نقوس المهدي
كاتب
(الجزء الأول)
كان ترددي في محله عندما فاتحني الأستاذ عبد الصمد بلكبير في المساهمة في تقديم هذا الاصدار حول 23 مارس. فعلى فرض تجاوز كل الصعوبات المرتبطة بالموضوع، ما العمل مع إكراهات الذاكرة وألاعيبها؟.. وهل ينسى المرء مشيته؟! بهذه البساطة والعفوية يحل عبد الصمد الاشكالية. وقَطَعَ الشك باليقين عندما أتانا بالبينة: إحضار أعداد 23 مارس مصورة في «الملتقى»، وهو عمل مشكور وجدير بالتنويه به؛ بعد أن اعتُبر هذا التراث في حكم الضائع، فأنا شخصيا لا أتوفر الا على بضعة أعداد لست أدري كيف «علقت» بأغراضي عند نقلها إلى المغرب أوائل الثمانينات، وإلا كيف تعبر الحدود بمادة محرمة حتى ولو أقسمت بأغلظ الأيمان أنها «للاستهلاك الشخصي» فقط؟!
لنحاول إذن نفض الغبار عن ذكريات عمرها أربعون سنة أو أكثر، وليتحمل معنا القارئ عناء السفر في الدروب المعتمة لشذرات تاريخ كاد يطويه النسيان؛ علّنا في معركة الذاكرة هاته نحقق بعض الانتصار نغالب به انكساراتنا في ما عداها من المعارك، سيما وأن 23 مارس تضررت أكثر من غيرها على مستوى ما اعترى ذاكرتها من نزيف وغبن؛ بسبب القمع طبعا لكن ليس دائما بسبب القمع.
***
من "أنفاس" إلى "23 مارس"
شكل صدور جريدة «23 مارس» في الفاتح من فبراير 1975 محطة أساسية في التجربة الاعلامية لليسار السبعيني عامة وفصيل 23 مارس بوجه خاص. محطة اتسمت بنوع من النضج و«الاحترافية»، بمواصفات تلك المرحلة من الوجهة النضالية الذاتية، وتمتعت بقدر من الاستقرار إذ استمرت في الصدور طوال ست سنوات شابتها تقطعات وعدم انتظام في الدورية اذ لم يكن قد صدر منها أكثر من سبعين عددا أو أقل قليلا عندما استلمت «أنوال» المشعل في نوفمبر 1979.
ذلك أن 23 مارس جاءت تتويجا لجهود المنظمة واليسار عامة في مجال النشر والاعلام، أي مجال الصحافة الحزبية الخاصة باليسار الماركسي، أو بلغة ذلك العصر عند الماركسيين مجال الدعاية والتحريض. فقد تميز نشاط المنظمة على هذا المستوى، طوال السنوات السابقة على إصدار 23 مارس، ببناء جهاز تقني سري بالداخل أشرف على هذه المهمة بإصدار «الانطلاقة الثورية» (نشرة داخلية)، «المناضل» (نشرة جماهيرية مخصصة للتلاميذ مشتركة مع الفصيل الآخر المنشق عن التحرر والاشتراكية)، «النضال» (خاصة بالقطاع الطلابي)، «إلى الأمام» (نشرة جماهيرية أصدرتها المنظمة أولا ثم صارت مشتركة بين التنظيمين. انفرد بها التنظيم المنشق من التحرر والاشتراكية ابتداء من العدد السابع، بعد انسحاب المنظمة الأولى منها وإصدارها لنشرة 23 مارس، من ثمة أصبح التنظيم الأول هو 23 مارس، والتنظيم الثاني «إلى الأمام»)... ويجدر التنويه، مقدما، بأحد أعمدة هذا الجهاز السري، المناضل محمد فكري، وكل جنوده المجهولين؛ الأموات منهم والأحياء.
وعلى مستوى الخارج، أصدر التنظيمان بباريس صيف 1972 جريدة «أنفاس» بالعربية (موجهة بالأساس الى المناضلين والمثقفين العرب) وSouffles (موجهة بالأساس الى الرأي العام الثوري والديمقراطي في الخارج)، وذلك في إطار التنسيق بين المجموعات الثلاث (أ) و(ب) و(ج).
قبل ذلك، عندما كان اليسار في بداياته الأولى، وهو يحاول أن يفك الحصار المضروب على الحركة التقدمية المغربية في وقت لم يكن هناك صوت يعلو على صوت الصحافة الرسمية، كانت بعض المقالات النادرة تصدر في بعض المجلات التقدمية في الشرق العربي خاصة «الحرية»، مجلة الجناح اليساري لحركة القوميين العرب في بيروت. كانت هذه المقالات تنشر بأسماء مستعارة: «ناوري حسن»(محمد طالب حبيب)، على الحمراوي (المرحوم محمد البردوزي)، كما نشرت «الحرية» سنة 1971 استجوابا حول الوضع في المغرب بعنوان «حوار مع ثوري مغربي» (أحمد حرزني). نشرت «الحرية» أيضا سنة 1969 مقالا أساسيا بعنوان «موقف الطبقات والأحزاب في المغرب من القضية الفلسطينية» كتبه الفقيد محمد بوعبيد حمامة بإمضاء م.ح.
قبل أن يضطر اليسار الى الأساليب السرية للتعبير عن نفسه، كانت هناك تجربة «أنفاس» كمجلة ثقافية أولا باللغة الفرنسية التي أسسها سنة 1966 الشاعر عبد اللطيف اللعبي بمعية مصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين بدعم من الفنانين التشكيلين أساتذة معهد الفنون الجميلة بالدار البيضاء (بلكاهية، شبعة، المليحي..)، قبل أن تتحول الى مجلة ناطقة بشكل غير رسمي باسم الحركة الماركسية اللينينية بفصيليها إلى أن توقفت عن الصدور بداية 1972 بعد اعتقال اللعبي والسرفاتي والدرقاوي وشبعة..
في عملية الجرد السريع هاته، يجدر التنويه أيضا بمبادرة أخرى ذات دلالة في هذا المجال؛ مجال الدعاية والتحريض المرتبطين بنضال اليسار السبعيني وان لم تكن مرتبطة بالتنظيمين الأساسيين(أ) و(ب). ونقصد بها مبادرة «الوكالة الشعبية للأنباء» التي أسسها جمال بلخضر وأنيس بلفريج «استحقا» عليها، وعلى مناشير حول القضية الفلسطينية، عشر سنوات سجنا في محاكمة 1973.
لكن بين صدور 23 مارس سنة 1975 واليسار في أوجه، وبداية السبعينات واليسار في مهده، وقعت أحداث وتطورات وماجريات لا بد من الرجوع إليها والوقوف عند بعض محطاتها.
انتفاضة 23 مارس 1965
في البدء كانت انتفاضة 23 مارس 1965. سال فيها دم كثير وأريق على جوانبها مداد كثير أيضا لكن يبدو أنها لم تلفظ بعد كل أسرارها. فبعد خمسين سنة ما تزال كتابة التاريخ في بدايتها والقراءات متعددة لماجريات الأحداث بين من يهول من خطورتها ومن يهون من شأنها مثل عبد الله العروي الذي يرى أنها لم تكن بتلك الخطورة التي أضفيت عليها فيما بعد.
وبالنسبة لما بين أحداث 23 مارس 1965 وما بين اليسار السبعيني من الاتصال، هناك أيضا قراءات لعل أقربها إلى الواقع تلك الخلاصات التي تبنتها منظمة 23 مارس والتي ذكر بها الحبيب طالب في إضاءته، رغم أن البعض يزعم أن وجوده كتنظيم كان سابقا على وجودها بل وساهم في تفجيرها دون أن يفسر لنا لماذا لم يهده وعيه المبكر ذاك إلى الالتحاق بأحد الأحزاب أو التيارات التي كانت تناضل نضالا مريرا في الميدان والتي لم يكن قد صدر بعد في حقها الحكم بالاصلاحية والانتظارية والتحريفية والبلانكية..؟
على الصعيد الفردي، لكل حكايته مع 23 مارس. هناك من اكتوى بنارها أو مسته شرارتها، وهناك من قال إنه كان يتفرج من سطح بيته على أوفقير وهو يقصف الناس من طائرة الهيلوكبتير.. بالنسبة لي عشت أصداء الأحداث من خلال التجمعات الحاشدة بكلية الآداب بالرباط حيث الشرار المتطاير للكلمات النارية التي كان الخطباء يتناوبون على إلقائها وأتذكر منهم بالخصوص محمد سبيلا، القائد الطلابي الصاعد وقتها خاصة بالنسبة لنا نحن «البيضاويين» (عبد الله تيغزري، محمد سالم يفوت، محمد وقيدي...) كنا معه نعيش أحداث الدار البيضاء لحظة بلحظة.. وبعد أن نمتلئ حماسا كنا نخرج في مظاهرات صاخبة بباب الحد وأحياء الرباط القديمة.. وذلك قبل أن يحال محمد سبيلا على «التقاعد النضالي» بقرار حزبي.. فكان عزاؤنا، وقد فقدنا مشروع زعيم سياسي، أننا ربحنا فيلسوفا.
أثناء ذلك جاءني خبر اعتقال أخي محمد في الأحداث فتوجهت إلى الدار البيضاء في نفس أسبوع الانتفاضة وبداخلي بركان ينتظر الوصول الى درب السلطان لينفجر ويحرق الأخضر واليابس. في البيت بدأت والدتي بإبلاغي أوامر الولد الصارمة، كتنبيه إلى الحد بين الجد واللعب، بإزالة شبه اللحية «الثورية» التي نبتت على ذقني مدة غيابي في الرباط. كان التوتر سيد الموقف في كل مكان. أخلي سبيل أخي.. لكن وضعه الدراسي أو بالأحرى اللادراسي ظل شاهدا على جناية يوسف بلعباس على جيل بكامله.. ثم استأنف قطار الحياة سيره المعتاد..
سنة أولى يسار بالجزائر
أواخر دجنبر 1970، سأجد نفسي، بمعية زوجتي، لاجئا بالجزائر عند لاجئين فلسطينيين من آل أبو دقة، وذلك على إثر متابعة تداخلت فيها عوامل متصلة بتأسيس المنظمة في مارس 1970 وأخرى مرتبطة بالمتابعات وبجو القمع المخيم على المناضلين الاتحاديين منذ اعتقالات خريف 1969. كانت تجربة قاسية قدت من جمر تلك السنوات وتحملت فيها العائلة ما تحملت خاصة بعد الاعتقال المتكرر لأخي عبد الحفيظ حتى أن الأسرة ضبطت حياتها لأكثر من عقد من الزمن على إيقاع القمع وويلاته، والسجن وطقوسه وتوابعه وزوابعه.. سيكون للتجربة وقع شديد أيضا على الرفاق والأصدقاء كما عبر مصطفى مسداد عن ذلك في رسالة كتبها إلى بعد بضعة أسابيع من مغادرتي أستأذنه في نقل الفقرة التالية منها: «... أعزائي، لن أكون إلا مقصرا كل التقصير مهما حاولت أن أصور لكم الفراغ الذي تركتموه هنا في محيطنا الخاص أو العام. لم تعد الأشياء هنا بعد غيابكم تحمل نفس الرونق الذي كانت تحمله بوجودكما (...).. أعزائي، خلاصة القول لن أقول عن نفسي إلا أنني الآن أرزح تحت أعباء نفسية ضخمة لافتقادي لرفاقي الأكثر قرابة إلى نفسي على التوالي...» (في إشارة إلى اعتقال الحسين كوار سنة قبل ذلك).
في الجزائر، بعد أن نزلت على الرحب والسعة عند الفلسطينيين الذين أوصاهم عصام أبو دقة بي خيرا وتابع الى فلسطين المحتلة بعد أ ن أنهى دراسته بالرباط، بقي علي أن أعثر على امحمد طلال (مدير الدراسات بالمعهد العالي للإعلام والاتصال لاحقا)، المغربي الوحيد بالجزائر الذي أعرفه مذ كان مسؤولا بالشبيبة الاتحادية بالدار البيضاء قبل أن يرسله الحزب في بعثة للدراسة بالجزائر ويترك مكانه لعبد الرحمن العزوزي. ومن موقعه كطالب بالجزائر، وبمناسبة حضوره بعض مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، خاصة المؤتمر الثالث عشر، كان بعض الرفاق (الحسين كوار، مصطفى مسداد..)، حتى قبل تأسيس المنظمة، يطلبون منه القيام ببعض الاتصالات في الجزائر وفرنسا ويسعون من خلاله إلى معرفة ما يجري بالجزائر وتتبع ما يتسرب من ماجريات الصراع داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هناك بين تياري الفقيه البصري من جهة وعبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد من جهة أخرى.
ستبدأ مع طلال سيرورة التعرف على الجزائر ومغاربة الجزائر ومسألة السكن والتسجيل في الكلية ووو..الخ. سأقطن بـ«دار الحزب» بحي القبة وأتعرف على «سي عبد الرحمن» (لحسن زغلول)، قيدوم اللاجئين والمحكوم عليه بالاعدام، وهو القيم على الدار وعلى مكتبتها وأدوات الطبع والاستنساخ العتيقة بها وسوى ذلك من مآثر المهدي بنبركة في الجزائر ومن أتى بعده من المناضلين الذين اعتنوا خصوصا بالمكتبة وتطويرها من أمثال محمد الحداوي، «ولد جامع الفنا»(عبد الله رشد) ومحمد الباهي... وكانت تلك التجهيزات، كما حُكي لي، هدية من ألمانيا الديمقراطية في إطار مشروع أكبر من ذلك جرى التذاكر بشأنه بين المهدي بنبركة والألمان الشرقيين.
كان عبد الواحد بلكبير قد سبقني إلى الجزائر بهدف الدراسة قبل أن يتدارك الموقف ويعود، سالما، إلى كلية الحقوق بالرباط.. لكن بعض آثاره اليسارية كانت ما تزال عالقة في بعض الأوساط الطلابية ولكن بطعم النكتة والتعاليق الساخرة على بعض مبالغاته المشهورة بخصوص تصاعد النضالات الطلابية وتلك المظاهرات «الضخمة» التي كانت تنطلق من كلية الحقوق ولا يفرقها البوليس إلا عند تخوم مقهى Chateaubriand..! ستتغير الصورة عن عبد الواحد بعد بضع سنين ويتغير التعامل مع «مبالغاته» في التردد على المعتقلات والسجون وستجد صوره مكانها على جدران كثير من البيوت الى جانب صور عدد من رموز ذلك الوقت. بل وينكب صحافي مثل حميد برادة على جمع المعلومات والتفاصيل الصغيرة عن عبد الواحد تأثيثا لموضوعه القادم في jeune afrique تماما كما كان يتصيد صحافيون آخرون المعلومات عن اعبابو أو أمقران مثلا، أو كما فعل برادة نفسه عندما كتب مقاله عن «الأنبياء الصغار» (شهداء 3 مارس).
مغربي عضو «ملاحظ» في مجلس الثورة
مع طلال سأتعرف على محكوم آخر بالاعدام ومن معه 99 % من مفاتيح الحل لمشاكل اللاجئين المغاربة بالجزائر: مجيد العراقي، وهو في الأصل مهندس زراعي وثاني اثنين من الذين ابتدأ بهم مغرب الاستقلال التفكير في حل المسألة الزراعية بإنشاء مكتب الري الى جانب محمد الطاهري مدير هذا المكتب (صاحب مكتبة الطاهري بإقامة قيس بالرباط) وذلك قبل أن يحترقا بنيران الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. أما محمد الطاهري، (وهو الشقيق الأكبر لعلي الطاهري الذي جاء إلى منظمة 23 مارس مرورا بحلقة المهدي بنبركة)، فقد اختار الابتعاد بعد لجوئه لفترة بالخارج وتحول الى التصوف والتاريخ وآخر مرة التقيته بها كان بصدد البحث عن جذور حركة محمد الحجامي الذي قاد هجوم القبائل على فاس أواخر ماي 1912 لالغاء معاهدة الحماية، والذي لم يشتهر كما اشتهر موحى وحمو الزياني وأحمد الهبة لدرجة أن الطاهري كان يعتقد أنه مات إذاك في ساحة المعركة وليس بعد ثلاثين سنة. أما مجيد العراقي فقد انخرط بالكامل في السياق الجزائري بعد انقلاب بومدين وصار رجل المغاربة بالجزائر ورجل الجزائريين لدى اللاجئين المغاربة بفضل شبكة علاقاته وبالخصوص بفضل علاقة الصداقة ثم المصاهرة التي جمعته بعضو مجلس الثورة شريف بلقاسم (تزوجا شقيقتين سويديتين).
كان مجيد العراقي هو صلة الوصل بيننا وبين الجزائر الرسمية حكومة وحزبا، وكل التسهيلات التي تمتعنا بها في الجزائر كانت تتم عن طريقه ولم يسبق لمنظمة 23 مارس أن كانت لها - بهذه الصفة - أية علاقة مباشرة مع السلطات الجزائرية. كان مجيد العراقي يقوم بهذه المهمات باعتباره عاطفا علينا وكان الجزائريون يتعاملون معه باعتبار ماموريته السابقة كممثل عن اللاجئين ومقرب من بنسعيد وجماعته. وعندما انتهى كل شيء مع الجزائر سيجد مجيد العراقي نفسه معزولا ومتخلى عنه تقريبا من طرف الجميع ليعود الى وطنه بداية التسعينات في ظروف غير مواتية ليموت بعد ذلك بقليل ملوما محسورا.
سيكون على الآن، وقد استقر بي المقام في الجزائر أن أشرع في انجاز المهام الضخمة التي تنتظرني: نشر فكر المنظمة ومواقفها، القيام بجميع العمليات التأسيسية في الخارج.. وبادئ ذي بدء يجب تبديد النظرة الضبابية التي كانت لدينا إذاك حول بعض الرموز التي كثر القيل والقال حولها في الكواليس والموجودة إما بالجزائر أو فرنسا أو سوريا: الفقيه الفيكيكي(بوراس)، محمد بنسعيد وخاصة عبد السلام الجبلي..
في البحث عن عبد السلام الجبلي
منذ بداية التنظيم، بل وحتى قبل توحيد الحلقات في 23 مارس 1970، وردت مسألة الزعامة. لم تطرح أبدا علانية بل فيما بيننا وبين أنفسنا. والتي قد تدخل، تجاوزا، في باب «المسكوت عنه» . الأحزاب بزعمائها. علال الفاسي، بلحسن الوزاني، المهدي بنبركة.. نحن منظمة ولسنا حزبا ولكن إذا صرنا حزبا أفلا نحتاج لزعيم؟ بل أليس الزعيم ضروريا كي نصير حزبا..؟ لم يطرح أحد هذه الأسئلة طبعا. كانت القيادة الجماعية اختيارا واضحا. لكن الرموز كان لها رنينها. ومن ينكر الأثر الذي كان يثيره في المجالس مجرد النطق باسم الفقيه البصري مثلا؟ المغاربة شعب بعيد عن التجريد يفضل الرموز على الأفكار والايديولوجيات وإلا ما رأى محمد بن يوسف في القمر. الفقيه البصري مناضل ملأ الدنيا وشغل الناس وحاز أكبر عدد من أحكام الاعدام لكن طريقه ليس طريقنا بالتأكيد وقد ذهبنا إلى أقصى حد في إثبات هذه المقولة بالدليل الملموس من خلال تجربة الحسين كوار. كان عبد السلام الجبلي هو الرمز المبحوث عنه؛ باعتباره والفقيه البصري قائدين تاريخيين لحركة المقاومة ضد الاستعمار وقائدين للحركة الاتحادية الجذرية. كل هذه الفذلكة لأقول إن الرفاق أضافوا هذه المهمة الى المهام التأسيسية الأخرى التي علي القيام بها في الجزائر: الاستفسار عن مناضل يسمى «البشير» يقيم الآن بباريس. قد يبدو هذا الحديث مضحكا. لكننا ونحن الآن في سنة 1971 نتحدث عن أواليات الأشياء ونبحث عن الجذور..
استقصيت هنا وهناك وكتبت إلى حمدون (عبد الغني أبو العزم) فوافاني بصفحات كاملة تتضمن التفاصيل التي يعرفها عن البشير (مولاي عبد السلام الجبلي) وخالد (محمد بنسعيد) وحميد برادة وأصل التناقضات وفصلها وانتهى به التحري إلى أن الصراع بين البصري والجبلي يعود - حسب بعض الأقوال - إلى أيام الدراسة في كلية بنيوسف..!
نقلت كل ما جمعت إلى الرفاق بالداخل حيث طلبوا مني في مراسلة أخرى تحديد موعد مع البشير وصحبه لرفيق سيزور باريس في يونيو 1971. فكان اللقاء الأول بين «ج» ومنظمة 23 مارس في شخص مبعوثها إلى باريس الرفيق «محمد» (أحمد حرزني)، الذي أجرت معه الحرية في نفس الفترة حديثا مفصلا عن اليسار والوضع في المغرب نشرته تحت عنوان «حوار مع ثوري مغربي».
في صيف نفس السنة سألتقي لأول مرة بمحمد بنسعيد في الجزائر الذي سيتزامن وجوده بها مع بدء محاكمة مراكش الكبرى حيث سنؤسس معا لجنة للتضامن مع المعتقلين السياسيين بالمغرب بمساهمة محمد باهي، لحسن زغلول، أحمد تفاسكا، امحمد طلال، مجيد العراقي.. وآخرين.
من بلد المليون شهيد إلى.. البلد الشهيد
بعد ذلك بدأ التحرك في اتجاه حركات التحرر العربية والعالمية التي كانت جزائر السبعينات تعج بها. جزائر بداية السبعينات لم تكن هي جزائر منتصف السبعينات عندما انقلبت انقلابا شيطانيا على المغرب والمغاربة وشردت من شردت منهم ونكبت من نكبت واعتقلت مخابراتها وعذبت مغاربة أبرياء مثل المناضل القيادي في حركة 3 مارس أحمد بن مسعود الطالبي، والشاعر محمد على الهواري الذي ساهم في صنع المجد الثقافي والفني للجزائر المستقلة بعمله المتميز في جريدة «الشعب». ولم تكن نظرتنا اليها بداية السبعينات هي نفس النظرة اليوم. كانت كثير من القضايا والتناقضات ما تزال في بدايتها. كنا ما زلنا آنذاك تحت التأثير الرومانسي لثورة المليون شهيد التي كان كل شيء يذكر بها، وحتى مغاربة الجزائر من اللاجئين كان فيهم شيء منها؛ بل وشيء كثير من هذه الثورة.
فلم يكونوا لاجئين عاديين مثل الفلسطينيين أو السوريين أو غيرهم حتى ولو كانوا من طراز أبو جهاد أو وديع حداد أو ابراهيم ماخوس أو ابراهيم طوبال أب المعارضة التونسية مثلا.. فرجل مثل سعيد بونعيلات أو الكولونبل بنحمو أو ابراهيم التزنيتي أو عمر الفرشي أو حمدون شوراق مثلا كانوا أندادا للقادة الجزائريين باعتبارهم مساهمين في تحرير الجزائر.
بل إن حمدون بطل عملية إنزال الأسلحة في شواطئ كبدانة وإخفائها ونقلها الى الجزائر، كان ينسق مع قادة الساعات الأولى في الثورة الجزائرية أمثال محمد بوضياف والعربي بلمهيدي في وقت كان بومدين الذي رافق باخرة السلاح المصرية دينا مسؤولا عسكريا فقط. ومن ثمة، كان التواجد المغربي في الجزائر يندرج في إطار تصريف لتراث نضالي مشترك لا منة من سلطات بلد مضيف.
على هذه الخلفية كنا نتحرك في الجزائر وكنا نقف على أرضية صلبة. كانت قد مضت بضع سنوات فقط على انقلاب بومدين في 19 جوان 1965، ظِلُّ بن بلة كان ما يزال حاضرا معنويا على أكثر من صعيد وعلاقة التقدميين المغاربة بأنصاره من أمثال الدكتور عبد المجيد مزيان والدكتور جمال قنان.. كانت قوية ومتينة كما كانت كذلك مع عدد من المعارضين الآخرين من المثقفين والفنانين من أمثال الأديب الرمز كاتب ياسين الذي كان مسرحه العمالي بوهران معظم طاقمه الفني مغاربة، نفوذ الاتحاد الوطني لطلبة الجزائر بتوجهه اليساري كان كاسحا في الجامعة وخير خاضع لسلطان جبهة التحرير وبدأ ظهور محتشم ليسار ماركسي كان بعض المغاربة على علاقة به وكانت بعض أدبياته تستنسخ ليلا بمساعدة من بعض أصدقائهم المغاربة في القبة. وفي نفس الاتجاه كنت قد ترجمت لأنفاس تحليلا بعنوان «الصراع الطبقي في الجزائر»..
والشيء الهام الذي لا بد من تكراره هنا أن المغاربة عموما والمناضلين التقدميين منهم بوجه خاص كانوا يحظون باحترام كبير لدى الشعب الجزائري لعوامل ضاربة في أعماق الذاكرة الشعبية الجزائرية ربما تعود إلى ملحمة حرب الريف أو إلى البطولات الأسطورية للمغاربة في الحرب العالمية أو لمرحلة النضال المشترك ضد الاستعمار أو لكل هذه العوامل مجتمعة.. فأن تكون «مروكيا» في الجزائر أوائل السبعينات من القرن الماضي كان مصدر اعتزاز وفخر رغم التواجد المكثف للمغاربة في الجزائر على مختلف المستويات خاصة في الغرب الجزائري حيث كانت تعيش أجيال من اللاجئين بمختلف مجموعاتهم منذ بداية الستينات في وئام تام مع السكان. وفي الجزائر العاصمة لم يكن تواجد المغاربة ولمدة طويلة يثير تلك الحساسيات الشبيهة بالشوفينية التي حصلت مع المصريين والفلسطينيين والأفارقة الذين كانت الجزائر تحتضن حركاتهم التحريرية كإرث ورثه بومدين عن بن بلة والمهدي بنبركة وبقايا تأثير المد الناصري والزخم التحرري لزعماء من أمثال سيكوتوري ونكروما وموديبوكيتا.. في عصر الاستقلالات ونضال القارات الثلاث.
على مستوى الدولة، كانت التناقضات في بدايتها ولكنها كانت بادية للعيان ولم تكن الأمور بعدُ بذلك «الانسجام» الظاهري الذي صنعه العداء للمغرب وقضيته الوطنية، وأقطاب النظام كان كل منهم يشكل دولة داخل الدولة؛ فأحمد مدغري مثلا الذي يعتبر باني الدولة الجزائرية أنهى تناقضه مع بومدين بشكل مأساوي عندما فضل أن ينتحر عام 1974 على أن يرى بلده يسير نحو الهاوية. والشاذلي بنجديد تُركت له منطقة وهران شبه إقطاع خاص يتصرف فيه كيف يشاء شرط أن يبتعد عن العاصمة وشؤونها. وداخل الحكومة الجزائرية كنت تجد الشيء وضده؛ وزير ثقافة تقدميا ومتفتحا مثل أحمد طالب الابراهيمي الى جانب آخر في منتهى التخلف والرجعية مثل وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية مولود قاسم الذي بدأ منذ ذلك الوقت ينفخ في نار الفتنة الدينية ويحرض «العلماء» على أطر الدولة التقدميين والمنفتحين، وكنت تجد شخصا مثل قايد أحمد عضو مجلس الثورة ومسؤول «جهاز» الحزب ينهي حياته لاجئا بالمغرب حيث يموت. قايد أحمد كان يختصر لوحده، من خلال العدد الذي لا يحصى من النكت التي ألفها عنه الجزائريون، الوضع في الجزائر. النكتة التالية خير تعبير عن واقع الحال: «خطب قايد أحمد فقال: قبل 19 جوان كنا على بعد خطوة من الهاوية. بعد 19 جوان تقدمنا خطوتين إلى الأمام».. وكان يحلو لبعض الأصدقاء الجزائريين أن يشبهوا سياسة بلادهم بسائق السيارة الذي يضع إشارة السير إلى اليسار وهو يريد الانعطاف إلى اليمين.
عندما كان العالم يساريا
كانت علاقتنا حتى ذلك الوقت مقصورة في المغرب على الثورة الفلسطينية وبالتحديد مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي انحزنا إليها منذ البداية. بل كثيرا ما كنا نستقطب الشباب الفلسطيني الذي أتى الى المغرب بدون انتماء سياسي الى الجبهة الديمقراطية. وأدى بعضهم ضريبة النضال المشترك عندما امتد قمع 1972 الى المناضل الفلسطيني محمد أبو دقة الذي اعتقل مع عبد اللطيف الدرقاوي والمجموعة قبل أن يطلق سراحه في 1973. فلسطيني آخر مقيم بالجزائر (شحدة أبو دقة) نزل ضيفا على محمد السمهاري وعندما اعتقل البوليس السمهاري دون أن يكتشفوا - لحسن حظه - «تورطه» في التنظيم السري، قضى ضيفه معه بضعة أيام في الكوميسارية..
بعد التحرك على مستوى حركات التحرر في الجزائر، بداية السبعينات، اتسعت العلاقات لتشمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، الجبهة الشعبية في البحرين، حزب البعث السوري (جماعة الأتاسي وصلاح جديد يمثله ابراهيم ماخوس وشمس الدين الأتاسي في الجزائر)، والحزب الشيوعي السوري (جماعة المكتب السياسي المعارض لخالد بكداش) وكان يمثله برهان غليون الأستاذ بجامعة وهران وقتها، جبهة تحرير إيرتيريا، العامل التونسي وتنظيمات يسارية تونسية أخرى... وتطورت العلاقات بشكل خاص مع مكتب جبهة تحررير عمال والخليج وامتد التعاون بيننا في عدة ميادين لاحقا حتى أنه تم الاتفاق، بطلب منهم، على إرسال طبيب الى الجبهة حيث تطوع على ما أظن عمر القاشوحي من فرنسا (في أوج التنسيق مع إلى الأمام) الى هذه المهمة ولكن الجبهة عدلت عن طلبها.
كما ألح اليمينيون على إرسال وفد من المنظمة إلى عدن للاجتماع بعبد الفتاح اسماعيل الذي وافق على اللقاء ولكن رفاق المنظمة في فرنسا لم يتمكنوا من انجاز هذه المهمة لأسباب شتى. في مكتب جبهة تحرير عمان تعرفنا أيضا على معارضين يساريين سعوديين، وعراقيين من الحزب الشيوعي (القيادة المركزية) وسمعنا منهم لأول مرة عن «قصر النهاية» وهو معتقل شبيه وربما أفضع من دار المقري.. مع فارق أساسي أن فظائع «قصر النهاية» كانت فظائع «تقدمية».
أثمرت هذه العلاقات قيام نوع من التنسيق الدائم بين حركات التحرر تمثل في اتخاذ مواقف مشتركة وإصدار بيانات وعرائض وتشكيل لجان مناصرة والقيام بحملات التضامن عندما يتطلب الأمر ذلك وهو ما سيحصل عندما ستبدأ محاكمة مراكش الكبرى صيف 1971 وحملات القمع المتعاقبة ضد التقدميين واليساريين المغاربة.
تحدد في هذه الفترة إذن المسار العام لعلاقاتنا العربية والأممية. وما عاشه المناضلون وشعروا به من فخر في المؤتمر الأول لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي وهم يستقبلون بالتصفيقات الحارة وفود المنظمات الشقيقة والصديقة وبرقيات قادة منظمات أخرى إنما يرجع إلى ما أنجز في هذا الزمن الوضاء على مستوى علاقاتنا الخارجية التي جرى تطويرها لاحقا في أوربا والشرق العربي على يد كثير من الجنود المعلومين أو المجهولين الذين كانت لهم مساهمة متميزة في هذا المضمار أذكر منهم عبد الغني أبو العزم وعمر الشرقاوي.
أبعد من موسكو وبيكين
لكن الرفاق في الداخل كانت لهم «طلبات خاصة» بخصوص هذه النقطة؛ نقطة العلاقات الخارجية. كانت التحريفية السوفياتية مدانة بالاجماع داخل اليسار الماركسي سيما بعد أن شهد شاهد من أهلها بانسحاب يسار التحرر والاشتراكية من الحزب العتيد. ومخافة السقوط بالكامل في الماوية التي كان عدد من رفاق المنظمة «يدينون» بها، كانت أنظار رفاق آخرين، مثل مسداد وحمامة، تتجه بالأحرى صوب تجارب أخرى متميزة ولكن لاخوف على المنظمة معها من خطر الهيمنة. كانت الثورة الفييتنامية في الطليعة، وكان منظرها «ترونغ شينغ» (على خطى كارل ماركس) حاضرا في التثقيف الايديولوجي للرفاق كما أن الفقيد حمامة كان لا يفتأ يردد مقولة هوشي منه «الأكل مع الجماهير والنوم مع الجماهير والعيش مع الجماهير». ولكن الرفيق مصطفى مسداد كان هواه مع تجربة دولة ميكروسكوبية في أوروبا تسمى ألبانيا، الشوكة الصينية في خاصرة الاتحاد السوفييتي. ربما كان ذلك لكونها تجربة شيوعية في محيط إسلامي وربما لـ«دسارة» زعيمها أنور خوجة الذي كان يشبه تلك الذبابة الشهيرة التي أنهكت السبع.. ربما.
المهم أني قمت بالمهمة وكثر ترددي على سفارة ألبانيا بلا طائل اذا اسثنينا خطب «الرئيس المحبوب» أنور خوجة الذي كان يحث فيها الألبانيين على النظافة والاعتناء بالزهور والنباتات وعلى مكارم الأخلاق.. الفييتناميون على الأقل كانوا أكثر جدية ورغبة في التعرف على المغرب وناقشوا معي بالخصوص تجربتهم في حل مشكلة اللغة والكتابة في الفييتنام وأبدوا اهتماما بمشكل التعريب عندنا.. ولم يكونوا فضوليين كالألبانيين في محاولة معرفة الأوضاع في الجزائر أكثر من الاهتمام بما يقع في المغرب.
«خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»
العمل مع المغاربة في الجزائر كان أصعب وخاصة في الوسط الطلابي إذ كانت الاصطفافات محددة سلفا وكان خطاب اليسار الذي كان جديدا بالمرة في الساحة الجزائرية يواجه بالعداء من طرف التيار الاتحادي المهيمن وقتها في الساحة الجزائرية والذي تمترس، بازدواجيته التاريخية، وراء فرع الجزائر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب صادا عنه رياح التغيير التي هبت وقتها على الجامعة المغربية ولسان حاله يقول: «لكن التغيير سيأتي من خارج (النضال الديمقراطي) بحول الله»، حسب الصيغة (المعدلة) لبيان شهير.
وكان «صوت التحرير» بإذاعة ليبيا القوة الضاربة لهذا التيار إعلاميا، ليس ضد النظام فقط بل وحتى ضد اليسار الجديد، وهو ما أثار غيرة الفقيد حمامة فانبرى للرد على تهجمات صوت التحرير ضد اليسار برسالة أذاعها البرنامج جاء فيها: «...الا أننا فوجئنا بحملات ضد من تسمونهم «اليساريين»، في حين يتعرض هؤلاء في الداخل إلى المتابعات والملاحقات والسجن. إن هذه الحملات التي تشن من «صوت التحرير» نعتبرها خطيرة ويمكن أن تؤدي الى نتائج ليست في صالح الحركة الديمقراطية. وإحساسا منا بالمسؤولية، نود أن نرد على بعض التهم الموجهة لليسار، لنضع النقط على الحروف آملين أن يكون الإحساس بضرورة توحيد النضال... هو المهمة الكبيرة المطروحة أمام الحركة الديمقراطية..».
لكنه في نفس الرسالة أشاد بأصحاب البرنامج وكال المديح للقادة التاريخيين الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، بل واقترب من شباب الحركة وارتبط بصداقة عدد ممن سيستشهدون مع محمد بنونة أو سيعدمون فيما بعد (لحسن تاغجيجت (بوزيان)، الناصري، صبري (هوشي منه)، أسكور...). كان حمامة يرى فيهم أمل الثورة لو توفر الحزب؛ أمل ضاع في لمح البصر بعد فشل حركة 3 مارس، التي أصدر التنظيم بشأنها تقييما أوليا (15 مارس 73) يكاد يتطابق مع تقييم أطراف من حركة 3 مارس نفسها والذي نشر بعد ثلاثة عقود في كتاب «أبطال بلا مجد» للمهدي بنونة نجل الشهيد محمد بنونة (محمود).
وفي اللقاء الذي جمعنا (لحسن زغلول، المرحوم تفاسكا وأنا)، أوائل 1974، بالمناضل امبارك بودرقة (عباس)، استمعنا لأول مرة لوجهة نظر انتقادية لأحداث 3 مارس بل ولاتهامات بالخيانة في صفوف الحركة بطلها شخص بعينه يتكرر في جميع الروايات بما فيها رواية الفقيه البصري. أذكر أيضا إشارته في هذا اللقاء الى تغلغل البوليس في الحركة وتحذيره لنا من بعض الأشخاص المحكوم عليهم بالاعدام تمويها (دون أن يذكر أي إسم)، وكذا تحذيره من استعمال البوليس للسجائر المسمومة لاغتيال المناضلين، وتأكيده بالخصوص على توحيد صفوف اليسار وهو ما سجلناه باهتمام واعتبرناه أمرا جديدا وهاما إزاء موقف العداء الذي كان سائدا وقتها إذا استثنينا الموقف المتفهم والمتعاطف ضمنيا معنا، الذي كان للراحل أحمد الدرهم.
لقد نجحنا في الجزائر، رغم الجو غير الصحي، في إسماع صوت «اليسار الجديد» واستطعنا تكوين نواة لهذا اليسار بدعم من عدد من المناضلين: امحمد طلال، محمد الغزاوني، عبد الوهاب مروان، أحمد تفاسكا، محمد الأسمر، محمد الضعيف، لحسن المسعودي، عبد العزيز الهراس، سليمان «الوجدي»، القماح فضول.. هذه النواة ستشكل العمود الفقري لنضال اليسار في الجزائر داخل القطاع الطلابي وفي لجنة التضامن مع المعتقلين السياسيين بالمغرب ونشرتها «التضامن» التي استمرت في الصدور عدة سنوات.
أوساط اللاجئين كانت أكثر انفتاحا على أطروحات اليسار وانتظارا للجديد في ساحة النضال سيما وقد سئموا من تكرار التجارب الفاشلة. بتنسيق مع لحسن زغلول بدأ العمل التأسيسي وسط اللاجئين في وهران اعتمادا على نواة صلبة من خيرة المناضلين المعروفين من قدماء المقاومة وجيش التحرير: «باكي» (مرزوق حسن)، «زايد» (أحمد الرگيگ (الفقيه الدكالي)، عبد الله الدكالي، «شاعة» (بوشعيب الدكالي)، عبد النبي ذكير (الحارس لاحقا بمدرسة سنابل الفتح التي أسسها عبد الواحد بلكبير ولطيفة اجبابدي بالرباط)، أحمد المرابط الذي لم يكن ينفك عن الحديث عن علاقته بالمهدي بنبركة والرسائل المتبادلة بينهما وانتقاداته ونصائحه عبثا للمهدي بلزوم الحيطة والحذر..
ثم شكل الحدث السعيد في بيت لحسن زغلول باجتماع شمل عائلته عندما نجحت المرحومة زوجتي إذاك بمساعدة المنظمة في إحضار زوجته وابنتيه بهيجة وآمال، تهريبا عبر الحدود، من أعماق الأطلس، بعد فراق دام عشر سنوات، مبعث أمل وثقة لديه ولدى جمهور اللاجئين في العمل السياسي الجدي وبرهانا على نجاعة وفعالية شباب اليسار الجديد. كما كان لهذه «العملية» الرمزية صدى إيجابي لدى اللاجئين و عائلاتهم في وهران. تم كذلك عمل تأسيسي في جامعة وهران ابتداء بتنظيم أبناء اللاجئين الذين سبق ذكرهم في خلية مركزية توج ذلك بإصدار نشرة «الوحدة». تابع العمل بعد 1975 على الساحة الجزائرية الرفيقان «عمر» (محمد السمهاري) و«عبد الكريم» (ابراهيم ياسين).
«مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة»
عندما رأيت كيف أصبح الرفاق في فرنسا يسبحون كالسمك في بحر من اليسار؛ ولما تمض سنتان على نجاتهم، ربيع 1972، من مخالب القمع، ازددت اقتناعا بصحة مقولة الطيب الذكر ماو تسي تونغ: مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. عندما غادرت المغرب نهاية 1970، كنت أحمل بين أوراقي عنوان صديق لم يكن قد التحق بعد بشكل رسمي بالمنظمة التي تأسست بعد خروجه من أجل الدراسة وإن كان في محيطها منذ أواخر الستيات. عنوان الرفيق حمدون (عبد الغني أبو العزم) هو الامكانية الوحيدة التي كانت لنا بباريس والتي علينا أن نبدأ منها لتأسيس التنظيم بالخارج. ثم عنوان آخر بعث لي به الرفاق لكي يتصل «حمدون» بصاحبه، يسكن بدار المغرب اسمه الأول عيسى «.. ولا داعي لذكر اسمه الثاني ـ تقول المراسلة - لأنه سيعرفه..». سيشتغل إذن «محور باريس - الجزائر - الدار البيضاء» بشكل مكثف سنتي 1971 و1972.
رسائل من «عيسى» بالفرنسية حول اتصالات متفرقة هنا وهنا، تأسيس لجنة للتضامن مع مجلة أنفاس، لجنة مناهضة القمع في المغرب وتونس، توقيع عرائض من طرف ديمقراطيين ويساريين فرنسيين، مهرجانات في الـ Mutualité للتنديد بالقمع وتعميم الأخبار حول وقائع محاكمة مراكش.. وأخبار من حمدون حول تكوين لجنة طلابية هنا أو عمالية هناك، حول امكانيات في كليرمون فيران أو في تولوز، حول صعوبات التنسيق مع رفاق (أ) في بداياتها الأولى، انضمام حميد برادة الى التنسيق باسم (ج) باقتراح من (أ)، محاضرة لعلى يعتة في دار المغرب انقلبت الى محاكمة لمواقف الحزب من طرف حسن الحاج ناصر انتهت بـ«فرار» المحاضر، أخبار عن «حلقة المهدي بنبركة».. الخ فضلا عن هموم الشرق التي كان أبو العزم مسكونا بها: تصفية المقاومة في الأردن، عملية اغتيال وصفي التل (رئيس وزراء الأردن) في القاهرة؛ تجوز أو لا تجوز؟ الاحتجاج على زيارة حواتمة للعراق «في وضح النهار»، عراق التنكيل بالشيوعيين وغير الشيوعيين في «قصر النهاية»، اعدام عبد الخالق محجوب في السودان، إصدار الثنائي المصري اليساري «محمود حسين» (صاحب «الصراع الطبقي في مصر») لمجلة المسيرة التي سيخصص عددها الرابع للوضع في المغرب.. عمل جبار أنجز في ظرف سنتين أو ثلاث أرسيت فيه أسس التنظيم واكتسح اليسار السبعيني الساحة..
الغالي وحمدون
في ذاكرتي، ابتدأ كل شيء في فرنسا برفيقين اثنين: الرفيق «عيسى» الذي يكتب لي بالفرنسية كنت أظنه اسما مستعارا كما جرت العادة في تلك الأوقات. حتى كنت عند بنسعيد صيف 1973 فإذا بشاب أنيق الهندام، وقلما كان الرفاق يتأنقون رغم وجودهم في عاصمة الأناقة، بلحية أنيقة كذلك، قدمه لي مسداد قائلا: هذا هو «الغالي» الذي كنت تبحث عنه؛ وأردف: الرفيق عيسى. أرجعني سماع اسم الغالي إلى زمن توحيد الحلقات وتأسيس 23 مارس. تحملت في التنظيم الجديد مسؤولية عضو اللجنة المحلية للدار البيضاء بجانب رفيقين آخرين: «ابراهيم» (رشيد فكاك) عن حلقة حرزني، و«لطفي» (عبد الرحمن..؟) عن حلقة «المعطي» (سيون أسيدون) ؛ نسير الدار البيضاء بواسطة الخلايا التي يعرف كل واحد منا كتاب الخلايا المسؤول عنها فقط. كاتب إحدى الخلايا واسمه «الناجي» بدأ بعد بضعة اجتماعات يشكو من بعض التغيبات في الخلية ومنها تغيب الغالي ثم انقطاع الصلة به تماما حتى عثرت عليه عند بنسعيد فإذا هو عيسى الورديغي.
أما حمدون (عبد الغني أبو العزم) فترجع علاقتي به إلى سنة 1965 بكلية الآداب. وعندما ذهبت إلى فرنسا وجدت بعض رفاقه الخلص ينادونه بـ«الزعيم». لم أحاول أن أعرف أسباب النزول ولكني تذكرت أيام الكلية بفاس وكيف أنه كان يريد أن يكون في كل مكان وفي نفس الوقت: في النقابة (كاتب التعاضدية) وفي الحزب وفي الشعر وفي الحب، ويتحول الى دبلوماسي حينما يحاول أن يقنع علال الفاسي بإلقاء محاضرته ولكن في إطار الاتحاد الوطني وليس في إطار الاتحاد العام الذي استدعاه، والذي لايتوفر على جمهور باستثناء طاقمه المسير. ولكن الزعيم (علال) يتشبث بموقفه «ولو طارت معزى».
«زْعامة» عبد الغني تبلغ أوجها أوائل 1967 سنة تدشين القمع في ظهر المهراز بالهجوم على الحي الجامعي واعتقال عدد من الطلبة بشكل عشوائي. كان أبو العزم غائبا في الرباط في إطار التحضير للمؤتمر الثاني عشر الذي سيحمل رئيس لجنة صياغة دستور 2011، عبد اللطيف المنوني الى رئاسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لما حضر مساء نفس اليوم أخبرناه بما جرى فقفز في أول «داكسي» الى الكوميسارية وحقيبته التي تحمل منامته وأوراقه ما تزال في يده للاحتجاج على اعتقال الرفاق. فلم يظهر له ولا لهم أثر منذ ذلك اليوم والى نهاية السنة الدراسية حيث عادوا أحياء من جحيم الاعتقال في أقاصي الصحراء بعد أن وقعوا على أوراق تشهد أنهم كانوا متطوعين لفائدة التعاون الوطني. تزامنت عودتهم مع الامتحانات التي لم يشاركوا فيها ومع المظاهرات التي كان يخرج فيها جميع الطلبة يتقدمهم أساتذتهم تنديدا بالهزيمة. وفي يوم 9 يونيو وعبد الناصر يخطب في الراديو معلنا استقالته، سيصرخ عبد الغني أبو العزم بكل قواه: «الحمار..! هل هذا وقت الاستقالة..؟!» في اليوم الموالي سيتراجع عبد الناصر عن استقالته.
هذه المعارك سيكون لها ذيول وستترتب عنها اعتقالات ومتابعات بـ«تهم» الاخلال بالأمن ومحاولة إحراق قنصلية أمريكا والكتابة بالفحم على الجدران أذكر من ضحاياها أحمد الرضاوني المسؤول بمركز التوثيق لاحقا، ومحمد معنى السنوسي، القيادي الاتحادي والمسؤول الجماعي بالدار البيضاء لاحقا.. أما الذين غيبوا مع أبو العزم في الصحراء أو عوقبوا باستدعائهم إلى التجنيد الاجباري فأذكر منهم رئيس مجلس القاطنين محمد العلمي، بدون أي انتماء سياسي، ومحمد بنشقرون مسؤول الحزب الشيوعي بفاس والاطار بمنظمة 23 مارس لاحقا، ومعتقل طلبة القرويين الأشهر محمد المزگلدي (الملاقاة)... أما المطرودون من الحي الجامعي فقد تعامل كل منهم مع محنته بقليل أو كثير من «الفلسفة» إلا أحمد المديني فإنه ظل أربعين سنة لا يفهم ما جرى له (رواية «رجال ظهر المهراز»).
دقة تابعة دقة..!
بداية 1972 ستتعرض المنظمة لأول رجة عنيفة كادت تعصف بها لولا أن الرفاق عالجوها بالحكمة المطلوبة؛ حملة قمع ضربت عددا من الأطر القيادية كانت «التناقضات الداخلية» من بين أسبابها، كما أشار محمد الحبيب طالب في إضاءته. هذه التناقضات ولدت مع المنظمة وكانت لها في أدبيات المنظمة تعبيرات وتصنيفات في غاية الطرافة. أسابيع فقط بعد توحيد الحلقات في مارس 1970، بدأ الحديث عن البطء والتراخي في إنجاز المهام التي سطرتها «ه.ق» (هيئة القيادة) المشكلة من: مصطفى مسداد، أحمد حرزني، سيون أسيدون. ستبرز بعد ذلك نفحة طهرانية لدى بعض الرفاق تجلت في البيان الشهير الذي صاغه الفقيد حمامة: «.. لقد انغمس بعض الرفاق..».
بعد أقل من ثلاثة أشهر سيفتح الله على بعض الرفاق باكتشاف أسباب الخلل في التنظيم وسر البطء في انجاز مهام المرحلة على طريق التقدم في بناء الحزب الثوري ضمنوها وثيقة شهيرة في أدبيات التنظيم هي «وثيقة الأطر»: أرستقراطية الأطر، تبرجز الأطر.. والحل؟ حل كل الهيئات والتنظيمات وإرسال الرفاق عند جماهير العمال والفلاحين ليتعلموا منها ويتبلتروا... بعد تجريب عدة صيغ للتداول على القيادة بين مختلف الاتجاهات، ستنعقد في شتنبر 1971 اللجنة المركزية في دورتها الثانية ستوافق بالأغلبية على «الوثيقة التاريخية» المنشورة ابتداء من العدد السادس من 23 مارس، وستنبثق عنها قيادة مكونة من: الحبيب طالب، محمد البردوزي، محمد المريني، مصطفى مسداد، محمد الكرفاتي، محمد المحجوبي، عبد الصمد بلكبير... مما يعني انتصار «الخط اليميني». ستلجأ الأقلية «اليسارية» - ربحا للوقت - إلى خلق تنظيم داخل التنظيم مما عرف في أدبياتهم بـ«لنخدم الشعب» وفي الأدبيات الرسمية للمنظمة بـ«المتكتلين». ستمتد خيوط هذا التنظيم الى البوليس الذي سيكتشف لأول مرة وجود تنظيمات سرية ماركسية لينينية بالمغرب، وتبدأ أولى الاعتقالات التي شملت الى حدود بداية مارس 1972: عبد اللطيف الدرقاوي، حسين الفهيمي، أحمد حرزني، مليكة الخودة، آيت باري محمد، آيت باري عبد الله، آيت باري الحسين، حميد الزرورة، حميد خضارة، سيون أسيدون، محمد البردوزي، ناظم عبد الجليل.
(يتبع)
كان ترددي في محله عندما فاتحني الأستاذ عبد الصمد بلكبير في المساهمة في تقديم هذا الاصدار حول 23 مارس. فعلى فرض تجاوز كل الصعوبات المرتبطة بالموضوع، ما العمل مع إكراهات الذاكرة وألاعيبها؟.. وهل ينسى المرء مشيته؟! بهذه البساطة والعفوية يحل عبد الصمد الاشكالية. وقَطَعَ الشك باليقين عندما أتانا بالبينة: إحضار أعداد 23 مارس مصورة في «الملتقى»، وهو عمل مشكور وجدير بالتنويه به؛ بعد أن اعتُبر هذا التراث في حكم الضائع، فأنا شخصيا لا أتوفر الا على بضعة أعداد لست أدري كيف «علقت» بأغراضي عند نقلها إلى المغرب أوائل الثمانينات، وإلا كيف تعبر الحدود بمادة محرمة حتى ولو أقسمت بأغلظ الأيمان أنها «للاستهلاك الشخصي» فقط؟!
لنحاول إذن نفض الغبار عن ذكريات عمرها أربعون سنة أو أكثر، وليتحمل معنا القارئ عناء السفر في الدروب المعتمة لشذرات تاريخ كاد يطويه النسيان؛ علّنا في معركة الذاكرة هاته نحقق بعض الانتصار نغالب به انكساراتنا في ما عداها من المعارك، سيما وأن 23 مارس تضررت أكثر من غيرها على مستوى ما اعترى ذاكرتها من نزيف وغبن؛ بسبب القمع طبعا لكن ليس دائما بسبب القمع.
***
من "أنفاس" إلى "23 مارس"
شكل صدور جريدة «23 مارس» في الفاتح من فبراير 1975 محطة أساسية في التجربة الاعلامية لليسار السبعيني عامة وفصيل 23 مارس بوجه خاص. محطة اتسمت بنوع من النضج و«الاحترافية»، بمواصفات تلك المرحلة من الوجهة النضالية الذاتية، وتمتعت بقدر من الاستقرار إذ استمرت في الصدور طوال ست سنوات شابتها تقطعات وعدم انتظام في الدورية اذ لم يكن قد صدر منها أكثر من سبعين عددا أو أقل قليلا عندما استلمت «أنوال» المشعل في نوفمبر 1979.
ذلك أن 23 مارس جاءت تتويجا لجهود المنظمة واليسار عامة في مجال النشر والاعلام، أي مجال الصحافة الحزبية الخاصة باليسار الماركسي، أو بلغة ذلك العصر عند الماركسيين مجال الدعاية والتحريض. فقد تميز نشاط المنظمة على هذا المستوى، طوال السنوات السابقة على إصدار 23 مارس، ببناء جهاز تقني سري بالداخل أشرف على هذه المهمة بإصدار «الانطلاقة الثورية» (نشرة داخلية)، «المناضل» (نشرة جماهيرية مخصصة للتلاميذ مشتركة مع الفصيل الآخر المنشق عن التحرر والاشتراكية)، «النضال» (خاصة بالقطاع الطلابي)، «إلى الأمام» (نشرة جماهيرية أصدرتها المنظمة أولا ثم صارت مشتركة بين التنظيمين. انفرد بها التنظيم المنشق من التحرر والاشتراكية ابتداء من العدد السابع، بعد انسحاب المنظمة الأولى منها وإصدارها لنشرة 23 مارس، من ثمة أصبح التنظيم الأول هو 23 مارس، والتنظيم الثاني «إلى الأمام»)... ويجدر التنويه، مقدما، بأحد أعمدة هذا الجهاز السري، المناضل محمد فكري، وكل جنوده المجهولين؛ الأموات منهم والأحياء.
وعلى مستوى الخارج، أصدر التنظيمان بباريس صيف 1972 جريدة «أنفاس» بالعربية (موجهة بالأساس الى المناضلين والمثقفين العرب) وSouffles (موجهة بالأساس الى الرأي العام الثوري والديمقراطي في الخارج)، وذلك في إطار التنسيق بين المجموعات الثلاث (أ) و(ب) و(ج).
قبل ذلك، عندما كان اليسار في بداياته الأولى، وهو يحاول أن يفك الحصار المضروب على الحركة التقدمية المغربية في وقت لم يكن هناك صوت يعلو على صوت الصحافة الرسمية، كانت بعض المقالات النادرة تصدر في بعض المجلات التقدمية في الشرق العربي خاصة «الحرية»، مجلة الجناح اليساري لحركة القوميين العرب في بيروت. كانت هذه المقالات تنشر بأسماء مستعارة: «ناوري حسن»(محمد طالب حبيب)، على الحمراوي (المرحوم محمد البردوزي)، كما نشرت «الحرية» سنة 1971 استجوابا حول الوضع في المغرب بعنوان «حوار مع ثوري مغربي» (أحمد حرزني). نشرت «الحرية» أيضا سنة 1969 مقالا أساسيا بعنوان «موقف الطبقات والأحزاب في المغرب من القضية الفلسطينية» كتبه الفقيد محمد بوعبيد حمامة بإمضاء م.ح.
قبل أن يضطر اليسار الى الأساليب السرية للتعبير عن نفسه، كانت هناك تجربة «أنفاس» كمجلة ثقافية أولا باللغة الفرنسية التي أسسها سنة 1966 الشاعر عبد اللطيف اللعبي بمعية مصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين بدعم من الفنانين التشكيلين أساتذة معهد الفنون الجميلة بالدار البيضاء (بلكاهية، شبعة، المليحي..)، قبل أن تتحول الى مجلة ناطقة بشكل غير رسمي باسم الحركة الماركسية اللينينية بفصيليها إلى أن توقفت عن الصدور بداية 1972 بعد اعتقال اللعبي والسرفاتي والدرقاوي وشبعة..
في عملية الجرد السريع هاته، يجدر التنويه أيضا بمبادرة أخرى ذات دلالة في هذا المجال؛ مجال الدعاية والتحريض المرتبطين بنضال اليسار السبعيني وان لم تكن مرتبطة بالتنظيمين الأساسيين(أ) و(ب). ونقصد بها مبادرة «الوكالة الشعبية للأنباء» التي أسسها جمال بلخضر وأنيس بلفريج «استحقا» عليها، وعلى مناشير حول القضية الفلسطينية، عشر سنوات سجنا في محاكمة 1973.
لكن بين صدور 23 مارس سنة 1975 واليسار في أوجه، وبداية السبعينات واليسار في مهده، وقعت أحداث وتطورات وماجريات لا بد من الرجوع إليها والوقوف عند بعض محطاتها.
انتفاضة 23 مارس 1965
في البدء كانت انتفاضة 23 مارس 1965. سال فيها دم كثير وأريق على جوانبها مداد كثير أيضا لكن يبدو أنها لم تلفظ بعد كل أسرارها. فبعد خمسين سنة ما تزال كتابة التاريخ في بدايتها والقراءات متعددة لماجريات الأحداث بين من يهول من خطورتها ومن يهون من شأنها مثل عبد الله العروي الذي يرى أنها لم تكن بتلك الخطورة التي أضفيت عليها فيما بعد.
وبالنسبة لما بين أحداث 23 مارس 1965 وما بين اليسار السبعيني من الاتصال، هناك أيضا قراءات لعل أقربها إلى الواقع تلك الخلاصات التي تبنتها منظمة 23 مارس والتي ذكر بها الحبيب طالب في إضاءته، رغم أن البعض يزعم أن وجوده كتنظيم كان سابقا على وجودها بل وساهم في تفجيرها دون أن يفسر لنا لماذا لم يهده وعيه المبكر ذاك إلى الالتحاق بأحد الأحزاب أو التيارات التي كانت تناضل نضالا مريرا في الميدان والتي لم يكن قد صدر بعد في حقها الحكم بالاصلاحية والانتظارية والتحريفية والبلانكية..؟
على الصعيد الفردي، لكل حكايته مع 23 مارس. هناك من اكتوى بنارها أو مسته شرارتها، وهناك من قال إنه كان يتفرج من سطح بيته على أوفقير وهو يقصف الناس من طائرة الهيلوكبتير.. بالنسبة لي عشت أصداء الأحداث من خلال التجمعات الحاشدة بكلية الآداب بالرباط حيث الشرار المتطاير للكلمات النارية التي كان الخطباء يتناوبون على إلقائها وأتذكر منهم بالخصوص محمد سبيلا، القائد الطلابي الصاعد وقتها خاصة بالنسبة لنا نحن «البيضاويين» (عبد الله تيغزري، محمد سالم يفوت، محمد وقيدي...) كنا معه نعيش أحداث الدار البيضاء لحظة بلحظة.. وبعد أن نمتلئ حماسا كنا نخرج في مظاهرات صاخبة بباب الحد وأحياء الرباط القديمة.. وذلك قبل أن يحال محمد سبيلا على «التقاعد النضالي» بقرار حزبي.. فكان عزاؤنا، وقد فقدنا مشروع زعيم سياسي، أننا ربحنا فيلسوفا.
أثناء ذلك جاءني خبر اعتقال أخي محمد في الأحداث فتوجهت إلى الدار البيضاء في نفس أسبوع الانتفاضة وبداخلي بركان ينتظر الوصول الى درب السلطان لينفجر ويحرق الأخضر واليابس. في البيت بدأت والدتي بإبلاغي أوامر الولد الصارمة، كتنبيه إلى الحد بين الجد واللعب، بإزالة شبه اللحية «الثورية» التي نبتت على ذقني مدة غيابي في الرباط. كان التوتر سيد الموقف في كل مكان. أخلي سبيل أخي.. لكن وضعه الدراسي أو بالأحرى اللادراسي ظل شاهدا على جناية يوسف بلعباس على جيل بكامله.. ثم استأنف قطار الحياة سيره المعتاد..
سنة أولى يسار بالجزائر
أواخر دجنبر 1970، سأجد نفسي، بمعية زوجتي، لاجئا بالجزائر عند لاجئين فلسطينيين من آل أبو دقة، وذلك على إثر متابعة تداخلت فيها عوامل متصلة بتأسيس المنظمة في مارس 1970 وأخرى مرتبطة بالمتابعات وبجو القمع المخيم على المناضلين الاتحاديين منذ اعتقالات خريف 1969. كانت تجربة قاسية قدت من جمر تلك السنوات وتحملت فيها العائلة ما تحملت خاصة بعد الاعتقال المتكرر لأخي عبد الحفيظ حتى أن الأسرة ضبطت حياتها لأكثر من عقد من الزمن على إيقاع القمع وويلاته، والسجن وطقوسه وتوابعه وزوابعه.. سيكون للتجربة وقع شديد أيضا على الرفاق والأصدقاء كما عبر مصطفى مسداد عن ذلك في رسالة كتبها إلى بعد بضعة أسابيع من مغادرتي أستأذنه في نقل الفقرة التالية منها: «... أعزائي، لن أكون إلا مقصرا كل التقصير مهما حاولت أن أصور لكم الفراغ الذي تركتموه هنا في محيطنا الخاص أو العام. لم تعد الأشياء هنا بعد غيابكم تحمل نفس الرونق الذي كانت تحمله بوجودكما (...).. أعزائي، خلاصة القول لن أقول عن نفسي إلا أنني الآن أرزح تحت أعباء نفسية ضخمة لافتقادي لرفاقي الأكثر قرابة إلى نفسي على التوالي...» (في إشارة إلى اعتقال الحسين كوار سنة قبل ذلك).
في الجزائر، بعد أن نزلت على الرحب والسعة عند الفلسطينيين الذين أوصاهم عصام أبو دقة بي خيرا وتابع الى فلسطين المحتلة بعد أ ن أنهى دراسته بالرباط، بقي علي أن أعثر على امحمد طلال (مدير الدراسات بالمعهد العالي للإعلام والاتصال لاحقا)، المغربي الوحيد بالجزائر الذي أعرفه مذ كان مسؤولا بالشبيبة الاتحادية بالدار البيضاء قبل أن يرسله الحزب في بعثة للدراسة بالجزائر ويترك مكانه لعبد الرحمن العزوزي. ومن موقعه كطالب بالجزائر، وبمناسبة حضوره بعض مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، خاصة المؤتمر الثالث عشر، كان بعض الرفاق (الحسين كوار، مصطفى مسداد..)، حتى قبل تأسيس المنظمة، يطلبون منه القيام ببعض الاتصالات في الجزائر وفرنسا ويسعون من خلاله إلى معرفة ما يجري بالجزائر وتتبع ما يتسرب من ماجريات الصراع داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هناك بين تياري الفقيه البصري من جهة وعبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد من جهة أخرى.
ستبدأ مع طلال سيرورة التعرف على الجزائر ومغاربة الجزائر ومسألة السكن والتسجيل في الكلية ووو..الخ. سأقطن بـ«دار الحزب» بحي القبة وأتعرف على «سي عبد الرحمن» (لحسن زغلول)، قيدوم اللاجئين والمحكوم عليه بالاعدام، وهو القيم على الدار وعلى مكتبتها وأدوات الطبع والاستنساخ العتيقة بها وسوى ذلك من مآثر المهدي بنبركة في الجزائر ومن أتى بعده من المناضلين الذين اعتنوا خصوصا بالمكتبة وتطويرها من أمثال محمد الحداوي، «ولد جامع الفنا»(عبد الله رشد) ومحمد الباهي... وكانت تلك التجهيزات، كما حُكي لي، هدية من ألمانيا الديمقراطية في إطار مشروع أكبر من ذلك جرى التذاكر بشأنه بين المهدي بنبركة والألمان الشرقيين.
كان عبد الواحد بلكبير قد سبقني إلى الجزائر بهدف الدراسة قبل أن يتدارك الموقف ويعود، سالما، إلى كلية الحقوق بالرباط.. لكن بعض آثاره اليسارية كانت ما تزال عالقة في بعض الأوساط الطلابية ولكن بطعم النكتة والتعاليق الساخرة على بعض مبالغاته المشهورة بخصوص تصاعد النضالات الطلابية وتلك المظاهرات «الضخمة» التي كانت تنطلق من كلية الحقوق ولا يفرقها البوليس إلا عند تخوم مقهى Chateaubriand..! ستتغير الصورة عن عبد الواحد بعد بضع سنين ويتغير التعامل مع «مبالغاته» في التردد على المعتقلات والسجون وستجد صوره مكانها على جدران كثير من البيوت الى جانب صور عدد من رموز ذلك الوقت. بل وينكب صحافي مثل حميد برادة على جمع المعلومات والتفاصيل الصغيرة عن عبد الواحد تأثيثا لموضوعه القادم في jeune afrique تماما كما كان يتصيد صحافيون آخرون المعلومات عن اعبابو أو أمقران مثلا، أو كما فعل برادة نفسه عندما كتب مقاله عن «الأنبياء الصغار» (شهداء 3 مارس).
مغربي عضو «ملاحظ» في مجلس الثورة
مع طلال سأتعرف على محكوم آخر بالاعدام ومن معه 99 % من مفاتيح الحل لمشاكل اللاجئين المغاربة بالجزائر: مجيد العراقي، وهو في الأصل مهندس زراعي وثاني اثنين من الذين ابتدأ بهم مغرب الاستقلال التفكير في حل المسألة الزراعية بإنشاء مكتب الري الى جانب محمد الطاهري مدير هذا المكتب (صاحب مكتبة الطاهري بإقامة قيس بالرباط) وذلك قبل أن يحترقا بنيران الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. أما محمد الطاهري، (وهو الشقيق الأكبر لعلي الطاهري الذي جاء إلى منظمة 23 مارس مرورا بحلقة المهدي بنبركة)، فقد اختار الابتعاد بعد لجوئه لفترة بالخارج وتحول الى التصوف والتاريخ وآخر مرة التقيته بها كان بصدد البحث عن جذور حركة محمد الحجامي الذي قاد هجوم القبائل على فاس أواخر ماي 1912 لالغاء معاهدة الحماية، والذي لم يشتهر كما اشتهر موحى وحمو الزياني وأحمد الهبة لدرجة أن الطاهري كان يعتقد أنه مات إذاك في ساحة المعركة وليس بعد ثلاثين سنة. أما مجيد العراقي فقد انخرط بالكامل في السياق الجزائري بعد انقلاب بومدين وصار رجل المغاربة بالجزائر ورجل الجزائريين لدى اللاجئين المغاربة بفضل شبكة علاقاته وبالخصوص بفضل علاقة الصداقة ثم المصاهرة التي جمعته بعضو مجلس الثورة شريف بلقاسم (تزوجا شقيقتين سويديتين).
كان مجيد العراقي هو صلة الوصل بيننا وبين الجزائر الرسمية حكومة وحزبا، وكل التسهيلات التي تمتعنا بها في الجزائر كانت تتم عن طريقه ولم يسبق لمنظمة 23 مارس أن كانت لها - بهذه الصفة - أية علاقة مباشرة مع السلطات الجزائرية. كان مجيد العراقي يقوم بهذه المهمات باعتباره عاطفا علينا وكان الجزائريون يتعاملون معه باعتبار ماموريته السابقة كممثل عن اللاجئين ومقرب من بنسعيد وجماعته. وعندما انتهى كل شيء مع الجزائر سيجد مجيد العراقي نفسه معزولا ومتخلى عنه تقريبا من طرف الجميع ليعود الى وطنه بداية التسعينات في ظروف غير مواتية ليموت بعد ذلك بقليل ملوما محسورا.
سيكون على الآن، وقد استقر بي المقام في الجزائر أن أشرع في انجاز المهام الضخمة التي تنتظرني: نشر فكر المنظمة ومواقفها، القيام بجميع العمليات التأسيسية في الخارج.. وبادئ ذي بدء يجب تبديد النظرة الضبابية التي كانت لدينا إذاك حول بعض الرموز التي كثر القيل والقال حولها في الكواليس والموجودة إما بالجزائر أو فرنسا أو سوريا: الفقيه الفيكيكي(بوراس)، محمد بنسعيد وخاصة عبد السلام الجبلي..
في البحث عن عبد السلام الجبلي
منذ بداية التنظيم، بل وحتى قبل توحيد الحلقات في 23 مارس 1970، وردت مسألة الزعامة. لم تطرح أبدا علانية بل فيما بيننا وبين أنفسنا. والتي قد تدخل، تجاوزا، في باب «المسكوت عنه» . الأحزاب بزعمائها. علال الفاسي، بلحسن الوزاني، المهدي بنبركة.. نحن منظمة ولسنا حزبا ولكن إذا صرنا حزبا أفلا نحتاج لزعيم؟ بل أليس الزعيم ضروريا كي نصير حزبا..؟ لم يطرح أحد هذه الأسئلة طبعا. كانت القيادة الجماعية اختيارا واضحا. لكن الرموز كان لها رنينها. ومن ينكر الأثر الذي كان يثيره في المجالس مجرد النطق باسم الفقيه البصري مثلا؟ المغاربة شعب بعيد عن التجريد يفضل الرموز على الأفكار والايديولوجيات وإلا ما رأى محمد بن يوسف في القمر. الفقيه البصري مناضل ملأ الدنيا وشغل الناس وحاز أكبر عدد من أحكام الاعدام لكن طريقه ليس طريقنا بالتأكيد وقد ذهبنا إلى أقصى حد في إثبات هذه المقولة بالدليل الملموس من خلال تجربة الحسين كوار. كان عبد السلام الجبلي هو الرمز المبحوث عنه؛ باعتباره والفقيه البصري قائدين تاريخيين لحركة المقاومة ضد الاستعمار وقائدين للحركة الاتحادية الجذرية. كل هذه الفذلكة لأقول إن الرفاق أضافوا هذه المهمة الى المهام التأسيسية الأخرى التي علي القيام بها في الجزائر: الاستفسار عن مناضل يسمى «البشير» يقيم الآن بباريس. قد يبدو هذا الحديث مضحكا. لكننا ونحن الآن في سنة 1971 نتحدث عن أواليات الأشياء ونبحث عن الجذور..
استقصيت هنا وهناك وكتبت إلى حمدون (عبد الغني أبو العزم) فوافاني بصفحات كاملة تتضمن التفاصيل التي يعرفها عن البشير (مولاي عبد السلام الجبلي) وخالد (محمد بنسعيد) وحميد برادة وأصل التناقضات وفصلها وانتهى به التحري إلى أن الصراع بين البصري والجبلي يعود - حسب بعض الأقوال - إلى أيام الدراسة في كلية بنيوسف..!
نقلت كل ما جمعت إلى الرفاق بالداخل حيث طلبوا مني في مراسلة أخرى تحديد موعد مع البشير وصحبه لرفيق سيزور باريس في يونيو 1971. فكان اللقاء الأول بين «ج» ومنظمة 23 مارس في شخص مبعوثها إلى باريس الرفيق «محمد» (أحمد حرزني)، الذي أجرت معه الحرية في نفس الفترة حديثا مفصلا عن اليسار والوضع في المغرب نشرته تحت عنوان «حوار مع ثوري مغربي».
في صيف نفس السنة سألتقي لأول مرة بمحمد بنسعيد في الجزائر الذي سيتزامن وجوده بها مع بدء محاكمة مراكش الكبرى حيث سنؤسس معا لجنة للتضامن مع المعتقلين السياسيين بالمغرب بمساهمة محمد باهي، لحسن زغلول، أحمد تفاسكا، امحمد طلال، مجيد العراقي.. وآخرين.
من بلد المليون شهيد إلى.. البلد الشهيد
بعد ذلك بدأ التحرك في اتجاه حركات التحرر العربية والعالمية التي كانت جزائر السبعينات تعج بها. جزائر بداية السبعينات لم تكن هي جزائر منتصف السبعينات عندما انقلبت انقلابا شيطانيا على المغرب والمغاربة وشردت من شردت منهم ونكبت من نكبت واعتقلت مخابراتها وعذبت مغاربة أبرياء مثل المناضل القيادي في حركة 3 مارس أحمد بن مسعود الطالبي، والشاعر محمد على الهواري الذي ساهم في صنع المجد الثقافي والفني للجزائر المستقلة بعمله المتميز في جريدة «الشعب». ولم تكن نظرتنا اليها بداية السبعينات هي نفس النظرة اليوم. كانت كثير من القضايا والتناقضات ما تزال في بدايتها. كنا ما زلنا آنذاك تحت التأثير الرومانسي لثورة المليون شهيد التي كان كل شيء يذكر بها، وحتى مغاربة الجزائر من اللاجئين كان فيهم شيء منها؛ بل وشيء كثير من هذه الثورة.
فلم يكونوا لاجئين عاديين مثل الفلسطينيين أو السوريين أو غيرهم حتى ولو كانوا من طراز أبو جهاد أو وديع حداد أو ابراهيم ماخوس أو ابراهيم طوبال أب المعارضة التونسية مثلا.. فرجل مثل سعيد بونعيلات أو الكولونبل بنحمو أو ابراهيم التزنيتي أو عمر الفرشي أو حمدون شوراق مثلا كانوا أندادا للقادة الجزائريين باعتبارهم مساهمين في تحرير الجزائر.
بل إن حمدون بطل عملية إنزال الأسلحة في شواطئ كبدانة وإخفائها ونقلها الى الجزائر، كان ينسق مع قادة الساعات الأولى في الثورة الجزائرية أمثال محمد بوضياف والعربي بلمهيدي في وقت كان بومدين الذي رافق باخرة السلاح المصرية دينا مسؤولا عسكريا فقط. ومن ثمة، كان التواجد المغربي في الجزائر يندرج في إطار تصريف لتراث نضالي مشترك لا منة من سلطات بلد مضيف.
على هذه الخلفية كنا نتحرك في الجزائر وكنا نقف على أرضية صلبة. كانت قد مضت بضع سنوات فقط على انقلاب بومدين في 19 جوان 1965، ظِلُّ بن بلة كان ما يزال حاضرا معنويا على أكثر من صعيد وعلاقة التقدميين المغاربة بأنصاره من أمثال الدكتور عبد المجيد مزيان والدكتور جمال قنان.. كانت قوية ومتينة كما كانت كذلك مع عدد من المعارضين الآخرين من المثقفين والفنانين من أمثال الأديب الرمز كاتب ياسين الذي كان مسرحه العمالي بوهران معظم طاقمه الفني مغاربة، نفوذ الاتحاد الوطني لطلبة الجزائر بتوجهه اليساري كان كاسحا في الجامعة وخير خاضع لسلطان جبهة التحرير وبدأ ظهور محتشم ليسار ماركسي كان بعض المغاربة على علاقة به وكانت بعض أدبياته تستنسخ ليلا بمساعدة من بعض أصدقائهم المغاربة في القبة. وفي نفس الاتجاه كنت قد ترجمت لأنفاس تحليلا بعنوان «الصراع الطبقي في الجزائر»..
والشيء الهام الذي لا بد من تكراره هنا أن المغاربة عموما والمناضلين التقدميين منهم بوجه خاص كانوا يحظون باحترام كبير لدى الشعب الجزائري لعوامل ضاربة في أعماق الذاكرة الشعبية الجزائرية ربما تعود إلى ملحمة حرب الريف أو إلى البطولات الأسطورية للمغاربة في الحرب العالمية أو لمرحلة النضال المشترك ضد الاستعمار أو لكل هذه العوامل مجتمعة.. فأن تكون «مروكيا» في الجزائر أوائل السبعينات من القرن الماضي كان مصدر اعتزاز وفخر رغم التواجد المكثف للمغاربة في الجزائر على مختلف المستويات خاصة في الغرب الجزائري حيث كانت تعيش أجيال من اللاجئين بمختلف مجموعاتهم منذ بداية الستينات في وئام تام مع السكان. وفي الجزائر العاصمة لم يكن تواجد المغاربة ولمدة طويلة يثير تلك الحساسيات الشبيهة بالشوفينية التي حصلت مع المصريين والفلسطينيين والأفارقة الذين كانت الجزائر تحتضن حركاتهم التحريرية كإرث ورثه بومدين عن بن بلة والمهدي بنبركة وبقايا تأثير المد الناصري والزخم التحرري لزعماء من أمثال سيكوتوري ونكروما وموديبوكيتا.. في عصر الاستقلالات ونضال القارات الثلاث.
على مستوى الدولة، كانت التناقضات في بدايتها ولكنها كانت بادية للعيان ولم تكن الأمور بعدُ بذلك «الانسجام» الظاهري الذي صنعه العداء للمغرب وقضيته الوطنية، وأقطاب النظام كان كل منهم يشكل دولة داخل الدولة؛ فأحمد مدغري مثلا الذي يعتبر باني الدولة الجزائرية أنهى تناقضه مع بومدين بشكل مأساوي عندما فضل أن ينتحر عام 1974 على أن يرى بلده يسير نحو الهاوية. والشاذلي بنجديد تُركت له منطقة وهران شبه إقطاع خاص يتصرف فيه كيف يشاء شرط أن يبتعد عن العاصمة وشؤونها. وداخل الحكومة الجزائرية كنت تجد الشيء وضده؛ وزير ثقافة تقدميا ومتفتحا مثل أحمد طالب الابراهيمي الى جانب آخر في منتهى التخلف والرجعية مثل وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية مولود قاسم الذي بدأ منذ ذلك الوقت ينفخ في نار الفتنة الدينية ويحرض «العلماء» على أطر الدولة التقدميين والمنفتحين، وكنت تجد شخصا مثل قايد أحمد عضو مجلس الثورة ومسؤول «جهاز» الحزب ينهي حياته لاجئا بالمغرب حيث يموت. قايد أحمد كان يختصر لوحده، من خلال العدد الذي لا يحصى من النكت التي ألفها عنه الجزائريون، الوضع في الجزائر. النكتة التالية خير تعبير عن واقع الحال: «خطب قايد أحمد فقال: قبل 19 جوان كنا على بعد خطوة من الهاوية. بعد 19 جوان تقدمنا خطوتين إلى الأمام».. وكان يحلو لبعض الأصدقاء الجزائريين أن يشبهوا سياسة بلادهم بسائق السيارة الذي يضع إشارة السير إلى اليسار وهو يريد الانعطاف إلى اليمين.
عندما كان العالم يساريا
كانت علاقتنا حتى ذلك الوقت مقصورة في المغرب على الثورة الفلسطينية وبالتحديد مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي انحزنا إليها منذ البداية. بل كثيرا ما كنا نستقطب الشباب الفلسطيني الذي أتى الى المغرب بدون انتماء سياسي الى الجبهة الديمقراطية. وأدى بعضهم ضريبة النضال المشترك عندما امتد قمع 1972 الى المناضل الفلسطيني محمد أبو دقة الذي اعتقل مع عبد اللطيف الدرقاوي والمجموعة قبل أن يطلق سراحه في 1973. فلسطيني آخر مقيم بالجزائر (شحدة أبو دقة) نزل ضيفا على محمد السمهاري وعندما اعتقل البوليس السمهاري دون أن يكتشفوا - لحسن حظه - «تورطه» في التنظيم السري، قضى ضيفه معه بضعة أيام في الكوميسارية..
بعد التحرك على مستوى حركات التحرر في الجزائر، بداية السبعينات، اتسعت العلاقات لتشمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، الجبهة القومية في اليمن الجنوبي، الجبهة الشعبية في البحرين، حزب البعث السوري (جماعة الأتاسي وصلاح جديد يمثله ابراهيم ماخوس وشمس الدين الأتاسي في الجزائر)، والحزب الشيوعي السوري (جماعة المكتب السياسي المعارض لخالد بكداش) وكان يمثله برهان غليون الأستاذ بجامعة وهران وقتها، جبهة تحرير إيرتيريا، العامل التونسي وتنظيمات يسارية تونسية أخرى... وتطورت العلاقات بشكل خاص مع مكتب جبهة تحررير عمال والخليج وامتد التعاون بيننا في عدة ميادين لاحقا حتى أنه تم الاتفاق، بطلب منهم، على إرسال طبيب الى الجبهة حيث تطوع على ما أظن عمر القاشوحي من فرنسا (في أوج التنسيق مع إلى الأمام) الى هذه المهمة ولكن الجبهة عدلت عن طلبها.
كما ألح اليمينيون على إرسال وفد من المنظمة إلى عدن للاجتماع بعبد الفتاح اسماعيل الذي وافق على اللقاء ولكن رفاق المنظمة في فرنسا لم يتمكنوا من انجاز هذه المهمة لأسباب شتى. في مكتب جبهة تحرير عمان تعرفنا أيضا على معارضين يساريين سعوديين، وعراقيين من الحزب الشيوعي (القيادة المركزية) وسمعنا منهم لأول مرة عن «قصر النهاية» وهو معتقل شبيه وربما أفضع من دار المقري.. مع فارق أساسي أن فظائع «قصر النهاية» كانت فظائع «تقدمية».
أثمرت هذه العلاقات قيام نوع من التنسيق الدائم بين حركات التحرر تمثل في اتخاذ مواقف مشتركة وإصدار بيانات وعرائض وتشكيل لجان مناصرة والقيام بحملات التضامن عندما يتطلب الأمر ذلك وهو ما سيحصل عندما ستبدأ محاكمة مراكش الكبرى صيف 1971 وحملات القمع المتعاقبة ضد التقدميين واليساريين المغاربة.
تحدد في هذه الفترة إذن المسار العام لعلاقاتنا العربية والأممية. وما عاشه المناضلون وشعروا به من فخر في المؤتمر الأول لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي وهم يستقبلون بالتصفيقات الحارة وفود المنظمات الشقيقة والصديقة وبرقيات قادة منظمات أخرى إنما يرجع إلى ما أنجز في هذا الزمن الوضاء على مستوى علاقاتنا الخارجية التي جرى تطويرها لاحقا في أوربا والشرق العربي على يد كثير من الجنود المعلومين أو المجهولين الذين كانت لهم مساهمة متميزة في هذا المضمار أذكر منهم عبد الغني أبو العزم وعمر الشرقاوي.
أبعد من موسكو وبيكين
لكن الرفاق في الداخل كانت لهم «طلبات خاصة» بخصوص هذه النقطة؛ نقطة العلاقات الخارجية. كانت التحريفية السوفياتية مدانة بالاجماع داخل اليسار الماركسي سيما بعد أن شهد شاهد من أهلها بانسحاب يسار التحرر والاشتراكية من الحزب العتيد. ومخافة السقوط بالكامل في الماوية التي كان عدد من رفاق المنظمة «يدينون» بها، كانت أنظار رفاق آخرين، مثل مسداد وحمامة، تتجه بالأحرى صوب تجارب أخرى متميزة ولكن لاخوف على المنظمة معها من خطر الهيمنة. كانت الثورة الفييتنامية في الطليعة، وكان منظرها «ترونغ شينغ» (على خطى كارل ماركس) حاضرا في التثقيف الايديولوجي للرفاق كما أن الفقيد حمامة كان لا يفتأ يردد مقولة هوشي منه «الأكل مع الجماهير والنوم مع الجماهير والعيش مع الجماهير». ولكن الرفيق مصطفى مسداد كان هواه مع تجربة دولة ميكروسكوبية في أوروبا تسمى ألبانيا، الشوكة الصينية في خاصرة الاتحاد السوفييتي. ربما كان ذلك لكونها تجربة شيوعية في محيط إسلامي وربما لـ«دسارة» زعيمها أنور خوجة الذي كان يشبه تلك الذبابة الشهيرة التي أنهكت السبع.. ربما.
المهم أني قمت بالمهمة وكثر ترددي على سفارة ألبانيا بلا طائل اذا اسثنينا خطب «الرئيس المحبوب» أنور خوجة الذي كان يحث فيها الألبانيين على النظافة والاعتناء بالزهور والنباتات وعلى مكارم الأخلاق.. الفييتناميون على الأقل كانوا أكثر جدية ورغبة في التعرف على المغرب وناقشوا معي بالخصوص تجربتهم في حل مشكلة اللغة والكتابة في الفييتنام وأبدوا اهتماما بمشكل التعريب عندنا.. ولم يكونوا فضوليين كالألبانيين في محاولة معرفة الأوضاع في الجزائر أكثر من الاهتمام بما يقع في المغرب.
«خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»
العمل مع المغاربة في الجزائر كان أصعب وخاصة في الوسط الطلابي إذ كانت الاصطفافات محددة سلفا وكان خطاب اليسار الذي كان جديدا بالمرة في الساحة الجزائرية يواجه بالعداء من طرف التيار الاتحادي المهيمن وقتها في الساحة الجزائرية والذي تمترس، بازدواجيته التاريخية، وراء فرع الجزائر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب صادا عنه رياح التغيير التي هبت وقتها على الجامعة المغربية ولسان حاله يقول: «لكن التغيير سيأتي من خارج (النضال الديمقراطي) بحول الله»، حسب الصيغة (المعدلة) لبيان شهير.
وكان «صوت التحرير» بإذاعة ليبيا القوة الضاربة لهذا التيار إعلاميا، ليس ضد النظام فقط بل وحتى ضد اليسار الجديد، وهو ما أثار غيرة الفقيد حمامة فانبرى للرد على تهجمات صوت التحرير ضد اليسار برسالة أذاعها البرنامج جاء فيها: «...الا أننا فوجئنا بحملات ضد من تسمونهم «اليساريين»، في حين يتعرض هؤلاء في الداخل إلى المتابعات والملاحقات والسجن. إن هذه الحملات التي تشن من «صوت التحرير» نعتبرها خطيرة ويمكن أن تؤدي الى نتائج ليست في صالح الحركة الديمقراطية. وإحساسا منا بالمسؤولية، نود أن نرد على بعض التهم الموجهة لليسار، لنضع النقط على الحروف آملين أن يكون الإحساس بضرورة توحيد النضال... هو المهمة الكبيرة المطروحة أمام الحركة الديمقراطية..».
لكنه في نفس الرسالة أشاد بأصحاب البرنامج وكال المديح للقادة التاريخيين الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، بل واقترب من شباب الحركة وارتبط بصداقة عدد ممن سيستشهدون مع محمد بنونة أو سيعدمون فيما بعد (لحسن تاغجيجت (بوزيان)، الناصري، صبري (هوشي منه)، أسكور...). كان حمامة يرى فيهم أمل الثورة لو توفر الحزب؛ أمل ضاع في لمح البصر بعد فشل حركة 3 مارس، التي أصدر التنظيم بشأنها تقييما أوليا (15 مارس 73) يكاد يتطابق مع تقييم أطراف من حركة 3 مارس نفسها والذي نشر بعد ثلاثة عقود في كتاب «أبطال بلا مجد» للمهدي بنونة نجل الشهيد محمد بنونة (محمود).
وفي اللقاء الذي جمعنا (لحسن زغلول، المرحوم تفاسكا وأنا)، أوائل 1974، بالمناضل امبارك بودرقة (عباس)، استمعنا لأول مرة لوجهة نظر انتقادية لأحداث 3 مارس بل ولاتهامات بالخيانة في صفوف الحركة بطلها شخص بعينه يتكرر في جميع الروايات بما فيها رواية الفقيه البصري. أذكر أيضا إشارته في هذا اللقاء الى تغلغل البوليس في الحركة وتحذيره لنا من بعض الأشخاص المحكوم عليهم بالاعدام تمويها (دون أن يذكر أي إسم)، وكذا تحذيره من استعمال البوليس للسجائر المسمومة لاغتيال المناضلين، وتأكيده بالخصوص على توحيد صفوف اليسار وهو ما سجلناه باهتمام واعتبرناه أمرا جديدا وهاما إزاء موقف العداء الذي كان سائدا وقتها إذا استثنينا الموقف المتفهم والمتعاطف ضمنيا معنا، الذي كان للراحل أحمد الدرهم.
لقد نجحنا في الجزائر، رغم الجو غير الصحي، في إسماع صوت «اليسار الجديد» واستطعنا تكوين نواة لهذا اليسار بدعم من عدد من المناضلين: امحمد طلال، محمد الغزاوني، عبد الوهاب مروان، أحمد تفاسكا، محمد الأسمر، محمد الضعيف، لحسن المسعودي، عبد العزيز الهراس، سليمان «الوجدي»، القماح فضول.. هذه النواة ستشكل العمود الفقري لنضال اليسار في الجزائر داخل القطاع الطلابي وفي لجنة التضامن مع المعتقلين السياسيين بالمغرب ونشرتها «التضامن» التي استمرت في الصدور عدة سنوات.
أوساط اللاجئين كانت أكثر انفتاحا على أطروحات اليسار وانتظارا للجديد في ساحة النضال سيما وقد سئموا من تكرار التجارب الفاشلة. بتنسيق مع لحسن زغلول بدأ العمل التأسيسي وسط اللاجئين في وهران اعتمادا على نواة صلبة من خيرة المناضلين المعروفين من قدماء المقاومة وجيش التحرير: «باكي» (مرزوق حسن)، «زايد» (أحمد الرگيگ (الفقيه الدكالي)، عبد الله الدكالي، «شاعة» (بوشعيب الدكالي)، عبد النبي ذكير (الحارس لاحقا بمدرسة سنابل الفتح التي أسسها عبد الواحد بلكبير ولطيفة اجبابدي بالرباط)، أحمد المرابط الذي لم يكن ينفك عن الحديث عن علاقته بالمهدي بنبركة والرسائل المتبادلة بينهما وانتقاداته ونصائحه عبثا للمهدي بلزوم الحيطة والحذر..
ثم شكل الحدث السعيد في بيت لحسن زغلول باجتماع شمل عائلته عندما نجحت المرحومة زوجتي إذاك بمساعدة المنظمة في إحضار زوجته وابنتيه بهيجة وآمال، تهريبا عبر الحدود، من أعماق الأطلس، بعد فراق دام عشر سنوات، مبعث أمل وثقة لديه ولدى جمهور اللاجئين في العمل السياسي الجدي وبرهانا على نجاعة وفعالية شباب اليسار الجديد. كما كان لهذه «العملية» الرمزية صدى إيجابي لدى اللاجئين و عائلاتهم في وهران. تم كذلك عمل تأسيسي في جامعة وهران ابتداء بتنظيم أبناء اللاجئين الذين سبق ذكرهم في خلية مركزية توج ذلك بإصدار نشرة «الوحدة». تابع العمل بعد 1975 على الساحة الجزائرية الرفيقان «عمر» (محمد السمهاري) و«عبد الكريم» (ابراهيم ياسين).
«مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة»
عندما رأيت كيف أصبح الرفاق في فرنسا يسبحون كالسمك في بحر من اليسار؛ ولما تمض سنتان على نجاتهم، ربيع 1972، من مخالب القمع، ازددت اقتناعا بصحة مقولة الطيب الذكر ماو تسي تونغ: مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. عندما غادرت المغرب نهاية 1970، كنت أحمل بين أوراقي عنوان صديق لم يكن قد التحق بعد بشكل رسمي بالمنظمة التي تأسست بعد خروجه من أجل الدراسة وإن كان في محيطها منذ أواخر الستيات. عنوان الرفيق حمدون (عبد الغني أبو العزم) هو الامكانية الوحيدة التي كانت لنا بباريس والتي علينا أن نبدأ منها لتأسيس التنظيم بالخارج. ثم عنوان آخر بعث لي به الرفاق لكي يتصل «حمدون» بصاحبه، يسكن بدار المغرب اسمه الأول عيسى «.. ولا داعي لذكر اسمه الثاني ـ تقول المراسلة - لأنه سيعرفه..». سيشتغل إذن «محور باريس - الجزائر - الدار البيضاء» بشكل مكثف سنتي 1971 و1972.
رسائل من «عيسى» بالفرنسية حول اتصالات متفرقة هنا وهنا، تأسيس لجنة للتضامن مع مجلة أنفاس، لجنة مناهضة القمع في المغرب وتونس، توقيع عرائض من طرف ديمقراطيين ويساريين فرنسيين، مهرجانات في الـ Mutualité للتنديد بالقمع وتعميم الأخبار حول وقائع محاكمة مراكش.. وأخبار من حمدون حول تكوين لجنة طلابية هنا أو عمالية هناك، حول امكانيات في كليرمون فيران أو في تولوز، حول صعوبات التنسيق مع رفاق (أ) في بداياتها الأولى، انضمام حميد برادة الى التنسيق باسم (ج) باقتراح من (أ)، محاضرة لعلى يعتة في دار المغرب انقلبت الى محاكمة لمواقف الحزب من طرف حسن الحاج ناصر انتهت بـ«فرار» المحاضر، أخبار عن «حلقة المهدي بنبركة».. الخ فضلا عن هموم الشرق التي كان أبو العزم مسكونا بها: تصفية المقاومة في الأردن، عملية اغتيال وصفي التل (رئيس وزراء الأردن) في القاهرة؛ تجوز أو لا تجوز؟ الاحتجاج على زيارة حواتمة للعراق «في وضح النهار»، عراق التنكيل بالشيوعيين وغير الشيوعيين في «قصر النهاية»، اعدام عبد الخالق محجوب في السودان، إصدار الثنائي المصري اليساري «محمود حسين» (صاحب «الصراع الطبقي في مصر») لمجلة المسيرة التي سيخصص عددها الرابع للوضع في المغرب.. عمل جبار أنجز في ظرف سنتين أو ثلاث أرسيت فيه أسس التنظيم واكتسح اليسار السبعيني الساحة..
الغالي وحمدون
في ذاكرتي، ابتدأ كل شيء في فرنسا برفيقين اثنين: الرفيق «عيسى» الذي يكتب لي بالفرنسية كنت أظنه اسما مستعارا كما جرت العادة في تلك الأوقات. حتى كنت عند بنسعيد صيف 1973 فإذا بشاب أنيق الهندام، وقلما كان الرفاق يتأنقون رغم وجودهم في عاصمة الأناقة، بلحية أنيقة كذلك، قدمه لي مسداد قائلا: هذا هو «الغالي» الذي كنت تبحث عنه؛ وأردف: الرفيق عيسى. أرجعني سماع اسم الغالي إلى زمن توحيد الحلقات وتأسيس 23 مارس. تحملت في التنظيم الجديد مسؤولية عضو اللجنة المحلية للدار البيضاء بجانب رفيقين آخرين: «ابراهيم» (رشيد فكاك) عن حلقة حرزني، و«لطفي» (عبد الرحمن..؟) عن حلقة «المعطي» (سيون أسيدون) ؛ نسير الدار البيضاء بواسطة الخلايا التي يعرف كل واحد منا كتاب الخلايا المسؤول عنها فقط. كاتب إحدى الخلايا واسمه «الناجي» بدأ بعد بضعة اجتماعات يشكو من بعض التغيبات في الخلية ومنها تغيب الغالي ثم انقطاع الصلة به تماما حتى عثرت عليه عند بنسعيد فإذا هو عيسى الورديغي.
أما حمدون (عبد الغني أبو العزم) فترجع علاقتي به إلى سنة 1965 بكلية الآداب. وعندما ذهبت إلى فرنسا وجدت بعض رفاقه الخلص ينادونه بـ«الزعيم». لم أحاول أن أعرف أسباب النزول ولكني تذكرت أيام الكلية بفاس وكيف أنه كان يريد أن يكون في كل مكان وفي نفس الوقت: في النقابة (كاتب التعاضدية) وفي الحزب وفي الشعر وفي الحب، ويتحول الى دبلوماسي حينما يحاول أن يقنع علال الفاسي بإلقاء محاضرته ولكن في إطار الاتحاد الوطني وليس في إطار الاتحاد العام الذي استدعاه، والذي لايتوفر على جمهور باستثناء طاقمه المسير. ولكن الزعيم (علال) يتشبث بموقفه «ولو طارت معزى».
«زْعامة» عبد الغني تبلغ أوجها أوائل 1967 سنة تدشين القمع في ظهر المهراز بالهجوم على الحي الجامعي واعتقال عدد من الطلبة بشكل عشوائي. كان أبو العزم غائبا في الرباط في إطار التحضير للمؤتمر الثاني عشر الذي سيحمل رئيس لجنة صياغة دستور 2011، عبد اللطيف المنوني الى رئاسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لما حضر مساء نفس اليوم أخبرناه بما جرى فقفز في أول «داكسي» الى الكوميسارية وحقيبته التي تحمل منامته وأوراقه ما تزال في يده للاحتجاج على اعتقال الرفاق. فلم يظهر له ولا لهم أثر منذ ذلك اليوم والى نهاية السنة الدراسية حيث عادوا أحياء من جحيم الاعتقال في أقاصي الصحراء بعد أن وقعوا على أوراق تشهد أنهم كانوا متطوعين لفائدة التعاون الوطني. تزامنت عودتهم مع الامتحانات التي لم يشاركوا فيها ومع المظاهرات التي كان يخرج فيها جميع الطلبة يتقدمهم أساتذتهم تنديدا بالهزيمة. وفي يوم 9 يونيو وعبد الناصر يخطب في الراديو معلنا استقالته، سيصرخ عبد الغني أبو العزم بكل قواه: «الحمار..! هل هذا وقت الاستقالة..؟!» في اليوم الموالي سيتراجع عبد الناصر عن استقالته.
هذه المعارك سيكون لها ذيول وستترتب عنها اعتقالات ومتابعات بـ«تهم» الاخلال بالأمن ومحاولة إحراق قنصلية أمريكا والكتابة بالفحم على الجدران أذكر من ضحاياها أحمد الرضاوني المسؤول بمركز التوثيق لاحقا، ومحمد معنى السنوسي، القيادي الاتحادي والمسؤول الجماعي بالدار البيضاء لاحقا.. أما الذين غيبوا مع أبو العزم في الصحراء أو عوقبوا باستدعائهم إلى التجنيد الاجباري فأذكر منهم رئيس مجلس القاطنين محمد العلمي، بدون أي انتماء سياسي، ومحمد بنشقرون مسؤول الحزب الشيوعي بفاس والاطار بمنظمة 23 مارس لاحقا، ومعتقل طلبة القرويين الأشهر محمد المزگلدي (الملاقاة)... أما المطرودون من الحي الجامعي فقد تعامل كل منهم مع محنته بقليل أو كثير من «الفلسفة» إلا أحمد المديني فإنه ظل أربعين سنة لا يفهم ما جرى له (رواية «رجال ظهر المهراز»).
دقة تابعة دقة..!
بداية 1972 ستتعرض المنظمة لأول رجة عنيفة كادت تعصف بها لولا أن الرفاق عالجوها بالحكمة المطلوبة؛ حملة قمع ضربت عددا من الأطر القيادية كانت «التناقضات الداخلية» من بين أسبابها، كما أشار محمد الحبيب طالب في إضاءته. هذه التناقضات ولدت مع المنظمة وكانت لها في أدبيات المنظمة تعبيرات وتصنيفات في غاية الطرافة. أسابيع فقط بعد توحيد الحلقات في مارس 1970، بدأ الحديث عن البطء والتراخي في إنجاز المهام التي سطرتها «ه.ق» (هيئة القيادة) المشكلة من: مصطفى مسداد، أحمد حرزني، سيون أسيدون. ستبرز بعد ذلك نفحة طهرانية لدى بعض الرفاق تجلت في البيان الشهير الذي صاغه الفقيد حمامة: «.. لقد انغمس بعض الرفاق..».
بعد أقل من ثلاثة أشهر سيفتح الله على بعض الرفاق باكتشاف أسباب الخلل في التنظيم وسر البطء في انجاز مهام المرحلة على طريق التقدم في بناء الحزب الثوري ضمنوها وثيقة شهيرة في أدبيات التنظيم هي «وثيقة الأطر»: أرستقراطية الأطر، تبرجز الأطر.. والحل؟ حل كل الهيئات والتنظيمات وإرسال الرفاق عند جماهير العمال والفلاحين ليتعلموا منها ويتبلتروا... بعد تجريب عدة صيغ للتداول على القيادة بين مختلف الاتجاهات، ستنعقد في شتنبر 1971 اللجنة المركزية في دورتها الثانية ستوافق بالأغلبية على «الوثيقة التاريخية» المنشورة ابتداء من العدد السادس من 23 مارس، وستنبثق عنها قيادة مكونة من: الحبيب طالب، محمد البردوزي، محمد المريني، مصطفى مسداد، محمد الكرفاتي، محمد المحجوبي، عبد الصمد بلكبير... مما يعني انتصار «الخط اليميني». ستلجأ الأقلية «اليسارية» - ربحا للوقت - إلى خلق تنظيم داخل التنظيم مما عرف في أدبياتهم بـ«لنخدم الشعب» وفي الأدبيات الرسمية للمنظمة بـ«المتكتلين». ستمتد خيوط هذا التنظيم الى البوليس الذي سيكتشف لأول مرة وجود تنظيمات سرية ماركسية لينينية بالمغرب، وتبدأ أولى الاعتقالات التي شملت الى حدود بداية مارس 1972: عبد اللطيف الدرقاوي، حسين الفهيمي، أحمد حرزني، مليكة الخودة، آيت باري محمد، آيت باري عبد الله، آيت باري الحسين، حميد الزرورة، حميد خضارة، سيون أسيدون، محمد البردوزي، ناظم عبد الجليل.
(يتبع)