محمد عبد الرحيم - قضية الروائي أحمد ناجي: مصر تعيش العصور الوسطى بالعودة إلى محاكم التفتيش

الحكم على أربعة أطفال من الأقباط، فضلا عن مُدرسهم بالحبس خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان، لتقديمهم عملا دراميا يسخر من تنظيم «داعش». الشاعرة فاطمة ناعوت محكومة بالسجن لمدة ثلاث سنوات، بتهمة ازدراء الإسلام لانتقادها ممناسك دينية. إسلام البحيري يقضي عقوبة السجن لمدة عام لتجرؤه على نقد التراث. وأخيراً وحتى اللحظة الراهنة الحكم على الروائي أحمد ناجي بالحبس سنتين بتهمة خدش الحياء العام، إضافة إلى إغلاق العديد من المراكز الثقافية، والمنع من السفر، وحالات الاختفاء والخطف من الشوارع لكل صاحب رأي أو وجهة نظر تختلف مع النظام الحاكم. هذه لمحة سريعة مما تعيشه مصر الآن، في ظِل سلطة لا ترى إلا نفسها، ولا تعرف غير رأيها الأوحد، لم يحدث في تاريخ مصر أن تم حبس أحد بسبب رواية، وقد حدث، رغم أن دستورها الأخير يمنع ذلك، لكنه أيضاً حدث. المسألة لا تتعلق بأحمد ناجي وعمله الأدبي، بل توضح إلى أي مدى أصبح الجنون هو سمة هذه الأيام، التي أقل ما توصف به هو أنها أيام العصور الوسطى ومحاكم التفتيش. انتفض الكثيرون في الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعالمية لهذه السابقة الخطيرة ــ لا صوت لوزارة الثقافة أو اتحاد الكُتاب المصري ــ فالأمر تعدّى الشخص محل القضية، وأصبح أسلوب نظام الحُكم، الذي يستغل ويعمل على تجهيل المجتمع، ظناً منه أنه سيصبح في مأمن بادعاء وجه الفضيلة الزائف. هذه آراء بعض المثقفين والناشطين السياسيين، الذين يرون كارثة ما يحدث، وأن هذه المعارك الشائكة ستستمر، ولن تنتهي كما يحب أو يتوهم رُعاة الجهل العام.
أخلاق العصور الوسطى
بداية ترى المخرجة هالة جلال، أن حبس أحمد ناجي على خلفية أنه كتب رواية لم تعجب أصحاب الأخلاق له عدة أوجه .. أولاً هو فعل غير دستوري يفضح التجاوز عن الدستور والقانون واستخدام بعض أفراد أصحاب النفوذ والسلطة لفرض عقائدهم الشخصية على المجتمع، بحجة أن أغلبية الناس توافقهم، وهذا موقف خطر علينا جميعاً كمجتمع ودولة.
ثانيا عدم قدرتهم على التمييز بين التأليف والواقع، دلالة على فقر خيال واحتقار للإبداع الإنساني، ورغبة منهم لتحويله لأداة دعاية لمعتقداتهم وما سموه أخلاقهم، وهذا يُشكك في نزاهتهم كحراس للعدل. ثالثاً الوهم في إمكانية تأديب شخص لأنه كتب نصا لا يعجبهم، شيء مضحك كأنهم متصورون أنهم «ها يقفلوا علينا بالمفتاح».
ناجي مظلوم ظلما كبيرا ولا علاقة لهذا لا بشخصه ولا برأينا في إبداعه ولا مستوى كتابته، لا يوجد أحد على وجه الارض من حقه أن يدين شخصا ويحبسه عقاباً على خياله، هذا إهدار للعدل وإهانة للإنسانية واحتقار للإبداع ينتمي لعصور الجاهلية والعصور الوسطى التي أحرقوا فيها الساحرات. والأخلاق التي تستوجب حبس الناس للحفاظ عليها، هي أخلاق هشة ومبتذلة ولا تدعم إلا النفاق.
قهر الأغلبية
يقول الناشط السياسي تامر وجيه أتضامن مع الكاتب أحمد ناجي الذي حكم عليه بسنتين سجن لأنه نشر فصل من رواية «بيخدش الحياء العام»، وهذه التهمة من وجهة نظري هي التي تخدش الحياء العام. أحمد ناجي ليس أقلية في مجتمعنا. أحمد ناجي وأشباهه هم الأغلبية. وتقييد حريته في التعبير ليس قهرا من الأغلبية للأقلية. على العكس، هذا قهر من أقلية لكل المختلفين عن النموذج السائد، وهم الأغلبية. الأغلبية المختلفة عن النموذج اللي السلطة والقوى المسيطرة تصدره على إنه هو الصح .. نموذج الرجل المسلم السني الوسطي غير المثلي ابن الدلتا والوادي المحافظ المتدين المستقيم غير المعارض غير المتطرف.
أغلبية الناس ليست هذا الرجل: ستات، أقباطا، بروتستانت، شيعة، بهائيين، علمانيين، مثليين، بدوا، نوبيين، مش متدينين، يسمعوا موسيقا ميتال، يسمعوا موسيقا مهرجانات، ويكتبوا أدب ويعملوا فن غير مَرضي عنه، معارضين معتدلين ومتطرفين، يشتموا شتايم قبيحة .. إلخ. إجمع هؤلاء كلهم مع بعض، ستجدهم الأغلبية.
ويكمل وجيه قوله .. معركة حرية الإبداع معركة صعبة، لأن السلطة بتستخدم فيها مخزون المحافظة والرجعية داخل المجتمع، وتصحيه وتبروّزه، وتقول للناس بكل نفاق وحقارة: «يرضيكم ذلك، يرضيكم قيمنا وتقاليدنا تتعرض للتشويه على أيدي أولاد غير مسؤولين».
حياء الواقع وحياء الأدب
ومن ناحية أخرى يذكر الكاتب والروائي ناصر عراق قائلاً.. للأسف لم أقرأ سوى الفصل الخامس الذي أدخل ناجي السجن، ومع ذلك أرفض تماماً حبس أي كاتب على كلام أدبي منشور، ذلك أن خدش الحياء العام تهمة مطاطة من ناحية، والحياء في الواقع الاجتماعي الحقيقي غير الحياء في النص الأدبي، أي في الخيال من ناحية أخرى، ولا يصح ولا يجوز الخلط بينهما، فضلا عن أن تاريخنا الأدبي العربي الإسلامي يحتشد بنصوص كثيرة من الأدب المكشوف.. من أول ألف ليلة حتى نزهة المشتاق مروراً بنوادر الأيك. كلها كتب تراقصت فيها المفردات الجنسية الصريحة، ومع ذلك تقبّلها الأقدمون ولم يحبسوا أحدا. على أي حال لقد انتهى في العالم المتقدم حبس الكتاب هذا، لكن يبدو أننا لم ندخل بعد بساتين العصر الحديث بكل أسف.
شعب متديّن بطبعه
وترى الإعلامية والمهتمة بالشأن السياسي أسماء كامل.. في شقين للحديث عن رواية ناجي في رأيي، وللأسف تعليقات الناس مدخلة الموضوعين في بعض! الشق الأول الأدبي واللي أنا شايفاه مش بالدرجة، ويمكن مبتذل، بس مش عشان فكرة إنه ضد الحياء وما شابه من هذه التفاهات، الإيروتيكا شكل من أشكال الأدب، لأن ببساطة الأدب من الحياة اللي بطلها الإنسان، ونحن شعب لا يتميز بالحياء ــ أبيح بطبعه ــ بس هو تقريبا نفاق وازدواجية! وفي الوقت نفسه عندنا مخزون أدبي إباحي قديم كتير وعظيم.
دولة القيم وازدواجية الفكر الثوري
وتضيف كامل.. الشق الثاني يتمثل في أن ناجي من حقه يقول اللي هو عاوزه، وأي حد فينا من حقه كمان وعلينا كلنا أن نحترم بعض واللي عجبه يقرا واللي مش عجبه بلاها. ولكن كرهك أو نفورك من اللي بيقدمه ناجي ما يخليكش زي الأهبل تصفق للسلطة اللي بتقمعنا كلنا وتحضها على المزيد من القمع، في حين إنك موافق تماماً وانت شايفها بتعتقل وتقتل وتفسد وعامل مش واخد بالك! أو حتى لو أنت عامل ثوري ومعترض عليها في كده فما ينفعش تيجي تتواءم معاها في إنها تخرسنا، لأن ده يخليك شبهها، في أن لازم كل الناس تمشي على مزاجك.
وبالتأكيد المواقف دي هتخلي السلطة دايما كابسه على نفسنا وتخرسنا كلنا بحجة الأدب والأخلاق، لأنها عارفة ومتأكدة إن فيه مخاليق وعَبيد هتدعمها أول ما تشاور لها بالحِجّة إياها. من ناحية تانية المقاربة بين نقدك للنص اللي هي من حقك طبعا، وامتداد النقد ده لأنك تفوض السلطة في عقابها للناس على ما تكتب أو تفكر، هو ازدراء بشع لحرية التعبير والابداع، واللي لا تنفصل أبداً في سياقها عن نظام يميني محافظ عسكري، يدّعي دائماً بأنه حامي الأخلاق، في حين أنه بالحقيقة يفسدها بحمايته ودعمه للمفسدين. وطبيعي أن السلطة دي تعمل كده، لأن حرية التفكير تعني زيادة الوعي وبالتالي التمرد عليها، لكن من غير الطبيعي أن الناس خاصة مَن يدعون الثورية التورط في الأمر ده، أما العامة فانسياقهم مفهوم نسبة لنسب وعي متدني ومفاهيم زرعتها الأنظمة من الأساس، لتطلق الجماهير في مواجهة بعضها البعض وقت الحاجة.
أزمة مجتمع
يقول الشاعر ميلاد زكريا.. لم أقرأ الرواية، وتابعت انقسام مواقف المثقفين، فريق يرى وجوب الوقوف إلى جانب حرية الفن والإبداع بصرف النظر عن جودة النص، وفريق يرى أن الرواية لا تستحق المساندة لأنها رديئة من الناحية الفنية. وأنا شخصياً أساند حرية الكتابة وصاحبها، بصرف النظر عن أحكام القيمة. الحرية المشروطة ستجعلنا نوافق على منع نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم مثلا، استناداً إلى أن البعض يحكم على أعمالهم بالرداءة أو الكفر أو الإباحية، الحرية قيمة خالصة لا تتجزأ، لذلك نساند حق الكتابة، لأننا لسنا أوصياء ولسنا وكلاء الله على الأرض. أما الدولة، فهي في رأيي بريئة من هذا العار، إنه عار المجتمع كله، المجتمع الذي أنجب أشخاصاً يُدبّجون حيثيات الاتهام بلغة من العصر الجاهلي، وقضاة يظنون أنهم حراس الفضيلة. أزمتنا مُجتمعية قبل أن تكون سياسية.


* القدس العربي
February 28, 2016



 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...