محب جميل - حكاية كابوسيّة عن أمّ المدن

https://alcarma.files.wordpress.com/2009/03/click-here.gif?w=125&h=70
يواصل أحمد ناجي (1985) خلق كوابيسه الخاصة وعوالمه المظلمة التي بدأها في روايته الأولى «روجرز» (دار ملامح – 2007)، ليصوّر لنا رحلة عجائبية لشاب في شوارع القاهرة بعد إحدى الكوارث المناخية التي غطت معالمها بالرمال. في روايته الجديدة «استخدام الحياة» (منشورات مرسوم – 2015)، يجعل ناجي القاهرة مسرحاً للحدث. لكن هذا النصّ عصيٌ على التصنيف، ولا يعترف بكليشيهات الكتابة السائدة. ضفائر ملغزة يغزلها الروائي الشاب ببطء ليُشكل في النهاية حكاية كابوسيّة عن القاهرة أم المدن. يترافق هذا النصّ مع مجموعة من الرسوم التوضيحية التي تتداخل معه أو تخرج عن طوعه أحياناً لتكمل الحكاية المركزية.

يمكن اعتبار الرواية هجاءً طويلاً للعاصمة بكل ما تحمله من اضطرابات وتناقضات وعشوائية على مستوى الثقافة والشوارع والعمارة. على طول الخط الروائي، يحاول ناجي خلخلة المفاهيم الثابتة لدى القارئ من خلال قصة بسّام بهجت الذي يجد حاله في حالة غرامية معّقدة يحاول فك خيوطها على امتداد الرواية. خلال ذلك، يشتبك مع إحدى الجمعيات التي تعمل في مجال العمارة، وتطوّر أسلوباً جديداً للتعامل مع عشوائية القاهرة. الحكاية المركزية تدور في ثلاثة أزمنة بين الحاضر والماضي بتفاصيله والمستقبل. تتشكل الرواية من عشرة فصول مُفتتة إلى مقاطع صغيرة عدة، لكن ناجي أحدث حالة من اللانمطية والتشظي في السياق، كأن الحدث الروائي شبيه بمكعبات «البازل» التي تحتاج القارئ ليجمعها كي تتكون الصور النهائية للحكاية.
مغامرة بسام في قلب المدينة هي محاولة للتعامل مع الوضع المزري الذي آلت إليه الأمور. لكن حياته مليئة بالعديد من الشخوص التي يمثل كل واحد منها منعطفاً في الرواية. هناك ريم التي تصلها رسالة من هاتف بسّام مفادها: «أحتاج 400 جنيه ضروري جداً. مطعم «ماجو» شارع شامبليون. بكرة الساعة 1». سيتضح لاحقاً أن ريم التي كانت على علاقة مع بسّام، تعاونت مع المنقذين أعضاء الجمعية الذين التقتهم وعرفوا من خلالها بعض المعلومات عن بسّام. ريم هي فتاة درست في كلية الألسن؛ حيث تعرفت إلى الشاب الذي أحبته سراً. وكعادة كل الشباب، كان الشاب ساخطاً على حال البلد، يتحدث عن السياسة بعنف، ولا يجد حاله هنا. أما هي، فكانت من أسرة محافظة لم تتكيف مع الروتين اليومي، فقررت المغامرة. قررت ريم السفر إلى قطر نتيجة لليأس.
هناك، أمضت ثلاثة أشهر بين الكورنيش الخالي من البشر والمولات التجارية العملاقة، لكنها في النهاية فقدت مذاق الحرية، فقررت العودة إلى مصر. تزوجت ريم من زميلها الشاب الجامعي لا بهدف الحب، بل بدافع اليأس والارتياب. لم تكن العلاقة على ما يُرام، فقررا الانفصال مرات عدة نتيجة الضغوط والمشاكل اليومية.
ما يُميز هذا النص حقاً هو قدرة ناجي على خلق مستويات عدة من اللغة بين العامية والفصحى. ثم تختفي هذه اللغة المكتوبة لتحلّ محلها مجموعة من الرسوم للفنان أيمن الزرقاني (1982) لتشكل مسار الحدث ضمن وحدة عضوية متناغمة، حيث يتداخل النصّ مع الصورة لتنتج الرواية المصورة.
بعد مغامرة طويلة على أنقاض القاهرة، يلتقي بسّام بإيهاب حسن، أحد أفراد الجمعية التي تلخص مهمتها في القاهرة في صناعة سلسلة من الأفلام التسجيلية عن عمارة المدن، وخصوصاً القاهرة أم المدن. إيهاب شخصية محورية في النص. هو أستاذ الأدب المقارن والنقد الثقافي الذي يهتم بالعمارة الحديثة وفلسفتها. كما أن لديه قدرة فائقة على التوغل في ثنايا النفس ليعرف ما تفكر فيه، عدا أنّه شخصية شديدة الجاذبية خصوصاً مع النساء. أما تلك الجمعية المعمارية التي تشبه التنظيم السري، فتحمل في جعبتها تاريخاً من الأسماء والبطاقات والمعرفة المتراكمة عبر آلاف السنين حول المدن والمعالم الإنسانية التي كان لها دور كبير في تأسيس الجمعية.
لا ينفي السارد بسّام بهجت تورط تلك الجمعية في افتعال كوارث بيئية بهدف إعادة تدوير عمارة المدن من جديد. كان أحد حلول إعادة مسار الحياة في القاهرة إلى طبيعتها، هو التخلص من نهر النيل إلى الأبد، وتغيير المسار الذي تحرك خلاله. وبذلك تتجمع التكتلات السكانية في نطاقات جديدة. أرفق ناجي روايته بمعجم داخلي صغير عن شخوص الحياة الجديدة في القاهرة؛ كائنات مشوّهة أفرزها واقع مكبوت مزيف. إنها «حيوانات» القاهرة: «كلاب السكك، الفتاة المحجبة، الصراصير، وحيد القرن البريّ، والتاكسي»…. نجح ناجي في جعل السرد في غاية المرونة والواقعية، فالألفاظ المستخدمة جعلت الحكاية المروية أشبه بالكابوس الذي لا مفر منه. لكن يبدو أن الواقع المُعاش أكثر قسوةً من الخيال. يتميز هذا النصّ بجو فانتازي يشبه في تراكيبه «ألف ليلة وليلة».
لا يعدك أحمد ناجي في هذا العمل بشيء إلا بالمغامرة والكابوسية، ينهل من فيض الواقع ما يريده، ويترك الحواشي لتكمل ثقوب النصّ المتعمدة. إنه عمل صادم، يتجاوز قوالب التصنيف ولا يعتمد اللغة التقريرية في الوصف، جاعلاً من النصّ الروائي أفقاً رحباً بلا كليشيهات.




—- –
نشرت في الأخبار اللبنانية
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...