نقوس المهدي
كاتب
الغزل بصوت أنثوي
عندما تعشق الأنثى.. تصمت، وحين يعشق الرجل.. يبوح، كان ذلك حال العاشقات والعاشقين، رجالٌ تهيم في الحب وتقول شعراً في حبيبات صُنعن من زجاجٍ وعاج، وعاشقات تلوَّعن بجمر الحب ولهيبه وأخفين ما ملك القلب من هوى، فلا العاشقة تعلن ولا الحبيب يدري وتذهب القصة أدراج الرياح، لترتبط العاشقة بآخر ولا يدري بسهر الليالي أحد سواها، وبضع كلمات قالتها في لوعة من زمان، خجل يلوح الخدود وعادات تكويها كي لا تبوح، لكن ذلك لم يكن حال جميعهن، إذ برزت نساء بألف رجل، غلبن التقاليد وكسرن أطواق الحديد، فخفَّ الوثاق عن الأعناق وسردن مكنونات القلب المشتاق، فالغزل بصوت أنثوي له رنين آخر، كرقيق الحرير ورقصة خلخال على فراش وثير، مزيجٌ من بحة الصوت والقلب، يضعنا على عتبة شاعرات عاشقات غلبن العالم بالكلمة الحرة.
قد تجسد ما سبق في الشاعرة العربية عُليَّة بنت المَهْدي (160 – 210 ه) وهي شقيقة الخليفة العباسي هارون الرشيد واشتهرت بلقب “العبَّاسة”. والدها المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور .. أما والدتها فكانت جارية مغنية تُدعى «مكنونة».. فُرض عليها الرق، وأتقنت الغناء دون حرج لأنها جارية فأورثت حب الغناء لابنتها عُلية، وُصفت بأنها فاتنة الجمال وبارعة الذكاء، أميرة القصر المدللة التي تلهو بين ما ملكت من جواري وغلمان، عُرف عنها حبها للتراسل بالشعر وجرت التقاليد ألا يمارس للغناء إلا العبيد والموالي واللذين ينتمون إلى المذاهب الشديدة التدين لقول الأناشيد الدينية.
شاعرات عربيات - علية بنت المهدي
فما بالكم بعلية ابنة الخليفة المهدي، عاشت صراع نفسي منذ صغرها، إذ كان عليها أن تسلك نهج الأميرات وتظهر بالوقار كماجرت العادة وألا تحضر مجالس الغناء إلا من وراء ستار، إلا أنها رغم كل تلك القيود كانت تهوى تأليف الألحان والتغزل بمن يعجبها من الخدم، وقعت في غرام خادمٍ لديها كانوا ينادونه “طل”، فسلبَ جماله لبَّها وفاض بها الهيام وخرج له وافر الشعر من قلبها المتيم، وحدَث مرة بأنه احتجب عنها ولم تره لأيام طِوال، فكاتبتهُ قائلة:
قـد كان مـا كلفتــه زمنـاً = يا طل من جـدٍ بكـم يكـفيني
حتى أتيتك زائراً عجلاً = أمشي على حتفٍ إلى حتف
وقالت عليَّة في طل بعد أن قامت بتمويه إسمه فغيرت لفظه من ‘طل’ الى ‘ظل’:
سـلِّم على ذاكَ الغزال = الأغـيـدُ الحسـنُ الـدَّلالِ
سـلِّم عـليـه وقـل لــه = يا غِـل ألـبـابَ الرجـالِ
خليتَ جسمي ضاحياً = وسكنتَ في ظلِّ الحجا
وبـلَـغـتَ مـنِّي غـايـةً = لم أدرِ فيها ما احتيالي
شاعرات عربيات - ديوان علية
تتشابه القصص على الرغم من اختلاف الأزمان والأحوال، فقصة عليَّة وتوقها لحبيبها تتكرر مع ولاّدة بنت المستكفي الأميرة الأندلسية والشاعرة العربية ذات الحسب والنسب، إبنة الخليفة الأموي المستكفي بالله حاكم قرطبة، اشتهرت ولّادة بلغتها الفصيحة وشعرها الأنثوي الذي يحمل عواطف صريحة ملتهبة، تلك الجميلة الرقيقة المدللة.
وصل تفاخرها بما تملك من سحر ومكانة حتى تغزلت بجمالها وما ملكت من جمال، فقد ورثت لون بشرة والدتها البيضاء وعيناها الزرقاوتين، وقد هامت بحبها أفئدة أشراف القوم، وكان أشهرهم إبن زيدون الذي قال فيها أروع أشعاره، بعد مقتل والدها المستكفي تفرّغت ولّادة للهو والمتعة وحوّلت دراها إلى مجلس لرجال الأدب والشعر وباتت تخالطهم وتناقشهم إلى حد منافستهم و هي أشبه ما تكون بمي زيادة في العصر الحديث، وفي ذاك الوقت نشأت علاقة بين ولَّادة بإبن زيدون واتَّقد الحب، لكن نشبت خلافات بينهما بسبب جاريتها التي تتمتع بصوت جميل أثار إعجاب إبن زيدون فأثنى عليها، ما حرك غيرة ولادة، فعاتبته قائلة:
لو كنتَ تُنصِفُ في الهوى ما بيننا = لـم تهـوَ جـاريتي ولـم تتـخيَّـرِ
وَتـركـتَ غـصـناً مثمـراً بجـمـالـه = وجنحْتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقـد عـلـمْـتَ بـأنّـني بـدر الســمـا = لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري
وعُرفت ولَّادة بكتابتها لبيتين شهيرين من الشعر مادحةً فيهما نفسها، كان كل واحد منهما منقوشاً على جهة من ثوبها، تقول فيهما:
أنـــا والله أصــلُـحُ للـمـعـــالي = وأمشي مشـيتي وأتيـهُ تيـهـا
أُمَكِّنُ عاشقي من صحْنِ خدِّي = وأُعطي قُبلتي مَن يَشـتهيهـا
قال عنها ابن بسّام:
كانت وحيدة نساء زمانها حسن منظر وحلاوة مورد ومصدر وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المِصر، وملعباً لجياد النظر والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها
ذكرها ابن بشكوال (وُلد في قرطبة سنة 494 هـ – 1100 م، و توفي سنة 578هـ / 1182م.) فقال فيها:
كانت أديبة شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء، وتعرف البرعاء، وعمرت طويلاً، ولم تتزوج قط.
شاعرات عربيات - ولادة
أيضاً في الأندلس التي شهدت وفرة في عدد الشاعرات، اشتهرت الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية خلال القرن السادس وهي شاعرة أديبة من شاعرات وأديبات غرناطة، كانت ذات جمال وحسب وثراء وبديهة وسرعة خاطر ، لم تجد غضاضة في البوح بعذب الشعر الذي يفيض شوقا ولهفة لحبيبها الوزير أبي جعفر أحمد بن سعيد، فقالت تتغزل فيه:
أغارُ عليكَ من عينيَّ ومنِّي = ومنكَ ومن زمانِكَ والمكانِ!
ولو أني خبـأتُـكَ في عيوني = إلى يـومِ القيامـةِ مـا كفـَّاني
أوغلت حفصة في عشقها لأبي جعفر فانسكب حلو الكلام من ثغرها، وكان أسلسه قولها:
أزورُكَ أم تزورُ؟ فـإن قلبي = إلى ما تشـتهي أبدأ يميـلُ
فعجِّـل بالجوابِ فـما جميـلٌ = إباؤُكَ عن بُثَيْنَةَ يا جميـلُ!
شاعرات عربيات - حفصة
كان من الشاعرات العرب من عانَين قسوة المحبوب وتجرَّعن مرارة الهجر والفراق، وقد تجلى ذلك من خلال كلمات بُحن بها لتنطق بحال قلبهن المكسور، إحداهن كانت “أم الضحاك المحاربية” وهي شاعرة غزل جاهلية، أفرطت في حب زوجها الضباب، وزاد طلاقهما من تعلقها به ولهفتها واشتياقها له، فنراها تناجي ذكراه من خلال قولها:
هل القلب إن لاقى الضبابي خالياً = لدى الركنِ أو عند الصفا متحرِّجُ
وأعـجـلـنـا قـربَ الـمحـلِّ وبـيننـا = حديثٌ كتنشـيجِ المريضين مزعجُ
وقالت فيه أيضاً:
سـألـتُ المحـبِّيـن الـذيـن تحـمَّـلوا = تباريحَ هذا الحبِّ من سـالفِ الدَّهـرِ
فقلت لهـم مـا يذهب الحـب بعدما = تـبـوأ مـا بيـن الجَّــوانـحِ والصَّــدرِ
فقالـوا شــفاء الحـبِّ حـبٌّ يُـزيلـه = من آخرٍ أو نـأيٌ طويـلٌ على هجـرِ
أو اليأسُ حتى تذهلُ النفسُ بعدما = رجعت طمعًا واليأس عونٌ على الصبرِ
كما نالت الشاعرة أمة الرحمن بنت أبي محمد عبد الحق بن عطية المحاربي، التي كان لقبها الشائع “أم الهناء الأندلسية” نصيباً وافراً من الشهرة، فكانت مثالاً للمرأة الأندلسية المتنورة بما تملكه من عقلٍ راجحٍ زاد من شأنها في حلقات العلم، وعُرفت أم الهناء بعذوبة شعرها وتغزلها العفيف بمن أحبَّت والحزن الخبيء الذي سكن روحها، ومثال على ذلك قولها:
جـاءَ الكتـابُ مـن الحـبيـبِ بِأنَّهُ = سَيَزُورُني فاستعبرتْ أجفاني
غَـلَـبَ السـرورُ علـيَّ حتى أنـه = من عُظمِ فَرْطِ مسرَّتي أبكاني
يا عينُ صارَ الدمعُ عندكِ عادةً = تبكـينَ من فـرَحٍ ومن أحـزانِ
فاسـتقبـلي بالبِـشْـرِ يَـوْمَ لـقـائِـهِ = وَدَعي الدمـوعَ لِلَيْلَةِ الهجران!
شاعرات عربيات - أمة الرحمن
كانت اللوعة ذاتها من نصيب أميمه امرأة ابن الدمينة، وهي شاعرة أموية. كان زوجها من شعراء الغزل، عاتب زوجته يوماً في شيء كان بينهما فأجابته بأبيات من الشعر، متجاوزة كل الأعراف الاجتماعية السائدة في عصرها وتقول به:
وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَني = وأشمتَّ بِيَ مَن كان فيكَ يلومُ
وأبـرزْتَنِـي للـنَّـاسِ ثـمَّ تركْـتَنِي = لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سـليمُ
فلوْ أنَّ قولاً يكلِـمُ الجسـمَ قدْ بدا = بجسميَ مِنْ قولِ الوُشـاةِ كلومُ
على الرغم من قسوة التقاليد التي عانى منها مجتمعنا العربي والتي طمست عدداً لا يمكن حصره من أشعار النساء على مر التاريخ فذهب معظمها أدراج الرياح، بفرحها وحزنها وشوقها وآهاتها ولهيبها، إلا أن ما بقي من تلك الأشعار ودوّن مرفقاً بإسم الحرَّة التي عبرت عن مكنونات نفسها، يعتبر كنزاً ثميناً يثري تاريخنا وكأنه بستان من الورد العبق يزين صحراءنا الموحشة، فنفخر بهن لدورهن في إثبات وجود المرأة وإيصال صوتها بجرأة وتحدٍ في مجتمع يتباهى بسطوة الرجل وقدرته على تكميم أفواه ما امتلك من نساء.
.
.
عندما تعشق الأنثى.. تصمت، وحين يعشق الرجل.. يبوح، كان ذلك حال العاشقات والعاشقين، رجالٌ تهيم في الحب وتقول شعراً في حبيبات صُنعن من زجاجٍ وعاج، وعاشقات تلوَّعن بجمر الحب ولهيبه وأخفين ما ملك القلب من هوى، فلا العاشقة تعلن ولا الحبيب يدري وتذهب القصة أدراج الرياح، لترتبط العاشقة بآخر ولا يدري بسهر الليالي أحد سواها، وبضع كلمات قالتها في لوعة من زمان، خجل يلوح الخدود وعادات تكويها كي لا تبوح، لكن ذلك لم يكن حال جميعهن، إذ برزت نساء بألف رجل، غلبن التقاليد وكسرن أطواق الحديد، فخفَّ الوثاق عن الأعناق وسردن مكنونات القلب المشتاق، فالغزل بصوت أنثوي له رنين آخر، كرقيق الحرير ورقصة خلخال على فراش وثير، مزيجٌ من بحة الصوت والقلب، يضعنا على عتبة شاعرات عاشقات غلبن العالم بالكلمة الحرة.
قد تجسد ما سبق في الشاعرة العربية عُليَّة بنت المَهْدي (160 – 210 ه) وهي شقيقة الخليفة العباسي هارون الرشيد واشتهرت بلقب “العبَّاسة”. والدها المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور .. أما والدتها فكانت جارية مغنية تُدعى «مكنونة».. فُرض عليها الرق، وأتقنت الغناء دون حرج لأنها جارية فأورثت حب الغناء لابنتها عُلية، وُصفت بأنها فاتنة الجمال وبارعة الذكاء، أميرة القصر المدللة التي تلهو بين ما ملكت من جواري وغلمان، عُرف عنها حبها للتراسل بالشعر وجرت التقاليد ألا يمارس للغناء إلا العبيد والموالي واللذين ينتمون إلى المذاهب الشديدة التدين لقول الأناشيد الدينية.
شاعرات عربيات - علية بنت المهدي
فما بالكم بعلية ابنة الخليفة المهدي، عاشت صراع نفسي منذ صغرها، إذ كان عليها أن تسلك نهج الأميرات وتظهر بالوقار كماجرت العادة وألا تحضر مجالس الغناء إلا من وراء ستار، إلا أنها رغم كل تلك القيود كانت تهوى تأليف الألحان والتغزل بمن يعجبها من الخدم، وقعت في غرام خادمٍ لديها كانوا ينادونه “طل”، فسلبَ جماله لبَّها وفاض بها الهيام وخرج له وافر الشعر من قلبها المتيم، وحدَث مرة بأنه احتجب عنها ولم تره لأيام طِوال، فكاتبتهُ قائلة:
قـد كان مـا كلفتــه زمنـاً = يا طل من جـدٍ بكـم يكـفيني
حتى أتيتك زائراً عجلاً = أمشي على حتفٍ إلى حتف
وقالت عليَّة في طل بعد أن قامت بتمويه إسمه فغيرت لفظه من ‘طل’ الى ‘ظل’:
سـلِّم على ذاكَ الغزال = الأغـيـدُ الحسـنُ الـدَّلالِ
سـلِّم عـليـه وقـل لــه = يا غِـل ألـبـابَ الرجـالِ
خليتَ جسمي ضاحياً = وسكنتَ في ظلِّ الحجا
وبـلَـغـتَ مـنِّي غـايـةً = لم أدرِ فيها ما احتيالي
شاعرات عربيات - ديوان علية
تتشابه القصص على الرغم من اختلاف الأزمان والأحوال، فقصة عليَّة وتوقها لحبيبها تتكرر مع ولاّدة بنت المستكفي الأميرة الأندلسية والشاعرة العربية ذات الحسب والنسب، إبنة الخليفة الأموي المستكفي بالله حاكم قرطبة، اشتهرت ولّادة بلغتها الفصيحة وشعرها الأنثوي الذي يحمل عواطف صريحة ملتهبة، تلك الجميلة الرقيقة المدللة.
وصل تفاخرها بما تملك من سحر ومكانة حتى تغزلت بجمالها وما ملكت من جمال، فقد ورثت لون بشرة والدتها البيضاء وعيناها الزرقاوتين، وقد هامت بحبها أفئدة أشراف القوم، وكان أشهرهم إبن زيدون الذي قال فيها أروع أشعاره، بعد مقتل والدها المستكفي تفرّغت ولّادة للهو والمتعة وحوّلت دراها إلى مجلس لرجال الأدب والشعر وباتت تخالطهم وتناقشهم إلى حد منافستهم و هي أشبه ما تكون بمي زيادة في العصر الحديث، وفي ذاك الوقت نشأت علاقة بين ولَّادة بإبن زيدون واتَّقد الحب، لكن نشبت خلافات بينهما بسبب جاريتها التي تتمتع بصوت جميل أثار إعجاب إبن زيدون فأثنى عليها، ما حرك غيرة ولادة، فعاتبته قائلة:
لو كنتَ تُنصِفُ في الهوى ما بيننا = لـم تهـوَ جـاريتي ولـم تتـخيَّـرِ
وَتـركـتَ غـصـناً مثمـراً بجـمـالـه = وجنحْتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقـد عـلـمْـتَ بـأنّـني بـدر الســمـا = لَكن دهيت لشقوتي بالمشتري
وعُرفت ولَّادة بكتابتها لبيتين شهيرين من الشعر مادحةً فيهما نفسها، كان كل واحد منهما منقوشاً على جهة من ثوبها، تقول فيهما:
أنـــا والله أصــلُـحُ للـمـعـــالي = وأمشي مشـيتي وأتيـهُ تيـهـا
أُمَكِّنُ عاشقي من صحْنِ خدِّي = وأُعطي قُبلتي مَن يَشـتهيهـا
قال عنها ابن بسّام:
كانت وحيدة نساء زمانها حسن منظر وحلاوة مورد ومصدر وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المِصر، وملعباً لجياد النظر والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها
ذكرها ابن بشكوال (وُلد في قرطبة سنة 494 هـ – 1100 م، و توفي سنة 578هـ / 1182م.) فقال فيها:
كانت أديبة شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء، وتعرف البرعاء، وعمرت طويلاً، ولم تتزوج قط.
شاعرات عربيات - ولادة
أيضاً في الأندلس التي شهدت وفرة في عدد الشاعرات، اشتهرت الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية خلال القرن السادس وهي شاعرة أديبة من شاعرات وأديبات غرناطة، كانت ذات جمال وحسب وثراء وبديهة وسرعة خاطر ، لم تجد غضاضة في البوح بعذب الشعر الذي يفيض شوقا ولهفة لحبيبها الوزير أبي جعفر أحمد بن سعيد، فقالت تتغزل فيه:
أغارُ عليكَ من عينيَّ ومنِّي = ومنكَ ومن زمانِكَ والمكانِ!
ولو أني خبـأتُـكَ في عيوني = إلى يـومِ القيامـةِ مـا كفـَّاني
أوغلت حفصة في عشقها لأبي جعفر فانسكب حلو الكلام من ثغرها، وكان أسلسه قولها:
أزورُكَ أم تزورُ؟ فـإن قلبي = إلى ما تشـتهي أبدأ يميـلُ
فعجِّـل بالجوابِ فـما جميـلٌ = إباؤُكَ عن بُثَيْنَةَ يا جميـلُ!
شاعرات عربيات - حفصة
كان من الشاعرات العرب من عانَين قسوة المحبوب وتجرَّعن مرارة الهجر والفراق، وقد تجلى ذلك من خلال كلمات بُحن بها لتنطق بحال قلبهن المكسور، إحداهن كانت “أم الضحاك المحاربية” وهي شاعرة غزل جاهلية، أفرطت في حب زوجها الضباب، وزاد طلاقهما من تعلقها به ولهفتها واشتياقها له، فنراها تناجي ذكراه من خلال قولها:
هل القلب إن لاقى الضبابي خالياً = لدى الركنِ أو عند الصفا متحرِّجُ
وأعـجـلـنـا قـربَ الـمحـلِّ وبـيننـا = حديثٌ كتنشـيجِ المريضين مزعجُ
وقالت فيه أيضاً:
سـألـتُ المحـبِّيـن الـذيـن تحـمَّـلوا = تباريحَ هذا الحبِّ من سـالفِ الدَّهـرِ
فقلت لهـم مـا يذهب الحـب بعدما = تـبـوأ مـا بيـن الجَّــوانـحِ والصَّــدرِ
فقالـوا شــفاء الحـبِّ حـبٌّ يُـزيلـه = من آخرٍ أو نـأيٌ طويـلٌ على هجـرِ
أو اليأسُ حتى تذهلُ النفسُ بعدما = رجعت طمعًا واليأس عونٌ على الصبرِ
كما نالت الشاعرة أمة الرحمن بنت أبي محمد عبد الحق بن عطية المحاربي، التي كان لقبها الشائع “أم الهناء الأندلسية” نصيباً وافراً من الشهرة، فكانت مثالاً للمرأة الأندلسية المتنورة بما تملكه من عقلٍ راجحٍ زاد من شأنها في حلقات العلم، وعُرفت أم الهناء بعذوبة شعرها وتغزلها العفيف بمن أحبَّت والحزن الخبيء الذي سكن روحها، ومثال على ذلك قولها:
جـاءَ الكتـابُ مـن الحـبيـبِ بِأنَّهُ = سَيَزُورُني فاستعبرتْ أجفاني
غَـلَـبَ السـرورُ علـيَّ حتى أنـه = من عُظمِ فَرْطِ مسرَّتي أبكاني
يا عينُ صارَ الدمعُ عندكِ عادةً = تبكـينَ من فـرَحٍ ومن أحـزانِ
فاسـتقبـلي بالبِـشْـرِ يَـوْمَ لـقـائِـهِ = وَدَعي الدمـوعَ لِلَيْلَةِ الهجران!
شاعرات عربيات - أمة الرحمن
كانت اللوعة ذاتها من نصيب أميمه امرأة ابن الدمينة، وهي شاعرة أموية. كان زوجها من شعراء الغزل، عاتب زوجته يوماً في شيء كان بينهما فأجابته بأبيات من الشعر، متجاوزة كل الأعراف الاجتماعية السائدة في عصرها وتقول به:
وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَني = وأشمتَّ بِيَ مَن كان فيكَ يلومُ
وأبـرزْتَنِـي للـنَّـاسِ ثـمَّ تركْـتَنِي = لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سـليمُ
فلوْ أنَّ قولاً يكلِـمُ الجسـمَ قدْ بدا = بجسميَ مِنْ قولِ الوُشـاةِ كلومُ
على الرغم من قسوة التقاليد التي عانى منها مجتمعنا العربي والتي طمست عدداً لا يمكن حصره من أشعار النساء على مر التاريخ فذهب معظمها أدراج الرياح، بفرحها وحزنها وشوقها وآهاتها ولهيبها، إلا أن ما بقي من تلك الأشعار ودوّن مرفقاً بإسم الحرَّة التي عبرت عن مكنونات نفسها، يعتبر كنزاً ثميناً يثري تاريخنا وكأنه بستان من الورد العبق يزين صحراءنا الموحشة، فنفخر بهن لدورهن في إثبات وجود المرأة وإيصال صوتها بجرأة وتحدٍ في مجتمع يتباهى بسطوة الرجل وقدرته على تكميم أفواه ما امتلك من نساء.
.
.