نعيم عبد مهلهل - موناليزا وسحابةُ شِعرْ....!

لا أفتراض، بل هي حقيقة أنَ الجمال أول مفردة أحبها آدم حين شعر أن حاجته الى الأنثى هو حاجته الى مزيدٍ من الحياة، وحواء ( الأنثى ) تكررت مرتين، واحدة حين أنجبت من رحمها قابيل وهابيل، والثانية حين أبتسمت بسحر أمام ليوناردو دافنشي ليرسمها، وبين هاتين الهوتين من التاريخ والميتافيزيقيا ولدَ الشَعر والشاعر .
مع الشِعرْ أرتدِ أرث ما تملك من القبعات وستبدو جميلا، فليس هناك منفى أجمل من قصيدة تعذبكَ وتنأى بكَ في سجن أحلامكَ، وليس هناك أصفى مطراً من ذلكَ الذي ينثهُ الشعر على
رؤوس الشعراء والعشاق والفقراء ومنتظري فوائد دفاتر التوفير. وغير ذلك يصبح الشعر امرأة ترتدي فستان الحياة وتستعرض بمهارة عارضاتِ ازياء لوران فتنتها الصوفية لتجعلكَ غائبا عن الوعي كالذي تلدغه افعى من مطاط. أن الفزع الذي صنعته الأفعى هو ذاته الذي أصاب ليوناردو دافنشي أمام آلهة الجمال الفلورنسية التي لم تفتح كتابا في حياتها، ولكن عينيها تشعان بتعابير حسية وأنثوية هائلة وقصائد أمتدت عبر عصور لتؤثر في أحداث العالم. حتى قيل أن سرقة لوحة الموناليزا من متحف اللوفر في بدايات القرن العشرين كادت تؤدي الى حرب عالمية قبل ان يشعلها متطرف صربي أطلق النار على ولي عهد النمسا.
الطوفان الذي حدث في بدء الخليقة تركَ للإنسان شيئين يديم فيهما وجوده، ( الشعرُ والسيف )، فمن القصيدة ولد الحب ومن السيف ولدت السلطة، ولأني تركت غرفتي في دائرة النفوس وكنت فيها أحصي حسراتي وسكان مدينتي، ركبت قارب القصيدة ونشرت شراع رغبتي وقد منعني رئيس القسم من تعليق صورتها على الجدار، وقال: هذا السحر يلهي حتى الشياطين، فكف عن أحلامك بالسفر الى باريس والوقوف على بعد خطوة من لوحتها. انسى ذلك وأبدأ بتدقيق سجلات القيود، فقد أظهرت الحاسبة الشيطانة أن ربع مليون أنسان وهمي في هذه المدينة يستلم موادا غذائية في البطاقة التموينية.
ابتسمت. كان القيد العام أضخم من هيكل زقورة أور، وبالرغم من هذا فتحته لأجد أول مواطنة تحمل أسم ( شلتاغة عبادي منحر ) تولد 1878 م. ومازالت على قيد الحياة.
يا لهذا العمر الطويل، ولدت في ذات العام الذي ولد فيه سان جون بيرس.
وتعود الذاكرة. من موناليزا، الى بيرس، الى الناصرية، الى أحلامكم ايها المغدورون من شهداء الشوارع، وأيضا تبرز الى الساحة امرأة من ياقوت، وقي ليلة باردة كالثلج تفتح لك صدرها وتقرأ.
تولد الرغبات مثلما تولد السُحب، وعندما تمطر ستغسل عن ذاكرة الأنسان ذاكرة الحرب. وهي تهمس بشهوة الجنوب كله: ليس هناك آدمي لا يرغب بيّْ، حتى الذي رأيته فوق جبل حصار وست وقد قسمته الشظية الى نصفين. ا بما تحلم .
أنا امرأة أشعر في حاجة الذكر ليكون مع قصيدة أو أطلاقة يريد أن ينهيَّ فيها هذا الحزن المتراكم على أجفانه كثلج شتاء بائس، لكن الحيرة تبقى أكثر القا من الخوف لأنها في النهاية ستكون قرارا ما، وقراركَ بعد الموناليزا أنا.
الآن أغلق كتاب صدركَ وأعيدُ للأزرار قدسية الشرق، لتبتسم وتقول برغبة مفضوحة: ألم تشتق إليْ.
قلت وقد أعياني اللهاث كعداء مارثون: كيف لا أشتاق وأنتِ تسكنين الخوذة ورأسي.؟
قالت: وهل أقترب الموت منكَ مرة وتذكرتني؟
ــ في كل مرة أجد الموت أمامي مثل يافعة طريق، بندقيتي لم تزيحه، عيناكِ من يزيحانه عني.
أبتسمت. النجوم تراقصت وكأن حفلاً ملكيا في قرى القصب في جنوب اهوار عينيك او ذلك الذي نسمع موسيقى كمانه في صالة من صالات الرقص في فرساي أو في بلاط الخان المغولي قبلاي خان وهو يشتعل مرحا ودهشة حين كان ينصت بذهول لحكايات الرحالة الفلورنسي ماركو بولو، لكنه نسيَّ أن يحدثه عن صعقة الكهرباء التي سكنت جسد دافنشي حين رأى الجيكوندا لأول مرة، ولو نقل هذا للخان لسقط قبلاي خان مصعوقا أيضاً.
وبعيدا عن كل هؤلاء فأن الطقس الأقرب الى دمعتي قد بدأ فعلا فوق جبل حصاروست حيث كان الجنود يتراقصون رغبة في الحياة وكان الموت يلاحقهم مثل ظل لجسد لايد أن تلاحقه المعاطف السميكة تحت أضواء الشارع الخالي، حيث كانت تسمع خطوات الموت مثلما تستمع الرصفة خطوات حارس لي هرم، لكنه اصر ان يموت في ليل الشوارع الخاوية من رسائل العشاق التي يرمونها تحت الشبابيك آخر الليل، فلقد ذهب الجميع بحفالات صنعت في المانيا الشرقية تسمى الأيفا.
لكن الحياة لاتبقى مع كل من يتمنى إذ كانت تودعهم بالدموع، وكنت أحاول حمايتهم من الشظايا وقدر الرصاص المؤلم، وفي الليل كنت أعيدُ قراءة رسائلكِ وما يمنحه الشِعرُ من جنون في استعادة لحظة الأشتياق والذكريات.
أبي يقول: كُنْ جدير بما تحلم.
ولأن أبي يكتب الشعر بالفطرة قال ذلك، ولو كان جزارا مثلا لقال: كن جديرا بما تذبح ، فالقصيدة لن تجني خرافا أبدا، بل تجني الصعلكة وعينيكِ وقبلة على الحساب.
هاهي لحظة الشوق تكشف لي أوراقا جديدة عندما همست الموناليزا بمفردات لاتينية عن أنشودة كنائسية تقول: للذين يموتون من أجل حبيباتهم خشب الصليب، والذين يموتون من أجل الوطن الصليب كله، والذين يموتون من أجل الله لهم الصليب ويسوعه.
هبطت درجة الحرارة فوق حصاروست عشرة تحت الصفر في ليلة عيد الميلاد.
جيوكندا، الذي أقوله لكِ: أن الذين رحلوا قبل ليلة، من أجل ثلاث، الله والوطن ونساء أحبوهن كما تحب النجمة أول الليل.
وهكذا يتغنى فمها بالقصائد تباعا وعندما تصل الى ما يقوله رامبو صبي شارفيل: من رقة الحس ضيعت أيامي .
أنهض ثملاً بجنون رغبة تمني شفتيها وحرارة النهدين خلف قميصها الموسلين الأبيض، وأغيب في أودية الثلج وأبحث عنها فأراها معلقة بغصن شجرة بلوط، وحتى أصل اليها عليَّ أن أغرق في الثلج وهذا ما لايحسنه جنوبي مثلي، وتبقى هي وحيدة، وأنا أيضا لن يبقى معي سوى هذا الكائن الأخضر. الشِعرْ رفيق الليل وموسيقى الذهن والكبسولة الوحيدة التي تشتغل على كل مناطق الجسد. وبعد. لتكن القصيدة امرأة أزاول معها طقس الهذيان والانفعال الذي يصيب أبداننا يوم يقال لنا: تهيأوا الليلة سيكون عليكم أستعادة جناح الراقم الأيمن.
في الحرب تكتشفُ أن الموت هاجس طارئ، وبعضهم يجعله حدثا مؤجلاً، ولكنه عندما يكون حقيقيا يخلق عاصفة من الهذيان، وفي أحيان يشل الذاكرة والأطراف ويتمادى أكثر حين يمزق رسائل الحب ويرغب بحرق صورتها المتأرجحة على غصن شجرة البلوط.
فيما أنا مع الحب لا أكتم أي سِرْ، ومع الشعر لا أعرف سوى أني أكثر وضوحا من قمر مكتمل، ومع الجمال سوى هذه الرغبة الخارقة التي يسمونها التعري. لهذا سأقف..!
أن حدود رغبتي هي جنون من عشب وسحابة شِعر من سماء الكتب أسقطت على قبعتي مزنها، وسأغسل بها وجهي وسأنسى أنهم يطلبون مني واجبا قتاليا، وسأفعل ما يحلم فيه العشاق، أصطاد نجمتين ومنهما سأصنع عقدكِ يوم يطلب أبوكِ مني انا المفلس مهراً غالياً..!
والأن يوقظ الشعر المفردات النائمة وأنتَ ، حتى تبقى مع الحلم وتحت أجفانكَ المرمرية ستكتب: موناليزا، أيها الكبرياء الجنوبي الوافد الى الشمال بعربة من ثلج ودموع أمهات جنوبيات، خذي الرغبة أنى تشائين، وأبقي لجسدي المتهالك من خوفه أن يلعن الحرب وصناعها علنا، أيقي لجسدي المتهالك شهقة أطلقها في أفواه من غادروا بعربات الفردوس الى حدائق جنة دلمون، فالذي تسقبله امرأة، لابدَ أن تودعهُ حرب............!


.




بورتـريـه شخصـي للفنانة الروسية زينـيدا سيـريبـريكـوفا، 1910
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...