الجامعة، وقاموا بترويع الحاضرين والمتحدثين بل وتكفير كل «الذين تحلّقوا حول اسم الكافر والمتشكِّك طه حسين»، ولولا إصرار الناقد محمود أمين العالم الذي كان يتحدّث باستكمال حديثه صارخًا «لن أبرح هذا المنبر حتى لو جرى دمي فوقه، وسأوصل كلامي حتى الشّهادة» لكانوا حققوا ما ابتغوا من اقتحامهم الحرم الجامعي، بالانتصار على حرية الفكر.
الخروج عن الآداب العامة
في عام 2001 شهدت مصر أزمة الروايات الثلاث وإن كانت في الحقيقة أربع روايات، فقد بدأت الأزمة بصدور الطبعة الثانية لرواية حيد حيدر “وليمة لأعشاب البحر”، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وإن كانت الطبعة الأولى خرجت في القاهرة عام 1988، دون أزمة أو حتى لم يشعر بها أحد، لكن استغل أحد أعضاء الحزب الوطني الأزمة خاصّة بعدما صعّدت جريدة الشعب الأزمة فخرج طلاب جامعة الأزهر وقاموا بمظاهرات في المدينة الجامعية انتهت بقطعهم للطريق العام وصدامات بين الطّلاب وبين قوات الأمن، نتج عنها أعداد كبيرة مِن الجرحى وتدمير المباني وعدد كبير من السّيارات، وتبيّن مشاركة بعض أعضاء هيئة التدريس في التحريض ومنهم قيادات في الحزب الوطني (الحاكم) وقتها.
وكانت فحوى الاتهام للرواية «أنها احتوت على مساس بالذات الإلهية وخروج على الآداب العامة»، وكانت تصريحات وزير الثقافة فاروق حسني آنذاك خلال الأزمة منحازة تمامًا إلى حرية التعبير، كما شكّل لجنة من أبرز نُقاد الأدب جاء تقريرها في جانب نشر الرواية، وانحازت إلى الوزير كثرة غالبة من المثقفين، وانتهى الأمر بإغلاق حزب العمل، كتأكيد لانتصار حرية الفكر والإبداع على خفافيش الظلام.
لكن بعد أزمة الروايات الثلاث (“أحلام مُحرّمة” لمحمود حامد، و”أبناء الخطأ الرومانسي” لياسر شعبان، و”قبل وبعد” لتوفيق عبدالرحمن) تغيّر الأمر تمامًا بعد الاتهامات التي وجهّها عضو في جماعة الإخوان المُسلمين للروايات الثلاث، إذ رأى أنّها تنتهك الآداب العامة بمشاهد وألفاظ خادشة، وقدّم استجوابًا في مجلس الشعب لوزير الثقافة المصري في ذلك الوقت فاروق حسني، وبناءً عليـه تمت المصادرة، من دون أن يحرّك الوزير المخوّل به الدفاع عن المبدعين وحرية التعبير ساكنًا كما فعل في أزمة وليمة لأعشاب البحر، هنا تغيّر أمر الوزير وغلب على حديثه الخروج عن الآداب العامة، وحماية المجتمع المصري المُحافظ –بطبيعته- وحماية السّلام الاجتماعيّ.
وخاصم الوزير جزءًا كبيرًا من المثقفين الذين أيّدوه في المرّة الأولى، وتغيُّر موقف الوزير كان راجعًا لتغّير الموقف السياسي الذي هَادَنَ جماعة الإخوان في هذه الأزمة، على عكس المرة السّابقة، بل أقال القائمين على أمر السلسلة وهو ما يعدُّ انتصارًا لمحاكم التفتيش التي رضخ لها الوزير واستجاب لأكثر مما طلبت، فقد اعتبر الوزير في تصريح له لجريدة الشرق الأوسط وقتها أن إصدار “هذه الروايات التي تستخدم لغة سوقية في وصف المشهد الجنسي قَصَدَ منها إثارة أزمة في المجتمع المصري، وإنّ مَن يكتب مُدافعًا عنها في الصحافة هم يساريون لا يقف إلى جانبهم أحد”. وقد برّر وقوفه إلى جانب المثقفين في أزمة رواية “وليمة لأعشاب البحر” كان سياسيًا بحيث أن الأزمة كانت مفتعلة ـ حسب قوله ـ ومدفوعة من الخارج، ولكنّي وقفت في مواجهتهم في الأزمة الحالية لأنها داخلية، ويقع على مسؤوليتي كوزير الدفاع عن القيم والأخلاق الاجتماعية.
بالأمس القريب نهاية شهر أكتوبر 2015 المنصرم، تمّت إحالة الكاتب والصحفي أحمد ناجي إلى الجنايات هو ورئيس تحرير أخبار الأدب الأستاذ طارق الطاهر بتهمة أن الروائي انتهك الآداب العامة بنشره مقالاً في جريدة أخبار الأدب (وإن كان في الأصل، هو فصل من رواية بعنوان “استخدام الحياة” نشرت في عام 2014 عن دار التنوير). الغريب أن العدد الذي جاء فيه الفصل عُني بأفضل عشر روايات إيروتيكية في تاريخ الرواية، لكن الاتهام شمل أحمد ناجي بصفته صاحب المقال ورئيس التحرير الذي لم يقم بدوره في المراجعة والتدقيق كما جاء في عريضة الدعوة، التي شملت أيضًا أنه “نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء”.
محاكم تفتيش مسيحية
لم تقتصر محاكم التفتيش على رجال الدين الإسلامي أو المتشددين منهم بل انضم إليهم متشددو الدين المسيحي، وهو ما ظهر واضحًا إثر نشر الدكتور يوسف زيدان روايته “عزازيل” التي حصلت على البوكر في 2008، فهاجم رجال الدين المسيحي الرواية لأنهم وجدوا فيها إحياء لتراث مهمّش هو التراث الهرطوقي الذي اختلفت الكنائس القديمة الشرقية والغربية مع دعاته، وأيضًا انتقادهم لأفكاره الجريئة التي تخالف العقيدة المسيحية التي يؤمنون بها، وهو ما أدخله في سياق محاكم تفتيش دينية، وصلت به إلى ساحة المحاكم، وهو الأمر الذي تجاوز «عزازيل» بعد صدور كتابه «اللاهوت العربي»، حيث وجهت إلى هذه المرة تهم ازدراء الأديان الثلاثة، التوحيدية أو الكتابية أو الإبراهيمية.
استدعت هذه الأحداث محاكم التفتيش إلى الذهن بعد حصول الأديب المصري إبراهيم عبدالمجيد مؤخّرًا على جائزة الرّواية العربيّة كتارا عن روايته «أداجيو» التيصدرت طبعتها عن دار نهضة مصر، فما إن أعلنت أسماء الفائزيْن المصرييْن في الجائزة، وهما إبراهيم عبدالمجيد في فئة الرواية المطبوعة وسامح الجباس عن فئة الرواية المخطوطة عن رواية «حبل قديم وعقدة مشدودة» حتى خرجت الأصوات المهاجمة للفائزيْن بل وصلت إلى أن نادت الكاتبة المصرية سلوى بكر، كما جاء في التحقيق الذي تضمّن رأيها في جريدة الوطن المصرية، مطالبة المجلس الأعلى للثقافة (دون أن توضح جهة اختصاصه بالمسألة) «بالتحقيق القضائي مع الكتّاب الـ240 كلهم بل وسحب الجنسية المصرية منهم» وإن كانت في تصريحات أخرى لها في البوابة نيوز نفت هذه التصريحات، أما الشاعرة فاطمة ناعوت فقد شَطَحَ خيالها إلى مناطق بعيدة حيث قرنت بين العداء المؤقت والعداء الاستراتيجي ووضعتهما في سلة واحدة حيث قالت «عداؤنا لقطر يفوق بمراحل عدائنا لإسرائيل لأنها خانت ميثاق العرب ومثلما نرفض التطبيع مع إسرائيل نرفض التطبيع مع قطر التي سخّرت جزيرتها ودولاراتها ومسابقاتها لإخضاع مصر، وللأسف هناك 200 ممن أطلق عليهم أدباء شاركوا في تلك المهزلة».
وهذه المصادرة هي ما يعيد الأذهان إلى محاكم التفتيش لكن هذه المرة من قبل الأدباء إزاء بعضهم البعض. التفكير في تهافت الكثيرين في التقديم لجائزة كتارا رغم وجود أزمة سياسية بين مصر وقطر، وخروج الكثير من المثقفين في مظاهرات تدين تصرفات قطر بانحيازها للإخوان المسلمين، يستوجب إعادة التفكير في مفاد حكايةرويت من قبل «أن واحدًا من الجمهور كان قد سأل (يوسف إدريس) -في ندوة من ندواته- أيهما أسبق من الآخر تلبية لحاجة الإنسان: الخبز أم الحرية؟! فرد يوسف إدريس قائلا: الحرية؛ لأنّها السبيل الوحيد أمامك للحصول على الخبز». قد يبدو في كثير من الأحيان الكلام مجرد كلام، لكن يعجز عن الفعل إذا ما تصادف مع قوت يوميه.
محاكم تفتيش عربية
تأتي حكاية الروائي الجزائري كمال داوود الذي يكتب عمودًا يوميًا في جريدة «لوكوتيديان دوران» (الصادرة بالفرنسية) وصاحب رواية «مورسو.. تحقيق مضاد» وهي روايته الأولى وقد حققت نجاحًا لا يُنكر، فرُشِّحَتْ للفوز بجائزتي الغونكور والرونودو، وترجمت إلى 15 لغة ليس من بينها اللغة العربية، لتبين كيف أنّ فكر المُصادرة ومحاكم التفتيش هما المهيمنان على العقلية العربية. فما إن حلّ ضيفًا على القناة الفرنسية الثانية في حلقة “لم ننم بعد” حتى أَطلقَ عدّة تصريحات مثيرة تتعلّقُ بموقفه من قضايا اللُّغة والدين والانتماء. ومن هذا إجابته عن وجود هوية عربية قال «أنا لم أشعر بنفسي يومًا عربيًا»، وكشف أن “هذا الحديث عادة ما يسبب له تهجمات ضد شخصه”، ليؤكد أنه “جزائري وليس عربيا” لأن العروبة ليست جنسية، واعتبر أن “العروبة احتلال وسيطرة”. أما عن موقفه من الدين فاعترف بأنه كان إسلاميًّا في بداية شبابه بسبب غياب بدائل أيديولوجية أو فلسفية تطرح أمام الفرد الجزائري، وأضاف أن “الشّاب الجزائري يجد نفسه مجبولاً على الإسلاموية منذ صغره باعتباره فكرًا شموليًّا”، وقال إن «علاقة العرب بربهم هي من جعلتهم متخلفين» أثارت هذه التصريحات هجومًا شرسًا عليه وصل بخروج فتوى من مسؤول تنظيم جبهة الصحوة السّلفيّة بالجزائر عبدالفتاح زيراوي حمداش «بتكفيره والمطالبة بإعدامه علنًا» وهذه الفتوى حسب ردود فعل الواقع الثقافي الجزائري تعيد الأذهان إلى سنوات التسعينات التي لم يندمل جرحها بعد كما عبّر الصحفي والرّوائي بشير مفتي في تصريحه للجزيرة نت، ولم تكن دعوة خدّاش إزاء داوود هي الوحيدة فقد سبقتها دعواتٌ أخرى كثيرة كان أبرزها دعوته عام 2013 إلى إحراق كتب ومُؤلفات أدونيس بتهمة الإلحاد أيضًا.
الأغرب في قضية خداش ـ داوود أن كثيرًا من الكُتّاب والمُثقفين انحرفوا بالنقاش إلى الحديث عن روايته و«مُستواها» و«الجهات المُريبة» التي احتفت به في الخارج في نسيان شبه تام لجوهر القضية المُتعلقة بمُواجهة الكلمة بالسيف كما ذكر الصحفي الجزائري أحمد دلباني في مقالته عن هذه القضية والتي أحالها حسب عنوان مقاله إلى «توحّش الإسلام الرَّاديكالي وخيانة المُثقفين».
محاكم التفتيش في الأدب العربي قديمة وربما تستدعي في الذهن قضية طه حسين وكتاب الشعر الجاهلي عام 1926، أو حتى ما أثير في أزمة ترقية الدكتور نصر حامد أبو زيد التي انتهت إلى التفرقة بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وتبعات القضية، إلى قضية ألف ليلة وليلة ومصادرة الكتاب وغيرها.. لكن الجديد أن محاكم التفتيش هذه المرة لا تقتصر على رجال الدين الإسلامي أو حتى المسيحي كما في حالة زيدان، وإنما ضمت فئة جديدة من المحتسبين هم الأدباء أنفسهم الذين يشهرون التهم في وجوه زملائهم كما جاء في دعوى سلوى بكر ضدّ مَنْ قدَّموا في جائزة كتارا، وهو الأمر الذي يدعو للحيرة والتساؤل عن علاقة المثقف بالمثقف، التي تصل في أحد وجوهها إلى اعتبارها خيانة من المثقف لزميله.
.