نقوس المهدي
كاتب
-2-
إذا ما انتقلنا من الحديث عن تطور الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية عن الجنس إلى الوقوف على المعنى الاصطلاحي (Philosophy of Sexuality) في الموسوعات والكتابات المتخصصة فإننا سوف ندرك أن جميعها يتفق على أن مبحث فلسفة الجنس هو المعني بدراسة الوجود الإنساني من حيث بشريته ذكر وأنثى ومناقشة المعارف المباشرة للحديث عن أصله (وجد الإنسان ذكر وأنثى، أو ذكر ومنه الأنثى، أو أنثى وخرج منها الذكر). ثم الحديث عن مفهوم الجنس باعتباره نشاط إنساني يجمع بين الإرادة الإنسانية والذوق والتفكير واللذة الحسية والحاجة الطبيعية وسلوك للإنجاب والتكاثر، ومن ثم يتعرض إلى دراسة العديد من البنيات الثقافية والنفسية والاجتماعية والفسيولوجية ... عند تحليله لأشكال الممارسة الجنسية (الزواج، البغاء، المثلية الجنسية، الشذوذ والمجون)، وذلك للكشف عن العلل والأسباب والظواهر والآثار المصاحبة لهذه الأشكال، وانعكاس ذلك كله على طرائق التفكير، وتطرق مبحث فلسفة الجنس كذلك إلى مناقشة القضايا ذات الصلة مثل: الحب، السعادة، التفكير الإبداعي، التفاؤل والتشاؤم، العنف، الإيمان والإلحاد، الرهبنة والتبتل. فتعرفه Internet Encyclopedia of Philosophy بأنه المعني بدراسة الجنس باعتباره سلوك بشري نابع من إرادة حرة ومدفوع بلذة ورغبة حسية، الأمر الذي جعل من فلسفة الجنس سبيلا لتحليل المفاهيم والقضايا والمعارف ذات الصلة بكل أشكالها ونقد تطبيقاتها قياساً على ما وضعه الفلاسفة من مبادئ حاكمة وقيم ضابطة لممارسة الجنس بين الذكر والأنثى، وإلى مثل ذلك ذهبت موسوعة (Routledge Encyclopedia of Philosophy ) فهي تؤكد أن فلسفة الجنس من الفلسفات التطبيقية التي تعنى بتحليل المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة المباشرة عنايتها بالوقوف على دلالتها في الممارسة شأنها في ذلك شأن فلسفة العلم والفن والقانون.
ومن أهم الكتب المعاصرة التي تناولت فلسفة الجنس بالتعريف السابق كتاب (The Philosophy of Sex) لنيكولاس باور، ووراجا حلواني، وآلان سوبل، وكتاب (Philosophy of Sexuality) لدون ماريتا.
وحري بنا في هذا السياق أن نؤكد على القضية الرئيسة التي طالما ناقشتها الكتابات المعنية بالجنس بوجه عام ألا وهي أخلاقيات الجنس، فإذا كان الجنس سلوكاً إنسانياً لا تدفعه الغريزة -كما زعم فرويد- فإن هناك قيم ومبادئ وأعراف حاكمة له، وفي هذا السبيل تنزع معظم الدراسات التاريخية فتوضح أن الآداب والأخلاقيات الحاكمة لممارسة الجنس في الحضارات القديمة كان جميعها يخضع للأعراف والعادات والتقاليد الطبقية الاجتماعية الصارمة وذلك قبل ظهور الأديان السماوية وما صاحبها من ضوابط شرعية، فالحاكم كان يرغب في معاشرة الأميرات لإنجاب نسل يحافظ على نبل العصب ونقاء العرق ويجوز له أن يستمتع بالجواري الفاتنات أو من يشعر تجاههن برغبة من عوام الشعب، وكان يحظر ذلك على الأميرات فهن لا يطلبن المتعة إلا من أزواجهن تبعاً للأعراف والتقاليد، ودون ذلك يعد خيانة تستوجب العقاب، أما الجنس عند العوام والطبقات الدنيا فكان يحكمه المال والاقتصاد، فالرجل له حق الاستمتاع بالمرأة نظير إنفاقه عليها، والعكس صحيح، وقد تولد عن ذلك الوضع العديد من الممارسات منها: تعدد الزوجات، وانتخاب المرأة للفحول من الرجال القادرين على إشباعها جنسياً، وظهور تجارة الرقيق الأبيض والبغاء (المتعة لمن يدفع الثمن)، والخيانات الزوجية التي كانت تستوجب القتل للنساء فقط.
وعلى النقيض من ذلك كله كانت العلاقات الجنسية بين طبقة المعدمين وجماعات العبيد لا يحكمها سوى الرغبة والمتعة والإرادة، فلا أعراف ولا قيود ولا ضوابط تمنع شيوعها، ولا سيما في الثقافة الهندية والصينية والقبائل الأفريقية والفارسية والرومانية وخصوصاً في مصر قبل عام 2000ق.م، وذلك تبعاً لذيوع الفكر الديني وعقيدة الثواب والعقاب في العقل الجمعي المصري.
ولم تطرح في هذه الآونة قضية ممارسة الجنس مع المحارم (الأب والابنة والأخت، الأم والابن والأخ) ولم تحرم هذه العلاقة إلا في الثقافة الهندية، ولم يذكر المؤرخون أو علماء الاجتماع علة وجود هذه الظاهرة في سائر الثقافات ثم تحريمها وعودتها في أحقاب تاريخية مختلفة، وكان الكنعانيون والسريان والأراميون يحرمون زواج الإخوة من الأم فقط، وتعد قوانين حمورابي من أقدم الشرائع الوضعية التي تناولت القضايا الجنسية ولا سيما علاقة الزواج وضوابطها وشروطها والطلاق وحقوق المرأة في الاستمتاع وإباحة استمتاع الرجل بالجواري مع عدم الاعتراف له إلا بزوجة واحدة، ويكمن الظلم في هاتيك القوانين فيما ورد من عقوبات على جريمة الخيانة الزوجية والبغاء، فلا يعاقب الرجل إذا خان زوجته إلا بتعويض مالي يدفعه لها إذا ما اكتشفت خيانته، أما الأنثى إذا خانت فجزاؤها الإلقاء في الماء مع عشيقها، إذا ما اعترفت عليه وثبت قيامه بممارسة الجنس معها، كما يجوز للرجل رهن زوجته عند دائنيه، الأمر الذي فتح الباب لتجارة النساء. وإذا ما انتقلنا إلى الدعارة وهي تلك التي تختلف بطبيعة الحال عن الإتجار في الجواري أو استئجارهن، فالدعارة هي الوطأ والجماع مقابل المال بغض النظر عن التوافق الذوقي والمشاعر والرغبة والشهوة، فكانت المرأة تمارس الجنس جسداً فقط وكل ما يصدر منها من أقوال وأفعال مجرد أداء حرفي مصطنع، أما عن تاريخ البغاء فقد عجزت الكتابات التاريخية عن تحديد بداية ظهوره، فقيل أنه يرجع إلى تاريخ سحيق في عصر نبي الله نوح ؟! في غرب آسيا، وترجع علة ظهوره إلى فساد الأخلاق وكثرة النساء وقلة الرجال والفقر وظهور عصابات السبي واسترقاق القبائل الضعيفة على يد الأقوى، وقد انتقل إلى شتى أنحاء العالم بعد أن تفرق الناجون من الطوفان أولئك الذين أخذهم نوح في سفينته، إذ انطلق ابنه سام وذريته إلى آسيا، ويافث إلى أوروبا، وحام إلى إفريقيا.
ويحدثنا هيرودوت عن تاريخ الدعارة مؤكداً أنها بدأت في معية كهنة المعابد الذين اخترعوا الطقوس وأسسوا الكثير من المعتقدات في الحضارات التليدة، فكانت العذارى في بابل لا يصح زواجهن إلا بعد وطأهن من أحد عابري السبيل خلف المعبد نظير قطعة من الفضة، ذلك فضلاً عن العذراوات المصطفات فقد دأب الكاهن الأكبر في بابل اصطحاب من تروق له إلى المخدع الذهبي في أعلى برج بابل ليباركها الإله الذي حل في جسده، وكانت الفتاة تسعد بهذا الجماع طمعاً في فوزها بالبركة والجماع المقدس، غير أن الكتابات التاريخية الحديثة تشكك في رواية هيرودوت وحجتها في ذلك أن قوانين بابل كانت أقرب إلى المحافظة منها إلى الإباحية، الأمر الذي يبرر توقيعها أشد العقوبات على الغانيات والزانيات، كما أن سلوك الكهنة مع النساء كان محاطاً بالسرية بالقدر الذي يحول بين رحالة مثل هيرودوت والاطلاع على ما كان يحدث في مخدع كبير الكهنة. وأغلب الظن أن حديث هيرودوت عن الدعارة في بابل يرجع إلى مشاهداته لما كان يحدث بين العوام في بيوت الهوى التي كان يخصصها كبار التجار والأثرياء من الإقطاعيين للبغاء، وذلك لاستثمار جواريهم وعبيدهم.
ولم يعرف البغاء في مصر القديمة، فالأنثى المصرية كانت تتخذ من الربة (إيزيس) العفيفة مثالاً وقدوة، ومن ثم لم ينتشر البغاء إلا بين الغرباء والعبيد، أما الحرائر فكانت تقطع أنوفهن إذا ما ارتكبن جريمة الزنا، وكان يقطع العضو الذكري للرجل إذا ما اغتصب أو وطأ إحداهن عنوة، فالرابطة الزوجية عند المصريين -بمختلف طبقاتهم- كانت تدرج ضمن الطقوس المقدسة
وإذا ما انتقلنا إلى بلاد اليونان فسوف نجد أن الإرهاصات الأولى لظاهرة البغاء كانت متفشية بين العبيد والفقراء والمدينين والغرباء، فقد أباحت قوانين اسبرطة لنسائها تعدد الأزواج، وفي أثينا كان الرجال يتسرون بالنساء ويتخذون خليلات من البغايا ويمارسون الجنس الجماعي ولا سيما في الأعياد حيث الخمر والرقص واللهو الماجن (عيد يونسيوس)، وعرفت أثينا البغاء الرسمي منذ القرن الخامس قبل الميلاد وكانت تخصص له بيوتاً يعلق عليها نموذج للعضو الذكري من الخشب أو الجلد أو القماش، وكانت النسوة يجلسن عاريات بالداخل ينتظرن الزبائن وكانت تستأجر الأنثى لمدة معينة مقابل مبلغ يدفع مقدماً لمن يدير البيت، وللبغايا في أثينا طبقات تتحدد بمقتضاها أجورهن، أدناها (البروناي أي العاريات) من طبقة العبيد والخدم، وأوسطها (عازفات القيثارة) الراقصات المغنيات ، وأعلاها (الهتايراي أي الرفيقات) اللواتي يمارسن الدعارة في بيوتهن وكان معظمهن من الأثينيات والأرامل أو اللواتي فشلن في حبهن أو خدعن من قبل عشاقهن، ومنهن مثقفات وفيلسوفات من أمثال سافو -صاحبة أكبر مدرسة لتثقيف الغانيات- واسبازيا وتارجليا وتاييس وأركيانسا معشوقة أفلاطون وثيوريس خليلة سوفوكليز وداني وليونتيوم اللتان علمتا أبيقور فلسفة اللذة، وفريني معشوقة المثالين اللذين صوروها عارية لتعبر عن جسد أفروديت ربة العشق واللذة الجنسية عند اليونان، ولئيس التي كانت تعرف بين الغانيات بالفتنة والثراء، ورغم ذلك كانت تفترش لديوجين بلا أجر وذلك لولعها بالفلسفة، وقد أرخ بلوتارخ لسير الشهيرات منهن، ذلك على الرغم من نظرة الازدراء التي كانت توجه إليهن من قبل المحافظين الأثينيين، فقد حرموهن من حقوق المواطنة والصلاة في المعابد باستثناء معبد أفروديت، وكانت الفقيرات والجواري والإماء في بلاد فارس يمارسن الدعارة تبعاً لإرادة من يملكهن من الأثرياء أو يدفعهن أزواجهن إلى ممارسة البغاء طمعاً في المال، وعلى النقيض من ذلك نجد المرأة الزرادشتية التي كان لا يسمح لها الخروج من بيتها إلا للمعبد أو القبر وكان يحكم على الخائنات منهن بالانتحار أو بالسجن والجلد، أما الرجال فكان لهم مطلق الحرية في ممارسة الجنس مع البغايا والعبيد، وحرمت المانوية الجنس عن طريق البغاء أو الزواج بحجة أن النساء هن أصل الشرور ، وأن الاختلاط بهن عن طريق الملامسة ينقل إلى أجسادهم الدنس والشياطين، وعلى النقيض من ذلك ذهبت الديانة المزدكية إلى الإباحية ومشاع الجنس فلا بغاء ولا زواج، فممارسة الجنس لذة ومتعة فلا ينبغي أن يفرض عليها قيود سوى الإرادة والاتفاق، الأمر الذي جعل مزدك يوقع عقوبة القتل على من يرتكب جريمة الاغتصاب أو الإكراه أو الإتجار أو الاستئثار في الجنس لأن مثل هذه الأفعال يحرض عليها إله الظلمة والشرور، ولم تكن المرأة الهندوسية أفضل حالاً من سابقتها، إذ كان الرجال ينظرون إليها على أنها مكمن الشرور وهي الفتنة المتجسدة لإغراء الرجال ودفعهم إلى وطأهن لسلبهما الفضيلة والعقل وإضعاف قوتهم البدنية، وكان الرجال يمارسون الجنس مع زوجاتهم بغير إسراف حتى لا تلهيهم شهوة الجماع عن قراءة الفيدا وأداء الصلوات المقدسة تلك التي كانت محرمة تماماً على الهندوسيات، وللعذرية شأن كبير في الثقافة الهندوسية، فالعذراوات فقط هن اللواتي يعقد لهن الزواج فور بلوغهن ويحرم عليهن ممارسة الجنس مع غير أزواجهن حتى بعد ترملهن، وظلت عادة حرق المرأة مع جثمان زوجها حتى عام 1830م، الأمر الذي يقطع بعدم وجود ظاهرة البغاء بين الهندوسيات، وجاءت تعاليم بوذا ومهافيرا تؤكد على أن الإسراف في ممارسة الجنس يفسد العقل ويدنس الروح، وعلى العكس من ذلك ذهب حكيم الصين لاو تسي فالجنس عنده بلا قذف يزيد الجسد قوة ويدخل على النفس السعادة ويهيأ العقل للتفكير المستقيم والإبداع، وذلك لأن في العلمية الجنسية تطبيق للطبيعة الإنسانية (التاو) القانون الأزلي الوجودي، ومن أقواله في ذلك: (أن الإنسان هو أعظم الخلائق التي فطرتها السماء، ومن بين كل الأشياء التي حققت ازدهارا للإنسان، لا شيء يضاهي الممارسة الجنسية)، وقد اتسمت الأخلاق الصينية بإعلائها لفضيلة العفة، فيرى كونفشيوس أن العلاقة الجنسية المستقيمة هي التي تجمع بين ذكر وأنثى متحابين في فراش الزوجية، فهذا التناغم الجنسي إذا ما تحقق في الأسرة والمجتمع بات الأمل في تحقق السلام على الأرض وشيكاً، وعلى الرغم من قسوة العادات والتقاليد الصينية تجاه المرأة بشكل عام، إلا أن القيم الأخلاقية التي دعى إليها لاو تسي وكونفشيوس في هذا السياق تعلي من شأن كرامة المرأة وتجرم التحرش بها وكذا الخيانة الزوجية والمثلية الجنسية، أما الدعارة فكانت محصورة –شأن معظم الحضارات السابقة- في طبقة العبيد والغرباء، وكان الصينيون يميزون بين البغايا الداعرات والفاتنات المثقفات اللواتي يجدن العزف على الآلات الموسيقية والغناء ويتحدثن في الثقافة العامة والفلسفة، وفرق الصينيون كذلك بين المحظيات والسراري من جهة، والزوجات (بنات العائلات) من جهة أخرى، وبالجملة كان الجنس في التراث الصيني وسيلة للإنجاب فحسب.
كما أباح الرومان تسري النساء بالرجال والعكس (boy friend\ girl friend).
وتذهب معظم الكتابات الماركسية إلى أنه من العسير تحديد نشأة الدعارة من حيث المكان أو الزمان وذلك لأن هذه المهنة ما زالت مرتبطة بعاملين:
أولهما: العوز والفقر الذي يدفع الأنثى إلى الإتجار بجسدها، وذلك لأنها مهنة لا تحتاج إلى خبرات أو مهارات خاصة.
وثانيهما: رغبة وشهوة الرجال وعدم قناعتهم بأنثى واحدة، وعلى الرغم من وجود نظام شيوع النساء في بعض المجتمعات البدائية، فلم تختف هذه المهنة من تلك المجتمعات.
غير أن بعض الدراسات المعاصرة ترفض هذا التفسير الاقتصادي لظاهرة الدعارة بحجة أن أول من امتهن هذه المهنة إناث طبقة العبيد والرقيق وكن يكرهن على ذلك من قبل سادتهن التجار، كما أن بعض الغانيات كن يمارسن البغاء طمعاً في الثراء من جهة، والانتقام من الرجال باعتبارهم الذين دفعوهن إلى بيع أجسادهن من جهة أخرى، ذلك فضلاً عن وجود الدعارة بين الطبقات الوسطى، وكذا بين المثقفين وكبار رجال السياسة، فالدعارة لم تعد مجرد وطأ بأجر، بل استثارة الغرائز للسيطرة على العقول وجلب المعلومات والتجسس وتسهيل الصفقات وإبرام الاتفاقيات، وصفوة القول أنها أصبحت آلية من آليات التوجيه الذهني وتفريغ الطاقات المكبوتة ومعالجة الفشل واليأس وذلك على حد تعبير علماء النفس.
أما الدعارة المقننة فلم تظهر إلا في القوانين الرومانية في عصر الإمبراطور جستنيان، وكذا في كتابات القديس توما الإكويني الذي وصف البغاء بأنه (شر لا بد منه لمنع الاغتصاب والتحرش الجنسي)، وعلى الرغم من تحريم الإسلام للبغاء إلا أن دور الدعارة التي كانت تجمع بين الجواري والعبيد والمحظيات كانت منتشرة في شتى أنحاء الولايات الإسلامية، غير أن البغاء لم يقنن إلا في عهد العثمانيين الأتراك، الذين جعلوا له شرطة خاصة بتنظيمه وتحصيل ضرائبه والإشراف على المواخير، وقد أطلقوا على دور الدعارة (كارخانات)، وأصبح البغاء في انجلترا منذ بداية القرن السادس عشر مهنة تمارس رسمياً تحت إشراف الحكومة، وقد أباحت القوانين للرجل بيع زوجته واشترطت موافقتها على المشتري، أما القرن الثامن عشر فيعد العصر الذهبي لتقنين الدعارة في انجلترا وفرنسا وفي بلاد المغرب العربي وألمانيا وهولندا وكندا، وكانت الدعارة تمارس في مصر مع دخول الفرنسيين المدن الكبرى واستمر حال دور الدعارة حتى منتصف القرن التاسع عشر، وفي مطلع الثمانينات من نفس القرن ومع دخول الإنجليز حاولت الحكومة ضبط أو تنظيم هذه المهنة ومنح رخص وشهادات صحية لمن يمارسن الدعارة، ولم يقنن البغاء في مصر إلا عام 1905م لأسباب صحية وتم إلغاؤه عام 1949م، أما في السويد فقد كافحت الحكومة هذه المهنة واجتهدت في إعادة تأهيل الغانيات ومعالجة اللواتي يعانون من اضطرابات نفسية أو أمراض فسيولوجية وذلك في تسعينيات القرن العشرين.
ويمكننا أن نثبت مما سبق ثلاث حقائق:
أولها: أن الجنس الإنساني سلوك إرادي يخضع في أدائه إلى البنية الثقافية التي يعيش فيها الإنسان، شأنه شأن طريقة تناول الطعام والشراب.
وثانيها: أن البغاء سلوك منحرف دفعت إليه المرأة، بل وأجبرت عليه بفعل الفقر أو القهر أو الجهل أو الانحراف الأخلاقي، مثله مثل العادات المرذولة والسلوك الماجن، أي لا يرتبط بطبيعة المرأة ولا دخل للأرواح الشريرة ولا لوسوسة الشيطان ولا الشره الجنسي فيه.
وثالثها: أن هناك علاقة لزومية واضحة بين الممارسات الجنسية السليمة والنضج الحضاري والارتقاء الثقافي والاستقامة الأخلاقية.
وبذلك نؤكد ما أشرنا إليه في المقال السابق، ألا وهو أن الجنس سلوك أخلاقي عند البشر، ودون ذلك من انحرافات يعد انحطاطاً خلقياً أو مرضاً عضوياً، وعليه فنحن في حاجة إلى دراسة فلسفية للكشف عن الممارسات الجنسية المنحرفة في مجتمعاتنا ليسهل على التطبيقيين معالجتها بعد ذلك.
* د. عصمت نصار
فلسفة الجنس ووحدة الوجود الإنساني -2-
.
Ronai
.
إذا ما انتقلنا من الحديث عن تطور الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية عن الجنس إلى الوقوف على المعنى الاصطلاحي (Philosophy of Sexuality) في الموسوعات والكتابات المتخصصة فإننا سوف ندرك أن جميعها يتفق على أن مبحث فلسفة الجنس هو المعني بدراسة الوجود الإنساني من حيث بشريته ذكر وأنثى ومناقشة المعارف المباشرة للحديث عن أصله (وجد الإنسان ذكر وأنثى، أو ذكر ومنه الأنثى، أو أنثى وخرج منها الذكر). ثم الحديث عن مفهوم الجنس باعتباره نشاط إنساني يجمع بين الإرادة الإنسانية والذوق والتفكير واللذة الحسية والحاجة الطبيعية وسلوك للإنجاب والتكاثر، ومن ثم يتعرض إلى دراسة العديد من البنيات الثقافية والنفسية والاجتماعية والفسيولوجية ... عند تحليله لأشكال الممارسة الجنسية (الزواج، البغاء، المثلية الجنسية، الشذوذ والمجون)، وذلك للكشف عن العلل والأسباب والظواهر والآثار المصاحبة لهذه الأشكال، وانعكاس ذلك كله على طرائق التفكير، وتطرق مبحث فلسفة الجنس كذلك إلى مناقشة القضايا ذات الصلة مثل: الحب، السعادة، التفكير الإبداعي، التفاؤل والتشاؤم، العنف، الإيمان والإلحاد، الرهبنة والتبتل. فتعرفه Internet Encyclopedia of Philosophy بأنه المعني بدراسة الجنس باعتباره سلوك بشري نابع من إرادة حرة ومدفوع بلذة ورغبة حسية، الأمر الذي جعل من فلسفة الجنس سبيلا لتحليل المفاهيم والقضايا والمعارف ذات الصلة بكل أشكالها ونقد تطبيقاتها قياساً على ما وضعه الفلاسفة من مبادئ حاكمة وقيم ضابطة لممارسة الجنس بين الذكر والأنثى، وإلى مثل ذلك ذهبت موسوعة (Routledge Encyclopedia of Philosophy ) فهي تؤكد أن فلسفة الجنس من الفلسفات التطبيقية التي تعنى بتحليل المفاهيم والمصطلحات ذات الصلة المباشرة عنايتها بالوقوف على دلالتها في الممارسة شأنها في ذلك شأن فلسفة العلم والفن والقانون.
ومن أهم الكتب المعاصرة التي تناولت فلسفة الجنس بالتعريف السابق كتاب (The Philosophy of Sex) لنيكولاس باور، ووراجا حلواني، وآلان سوبل، وكتاب (Philosophy of Sexuality) لدون ماريتا.
وحري بنا في هذا السياق أن نؤكد على القضية الرئيسة التي طالما ناقشتها الكتابات المعنية بالجنس بوجه عام ألا وهي أخلاقيات الجنس، فإذا كان الجنس سلوكاً إنسانياً لا تدفعه الغريزة -كما زعم فرويد- فإن هناك قيم ومبادئ وأعراف حاكمة له، وفي هذا السبيل تنزع معظم الدراسات التاريخية فتوضح أن الآداب والأخلاقيات الحاكمة لممارسة الجنس في الحضارات القديمة كان جميعها يخضع للأعراف والعادات والتقاليد الطبقية الاجتماعية الصارمة وذلك قبل ظهور الأديان السماوية وما صاحبها من ضوابط شرعية، فالحاكم كان يرغب في معاشرة الأميرات لإنجاب نسل يحافظ على نبل العصب ونقاء العرق ويجوز له أن يستمتع بالجواري الفاتنات أو من يشعر تجاههن برغبة من عوام الشعب، وكان يحظر ذلك على الأميرات فهن لا يطلبن المتعة إلا من أزواجهن تبعاً للأعراف والتقاليد، ودون ذلك يعد خيانة تستوجب العقاب، أما الجنس عند العوام والطبقات الدنيا فكان يحكمه المال والاقتصاد، فالرجل له حق الاستمتاع بالمرأة نظير إنفاقه عليها، والعكس صحيح، وقد تولد عن ذلك الوضع العديد من الممارسات منها: تعدد الزوجات، وانتخاب المرأة للفحول من الرجال القادرين على إشباعها جنسياً، وظهور تجارة الرقيق الأبيض والبغاء (المتعة لمن يدفع الثمن)، والخيانات الزوجية التي كانت تستوجب القتل للنساء فقط.
وعلى النقيض من ذلك كله كانت العلاقات الجنسية بين طبقة المعدمين وجماعات العبيد لا يحكمها سوى الرغبة والمتعة والإرادة، فلا أعراف ولا قيود ولا ضوابط تمنع شيوعها، ولا سيما في الثقافة الهندية والصينية والقبائل الأفريقية والفارسية والرومانية وخصوصاً في مصر قبل عام 2000ق.م، وذلك تبعاً لذيوع الفكر الديني وعقيدة الثواب والعقاب في العقل الجمعي المصري.
ولم تطرح في هذه الآونة قضية ممارسة الجنس مع المحارم (الأب والابنة والأخت، الأم والابن والأخ) ولم تحرم هذه العلاقة إلا في الثقافة الهندية، ولم يذكر المؤرخون أو علماء الاجتماع علة وجود هذه الظاهرة في سائر الثقافات ثم تحريمها وعودتها في أحقاب تاريخية مختلفة، وكان الكنعانيون والسريان والأراميون يحرمون زواج الإخوة من الأم فقط، وتعد قوانين حمورابي من أقدم الشرائع الوضعية التي تناولت القضايا الجنسية ولا سيما علاقة الزواج وضوابطها وشروطها والطلاق وحقوق المرأة في الاستمتاع وإباحة استمتاع الرجل بالجواري مع عدم الاعتراف له إلا بزوجة واحدة، ويكمن الظلم في هاتيك القوانين فيما ورد من عقوبات على جريمة الخيانة الزوجية والبغاء، فلا يعاقب الرجل إذا خان زوجته إلا بتعويض مالي يدفعه لها إذا ما اكتشفت خيانته، أما الأنثى إذا خانت فجزاؤها الإلقاء في الماء مع عشيقها، إذا ما اعترفت عليه وثبت قيامه بممارسة الجنس معها، كما يجوز للرجل رهن زوجته عند دائنيه، الأمر الذي فتح الباب لتجارة النساء. وإذا ما انتقلنا إلى الدعارة وهي تلك التي تختلف بطبيعة الحال عن الإتجار في الجواري أو استئجارهن، فالدعارة هي الوطأ والجماع مقابل المال بغض النظر عن التوافق الذوقي والمشاعر والرغبة والشهوة، فكانت المرأة تمارس الجنس جسداً فقط وكل ما يصدر منها من أقوال وأفعال مجرد أداء حرفي مصطنع، أما عن تاريخ البغاء فقد عجزت الكتابات التاريخية عن تحديد بداية ظهوره، فقيل أنه يرجع إلى تاريخ سحيق في عصر نبي الله نوح ؟! في غرب آسيا، وترجع علة ظهوره إلى فساد الأخلاق وكثرة النساء وقلة الرجال والفقر وظهور عصابات السبي واسترقاق القبائل الضعيفة على يد الأقوى، وقد انتقل إلى شتى أنحاء العالم بعد أن تفرق الناجون من الطوفان أولئك الذين أخذهم نوح في سفينته، إذ انطلق ابنه سام وذريته إلى آسيا، ويافث إلى أوروبا، وحام إلى إفريقيا.
ويحدثنا هيرودوت عن تاريخ الدعارة مؤكداً أنها بدأت في معية كهنة المعابد الذين اخترعوا الطقوس وأسسوا الكثير من المعتقدات في الحضارات التليدة، فكانت العذارى في بابل لا يصح زواجهن إلا بعد وطأهن من أحد عابري السبيل خلف المعبد نظير قطعة من الفضة، ذلك فضلاً عن العذراوات المصطفات فقد دأب الكاهن الأكبر في بابل اصطحاب من تروق له إلى المخدع الذهبي في أعلى برج بابل ليباركها الإله الذي حل في جسده، وكانت الفتاة تسعد بهذا الجماع طمعاً في فوزها بالبركة والجماع المقدس، غير أن الكتابات التاريخية الحديثة تشكك في رواية هيرودوت وحجتها في ذلك أن قوانين بابل كانت أقرب إلى المحافظة منها إلى الإباحية، الأمر الذي يبرر توقيعها أشد العقوبات على الغانيات والزانيات، كما أن سلوك الكهنة مع النساء كان محاطاً بالسرية بالقدر الذي يحول بين رحالة مثل هيرودوت والاطلاع على ما كان يحدث في مخدع كبير الكهنة. وأغلب الظن أن حديث هيرودوت عن الدعارة في بابل يرجع إلى مشاهداته لما كان يحدث بين العوام في بيوت الهوى التي كان يخصصها كبار التجار والأثرياء من الإقطاعيين للبغاء، وذلك لاستثمار جواريهم وعبيدهم.
ولم يعرف البغاء في مصر القديمة، فالأنثى المصرية كانت تتخذ من الربة (إيزيس) العفيفة مثالاً وقدوة، ومن ثم لم ينتشر البغاء إلا بين الغرباء والعبيد، أما الحرائر فكانت تقطع أنوفهن إذا ما ارتكبن جريمة الزنا، وكان يقطع العضو الذكري للرجل إذا ما اغتصب أو وطأ إحداهن عنوة، فالرابطة الزوجية عند المصريين -بمختلف طبقاتهم- كانت تدرج ضمن الطقوس المقدسة
وإذا ما انتقلنا إلى بلاد اليونان فسوف نجد أن الإرهاصات الأولى لظاهرة البغاء كانت متفشية بين العبيد والفقراء والمدينين والغرباء، فقد أباحت قوانين اسبرطة لنسائها تعدد الأزواج، وفي أثينا كان الرجال يتسرون بالنساء ويتخذون خليلات من البغايا ويمارسون الجنس الجماعي ولا سيما في الأعياد حيث الخمر والرقص واللهو الماجن (عيد يونسيوس)، وعرفت أثينا البغاء الرسمي منذ القرن الخامس قبل الميلاد وكانت تخصص له بيوتاً يعلق عليها نموذج للعضو الذكري من الخشب أو الجلد أو القماش، وكانت النسوة يجلسن عاريات بالداخل ينتظرن الزبائن وكانت تستأجر الأنثى لمدة معينة مقابل مبلغ يدفع مقدماً لمن يدير البيت، وللبغايا في أثينا طبقات تتحدد بمقتضاها أجورهن، أدناها (البروناي أي العاريات) من طبقة العبيد والخدم، وأوسطها (عازفات القيثارة) الراقصات المغنيات ، وأعلاها (الهتايراي أي الرفيقات) اللواتي يمارسن الدعارة في بيوتهن وكان معظمهن من الأثينيات والأرامل أو اللواتي فشلن في حبهن أو خدعن من قبل عشاقهن، ومنهن مثقفات وفيلسوفات من أمثال سافو -صاحبة أكبر مدرسة لتثقيف الغانيات- واسبازيا وتارجليا وتاييس وأركيانسا معشوقة أفلاطون وثيوريس خليلة سوفوكليز وداني وليونتيوم اللتان علمتا أبيقور فلسفة اللذة، وفريني معشوقة المثالين اللذين صوروها عارية لتعبر عن جسد أفروديت ربة العشق واللذة الجنسية عند اليونان، ولئيس التي كانت تعرف بين الغانيات بالفتنة والثراء، ورغم ذلك كانت تفترش لديوجين بلا أجر وذلك لولعها بالفلسفة، وقد أرخ بلوتارخ لسير الشهيرات منهن، ذلك على الرغم من نظرة الازدراء التي كانت توجه إليهن من قبل المحافظين الأثينيين، فقد حرموهن من حقوق المواطنة والصلاة في المعابد باستثناء معبد أفروديت، وكانت الفقيرات والجواري والإماء في بلاد فارس يمارسن الدعارة تبعاً لإرادة من يملكهن من الأثرياء أو يدفعهن أزواجهن إلى ممارسة البغاء طمعاً في المال، وعلى النقيض من ذلك نجد المرأة الزرادشتية التي كان لا يسمح لها الخروج من بيتها إلا للمعبد أو القبر وكان يحكم على الخائنات منهن بالانتحار أو بالسجن والجلد، أما الرجال فكان لهم مطلق الحرية في ممارسة الجنس مع البغايا والعبيد، وحرمت المانوية الجنس عن طريق البغاء أو الزواج بحجة أن النساء هن أصل الشرور ، وأن الاختلاط بهن عن طريق الملامسة ينقل إلى أجسادهم الدنس والشياطين، وعلى النقيض من ذلك ذهبت الديانة المزدكية إلى الإباحية ومشاع الجنس فلا بغاء ولا زواج، فممارسة الجنس لذة ومتعة فلا ينبغي أن يفرض عليها قيود سوى الإرادة والاتفاق، الأمر الذي جعل مزدك يوقع عقوبة القتل على من يرتكب جريمة الاغتصاب أو الإكراه أو الإتجار أو الاستئثار في الجنس لأن مثل هذه الأفعال يحرض عليها إله الظلمة والشرور، ولم تكن المرأة الهندوسية أفضل حالاً من سابقتها، إذ كان الرجال ينظرون إليها على أنها مكمن الشرور وهي الفتنة المتجسدة لإغراء الرجال ودفعهم إلى وطأهن لسلبهما الفضيلة والعقل وإضعاف قوتهم البدنية، وكان الرجال يمارسون الجنس مع زوجاتهم بغير إسراف حتى لا تلهيهم شهوة الجماع عن قراءة الفيدا وأداء الصلوات المقدسة تلك التي كانت محرمة تماماً على الهندوسيات، وللعذرية شأن كبير في الثقافة الهندوسية، فالعذراوات فقط هن اللواتي يعقد لهن الزواج فور بلوغهن ويحرم عليهن ممارسة الجنس مع غير أزواجهن حتى بعد ترملهن، وظلت عادة حرق المرأة مع جثمان زوجها حتى عام 1830م، الأمر الذي يقطع بعدم وجود ظاهرة البغاء بين الهندوسيات، وجاءت تعاليم بوذا ومهافيرا تؤكد على أن الإسراف في ممارسة الجنس يفسد العقل ويدنس الروح، وعلى العكس من ذلك ذهب حكيم الصين لاو تسي فالجنس عنده بلا قذف يزيد الجسد قوة ويدخل على النفس السعادة ويهيأ العقل للتفكير المستقيم والإبداع، وذلك لأن في العلمية الجنسية تطبيق للطبيعة الإنسانية (التاو) القانون الأزلي الوجودي، ومن أقواله في ذلك: (أن الإنسان هو أعظم الخلائق التي فطرتها السماء، ومن بين كل الأشياء التي حققت ازدهارا للإنسان، لا شيء يضاهي الممارسة الجنسية)، وقد اتسمت الأخلاق الصينية بإعلائها لفضيلة العفة، فيرى كونفشيوس أن العلاقة الجنسية المستقيمة هي التي تجمع بين ذكر وأنثى متحابين في فراش الزوجية، فهذا التناغم الجنسي إذا ما تحقق في الأسرة والمجتمع بات الأمل في تحقق السلام على الأرض وشيكاً، وعلى الرغم من قسوة العادات والتقاليد الصينية تجاه المرأة بشكل عام، إلا أن القيم الأخلاقية التي دعى إليها لاو تسي وكونفشيوس في هذا السياق تعلي من شأن كرامة المرأة وتجرم التحرش بها وكذا الخيانة الزوجية والمثلية الجنسية، أما الدعارة فكانت محصورة –شأن معظم الحضارات السابقة- في طبقة العبيد والغرباء، وكان الصينيون يميزون بين البغايا الداعرات والفاتنات المثقفات اللواتي يجدن العزف على الآلات الموسيقية والغناء ويتحدثن في الثقافة العامة والفلسفة، وفرق الصينيون كذلك بين المحظيات والسراري من جهة، والزوجات (بنات العائلات) من جهة أخرى، وبالجملة كان الجنس في التراث الصيني وسيلة للإنجاب فحسب.
كما أباح الرومان تسري النساء بالرجال والعكس (boy friend\ girl friend).
وتذهب معظم الكتابات الماركسية إلى أنه من العسير تحديد نشأة الدعارة من حيث المكان أو الزمان وذلك لأن هذه المهنة ما زالت مرتبطة بعاملين:
أولهما: العوز والفقر الذي يدفع الأنثى إلى الإتجار بجسدها، وذلك لأنها مهنة لا تحتاج إلى خبرات أو مهارات خاصة.
وثانيهما: رغبة وشهوة الرجال وعدم قناعتهم بأنثى واحدة، وعلى الرغم من وجود نظام شيوع النساء في بعض المجتمعات البدائية، فلم تختف هذه المهنة من تلك المجتمعات.
غير أن بعض الدراسات المعاصرة ترفض هذا التفسير الاقتصادي لظاهرة الدعارة بحجة أن أول من امتهن هذه المهنة إناث طبقة العبيد والرقيق وكن يكرهن على ذلك من قبل سادتهن التجار، كما أن بعض الغانيات كن يمارسن البغاء طمعاً في الثراء من جهة، والانتقام من الرجال باعتبارهم الذين دفعوهن إلى بيع أجسادهن من جهة أخرى، ذلك فضلاً عن وجود الدعارة بين الطبقات الوسطى، وكذا بين المثقفين وكبار رجال السياسة، فالدعارة لم تعد مجرد وطأ بأجر، بل استثارة الغرائز للسيطرة على العقول وجلب المعلومات والتجسس وتسهيل الصفقات وإبرام الاتفاقيات، وصفوة القول أنها أصبحت آلية من آليات التوجيه الذهني وتفريغ الطاقات المكبوتة ومعالجة الفشل واليأس وذلك على حد تعبير علماء النفس.
أما الدعارة المقننة فلم تظهر إلا في القوانين الرومانية في عصر الإمبراطور جستنيان، وكذا في كتابات القديس توما الإكويني الذي وصف البغاء بأنه (شر لا بد منه لمنع الاغتصاب والتحرش الجنسي)، وعلى الرغم من تحريم الإسلام للبغاء إلا أن دور الدعارة التي كانت تجمع بين الجواري والعبيد والمحظيات كانت منتشرة في شتى أنحاء الولايات الإسلامية، غير أن البغاء لم يقنن إلا في عهد العثمانيين الأتراك، الذين جعلوا له شرطة خاصة بتنظيمه وتحصيل ضرائبه والإشراف على المواخير، وقد أطلقوا على دور الدعارة (كارخانات)، وأصبح البغاء في انجلترا منذ بداية القرن السادس عشر مهنة تمارس رسمياً تحت إشراف الحكومة، وقد أباحت القوانين للرجل بيع زوجته واشترطت موافقتها على المشتري، أما القرن الثامن عشر فيعد العصر الذهبي لتقنين الدعارة في انجلترا وفرنسا وفي بلاد المغرب العربي وألمانيا وهولندا وكندا، وكانت الدعارة تمارس في مصر مع دخول الفرنسيين المدن الكبرى واستمر حال دور الدعارة حتى منتصف القرن التاسع عشر، وفي مطلع الثمانينات من نفس القرن ومع دخول الإنجليز حاولت الحكومة ضبط أو تنظيم هذه المهنة ومنح رخص وشهادات صحية لمن يمارسن الدعارة، ولم يقنن البغاء في مصر إلا عام 1905م لأسباب صحية وتم إلغاؤه عام 1949م، أما في السويد فقد كافحت الحكومة هذه المهنة واجتهدت في إعادة تأهيل الغانيات ومعالجة اللواتي يعانون من اضطرابات نفسية أو أمراض فسيولوجية وذلك في تسعينيات القرن العشرين.
ويمكننا أن نثبت مما سبق ثلاث حقائق:
أولها: أن الجنس الإنساني سلوك إرادي يخضع في أدائه إلى البنية الثقافية التي يعيش فيها الإنسان، شأنه شأن طريقة تناول الطعام والشراب.
وثانيها: أن البغاء سلوك منحرف دفعت إليه المرأة، بل وأجبرت عليه بفعل الفقر أو القهر أو الجهل أو الانحراف الأخلاقي، مثله مثل العادات المرذولة والسلوك الماجن، أي لا يرتبط بطبيعة المرأة ولا دخل للأرواح الشريرة ولا لوسوسة الشيطان ولا الشره الجنسي فيه.
وثالثها: أن هناك علاقة لزومية واضحة بين الممارسات الجنسية السليمة والنضج الحضاري والارتقاء الثقافي والاستقامة الأخلاقية.
وبذلك نؤكد ما أشرنا إليه في المقال السابق، ألا وهو أن الجنس سلوك أخلاقي عند البشر، ودون ذلك من انحرافات يعد انحطاطاً خلقياً أو مرضاً عضوياً، وعليه فنحن في حاجة إلى دراسة فلسفية للكشف عن الممارسات الجنسية المنحرفة في مجتمعاتنا ليسهل على التطبيقيين معالجتها بعد ذلك.
* د. عصمت نصار
فلسفة الجنس ووحدة الوجود الإنساني -2-
.
صورة مفقودة
Ronai
.