نقوس المهدي
كاتب
عقب صدور رواية “استخدام الحياة” في القاهرة بوقت قليل، حدث أن غرقت العاصمة المصرية لأوّل مرّة ربما في عاصفة ترابية شديدة ما لبثت أن هدأت، لكنها كانت فرصة لتندّر أحمد ناجي كاتب الرواية في صفحته الشخصية على “فيس بوك” على الأقدار والترويج الساخر للرواية بأنها تنبأت بالأحداث. بعدها بفترة قصيرة جرى العمل على إنشاء قناة السويس الجديدة وما تابعها من حديث عن تصميم عاصمة جديدة لمصر كعاصمة اقتصادية، وهو ما تصوّره أحداث الرواية وتقترحه في سياق حكاية البطل بسّام بهجت الذي تسوقه الأقدار دون أي إرادة منه مع مجموعة متعددة الجنسيّات تنوي إعادة تشكيل المدينة ونقل عاصمتها والتحكّم في عمارتها وتعميرها بل بدأت بالتأثير على المناخ وتكييفه من أجل تحقيق مطلبها. ذلك كلّه عبر جمعية متخيّلة اسمها “معماري المدينة”. هذا التقاطع الساخر بين الواقع والحكاية الروائية أو التخييل أخذ يتنامى من حين لآخر، نظرا لموضوع الرواية الضاغط يوميّا. لكن قطعا لم يرد بذهن المؤلف أن تُقرأ روايته “استخدام الحياة” – دار مرسوم توزيع دار التنوير 2014 – بوصفها مقالا في صورة اعترافات! وها هو ناجي (1984) بعد عام من صدور الرواية يمتثل أمام المحكمة المصرية (14 نوفمبر الجاري) بتُهمة “خدش الحياء العام”!
البلاغ الذي قُدّم ضد أحمد ناجي ويعمل صحافيا أيضا لم يستند إلى الرواية، ولا يعترف بأنها رواية، استندت المحكمة إلى فصل من الرواية نشرته جريدة أخبار الأدب ضمن ملف عن القاهرة، وعلى أساسه يُحاكم ناجي وفق المادة 178 مُكرّر التي تنص على “الحبس مدّة لا تزيد عن سنتين وغرامة لا تزيد على عشرة آلاف جنيه لكل من ينشر أو يوزّع بقصد الاتجار مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إشارات رمزية إذا كانت خادشة للحياء العام”. وهي المادة ذاتها التي خضع لها سابقا مجدي الشافعي صاحب الرواية المصوّرة “مترو” 2008، وهو ما أدّى في حينها إلى مصادرتها وتغريم المؤلف والناشر. وللمصادفة فإن “استخدام الحياة” رواية مصوّرة أيضا. وعلى خلفية ذلك تُجرى وقائع مؤتمر “لا لمحاكمات التفتيش” اليوم الثلاثاء في نقابة الصحافيين المصريين تضامنا مع هذه القضية وكل الصحافيين المهدّدين.
***
في “استخدام الحياة” يتخلّى أحمد ناجي عن اللاموضوع لكنه لا يتخلّى عن اللعب بالخيال (بحر صحراء أكتوبر البرتقالي، الأسماك البريّة ذات الهياكل العظمية، خليج دالي وأفيال البحر سيقانها ترتفع لعشرين مترا وغيرها من الصور). في “روجرز” رواية أحمد ناجي الأولى – دار ملامح 2007 – بدأ بلُعبة استدعاء ألبوم بينك فلويد لخدمة فكرة الحنين. ولم يكن يعرف إلى أين ستقوده اللعبة فقط يتكوّن النص. لكنه هذه المرّة استغرق أربع سنوات حتى يُقرّر نشر روايته الثانية التي يمكن قراءتها بوصفها مرثيّة هجائية للمدينة البائسة. يقول ناجي أن العمل على الرواية استغرق هذا الوقت من أجل البحث والقراءة في تاريخ القاهرة وعمارة القاهرة، فضلا عن بروفات الرسم مع الفنان أيمن الزرقاني، والتوقّف أيضا نتيجة لـ”الإحباط السياسي”.
من أين بدأت فكرة الرواية؟ ولما القاهرة بالذات؟
اهتماماتي بالعمارة قديمة، كنت أقرأ عن التصميم المعماري. بالإضافة إلى الاستفادة من خبرة العمل في إعداد وإنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية لفترة. صناعة الفيلم الوثائقي تعلّمك تحويل أي وكل شيء إلى حكاية “حدوتة”.
أما لماذا القاهرة، فعادة يتم اختصار حالة الإحباط العام في القاهرة بالسياسة، بينما الموضوع أكبر وأعقد من هذا. لم أقع على حقيقة ذلك إلا بقراءة تاريخ القاهرة في القرن التاسع عشر. ووجدت نفسي أسأل سؤالا جوهريا في الرواية، لماذا يتمسك الوعي الجمعي بفكرة القاهرة هذه؟
ما حرّكني هي الطريقة التي تم بها صياغة العِمارة في القاهرة وإعادة تخطيطها في عهد عبد الناصر، لكي يحتفظ بالمركزية. حيث تم باستمرار هندسة المدينة لأسباب أمنية وسياسية. والحقيقة أن ما حدث للقاهرة من قبل عبد الناصر منذ عهد محمد علي، هو بناء “كتالوغ جاهز للمدينة”، إليك مثلا “القاهرة الإسلامية” ذلك التقسيم العجيب لجزء من المدينة، لا أرى له معنى إطلاقا. “القاهرة مجموعة من الدوائر التاريخية من السهل أن تذهب للمستقبل لكن من الصعب أن تعود للماضي” – من الرواية.
يتابع ناجي: لم نر مثلا شيئا مماثلا اسمه العمارة المسيحية، أو المدينة المسيحية، لكن التاريخ يقول أن الأوروبيين الذي جاءوا إلى مصر عملوا على تصميم ماكيت “المدينة الماركت”: ردم المستنقعات وبناء مدن حديثة على أنقاض القديم.
هذه الثنائية أو الازدواجية هي التي حكمت وتحكم عملية هندسة المدينة طوال الوقت، وعلى مر تاريخها. القاهرة الإسلامية ما هي إلا خطوة لتحميل المدينة بركام من التاريخ لا يُفيد في شيء سوى إعاقة حركة الناس، وتفريغ مساحة كاملة من سكّان المدينة للسائحين.
نجحت الحكومة والمعارضة (الحركة الوطنية) على حد سواء في جعل المدينة تطفو فوق “خِراء عظيم”! هكذا يقول ناجي: انظري شبكات الصرف الصحي والمجاري. لقد حاربت الحركة الوطنية ثمان سنوات لإنشاء شبكة الصرف الصحي هذه لتنهار بعدها بـ11 عاما. وهذا ما حدث في الإسكندرية أيضا.
التخطيط يتم بلا إشراك المجتمع. نعيش في سجن كبير، مُجبرون على التحديثات. القاهرة الآن أشبه بمتحف كبير: نمشي مراقبين من بعضنا البعض، أمّا أخلاق الناس في الشارع فهي كأخلاق وروح السجناء، البشر في شوارع القاهرة لا يضحكون، نسير وسط مجموعة هائلة من “الزومبي”. أصحاب أكشاك البيع يحتلّون الأرصفة، يستقطعون أجزاء من الشارع كملكية خاصة، “وكل واحد يلعب في ملعبه وممنوع عليه التعدي على رصيف زميله”. هذا ما تتمتّع به دائما المدن المركزية. على العكس في المدن الإقليمية، التي بُنيت على الأغلب كإقطاعيّات، حمتها بعض الشيء من سطوة السُلطة وتخريب الحكّام.
***
كراهية المدينة جُزءٌ عميق من شعور بطل الرواية باللامبالاة والانسياق، “ربما بالإمكان أن تسقط بيضة ضخمة من السماء فتُغرق كل هذه المدينة القميئة في صفار البيض”. فهو فاقدٌ للحماس يَشعر بالوحدة رغم الزحام وزخم الأحداث من حوله، يعيش وسط مدينة ضاغطة مزدحمة، مخنوقة بروائح العرق في المواصلات والزيت المحروق في المطاعم، يتنقّل بين وظائف عدّة، وخيبات عاطفية وعلاقات عابرة، ينقاد لمخطط يجد نفسه موضوعا داخله دون إرادة منه ودون أن يفهم ومع ذلك لا يتوقّف. يُعلّق المؤلّف: “القاهرة مصمّمة بشكل يُتيح أن تكون مقرّا للسُلطة”. لم يكن يعني الرواية السُلطة السياسية، وإن كان الملمح السياسي جزء من المُشكلة، يقول الراوي على لسان بسّام: “المظاهرات بوسترات، والنشاط السياسي عناوين جرائد، تقارير إخبارية مصوّرة، دقائق ساخنة على شاشة الفضائيات، شباب منفعل في زحام منفعل”. لكن ناجي يُقدّم في الأصل رواية في نقد “المعرفة المطلقة” أو “سلطة المعرفة”. يشرح: صُمّمت القاهرة وفق ماكيت يخدم كل توجّهات السلطة تجاه أفكار مثل السيطرة والاستبداد والتحكم في المصائر. حتى من يختار أن يستقطع مكان لنفسه للعيش فيها يُصبح أيضا كالسجين، ينزوي بطاولة خشب في ركن الزنزانة ويفرض سطوته على كل الأنشطة في هذا الجزء من منطقته. جميعنا لا يستطيع الهروب من هذا المصير. ومع هذا وكما يرد في الرواية: “لا يمكن أن يحصل للقاهرة ما هو أسوأ من واقعها”.
خفّة الظل والسخرية المنسابة داخل السياق أسلوبٌ مميّز يتسلّل من بين كتابة أحمد ناجي، ويواصل استخدامه في هذا العمل. حين يُعرّي مثلا حياة الأجانب في القاهرة، يسخر البطل من موضوعات رسائل الدكتوراه عن “صراصير البلاّعات في القاهرة وعلاقتها بفئران نيويورك وتأثير ذلك على وضع الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط”. يكتب ناجي “اللغة الوسطى” بين العاميّة والفصحى، باختصار هي ما يمكن تسميته بـ”اللغة المحكيّة” أو “المرويّة” لغة الكلام الشفاهي. “المصريون يتمتّعون بكسل تاريخي وحالة تضخيم في ما يخص اللغة”، الكلام لصاحب “استخدام الحياة”: اللغة العربية ثريّة ولهجاتها غنيّة، لكن يتم تمجيدها، وفي المقابل يَجري تسييد العاميّة في الشارع، بالنسبة لي أرى أننا نتكلم أكثر من لهجة مهجّنة في اللسان العربي”. لهذا السبب يُصبح مستساغا ومفهوما قراءة كلمات مثل “تبا لك، نلج السرير، shit، يا عم الحاج، ميرسي، وأحّا” متجاورة دون أي تنافر.
يُضيف الكاتب هنا تقنية أخرى في الرواية هي “الحواشي” أو “الهوامش”. صحيح أن روايات عديدة ظهرت بهذا الأسلوب في الكتابة الإبداعية، لكنها عند ناجي تقنية مضافة لاستكمال لعبته الأثيرة مع القارئ، “لعبة التماهي ما بين الواقع والخيال”. الحواشي في هذه الرواية نص مكتمل قائم بذاته، شروحات كان من شأنها أن تُشكّل عبئا على الأحداث وتشتيتا للقارئ لو كان أدمجها داخل الحكاية الأصلية، ولأنه لم يُلزم نفسه من البداية بالمعلومات الحقيقية وحتى لا يقع في شرك “التنظير الفارغ” حسب قوله اختار أن يسوق بعض التفاصيل في هوامش الغرض منها إشراك القارئ معه، ليُكمل عبرها خياله. والإيحاء في نفس الوقت بكتب التراث.
يُبدي ناجي غراما خاصا بالموسيقى، الموسيقى المختلفة، هذه المرّة الموسيقى الشعبية. وإذا كانت “روجرز” بُنيت بالكامل على ألبوم الروك الشهير، فإنه في “استخدام الحياة” يدفع بالموسيقى والأغنية التراثية الشعبية لتكون جزءا من المرثية الهجائية للمدينة والرأسمالية وسُلطة المعرفة. الموسيقى في رواية “استخدام الحياة” تظهر في موضعين: مرّة في جزء من فصل بعنوان “معرض مرثيّة الضفادع” حيث صورة سميرة سعيد تجاور صورة أم كلثوم، للإشارة إلى أن كل ما هو قبل الحقبة (قبل الزلزال والعاصفة الترابية الشديدة التي ردمت القاهرة) يتم دمجه في عملية الحنين والنوستالجيا. ومرة ثانية مع فصل بعنوان “شوقي قناوي”، للتدليل على الغناء الشعبي، ذلك الفن الذي ساد وحفظ التاريخ، قبل أن تظهر “حقوق الملكية الفكرية”، يقول ناجي: الملكية الفكرية اختراع جديد لائم منطق الحداثة والرأسمالية، التي أثّرت بدورها أيضا على المزيكا. منها أيضا جاءت أسطورة شعر العامية الذي أخفى معه فن “الزجل”.
الحياة للاستخدام والعيش في “فقّاعة”
تتخيّل الرواية إعادة هندسة المدينة ولكن بزر كمبيوتر، وتغيير مسار النيل. تماما كالمدن الأوروبية حيث كاميرات مرتبطة بنظام “سيستم” واحد موحّد يُحرّك كل شيء، أما الدور البشري فيتوقف عند مهمة تحليل البيانات فقط. وما يستتبع ذلك من هندسة الإنسان: نفسيا وجسديا وروحيا. ونتيجة لبرمجة السلطة تتصوّر (وهمًا) مجموعة معينة من البشر احتكار بيع المعلومة والإجابات النهائية لأشخاص لديهم استعداد لتقبّل ذلك.
كان خيار بطل الرواية البلادة، العيش في “فقّاعة” للوقاية من المصير المشئوم. تبدأ الرواية بشروع البطل بعدما أصبح في منتصف الأربعينيات في كتابة تقرير عمّا حدث له، يُحاول من خلاله فهم الماضي “باحثا عن مبرّرات لا تُظهره بهذا الضعف والعمى” يستطرد ناجي: تقريبا كان الإحساس نفسه الذي بدأ ينمو أكثر وأكثر بعد الربيع العربي. التكيّف هو أنسب طريقة للاستمرار والعيش وسط الإحباطات. وفي سبيل الخروج من هذه الفقاعة يأتي البحث عن الاستثارة أو أي جديد، ولو بشكل هيستيري، متمثل ذلك مثلا في حوادث التحرّش والسعار في الشوارع لأتفه الأسباب. الفوبيا والارتياب والغُربة في العمل والصداقة وحتى في الحب والجنس. هذا الحال ما حدث مع بسّام، الاستنزاف في معارك لا خيار له فيها ثم يكتشف أنها لم تحدث! “لا يوجد أصعب من القرارات في القاهرة، لأن القاهرة غالبا هي ما تقرر لك كيف تكون حياتك”، “كم كلبا سيجري وراءك ليلا في حياتك”، “أنت هنا عبد لهذه المدينة ولكي تمنحك نفسها يجب أن تبيعها روحك بعقد موثق بالدم والقلب”. باختصار هي حياة لـ”الاستخدام” النفعي المتبادل.
لا يفوت الرواية في سياق الأحداث الإشارة إلى فكرة “المُنقذ”. يُعلّق ناجي: وهي ذات الفكرة التي اخترعوا لنا منها مصطلح “التكنوقراط” أو الخبير المخلّص. ومن هنا تجيء فكرة “الحارس” في العمل. وهي فكرة حقيقية عند السمعانيين، كيف نُعيد هندسة العالم والسيطرة على الطبيعة، من قبل رجال الصناعة والمعارف.
الكوميكس صناعة المغامرة
من بين أقوى رسوم الرواية وأكثرها فرادة، هي رسوم فصل “حيوانات القاهرة”، الفتاة المحجبة التي تُشبه الغراب وتخون صاحبها، المرأة العصرية بثدي واحد تتمتع بضعف داخلي رغم القشرة الخارجية القاسية، وغيرها. أسأل ناجي أنه تعمّد “التشويه” هنا للدلالة على قُبح المدينة، فيجيب أنه “إصرار على البقاء والاستمرار في العيش، تكيّفٌ أكثر منه تشوّه”. يرى أحمد ناجي أن الكوميكس ليس كما هو في تعريفه الشائع “فن القصص المصوّرة”، لكن في تصوّره يُعنى الكوميكس بإعادة بناء المشهد وإثراء الخيال، هو “فن مبني على المحذوف” ومن ثم يُضيف الكوميكس شيئا إلى الكتابة، الرسومات تستبدل حديث الشحنات العاطفية التي أبعد ما تكون عن الرواية. الكوميكس مغامرة وصناعة مكلّفة كما يرى ناجي، ومحفوفة بمعوقات عديدة، بعضها خاص بالحريّات، والبعض الآخر متعلّق بعدم تفرّغ أغلب فناني الكوميكس في مصر والوطن العربي، ولهذا “أمامنا الكثير لتبنّيها”.
——- —
نشر الحوار في جريدة الحياة اللندانية
البلاغ الذي قُدّم ضد أحمد ناجي ويعمل صحافيا أيضا لم يستند إلى الرواية، ولا يعترف بأنها رواية، استندت المحكمة إلى فصل من الرواية نشرته جريدة أخبار الأدب ضمن ملف عن القاهرة، وعلى أساسه يُحاكم ناجي وفق المادة 178 مُكرّر التي تنص على “الحبس مدّة لا تزيد عن سنتين وغرامة لا تزيد على عشرة آلاف جنيه لكل من ينشر أو يوزّع بقصد الاتجار مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إشارات رمزية إذا كانت خادشة للحياء العام”. وهي المادة ذاتها التي خضع لها سابقا مجدي الشافعي صاحب الرواية المصوّرة “مترو” 2008، وهو ما أدّى في حينها إلى مصادرتها وتغريم المؤلف والناشر. وللمصادفة فإن “استخدام الحياة” رواية مصوّرة أيضا. وعلى خلفية ذلك تُجرى وقائع مؤتمر “لا لمحاكمات التفتيش” اليوم الثلاثاء في نقابة الصحافيين المصريين تضامنا مع هذه القضية وكل الصحافيين المهدّدين.
***
في “استخدام الحياة” يتخلّى أحمد ناجي عن اللاموضوع لكنه لا يتخلّى عن اللعب بالخيال (بحر صحراء أكتوبر البرتقالي، الأسماك البريّة ذات الهياكل العظمية، خليج دالي وأفيال البحر سيقانها ترتفع لعشرين مترا وغيرها من الصور). في “روجرز” رواية أحمد ناجي الأولى – دار ملامح 2007 – بدأ بلُعبة استدعاء ألبوم بينك فلويد لخدمة فكرة الحنين. ولم يكن يعرف إلى أين ستقوده اللعبة فقط يتكوّن النص. لكنه هذه المرّة استغرق أربع سنوات حتى يُقرّر نشر روايته الثانية التي يمكن قراءتها بوصفها مرثيّة هجائية للمدينة البائسة. يقول ناجي أن العمل على الرواية استغرق هذا الوقت من أجل البحث والقراءة في تاريخ القاهرة وعمارة القاهرة، فضلا عن بروفات الرسم مع الفنان أيمن الزرقاني، والتوقّف أيضا نتيجة لـ”الإحباط السياسي”.
من أين بدأت فكرة الرواية؟ ولما القاهرة بالذات؟
اهتماماتي بالعمارة قديمة، كنت أقرأ عن التصميم المعماري. بالإضافة إلى الاستفادة من خبرة العمل في إعداد وإنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية لفترة. صناعة الفيلم الوثائقي تعلّمك تحويل أي وكل شيء إلى حكاية “حدوتة”.
أما لماذا القاهرة، فعادة يتم اختصار حالة الإحباط العام في القاهرة بالسياسة، بينما الموضوع أكبر وأعقد من هذا. لم أقع على حقيقة ذلك إلا بقراءة تاريخ القاهرة في القرن التاسع عشر. ووجدت نفسي أسأل سؤالا جوهريا في الرواية، لماذا يتمسك الوعي الجمعي بفكرة القاهرة هذه؟
ما حرّكني هي الطريقة التي تم بها صياغة العِمارة في القاهرة وإعادة تخطيطها في عهد عبد الناصر، لكي يحتفظ بالمركزية. حيث تم باستمرار هندسة المدينة لأسباب أمنية وسياسية. والحقيقة أن ما حدث للقاهرة من قبل عبد الناصر منذ عهد محمد علي، هو بناء “كتالوغ جاهز للمدينة”، إليك مثلا “القاهرة الإسلامية” ذلك التقسيم العجيب لجزء من المدينة، لا أرى له معنى إطلاقا. “القاهرة مجموعة من الدوائر التاريخية من السهل أن تذهب للمستقبل لكن من الصعب أن تعود للماضي” – من الرواية.
يتابع ناجي: لم نر مثلا شيئا مماثلا اسمه العمارة المسيحية، أو المدينة المسيحية، لكن التاريخ يقول أن الأوروبيين الذي جاءوا إلى مصر عملوا على تصميم ماكيت “المدينة الماركت”: ردم المستنقعات وبناء مدن حديثة على أنقاض القديم.
هذه الثنائية أو الازدواجية هي التي حكمت وتحكم عملية هندسة المدينة طوال الوقت، وعلى مر تاريخها. القاهرة الإسلامية ما هي إلا خطوة لتحميل المدينة بركام من التاريخ لا يُفيد في شيء سوى إعاقة حركة الناس، وتفريغ مساحة كاملة من سكّان المدينة للسائحين.
نجحت الحكومة والمعارضة (الحركة الوطنية) على حد سواء في جعل المدينة تطفو فوق “خِراء عظيم”! هكذا يقول ناجي: انظري شبكات الصرف الصحي والمجاري. لقد حاربت الحركة الوطنية ثمان سنوات لإنشاء شبكة الصرف الصحي هذه لتنهار بعدها بـ11 عاما. وهذا ما حدث في الإسكندرية أيضا.
التخطيط يتم بلا إشراك المجتمع. نعيش في سجن كبير، مُجبرون على التحديثات. القاهرة الآن أشبه بمتحف كبير: نمشي مراقبين من بعضنا البعض، أمّا أخلاق الناس في الشارع فهي كأخلاق وروح السجناء، البشر في شوارع القاهرة لا يضحكون، نسير وسط مجموعة هائلة من “الزومبي”. أصحاب أكشاك البيع يحتلّون الأرصفة، يستقطعون أجزاء من الشارع كملكية خاصة، “وكل واحد يلعب في ملعبه وممنوع عليه التعدي على رصيف زميله”. هذا ما تتمتّع به دائما المدن المركزية. على العكس في المدن الإقليمية، التي بُنيت على الأغلب كإقطاعيّات، حمتها بعض الشيء من سطوة السُلطة وتخريب الحكّام.
***
كراهية المدينة جُزءٌ عميق من شعور بطل الرواية باللامبالاة والانسياق، “ربما بالإمكان أن تسقط بيضة ضخمة من السماء فتُغرق كل هذه المدينة القميئة في صفار البيض”. فهو فاقدٌ للحماس يَشعر بالوحدة رغم الزحام وزخم الأحداث من حوله، يعيش وسط مدينة ضاغطة مزدحمة، مخنوقة بروائح العرق في المواصلات والزيت المحروق في المطاعم، يتنقّل بين وظائف عدّة، وخيبات عاطفية وعلاقات عابرة، ينقاد لمخطط يجد نفسه موضوعا داخله دون إرادة منه ودون أن يفهم ومع ذلك لا يتوقّف. يُعلّق المؤلّف: “القاهرة مصمّمة بشكل يُتيح أن تكون مقرّا للسُلطة”. لم يكن يعني الرواية السُلطة السياسية، وإن كان الملمح السياسي جزء من المُشكلة، يقول الراوي على لسان بسّام: “المظاهرات بوسترات، والنشاط السياسي عناوين جرائد، تقارير إخبارية مصوّرة، دقائق ساخنة على شاشة الفضائيات، شباب منفعل في زحام منفعل”. لكن ناجي يُقدّم في الأصل رواية في نقد “المعرفة المطلقة” أو “سلطة المعرفة”. يشرح: صُمّمت القاهرة وفق ماكيت يخدم كل توجّهات السلطة تجاه أفكار مثل السيطرة والاستبداد والتحكم في المصائر. حتى من يختار أن يستقطع مكان لنفسه للعيش فيها يُصبح أيضا كالسجين، ينزوي بطاولة خشب في ركن الزنزانة ويفرض سطوته على كل الأنشطة في هذا الجزء من منطقته. جميعنا لا يستطيع الهروب من هذا المصير. ومع هذا وكما يرد في الرواية: “لا يمكن أن يحصل للقاهرة ما هو أسوأ من واقعها”.
خفّة الظل والسخرية المنسابة داخل السياق أسلوبٌ مميّز يتسلّل من بين كتابة أحمد ناجي، ويواصل استخدامه في هذا العمل. حين يُعرّي مثلا حياة الأجانب في القاهرة، يسخر البطل من موضوعات رسائل الدكتوراه عن “صراصير البلاّعات في القاهرة وعلاقتها بفئران نيويورك وتأثير ذلك على وضع الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط”. يكتب ناجي “اللغة الوسطى” بين العاميّة والفصحى، باختصار هي ما يمكن تسميته بـ”اللغة المحكيّة” أو “المرويّة” لغة الكلام الشفاهي. “المصريون يتمتّعون بكسل تاريخي وحالة تضخيم في ما يخص اللغة”، الكلام لصاحب “استخدام الحياة”: اللغة العربية ثريّة ولهجاتها غنيّة، لكن يتم تمجيدها، وفي المقابل يَجري تسييد العاميّة في الشارع، بالنسبة لي أرى أننا نتكلم أكثر من لهجة مهجّنة في اللسان العربي”. لهذا السبب يُصبح مستساغا ومفهوما قراءة كلمات مثل “تبا لك، نلج السرير، shit، يا عم الحاج، ميرسي، وأحّا” متجاورة دون أي تنافر.
يُضيف الكاتب هنا تقنية أخرى في الرواية هي “الحواشي” أو “الهوامش”. صحيح أن روايات عديدة ظهرت بهذا الأسلوب في الكتابة الإبداعية، لكنها عند ناجي تقنية مضافة لاستكمال لعبته الأثيرة مع القارئ، “لعبة التماهي ما بين الواقع والخيال”. الحواشي في هذه الرواية نص مكتمل قائم بذاته، شروحات كان من شأنها أن تُشكّل عبئا على الأحداث وتشتيتا للقارئ لو كان أدمجها داخل الحكاية الأصلية، ولأنه لم يُلزم نفسه من البداية بالمعلومات الحقيقية وحتى لا يقع في شرك “التنظير الفارغ” حسب قوله اختار أن يسوق بعض التفاصيل في هوامش الغرض منها إشراك القارئ معه، ليُكمل عبرها خياله. والإيحاء في نفس الوقت بكتب التراث.
يُبدي ناجي غراما خاصا بالموسيقى، الموسيقى المختلفة، هذه المرّة الموسيقى الشعبية. وإذا كانت “روجرز” بُنيت بالكامل على ألبوم الروك الشهير، فإنه في “استخدام الحياة” يدفع بالموسيقى والأغنية التراثية الشعبية لتكون جزءا من المرثية الهجائية للمدينة والرأسمالية وسُلطة المعرفة. الموسيقى في رواية “استخدام الحياة” تظهر في موضعين: مرّة في جزء من فصل بعنوان “معرض مرثيّة الضفادع” حيث صورة سميرة سعيد تجاور صورة أم كلثوم، للإشارة إلى أن كل ما هو قبل الحقبة (قبل الزلزال والعاصفة الترابية الشديدة التي ردمت القاهرة) يتم دمجه في عملية الحنين والنوستالجيا. ومرة ثانية مع فصل بعنوان “شوقي قناوي”، للتدليل على الغناء الشعبي، ذلك الفن الذي ساد وحفظ التاريخ، قبل أن تظهر “حقوق الملكية الفكرية”، يقول ناجي: الملكية الفكرية اختراع جديد لائم منطق الحداثة والرأسمالية، التي أثّرت بدورها أيضا على المزيكا. منها أيضا جاءت أسطورة شعر العامية الذي أخفى معه فن “الزجل”.
الحياة للاستخدام والعيش في “فقّاعة”
تتخيّل الرواية إعادة هندسة المدينة ولكن بزر كمبيوتر، وتغيير مسار النيل. تماما كالمدن الأوروبية حيث كاميرات مرتبطة بنظام “سيستم” واحد موحّد يُحرّك كل شيء، أما الدور البشري فيتوقف عند مهمة تحليل البيانات فقط. وما يستتبع ذلك من هندسة الإنسان: نفسيا وجسديا وروحيا. ونتيجة لبرمجة السلطة تتصوّر (وهمًا) مجموعة معينة من البشر احتكار بيع المعلومة والإجابات النهائية لأشخاص لديهم استعداد لتقبّل ذلك.
كان خيار بطل الرواية البلادة، العيش في “فقّاعة” للوقاية من المصير المشئوم. تبدأ الرواية بشروع البطل بعدما أصبح في منتصف الأربعينيات في كتابة تقرير عمّا حدث له، يُحاول من خلاله فهم الماضي “باحثا عن مبرّرات لا تُظهره بهذا الضعف والعمى” يستطرد ناجي: تقريبا كان الإحساس نفسه الذي بدأ ينمو أكثر وأكثر بعد الربيع العربي. التكيّف هو أنسب طريقة للاستمرار والعيش وسط الإحباطات. وفي سبيل الخروج من هذه الفقاعة يأتي البحث عن الاستثارة أو أي جديد، ولو بشكل هيستيري، متمثل ذلك مثلا في حوادث التحرّش والسعار في الشوارع لأتفه الأسباب. الفوبيا والارتياب والغُربة في العمل والصداقة وحتى في الحب والجنس. هذا الحال ما حدث مع بسّام، الاستنزاف في معارك لا خيار له فيها ثم يكتشف أنها لم تحدث! “لا يوجد أصعب من القرارات في القاهرة، لأن القاهرة غالبا هي ما تقرر لك كيف تكون حياتك”، “كم كلبا سيجري وراءك ليلا في حياتك”، “أنت هنا عبد لهذه المدينة ولكي تمنحك نفسها يجب أن تبيعها روحك بعقد موثق بالدم والقلب”. باختصار هي حياة لـ”الاستخدام” النفعي المتبادل.
لا يفوت الرواية في سياق الأحداث الإشارة إلى فكرة “المُنقذ”. يُعلّق ناجي: وهي ذات الفكرة التي اخترعوا لنا منها مصطلح “التكنوقراط” أو الخبير المخلّص. ومن هنا تجيء فكرة “الحارس” في العمل. وهي فكرة حقيقية عند السمعانيين، كيف نُعيد هندسة العالم والسيطرة على الطبيعة، من قبل رجال الصناعة والمعارف.
الكوميكس صناعة المغامرة
من بين أقوى رسوم الرواية وأكثرها فرادة، هي رسوم فصل “حيوانات القاهرة”، الفتاة المحجبة التي تُشبه الغراب وتخون صاحبها، المرأة العصرية بثدي واحد تتمتع بضعف داخلي رغم القشرة الخارجية القاسية، وغيرها. أسأل ناجي أنه تعمّد “التشويه” هنا للدلالة على قُبح المدينة، فيجيب أنه “إصرار على البقاء والاستمرار في العيش، تكيّفٌ أكثر منه تشوّه”. يرى أحمد ناجي أن الكوميكس ليس كما هو في تعريفه الشائع “فن القصص المصوّرة”، لكن في تصوّره يُعنى الكوميكس بإعادة بناء المشهد وإثراء الخيال، هو “فن مبني على المحذوف” ومن ثم يُضيف الكوميكس شيئا إلى الكتابة، الرسومات تستبدل حديث الشحنات العاطفية التي أبعد ما تكون عن الرواية. الكوميكس مغامرة وصناعة مكلّفة كما يرى ناجي، ومحفوفة بمعوقات عديدة، بعضها خاص بالحريّات، والبعض الآخر متعلّق بعدم تفرّغ أغلب فناني الكوميكس في مصر والوطن العربي، ولهذا “أمامنا الكثير لتبنّيها”.
——- —
نشر الحوار في جريدة الحياة اللندانية