نقوس المهدي
كاتب
تأنيث الحرب:
ــــــــــــــــــــــ
ليس هناك من رأى الأمازونيات. شعب النساء الذي تقول الأسطورة إنه معاصر للإغريق، وأعلن الحرب على الرجال الذين أرادوا إلغاء البغاء المقدس وإقرار الافتراع الطقسي مكانه.
أفلاطون لم ير لكنه “لا يشك” في وجود الشعب الأنثى المحارب بجوار البحر الأسود. أبو قراط لم يكن متأكداً هو الآخر، لكنه سمح لنفسه بخلق صورة غرائبية؛ فهن بثدي واحد لأن الآخر يكوى لحظة الولادة فلا ينمو، لكي تنطلق بدلاً منه قوة وكمال الأذرع والأكتاف اليمنى للمحاربات!
ما سر هذه الأسطورة عن شعب لم يره أحد ويجزم الجميع بوجوده؟!
لعلها حصة الأنوثة في الرجال خلقت حنينهم إلى المرأة المنتصبة، أو لعلها ذكورة مضاعفة تبحث عن أنثى متحدية، ولعله الحنين لذات النوع متخفياً خجلان، وربما لؤم الرجال جعلهم يحاولون شيطنة النساء. وربما، لكل هذه الأسباب مجتمعة، استعادت السينما الأمريكية أسطورة الأمازونيات حاملات الآر بي جي، اللائي ساهمن في صناعة الحلم الأمريكي، حيث تفيض الأنهار ذهباً وتثمر الغابات الخضراء أنوثة برية تنتظر الترويض.
ضاد، جيم، عين:
ـــــــــــــــــــــــــ
يلزمكم قرن إضافي لتتعلموا التواضع. قالت المرأة الغاضبة مقاطعة المحاضر الذي أخذ يدور حول “المضاجعة”.
ـ ما هذا يا أستاذ؟!
قالت منفعلة، وارتبك الرجل الذي لم ير أنه ارتكب جرماً في فضاء حر يسمح بالصراحة. وسألها عن سبب احتجاجها. لم تعرف ما تقول، لكنها أخذت تشير بيديها بعصبية:
ـ هذه الـ .. الـ .. أنا لا اعتراض أخلاقياً لدي، لكن ألا ترى أنك كررت كثيراً كلمة قبيحة تقرقع حروفها. هل يمكن لرجل متحضر أن يصف هذا الجمال بكلمة تتشاجر فيها الضاد والجيم والعين على ألف واحد؟
تأنيث الغرفة:
ــــــــــــــــــ
في رواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” يقتحم جاسن غرفة كونتن ابنة أخته بحثاً عنها عندما استدعوها للإفطار فلم تستجب. يصف الراوي الذي يظهر في ذلك الفصل بالذات غرفة الفتاة ذات السبعة عشر: “لم تكن تلك غرفة فتاة. بل لم تكن غرفة أحد، وعطر المساحيق الرخيصة الباهت والأشياء الأنثوية القليلة والدلائل الأخرى على المحاولات الأنثوية الفجة لتأنيثها، لم تزد إلا في انعدام هويتها، مضيفة عليها ذلك الجو المكرور سريع العبور والزوال الذي تتصف به الغرف في المنازل السرية”.
أبت الغرفة التأنيث، لا لقلة أنوثة الفتاة المحبة للرجال كأمها بل لقلة مكوثها في غرفتها، مما يسمح بتراكم التفاصيل الهشة، الأنوثة سكون وامتداد في الزمن، بينما لم تكن كونتن تستقر ليلة في غرفتها؛ كانت تتسلل من نافذتها وتتعلق بفرع شجرة الإجاص وتنزل خلسة تبحث عن الحب.
وفي المرة الأخيرة تسلقت الشجرة، دخولاً وخروجاً من شباك خالها، وسرقت خمسة آلاف من الدولارات هي بالأساس نقودها التي ترسلها أمها كاندس على مدى سنوات لابنتها عبر الخال الذي يحتفظ بها لنفسه.
سرقت كونتن نقودها المسروقة أصلاً، وهربت مع لاعب سيرك، في تكرار لهروب أمها التي تبعت قلبها هي الأخرى، وفازت بلعنة رجال الأسرة بمن فيهم جاسن الذي يحجب حوالاتها لابنتها، ويعاشر امرأة يرفض أن يتزوجها أو يسمح لها بالمبادرة بمهاتفته لأي سبب كان.
وكأن أولئك الجنوبيين مثلنا. الأنوثة عندهم ملعونة لكونها أنوثة حتى لو كانت صادقة، والمجد للرجولة المخادعة!
تأنيث الشارع:
ــــــــــــــــــــــ
ليس النظام في مقابل الفوضى، أو الهدوء في مواجهة الصخب، أو النظافة في مواجهة القذارة هي التي تفرق شوارع الدنيا كلها عن الشارع العربي؛ بل حضور التأنيث وغيابه. شوارعنا ذكورية. الشارع فضاء للرجل؛ في الشارع يمشي ، في الشارع يأكل ويشرب ويبول إذا لزم الأمر، المرأة تعبر سريعاً، مغلفة غالباً، كسحابة لا تمطر.
مهاجر ومسافر:
ــــــــــــــــــــــــــ
إلى بلد واحد، مدينة واحدة، وعمل واحد، في وقت واحد يذهب المصري واللبناني. يكسر اللبناني زورقه، بينما يبقيه المصري في المرفأ جاهزاً للإقلاع في أية لحظة ينتفخ فيها شراعه بقليل من المال.
يحسب المصري المبلغ الذي يحتاجه لكي يعود ومهما طالت غيبته فهو “مسافر”، ويحسب اللبناني المبلغ الذي يريده لكي يعيش. ويُسمى “مهاجر”.
الهجرات المصرية الدائمة تأخرت نحو مائة عام عن اللبنانية والسورية، وبدأت من سكان السواحل أيضاً، مثالها محمد الفايد إبن الإسكندرية (خرج في خمسينيات القرن العشرين ولم يحصل على الجنسية البريطانية).
يقولون إن سكان الشواطئ يهاجرون بفضل روح المغامرة التي يتعلمونها من البحر، ولو كان الأمر كذلك لواصلوا الهجاج إلى آخر الدنيا، أو كرروا المغامرة في الاتجاه المعاكس عائدين.
الصحيح أنهم يعمرون في المهاجر بروح السكون الأنثوي؛ فالبحر الذكر الذي لا يكف عن التهديد بالمد لا يمكن أن تهدئ رعونته إلا الأرواح الأنثى، التي تعرف أن توتره، طال أو قصر، ذاهب إلى همود وارتخاء.
تأنيث الأفعى:
ــــــــــــــــــــ
جاء في التاو أن المرأة تحصل على مبتغاها من الرجل بالسكون.
وإذا كان تسميم الضحية هو مبتغى العنكبوت والأفعى، فالعنكبوت أنثى والأفعى ذكر.
العنكبوت كالمرأة يسكن في ركنه إلى أن تأتيه الضحية طائعة، الأفعى تبرز كالذكر برأس ولسان متوترين. وإن كانت تهمة الوسوسة للزوجين بالمعصية صحيحة، فقد وسوست الحية لآدم لا لحواء؛ فهو، وليس هي، من يمكن أن تستفزه استطالة الحية.
الحية، مؤنث لفظي، تولى الذكور تأنيث معناه تنصلاً من الجريمة.
.
ــــــــــــــــــــــ
ليس هناك من رأى الأمازونيات. شعب النساء الذي تقول الأسطورة إنه معاصر للإغريق، وأعلن الحرب على الرجال الذين أرادوا إلغاء البغاء المقدس وإقرار الافتراع الطقسي مكانه.
أفلاطون لم ير لكنه “لا يشك” في وجود الشعب الأنثى المحارب بجوار البحر الأسود. أبو قراط لم يكن متأكداً هو الآخر، لكنه سمح لنفسه بخلق صورة غرائبية؛ فهن بثدي واحد لأن الآخر يكوى لحظة الولادة فلا ينمو، لكي تنطلق بدلاً منه قوة وكمال الأذرع والأكتاف اليمنى للمحاربات!
ما سر هذه الأسطورة عن شعب لم يره أحد ويجزم الجميع بوجوده؟!
لعلها حصة الأنوثة في الرجال خلقت حنينهم إلى المرأة المنتصبة، أو لعلها ذكورة مضاعفة تبحث عن أنثى متحدية، ولعله الحنين لذات النوع متخفياً خجلان، وربما لؤم الرجال جعلهم يحاولون شيطنة النساء. وربما، لكل هذه الأسباب مجتمعة، استعادت السينما الأمريكية أسطورة الأمازونيات حاملات الآر بي جي، اللائي ساهمن في صناعة الحلم الأمريكي، حيث تفيض الأنهار ذهباً وتثمر الغابات الخضراء أنوثة برية تنتظر الترويض.
ضاد، جيم، عين:
ـــــــــــــــــــــــــ
يلزمكم قرن إضافي لتتعلموا التواضع. قالت المرأة الغاضبة مقاطعة المحاضر الذي أخذ يدور حول “المضاجعة”.
ـ ما هذا يا أستاذ؟!
قالت منفعلة، وارتبك الرجل الذي لم ير أنه ارتكب جرماً في فضاء حر يسمح بالصراحة. وسألها عن سبب احتجاجها. لم تعرف ما تقول، لكنها أخذت تشير بيديها بعصبية:
ـ هذه الـ .. الـ .. أنا لا اعتراض أخلاقياً لدي، لكن ألا ترى أنك كررت كثيراً كلمة قبيحة تقرقع حروفها. هل يمكن لرجل متحضر أن يصف هذا الجمال بكلمة تتشاجر فيها الضاد والجيم والعين على ألف واحد؟
تأنيث الغرفة:
ــــــــــــــــــ
في رواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” يقتحم جاسن غرفة كونتن ابنة أخته بحثاً عنها عندما استدعوها للإفطار فلم تستجب. يصف الراوي الذي يظهر في ذلك الفصل بالذات غرفة الفتاة ذات السبعة عشر: “لم تكن تلك غرفة فتاة. بل لم تكن غرفة أحد، وعطر المساحيق الرخيصة الباهت والأشياء الأنثوية القليلة والدلائل الأخرى على المحاولات الأنثوية الفجة لتأنيثها، لم تزد إلا في انعدام هويتها، مضيفة عليها ذلك الجو المكرور سريع العبور والزوال الذي تتصف به الغرف في المنازل السرية”.
أبت الغرفة التأنيث، لا لقلة أنوثة الفتاة المحبة للرجال كأمها بل لقلة مكوثها في غرفتها، مما يسمح بتراكم التفاصيل الهشة، الأنوثة سكون وامتداد في الزمن، بينما لم تكن كونتن تستقر ليلة في غرفتها؛ كانت تتسلل من نافذتها وتتعلق بفرع شجرة الإجاص وتنزل خلسة تبحث عن الحب.
وفي المرة الأخيرة تسلقت الشجرة، دخولاً وخروجاً من شباك خالها، وسرقت خمسة آلاف من الدولارات هي بالأساس نقودها التي ترسلها أمها كاندس على مدى سنوات لابنتها عبر الخال الذي يحتفظ بها لنفسه.
سرقت كونتن نقودها المسروقة أصلاً، وهربت مع لاعب سيرك، في تكرار لهروب أمها التي تبعت قلبها هي الأخرى، وفازت بلعنة رجال الأسرة بمن فيهم جاسن الذي يحجب حوالاتها لابنتها، ويعاشر امرأة يرفض أن يتزوجها أو يسمح لها بالمبادرة بمهاتفته لأي سبب كان.
وكأن أولئك الجنوبيين مثلنا. الأنوثة عندهم ملعونة لكونها أنوثة حتى لو كانت صادقة، والمجد للرجولة المخادعة!
تأنيث الشارع:
ــــــــــــــــــــــ
ليس النظام في مقابل الفوضى، أو الهدوء في مواجهة الصخب، أو النظافة في مواجهة القذارة هي التي تفرق شوارع الدنيا كلها عن الشارع العربي؛ بل حضور التأنيث وغيابه. شوارعنا ذكورية. الشارع فضاء للرجل؛ في الشارع يمشي ، في الشارع يأكل ويشرب ويبول إذا لزم الأمر، المرأة تعبر سريعاً، مغلفة غالباً، كسحابة لا تمطر.
مهاجر ومسافر:
ــــــــــــــــــــــــــ
إلى بلد واحد، مدينة واحدة، وعمل واحد، في وقت واحد يذهب المصري واللبناني. يكسر اللبناني زورقه، بينما يبقيه المصري في المرفأ جاهزاً للإقلاع في أية لحظة ينتفخ فيها شراعه بقليل من المال.
يحسب المصري المبلغ الذي يحتاجه لكي يعود ومهما طالت غيبته فهو “مسافر”، ويحسب اللبناني المبلغ الذي يريده لكي يعيش. ويُسمى “مهاجر”.
الهجرات المصرية الدائمة تأخرت نحو مائة عام عن اللبنانية والسورية، وبدأت من سكان السواحل أيضاً، مثالها محمد الفايد إبن الإسكندرية (خرج في خمسينيات القرن العشرين ولم يحصل على الجنسية البريطانية).
يقولون إن سكان الشواطئ يهاجرون بفضل روح المغامرة التي يتعلمونها من البحر، ولو كان الأمر كذلك لواصلوا الهجاج إلى آخر الدنيا، أو كرروا المغامرة في الاتجاه المعاكس عائدين.
الصحيح أنهم يعمرون في المهاجر بروح السكون الأنثوي؛ فالبحر الذكر الذي لا يكف عن التهديد بالمد لا يمكن أن تهدئ رعونته إلا الأرواح الأنثى، التي تعرف أن توتره، طال أو قصر، ذاهب إلى همود وارتخاء.
تأنيث الأفعى:
ــــــــــــــــــــ
جاء في التاو أن المرأة تحصل على مبتغاها من الرجل بالسكون.
وإذا كان تسميم الضحية هو مبتغى العنكبوت والأفعى، فالعنكبوت أنثى والأفعى ذكر.
العنكبوت كالمرأة يسكن في ركنه إلى أن تأتيه الضحية طائعة، الأفعى تبرز كالذكر برأس ولسان متوترين. وإن كانت تهمة الوسوسة للزوجين بالمعصية صحيحة، فقد وسوست الحية لآدم لا لحواء؛ فهو، وليس هي، من يمكن أن تستفزه استطالة الحية.
الحية، مؤنث لفظي، تولى الذكور تأنيث معناه تنصلاً من الجريمة.
.
صورة مفقودة