نقوس المهدي
كاتب
ناجي مقلقٌ، ليس مريحاً. اسمه أحمد ناجي وهو كاتب وروائيّ مصريّ، في مستهل الثلاثين، يمتلك نظرةً رائقة يظلّلها حاجبان رحبان، شارباه واسعان مهذّبان، ومع ذلك هو مقلق. لا يكتب ليريح أو يسلّي، ولو أن التسلية قيمةٌ لا يجافيها نصّه أبداً. كتابته كريمة، يضع صوراً في العين ما كانت العين لتراها لو لم يشكّلها هو لها. يورّط قارئته معه في توتّرٍ منه ومن نصّه، لا بدّ سيخرج منه ما يقلق راحة العالم. ولكن، إقلاق راحة عالمٍ كهذا هو فعل عدالةٍ. لذلك، تتجاور الراحة مع القلق في نصّ ناجي.
يرصد «الانفعال الوطنيّ» هازئاً، ويفكّكه في كلّ قولٍ أو فعلٍ لصديقٍ وصديقة، يصطاد لحظاته مهما تجمّلت أو أتت حذرة. يستهدف في السياسة سطحها الوطنيّ ـ العاطفيّ، ذاك الذي يقدّس ويلعن ويرفع هتافاتٍ تُخرس الشكّ. وهو يفعل ذلك بسلاسةِ شرب الماء. لا يفتعل النقد، وإنما يقرأ الحياة على مستويين: ذلك الماديّ المستمرّ، وذلك «المفعَم» بعواطف الأحياء. يتحيّز للأول ولا يُهمل الثاني، فيشتبك معه. المستوى الماديّ في العلاقة مع الحياة أتاح له الوجود والتفكير، بينما تمكّن المستوى العاطفيّ «المفعَم» من حبسه في زنزانة، منذ أسبوعٍ تقريباً.
هبّةٌ عاطفيّةٌ وطنيّةٌ ذكوريةٌ واحدة في بدن «مواطنٍ شريفٍ» واحد، فتحت دفاتر أقسام الشرطة وأبواب المحاكم على ناجي. تَقرّر أن «حياء» هذا المواطن هو مقياسٌ حاكمٌ، يمارس القوامة على مئة مليون إنسانٍ وأكثر، بأدوات السلطة القضائيّة. فأدين ناجي بخدش الحياء، وهو اليوم سجينٌ في «طرة»، يحمل حكماً مدّته سنتان.
حياء هذا المواطن هو بعضٌ من فيض «الأخلاق العامة». و «الأخلاق العامة» هنا، هي المساحة التي يشترك فيها المحكوم بجريمة الحاكم، بفخرٍ شديد وسعادةٍ جمّة. وطبعاً، إن لم يكن ذلك «لأختك، لأمك، لابنتك»، فسيكون «علشان خاطر مصر».
مطبخ «الأخلاق العامّة»
عنوان رواية ناجي الجديدة هو «استخدام الحياة». أجازتها سلطة «الرقابة»، ونشر ملحق «أخبار الأدب»، حيث يعمل ناجي صحافياً، فصلها الخامس. مواطنٌ قرأ الفصل، وفيه ذكرٌ لمشهدٍ جنسيّ وجلسة حشيش. نشف ريقه، اضطربت ضربات قلبه، وأصيب بـ «إعياءٍ شديد وانخفاضٍ حادّ في الضغط». فاتّهم ناجي بأنه خدش حياءه وحياء المجتمع المصريّ. هذه أقواله المنشورة. وتلك هي عوارض «خدش الحياء»، إذاً. حياء رجلٍ واحد هو حياء مجتمعٍ كامل، بأعماره وخلفيّاته وتجاربه المختلفة. هذا المواطن صاحب دقّات القلب السريعة، سمح لنفسه بأن يحكي باسمنا كلنا. هذا معقولٌ كتجاوزٍ فرديّ، فجميعنا نلجأ إلى استخدام «نون الجماعة» أحياناً. لكن القضاء أتى وبارك إدعاءه هذا، صاغه على شكل دعوى صالحة، لها مذنب وبريء، لها حيثيّات ودقّات قلب. تجسّدت فيه «الأخلاق العامّة»، وهي تفعل ذلك. هي تنفعل في شخصٍ كالعاطفة الوطنيّة، وتمنحه قوة ألف رجل. هرع «المواطن الشريف» إلى الشرطة التي هي في خدمة حياء الشعب، وبلّغ عن الكاتب. بالأحرى، هو بلّغ عن شخصيّةٍ روائيّةٍ متّهماً إياها بـ «تعاطي» الجنس والحشيش.
للوهلة الأولى، تمّ التعامل مع المسألة برمّتها كحادثةٍ أقرب إلى الدعابة، تشبه مثلاً البلاغ الذي قدّمه هذا الخطاب العاطفيّ الوطنيّ ضد «أبلة فاهيتا»، الدُمية. أقرب إلى الدعابة المرّة، مثلاً لمّا خرج رجلٌ اسمه عبد العاطي على الملايين ينبئها عن الإعجاز الطبّي لسيخ الكفتة العسكريّ. أقرب إلى الدعابة، كحال تلك السيّدة التي تهدّد أوباما، أو تلك العبارات الغامضة التي قالها رئيس («صبّح على مصر بجنيه»، مثلاً). لكن، يتضح لنا تباعاً أن هذه السلسلة من «الدعابات» باتت تصنع نهجاً، سياقاً، باتت تطحن الطفل الفقير إبن الأربعة أعوام بالمناضلة التي تعمل على تأمين مستقبل أطفال الشوارع، الثائرة التي سُجنت لأنها تعارض سجن المعارضين/ات بصديقٍ اختفى قسراً، وبخال صديقٍ اختفى أيضاً وقسراً، ... لمّا يحشد الأطباء ضد سحلهم/ن في المستشفيات، لا يُستدعى ولو أمين الشرطة للتحقيق، ثم يُطلق سراح قاتل شيماء التي حملت الوردة وماتت وافقةً بين يديْ زميلها في الحزب. لمّا يعلو النقد ضد أمناء الشرطة، يصدر أمرٌ بإقفال مركز «النديم» لتأهيل ضحايا التعذيب، وتصير جرائمهم أعلى صوتاً، انتقاميّة، تصيح بدوام السلطة. ليست طرائف وعجائب، ولا هي فوضى في الحكم. هو تفاقمٌ في نهجٍ حاكمٍ منذ عقود. يتفاقم. كلّما نادى صوتٌ عليه ليهدأ، يعلو أكثر ليلغي الصوت. يردح بعنفٍ، متغنيّاً بضرورات الجريمة. هنا تحديداً، تُعجن «الأخلاق العامة». وهنا تحديداً، يُصاغ «الحياء العام».
خصخصة السلطة الضبابيّة
المشهد الجنسيّ الذي اختاره ناجي للفصل الخامس، هو مشهدٌ يُحيط بالبديهيات، لا يفاجئ الخيال بالغرابة، وقد أتى طبعاً بما يخدم فكرة الكاتب وسياقاته. في القضية، يعني ذلك أن مجرد ممارسة الجنس هو ما خدش حياء المواطن. أخرج الشخصيّة من الرواية، جعلها رجلاً أمامه، واقتاد هذا الرجل إلى المحكمة، ثم سجنه. بشجاعةٍ وجمال، قال غلاف مجلة «القاهرة»، التزاماً بشعار واحدةٍ من حملات التضامن مع ناجي: «لا لمحاكمة الخيال». لكن دلالات المحاكمة، في العمق، لا تطال الخيال. الدعوى القضائيّة أتت لتحاكم الحياة، لا الخيال. هذا الرجل يحاكم ناجي، لا على ما تخيّله، وإنما على ما يفترض أنه عاشه. لا بد أن شخصين في مصر مارسا الجنس، بلذّة. يحاكَم الشخص لا الشخصيّة، لأنه مارس الجنس وشرب الحشيش بتلذّذٍ وتلقائية. يحاكمه، لأنه خصّص للمسكوت عنه في مصر الراهنة مساحةً في الكلام. ليس ناجي وحيداً في فعل ذلك، لكن ناجي هو اليوم سجين ذلك.
في المحاكمة الأولى، قصد بعضٌ من أبرز أدباء مصر المحكمة، ليشرحوا عن الفارق بين الخيال والواقع، وعن أصالة الكتابة في الجنس ضمن الثقافة المصرية والعربية. وضع أدباءٌ من عيار صنع الله إبراهيم رواية «استخدام الحياة» في سياقها الأدبيّ، وعلى تناقضٍ مع السياق «الجنائي» الذي حُشرت فيه. اقتنع القاضي حينها وأصدر حكماً بالبراءة قال فيه: «ما يراه صاحب الفكر المتشدد خدشاً للحياء، لا يراه صاحب الفكر المستنير كذلك». لكن النيابة العامة استأنفت، علماً أنها ترى أن ناجي «نفث شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجّه خبيث»، «انتهك» الأخلاق «وأغرى بالعُهر»، وخرج عن «عاطفة الحياء»، «فولد سِفاحاً مشاهد صوّرت اجتماع الجنسين جهرة»، «حتى عمّت الفوضى وانتشرت النار في الهشيم». بالمناسبة، يجب أن يتم تدريس أمر إحالة ناجي هذا ضمن منهاجَي كليّات القانون والأدب ليروي عن مصر اليوم، ولكن أيضاً عن أحوال «الوطنيّة الذكوريّة» لمّا يُخدَش حياؤها. استأنف الإدعاءُ الحكمَ وكسب الجولة الثانية في سابقةٍ قضائيّة، فخرج الكاتب من المحكمة إلى السجن.
توهّم مواطنٌ القدرة على سجن شخصيّةٍ روائيةٍ عبر صاحبها، وتمكّن من ذلك. لا تهمّ هنا سوابق الأدب العربيّ، ولا تهم حريّة الإبداع. ليسا هما المستهدَفين. لا يهمّ إذا أبو النوّاس أغرق شعره بالجنس، لا يهمّ إذا انتشى على الورق منذ مئات السنين وبالعربيّة الفصحى. «حريّة الإبداع» هي جوابٌ على سؤالٍ لم يطرحه المواطن المخدوش أو وكيل النيابة. فقد انطلقا من فرضيّة أن لكلّ حريّةٍ حدوداً، وهما يمتلكان الحقّ بتعريفها. إن المهم في هذه المحاكمة هو وقوفها على مفارقةٍ عميقةٍ في القمع: غياب معايير العدالة في كلّ مجال، يكرّس إحلال العنف والقمع كيفما وحيثما اتفق، بالبناء على تحالفٍ محكيّ وغير محكيّ بين «السلطة» و «الشعب».
السلطات ليست فقط متمنّعة، وإنما كثيرها مخصخص. وتتمّ ممارستها يومياً بأدوات الذكوريّة الأبويّة تحديداً. أداة الأبويّة الأبهى هي العنف المبرّر، العنف «العادل»، العنف «الواعي»، أينما حلّ: يجنّ العنف فيهضمه المجتمع عبر منح هذا القمع صفاتٍ حميدة. أما هدف الأبويّة الأسمى فهو الألوهة، بما تمليه من سلطةٍ مطلقة وضبابيّة التعريف، إن في تحديد معنى الوطن، المعارضة، الجنس، أو المرأة. ضبابية التعريف تتيح إعادة تعريف «الصح» و «الغلط» مئات المرات يوميّاً ومطاطيّاً، تبعاً للحاجة. «الأخلاق العامّة» ضبابية وطيّعة. هي أشدّ ما يمكن لمجتمع أن يبتكره من سلطات. وهي التي لا يمكن إسقاطها في مواجهةٍ لأنها غير معرّفة، إذ تستمر لمّا يسقط مباركٌ ومرسيّ. هي التي تصون نظام الأب الحاكم الذي «يعرّف» المصلحة العامّة أكثر ولا يجوز إلا «السكوت» في حضرته («اسكتوا خالص»، قال الرئيس). «الأخلاق العامّة» هي جزءٌ من الدولة العميقة، يضمنها القضاء، تكرّسها البيروقراطية، «تصون» الشرف بالجريمة، «تصون» الأدب بالسجن. هي «الصح»، وهي الدليل إليه.
قطيعة لا مفرّ منها
التفاوض مع السلطات واجبٌ من أجل إصلاحٍ ممكنٍ، وهو ملحٌّ في أحوالٍ كثيرة. يتطلب اختيار السلطات التي يمكن التفاوض معها وتحديد أغراض التفاوض، بلا ضبابيّةٍ ولا «مسلّمات». في نواحي كثيرة من التضامن مع ناجي، حُدّد للتضامن سقفٌ يتخطّى موقع الجنس في الأدب تاريخياً. مثلاً، حملة الكتّاب والمبدعين/ات الداعية عن وعي إلى خدش الحياء. فالسلطة الأبويّة التي يتشاركها مع «الريّس» والضباط والعساكر كلُّ «مواطنٍ شريف»، تودي يومياً بكثيرين وكثيرات إلى العتم، بلا «حريّة إبداع» تصون خصوصيتهم/ن. وفي الفضاء العام، ألا تعتذر ممثلة عن فستانٍ ظهرت به لأنه «خدش الحياء»، أو صورةٍ التقطت لها تجافي «الأخلاق»؟ ألا تعتبر المثليّة تهمةً مثاليّة تبيح كلّ اعتداءٍ يليها، حتى أنها تبرّر القتل؟ وفي المقابل، ألم تسجّل النضالات المجتمعيّة انتصاراتٍ في سوابق قضائيّة، كما كانت الحال مع هند الحنّاوي في دعواها ضد الفنان أحمد الفيشاوي، التي أخرجت الزواج العرفيّ من عتم عاره الاجتماعيّ إلى قواعد المواجهة؟ في الواقع المباشر، لا مفرّ من التسلّح عن وجه حقّ بحريّة الإبداع لتحرير الروائيّ الأسير، تماماً كما نتسلّح بحريّة الصحافة للمطالبة بإطلاق سراح شوكان. لكن، حتى لو تمكّنّا من خطف ناجي منها، سلطة «الأخلاق العامّة» هذه هي سلطةٌ لا تنفك تتضخّم كلما داعبها حدثٌ. لمّا يتم استسماح «الأخلاق العامة» لكي ترضى بأكثر، لكي تمنع أقل، يتمّ أيضاً التأكيد أيضاً على استدامة سلطتها.
واحدٌ من أهداف العمل الثقافي هو تفكيك العواطف التي تغلّف السلطات القامعة وتتبناها. تردّ «الأخلاق العامّة» بسجن العمل الثقافيّ، ترويضه، تأكيد اليد العليا لها فيه. ونحن نمتلك معرفةً بحجم المواجهة، ونعرف أن ناجي ليس استثناءها ولا هو قاعدتها، لكنه مشهدٌ محوريٌّ في سياق محاربتها، وهو السابقة القضائية على مستوى محاكمة الخيال. ويبدو أنه قد كان متيناً في مواجهته مع سلطة «الأخلاق العامة» و «العاطفة الوطنيّة الشريفة»، إذ اضطرها على أن تواجهه في ملعبه: القول بأن المحاكمة تطال الخيال يتماشى جيّداً مع القول بأن «الأخلاق العامة» هي قيمةٌ ضبابيّة.
صحيحٌ أن صوت «الأخلاق» يعلو لما تهبط بنا شبكة الأمان الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، لكنه صوتٌ لا «يُعالَج» أو يختفي لمّا تزدهر الحياة في بلد. يكمن. يكمن حتى يومٍ ما، في أرضٍ ما، فيتجسّد عقائدياً كتنظيم، أو ينفلش كحياء، كدينٍ، كثقافةٍ شعبية. هذه المعركة، ليست معركةً ضدّ النظام فحسب أو من أجل الخيال فقط. هي معركةٌ في حربٍ طويلة ومعقّدة داخل المجتمع أيضاً. وليس غريباً أن تحلّ حول عنوان الجنس. فالجنس الحرّ، كما الحب، يؤكّد سلطة الفرد على نفسه. وهو تأكيدٌ يضع الجماعة وديكتاتوريتها الأبويّة في خطرٍ.. أو، على قلق.
تلك هي مواجهةٌ أصرّ ناجي على أن يخوضها يومياً، في مختلف أنواع كتاباته. وهو للأسف يخوضها معنا اليوم، عبر سجنه. الحريّة لأحمد ناجي.
.
يرصد «الانفعال الوطنيّ» هازئاً، ويفكّكه في كلّ قولٍ أو فعلٍ لصديقٍ وصديقة، يصطاد لحظاته مهما تجمّلت أو أتت حذرة. يستهدف في السياسة سطحها الوطنيّ ـ العاطفيّ، ذاك الذي يقدّس ويلعن ويرفع هتافاتٍ تُخرس الشكّ. وهو يفعل ذلك بسلاسةِ شرب الماء. لا يفتعل النقد، وإنما يقرأ الحياة على مستويين: ذلك الماديّ المستمرّ، وذلك «المفعَم» بعواطف الأحياء. يتحيّز للأول ولا يُهمل الثاني، فيشتبك معه. المستوى الماديّ في العلاقة مع الحياة أتاح له الوجود والتفكير، بينما تمكّن المستوى العاطفيّ «المفعَم» من حبسه في زنزانة، منذ أسبوعٍ تقريباً.
هبّةٌ عاطفيّةٌ وطنيّةٌ ذكوريةٌ واحدة في بدن «مواطنٍ شريفٍ» واحد، فتحت دفاتر أقسام الشرطة وأبواب المحاكم على ناجي. تَقرّر أن «حياء» هذا المواطن هو مقياسٌ حاكمٌ، يمارس القوامة على مئة مليون إنسانٍ وأكثر، بأدوات السلطة القضائيّة. فأدين ناجي بخدش الحياء، وهو اليوم سجينٌ في «طرة»، يحمل حكماً مدّته سنتان.
حياء هذا المواطن هو بعضٌ من فيض «الأخلاق العامة». و «الأخلاق العامة» هنا، هي المساحة التي يشترك فيها المحكوم بجريمة الحاكم، بفخرٍ شديد وسعادةٍ جمّة. وطبعاً، إن لم يكن ذلك «لأختك، لأمك، لابنتك»، فسيكون «علشان خاطر مصر».
مطبخ «الأخلاق العامّة»
عنوان رواية ناجي الجديدة هو «استخدام الحياة». أجازتها سلطة «الرقابة»، ونشر ملحق «أخبار الأدب»، حيث يعمل ناجي صحافياً، فصلها الخامس. مواطنٌ قرأ الفصل، وفيه ذكرٌ لمشهدٍ جنسيّ وجلسة حشيش. نشف ريقه، اضطربت ضربات قلبه، وأصيب بـ «إعياءٍ شديد وانخفاضٍ حادّ في الضغط». فاتّهم ناجي بأنه خدش حياءه وحياء المجتمع المصريّ. هذه أقواله المنشورة. وتلك هي عوارض «خدش الحياء»، إذاً. حياء رجلٍ واحد هو حياء مجتمعٍ كامل، بأعماره وخلفيّاته وتجاربه المختلفة. هذا المواطن صاحب دقّات القلب السريعة، سمح لنفسه بأن يحكي باسمنا كلنا. هذا معقولٌ كتجاوزٍ فرديّ، فجميعنا نلجأ إلى استخدام «نون الجماعة» أحياناً. لكن القضاء أتى وبارك إدعاءه هذا، صاغه على شكل دعوى صالحة، لها مذنب وبريء، لها حيثيّات ودقّات قلب. تجسّدت فيه «الأخلاق العامّة»، وهي تفعل ذلك. هي تنفعل في شخصٍ كالعاطفة الوطنيّة، وتمنحه قوة ألف رجل. هرع «المواطن الشريف» إلى الشرطة التي هي في خدمة حياء الشعب، وبلّغ عن الكاتب. بالأحرى، هو بلّغ عن شخصيّةٍ روائيّةٍ متّهماً إياها بـ «تعاطي» الجنس والحشيش.
للوهلة الأولى، تمّ التعامل مع المسألة برمّتها كحادثةٍ أقرب إلى الدعابة، تشبه مثلاً البلاغ الذي قدّمه هذا الخطاب العاطفيّ الوطنيّ ضد «أبلة فاهيتا»، الدُمية. أقرب إلى الدعابة المرّة، مثلاً لمّا خرج رجلٌ اسمه عبد العاطي على الملايين ينبئها عن الإعجاز الطبّي لسيخ الكفتة العسكريّ. أقرب إلى الدعابة، كحال تلك السيّدة التي تهدّد أوباما، أو تلك العبارات الغامضة التي قالها رئيس («صبّح على مصر بجنيه»، مثلاً). لكن، يتضح لنا تباعاً أن هذه السلسلة من «الدعابات» باتت تصنع نهجاً، سياقاً، باتت تطحن الطفل الفقير إبن الأربعة أعوام بالمناضلة التي تعمل على تأمين مستقبل أطفال الشوارع، الثائرة التي سُجنت لأنها تعارض سجن المعارضين/ات بصديقٍ اختفى قسراً، وبخال صديقٍ اختفى أيضاً وقسراً، ... لمّا يحشد الأطباء ضد سحلهم/ن في المستشفيات، لا يُستدعى ولو أمين الشرطة للتحقيق، ثم يُطلق سراح قاتل شيماء التي حملت الوردة وماتت وافقةً بين يديْ زميلها في الحزب. لمّا يعلو النقد ضد أمناء الشرطة، يصدر أمرٌ بإقفال مركز «النديم» لتأهيل ضحايا التعذيب، وتصير جرائمهم أعلى صوتاً، انتقاميّة، تصيح بدوام السلطة. ليست طرائف وعجائب، ولا هي فوضى في الحكم. هو تفاقمٌ في نهجٍ حاكمٍ منذ عقود. يتفاقم. كلّما نادى صوتٌ عليه ليهدأ، يعلو أكثر ليلغي الصوت. يردح بعنفٍ، متغنيّاً بضرورات الجريمة. هنا تحديداً، تُعجن «الأخلاق العامة». وهنا تحديداً، يُصاغ «الحياء العام».
خصخصة السلطة الضبابيّة
المشهد الجنسيّ الذي اختاره ناجي للفصل الخامس، هو مشهدٌ يُحيط بالبديهيات، لا يفاجئ الخيال بالغرابة، وقد أتى طبعاً بما يخدم فكرة الكاتب وسياقاته. في القضية، يعني ذلك أن مجرد ممارسة الجنس هو ما خدش حياء المواطن. أخرج الشخصيّة من الرواية، جعلها رجلاً أمامه، واقتاد هذا الرجل إلى المحكمة، ثم سجنه. بشجاعةٍ وجمال، قال غلاف مجلة «القاهرة»، التزاماً بشعار واحدةٍ من حملات التضامن مع ناجي: «لا لمحاكمة الخيال». لكن دلالات المحاكمة، في العمق، لا تطال الخيال. الدعوى القضائيّة أتت لتحاكم الحياة، لا الخيال. هذا الرجل يحاكم ناجي، لا على ما تخيّله، وإنما على ما يفترض أنه عاشه. لا بد أن شخصين في مصر مارسا الجنس، بلذّة. يحاكَم الشخص لا الشخصيّة، لأنه مارس الجنس وشرب الحشيش بتلذّذٍ وتلقائية. يحاكمه، لأنه خصّص للمسكوت عنه في مصر الراهنة مساحةً في الكلام. ليس ناجي وحيداً في فعل ذلك، لكن ناجي هو اليوم سجين ذلك.
في المحاكمة الأولى، قصد بعضٌ من أبرز أدباء مصر المحكمة، ليشرحوا عن الفارق بين الخيال والواقع، وعن أصالة الكتابة في الجنس ضمن الثقافة المصرية والعربية. وضع أدباءٌ من عيار صنع الله إبراهيم رواية «استخدام الحياة» في سياقها الأدبيّ، وعلى تناقضٍ مع السياق «الجنائي» الذي حُشرت فيه. اقتنع القاضي حينها وأصدر حكماً بالبراءة قال فيه: «ما يراه صاحب الفكر المتشدد خدشاً للحياء، لا يراه صاحب الفكر المستنير كذلك». لكن النيابة العامة استأنفت، علماً أنها ترى أن ناجي «نفث شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجّه خبيث»، «انتهك» الأخلاق «وأغرى بالعُهر»، وخرج عن «عاطفة الحياء»، «فولد سِفاحاً مشاهد صوّرت اجتماع الجنسين جهرة»، «حتى عمّت الفوضى وانتشرت النار في الهشيم». بالمناسبة، يجب أن يتم تدريس أمر إحالة ناجي هذا ضمن منهاجَي كليّات القانون والأدب ليروي عن مصر اليوم، ولكن أيضاً عن أحوال «الوطنيّة الذكوريّة» لمّا يُخدَش حياؤها. استأنف الإدعاءُ الحكمَ وكسب الجولة الثانية في سابقةٍ قضائيّة، فخرج الكاتب من المحكمة إلى السجن.
توهّم مواطنٌ القدرة على سجن شخصيّةٍ روائيةٍ عبر صاحبها، وتمكّن من ذلك. لا تهمّ هنا سوابق الأدب العربيّ، ولا تهم حريّة الإبداع. ليسا هما المستهدَفين. لا يهمّ إذا أبو النوّاس أغرق شعره بالجنس، لا يهمّ إذا انتشى على الورق منذ مئات السنين وبالعربيّة الفصحى. «حريّة الإبداع» هي جوابٌ على سؤالٍ لم يطرحه المواطن المخدوش أو وكيل النيابة. فقد انطلقا من فرضيّة أن لكلّ حريّةٍ حدوداً، وهما يمتلكان الحقّ بتعريفها. إن المهم في هذه المحاكمة هو وقوفها على مفارقةٍ عميقةٍ في القمع: غياب معايير العدالة في كلّ مجال، يكرّس إحلال العنف والقمع كيفما وحيثما اتفق، بالبناء على تحالفٍ محكيّ وغير محكيّ بين «السلطة» و «الشعب».
السلطات ليست فقط متمنّعة، وإنما كثيرها مخصخص. وتتمّ ممارستها يومياً بأدوات الذكوريّة الأبويّة تحديداً. أداة الأبويّة الأبهى هي العنف المبرّر، العنف «العادل»، العنف «الواعي»، أينما حلّ: يجنّ العنف فيهضمه المجتمع عبر منح هذا القمع صفاتٍ حميدة. أما هدف الأبويّة الأسمى فهو الألوهة، بما تمليه من سلطةٍ مطلقة وضبابيّة التعريف، إن في تحديد معنى الوطن، المعارضة، الجنس، أو المرأة. ضبابية التعريف تتيح إعادة تعريف «الصح» و «الغلط» مئات المرات يوميّاً ومطاطيّاً، تبعاً للحاجة. «الأخلاق العامّة» ضبابية وطيّعة. هي أشدّ ما يمكن لمجتمع أن يبتكره من سلطات. وهي التي لا يمكن إسقاطها في مواجهةٍ لأنها غير معرّفة، إذ تستمر لمّا يسقط مباركٌ ومرسيّ. هي التي تصون نظام الأب الحاكم الذي «يعرّف» المصلحة العامّة أكثر ولا يجوز إلا «السكوت» في حضرته («اسكتوا خالص»، قال الرئيس). «الأخلاق العامّة» هي جزءٌ من الدولة العميقة، يضمنها القضاء، تكرّسها البيروقراطية، «تصون» الشرف بالجريمة، «تصون» الأدب بالسجن. هي «الصح»، وهي الدليل إليه.
قطيعة لا مفرّ منها
التفاوض مع السلطات واجبٌ من أجل إصلاحٍ ممكنٍ، وهو ملحٌّ في أحوالٍ كثيرة. يتطلب اختيار السلطات التي يمكن التفاوض معها وتحديد أغراض التفاوض، بلا ضبابيّةٍ ولا «مسلّمات». في نواحي كثيرة من التضامن مع ناجي، حُدّد للتضامن سقفٌ يتخطّى موقع الجنس في الأدب تاريخياً. مثلاً، حملة الكتّاب والمبدعين/ات الداعية عن وعي إلى خدش الحياء. فالسلطة الأبويّة التي يتشاركها مع «الريّس» والضباط والعساكر كلُّ «مواطنٍ شريف»، تودي يومياً بكثيرين وكثيرات إلى العتم، بلا «حريّة إبداع» تصون خصوصيتهم/ن. وفي الفضاء العام، ألا تعتذر ممثلة عن فستانٍ ظهرت به لأنه «خدش الحياء»، أو صورةٍ التقطت لها تجافي «الأخلاق»؟ ألا تعتبر المثليّة تهمةً مثاليّة تبيح كلّ اعتداءٍ يليها، حتى أنها تبرّر القتل؟ وفي المقابل، ألم تسجّل النضالات المجتمعيّة انتصاراتٍ في سوابق قضائيّة، كما كانت الحال مع هند الحنّاوي في دعواها ضد الفنان أحمد الفيشاوي، التي أخرجت الزواج العرفيّ من عتم عاره الاجتماعيّ إلى قواعد المواجهة؟ في الواقع المباشر، لا مفرّ من التسلّح عن وجه حقّ بحريّة الإبداع لتحرير الروائيّ الأسير، تماماً كما نتسلّح بحريّة الصحافة للمطالبة بإطلاق سراح شوكان. لكن، حتى لو تمكّنّا من خطف ناجي منها، سلطة «الأخلاق العامّة» هذه هي سلطةٌ لا تنفك تتضخّم كلما داعبها حدثٌ. لمّا يتم استسماح «الأخلاق العامة» لكي ترضى بأكثر، لكي تمنع أقل، يتمّ أيضاً التأكيد أيضاً على استدامة سلطتها.
واحدٌ من أهداف العمل الثقافي هو تفكيك العواطف التي تغلّف السلطات القامعة وتتبناها. تردّ «الأخلاق العامّة» بسجن العمل الثقافيّ، ترويضه، تأكيد اليد العليا لها فيه. ونحن نمتلك معرفةً بحجم المواجهة، ونعرف أن ناجي ليس استثناءها ولا هو قاعدتها، لكنه مشهدٌ محوريٌّ في سياق محاربتها، وهو السابقة القضائية على مستوى محاكمة الخيال. ويبدو أنه قد كان متيناً في مواجهته مع سلطة «الأخلاق العامة» و «العاطفة الوطنيّة الشريفة»، إذ اضطرها على أن تواجهه في ملعبه: القول بأن المحاكمة تطال الخيال يتماشى جيّداً مع القول بأن «الأخلاق العامة» هي قيمةٌ ضبابيّة.
صحيحٌ أن صوت «الأخلاق» يعلو لما تهبط بنا شبكة الأمان الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، لكنه صوتٌ لا «يُعالَج» أو يختفي لمّا تزدهر الحياة في بلد. يكمن. يكمن حتى يومٍ ما، في أرضٍ ما، فيتجسّد عقائدياً كتنظيم، أو ينفلش كحياء، كدينٍ، كثقافةٍ شعبية. هذه المعركة، ليست معركةً ضدّ النظام فحسب أو من أجل الخيال فقط. هي معركةٌ في حربٍ طويلة ومعقّدة داخل المجتمع أيضاً. وليس غريباً أن تحلّ حول عنوان الجنس. فالجنس الحرّ، كما الحب، يؤكّد سلطة الفرد على نفسه. وهو تأكيدٌ يضع الجماعة وديكتاتوريتها الأبويّة في خطرٍ.. أو، على قلق.
تلك هي مواجهةٌ أصرّ ناجي على أن يخوضها يومياً، في مختلف أنواع كتاباته. وهو للأسف يخوضها معنا اليوم، عبر سجنه. الحريّة لأحمد ناجي.
.