عماد فؤاد - ستّة أقدام تحت الأرض

I
ابقي كما أنتِ
أريدكِ هكذا
منكوشة الشعر
دون ماكياج
أو أحمر شفاه يجعلني أتردّد قبل أن أقرِّب شفتيَّ من شفتيكِ، دون طلاء أظفار أو مزيل عَرَق أو عطر تخبِّئين خلفه رائحتكِ الحقيقيّة، أريدكِ عارية الروح، مسلوخةً وبيضاء، ها هنا، جالسةً أمامي، مقيّدة القدمين والذراعين ومفتوحة الفخذين، نحتاج أن نتحدّث طويلاً قبل أن نتفاهم، نحتاج أن نهبط إلى السراديب المعتمة كي نفتح صناديقنا المخبّأة بعناية، تلك التي تراكمت فوق أغطيتها طبقات الأتربة والغبار وعشَّشت فوقها العناكب، هذا الصندوق مثلاً، نعم، هذا، البنّي العريض، افتحيه، ستجدين بداخله كلّ الصور التي التقطناها لوجهينا السعيدين حين كنّا صغيرين، غافلين عمّا نحن فيه الآن
هذا الصندوق هناك، هل ترينه، ستجدين بداخله كلّ الأماكن التي سرقنا فيها قبلاتنا المحمومة: سلالم عمارات القاهرة العالية التي ليس لها حرّاس، كورنيش اسكندريّة ومقابر ميلان وشوارع بورسعيد وميدان طلعت حرب وقرية الفرعونية ومدينة السلام وليل مدريد وجلافة بروكسيل وصيف كاتالونيا ووسط البلد وموڤمبيك المطار وشيراتون الأسكندريّة وأوراسي الجزائر وقحط المنامة، كلّ الأماكن التي تركنا فيها ما يدلّ علينا، هل تذكرين، هنا مثلاً قبَّلتكِ للمرة الأولى، في هذا الممرّ الطويل بفندق ثلاث نجوم على بحر اسكندريّة، كنتِ خارجةً من حمَّامكِ الصباحيّ، وكنتُ أحاول تهجِّي ألوان عينيكِ وأنا أختبئ من ضوء الشمس الذي يعميني عن النظر في الأزرق السماويّ الذي لا تحدّه شطوط.

II
أحتاج الآن
أن أفتح أصابعكِ هذه
وأضع روحي بينها
كما لو كنتِ طفلةً صغيرة
أعلِّمها كيف تقبض على لعبتها الجديدة
الأرواح لعبٌ يا حبيبتي، الأجساد أيضاً، ثمّة دائماً ما يمكننا أن نحوّله إلى لعبة نُلهي بها وقتنا، تصوّري مثلاً أنني الآن مستعدّ أن أجعلكِ ترين أحشاءكِ وهي تخرج من بطنكِ الجميل هذا، فقط بحركة واحدة من نصل هذا الخنجر، وستجدينها كلّها أمام عينيكِ، لطالما كنت أرقب أمّي وهي تنظّف الدجاج والبطّ والإوزّات والأرانب قبل أن تضعها في الديب فريزر
كنت أحبّ هذه اللحظات،
وهي تهيّئ هذه اللحوم طازجةً ومستعدّةً للطهو في حال زيارة مفاجئة أو ضيوف طارئين، وهي تفصل المعدة عن الأمعاء وتُزيل الدم الأحمر القاني المتجلّط وسط اللحم، وهي تنتف الريش بالماء المغلي وتفتح بالسكّين عند الصدر، وهي تفصل غرف القلب وتغسله بالماء النظيف، لا يمكن لامرأة ما أن تكون محترفة مثل أمّي في تنظيف الطيور المذبوحة، كنت أجلس منبهراً كأنّني أتفرّج على ساحرة تريني ما لم أره من قبل، أنظر إلى أصابعها السريعة المدرّبة وأتخيّل كم كان هذا الديك جميلاً وهو يطارد دجاجاته منذ قليل، كم كان ريشه يلمع تحت الشمس وهو يعدو خلفهنّ متباهياً بذكورته، لذا لا تخافي، اطمئنّي تماماً، حركة الخنجر لن تشعركِ بشيء، اللهمّ بسحبة خفيفة لروحكِ، كما لو أنّ عصا الكمان التي طالما أحببناها في موسيقى "الأب الروحي" قد مرّت سريعةً وخاطفة على بطنكِ العاري.

III
قطرة ماء واحدة، وسأجعلكِ تصابين بالجنون، التعذيب والتنكيل شيءٌ سهل، لا يحتاج إلى خبرات أو كتب لنتعلّمه، في مكانكِ هذا، وعلى مقعدكِ الجميل الملتذّ الآن بسخونة ردفيكِ الدافئين، سأجعلكِ تعرفين معنى العتمة، معنى البرودة، معنى أن تكوني وحيدةً تماماً، عاريةً تماماً، ومسلوخةً تماماً، هنا، في هذا المستطيل الصغير سأجعلكِ تعرفين قدْر نفسكِ، لن أفعل فعل الأغبياء وأبدأ في خلع أظفاركِ الجميلة المنمّقة المبريّة جيّداً واحداً تلو الآخر، هذا فعلُ الضعفاء، ثمّة ما يمكن فعله والاحتفاظ بجثّتكِ سليمة، سأحتاجها في ما بعد، حين أحملكِ عالياً وأرميكِ من النافذة على رؤوس المتجمهرين تحت نافذتي يطالبون برأسك، فهم أولى منّي بلحمكِ، نهمُهُم لن يشبع إلا بالتهامكِ قطعةً قطعةً، كما فعلوا بجان باتيست غرنوي
لست مخموراً
أنا صاحٍ تماماً
تظنّين أنني بدأت أدوخ من فعل زجاجتين حقيرتين من النبيذ الأحمر؟
هااا؟!
لا، اطمئنّي
شربتُهما نكايةً في دمكِ
يا "محبَّة".
يقال إن الرجال يفضّلون النبيذ الأحمر القاني، فيما تفضل النساء النبيذ الأبيض، طبعا ثمّة استثناءات في الأمر، لكن هذا ما يقال، طيِّب أخبريني أنتِ: لماذا؟! شغّلي مخّك، برافو!، شاطرة!!، ما قلتهِ صحيح تماماً، الرجل يرى في النبيذ الأحمر دم بكارة أنثاه، فيما ترى المرأة في نبيذها الأبيض منيَّ رجلها، طبعاً من الغباء أن نبسّط الأمور على هذا النحو الساذج، لكنه على كلّ حال ليس بعيداً عن الحقيقة، ها نحن نعود من جديد إلى الثنائية الغبية التي تحكم عالمنا الحقير، ذكرٌ ومؤنّث، مؤنَّث وذكر، يبدو أننا مجبولون على التخريف وتحويل كلّ شيء لدينا إلى جنس
هه؟
ماذا؟
نبيذٌ؟!
آها، ولِمَ لا
سأعتبرها أمنيتكِ الأخيرة
أحمر...
... أم أبيض؟

IV
كأسكِ يا "محبّة"
في صحّتكِ وصحّة روحكِ
أتفه شيء فينا هو الروح، وأصلبها أيضاً، أتعجّب أصلاً من هذا الشيء غير المحسوس فينا، لو كنتِ فهمتِ روحي، لو كنتِ فقط حاولتِ، ما كنّا الآن نجلس جلستنا الحقيرة هذه، أنا أقف أمام طاولة مفروشة بالمقصّات وأمواس الحلاقة والسّكاكين ذات الشفرات الحادّة والملاقط والدبابيس، وأنتِ تجلسين مقيّدة الذراعين والقدمين على مقعد مثبّت في هذه الغرفة المعتمة
في الحقيقة أنا لستُ نادماً على السنين التي ضيّعتُها معكِ يا "محبّة"، أنا فقط حزين على نفسي، حزين على روحي التي تجعّدتْ تماماً وصارتْ لا تصلح لشيء، أفسدتِ كلّ شيء بغبائكِ، لم تحاولي قطّ أن تمدّي رأسكِ المغرور خارج شرنقة ذاتكِ كي تطالعي العالم من الخارج، الأنانيّة موهبةٌ لا يملكها الكثيرون، وأنتِ محترفةُ أنانيّةٍ، كنتُ أجلس بالساعات تحت قدميكِ كي أسترضيكِ وأحاول تفهّمكِ، وأنتِ كما أنتِ، رأسكِ حجر، الغباءُ أيضا موهبة، كان صديقٌ لي يقول "الغبيّ ظالم"، وأنتِ ظلمتني يا "محبّة"، لذا لا تغضبي حين أصطاد روحكِ بصنّارة كآبتي وخيبتي فيكِ، وأرفعها عالياً كما لو كانت طفلتي الأخيرة، ثم أتركها تسقط في ماء الذكرى، وأنا فاقدٌ لأيّ أمل في اصطياد ولو سمكة صغيرة ترسم ابتسامةً ملتذّة على وجهي.

V
الجسد... تعالي نبدأ من الجسد...
فالروح أمرُها صعبٌ ومعقّد،
الجسد أسهل
قطعان الخراف المهرولة خوفاً من سكّينة الذبح
خوفاً من ماكينة جزّ الصوف المشهَرة في أيدي الغرباء وتركِها ببشرةٍ مكشوفة في ليالي الشتاء الباردة
هذا الجسد الذي أحمله أينما سرتُ، أو قولي الجسد الذي يحملني، ما عدتُ أعرف أيّاً يحمل الآخر أصلاً، أبدو أمامكِ الآن كأنني من يسوقه، مثل راعٍ فقير في الصحراء يهشّ بعصاه على عنزة واحدة، وعصاه طويلة كأنه يمنّي نفسه بعنزات أخريات
تعالي نبدأ من الجسد، جسدكِ أو جسدي
الأمر سيّان، جسدانا الآن يشبهان عملة نقد ترفّ على جنبها
دون أن تسقط
وتنحاز إلى ملك أو كتابة
جسدانا
بكلّ ما فيهما من قرف
وعصارات
وأنزيمات
ودم
وتقيّح
ودمامل
وبثور
وشعيرات قابلة للنتف
وأخرى تستعصي على النتف
بروائحه وإفرازاته ودموعه وعرقه ودهونه وشحومه
شيءٌ مقرف فعلاً أن أتحدّث الآن أمامكِ عن جسدينا بهذا الشكل، ههههههه، لا بأس، ستتعوّدين على كلامي الغبيّ، يا ما تعوّدتُ عليكِ وعلى أفكاركِ الغريبة، ثمّ من قال إنني بهذه الطريقة في الحديث أحطّ من قيمة الجسد، أبداً، أحبّ جسدكِ كما أحبّ جسدي، ألم يكن جسدكِ هو البوّابة الأولى لي كي ألج إلى روحكِ، تصوّري مثلاً لو أنكِ كنتِ قبيحة ودميمة ومنفوخة الأنف وتتمايلين كإوزّة حين تسيرين، هل كنتُ سأحبّكِ؟ طبعاً لا، المسألة ليست بهذه البساطة، تحتاج عيوننا أيضاً إلى الجمال كي تسكر، بعدها يسكر القلب، ثم تسكر العواطف، أرأيتِ كم جميلةٌ كلمة "العواطف" هذه، كلمةٌ من أفلام الستينات لكنها جميلة ونحن نقولها اليوم فنشعر بغباء النوستالجيا، ثم من قال إنّ حديثي هذا يضايق أحداً؟

قلت لكِ
الجسد بوَّابتنا الأولى
باب الخطيئة
وأبواب مغفرةٍ مؤجلة
أمرُه أسهل من الروح بكثير
وإلا لماذا كلَّما وقعتُ تحت قدميكِ كما أنا الآن
تألمّتْ روحي
واكتفى جسدي بنوّارٍ أحمر
اسمه الدم؟!


.
صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...