نقوس المهدي
كاتب
“الحب هو أول لعبة يلعبها الجسد”، والعقل يصنع أفكاره ومفاهيمه عن طريق علاقة جدلية تربطه بالحواس الخمس، والجسد يستجيب بطرائق مختلفة للشهوات والميول التي تتدافع عبره، تسعده المشاعر الطيبة وتمرضه العواطف السلبية، يتجنب ما يؤلمه قدر الإمكان ويبحث عن اللذة في كل مكان، هو كيان تخترقه الرغبات وتحركه التخيلات ويختلج في أحشائه ما لا يحصى من الأحاسيس المتناقضة والأفكار المتضاربة والرؤى المتداخلة!
يمثل الجسد برمزيته وإيحاءاته مرتكزا أساسيا لفهم طبيعة التابوه الذي يغلف علاقة البشر بأجسادهم، فالوعي بالجسد كان أصعب تجربة وجودية خاضها أبونا آدم عليه السلام كما يحكي القرآن، وكيفية التعامل مع الجسد هو أول درس تربوي يتلقاه الطفل منذ نعومة أظفاره، بل إن مراحله العمرية وأطواره النفسية (طفولة وشبابا، كهولة وشيبا، قوة وضعفا، صحة ومرضا، شهوة وخمولا) إنما تتحدد بالتغيرات الفسيولوجية التي تلم بجسمه وتحيط بجسده، ويبدو أن أسلوب تعامل الإنسان مع جسده وطريقته في الإيحاء والتعبير هو ما يشكل المعالم المميزة لشخصيته.
لاهوت الجسد بين الإسلام والمسيحية:
يتعامل الفكر الديني في الإسلام بحزم وجدية في كل ما يتعلق بشؤون الجسد، وتتجلى هذه الحقيقة عند النظر إلى الطقوس المصاحبة للعبادات (الوضوء، الاغتسال، ستر العورة… إلخ) أو الآداب العامة (الختان، الاستحداد، قص الأظافر…إلخ) أو متطلبات بعض الشعائر (الصيام في رمضان، الإحرام للعمرة والحج، غسل الميت… إلخ) بل إن التعامل مع الجسد هو ما يحدد المعيار الأخلاقي للسلوكيات الاجتماعية (النهي عن التبرج، منع الرجال من التشبه بالنساء، تحريم تغيير خلق الله… إلخ) ولذا أصبح الجسد موضوعا للعقوبات الجنائية (الجلد، القطع، الرجم..إلخ) ومادة دسمة للجدل في المؤتمرات الدولية (عمليات التجميل، تأجير الرحم، بيع الأعضاء… إلخ) كل هذا يظهر رفض الفكر الإسلامي لمفهوم تملك الإنسان لجسده ويؤكد سلطته المطلقة على هذا الجسد وتوجيهه لشؤونه.
يورد فؤاد إسحق الخوري في كتابه (أيدولوجيا الجسد) الفروقات الجوهرية في التصور الديني للجسد بين الإسلام والمسيحية، ففي الإسلام يعتبر الجسد “عورة” يجب ستره عن الآخرين، وهذه العورة محصورة عند الرجل في الجزء الواقع بين السرة والركبة بينما يعتبر جسد المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكف والقدم، ولأن الجسد عورة فينبغي أن “يُـحفظ ويُستر لا أن يُرسم ويُصوَر”، ولهذا السبب ركز الفن الإسلامي على هندسة الحروف والزخرفة أكثر من تركيزه على إبراز مفاتن الجسد الإنساني وخفاياه، وإذا برز الجسد في عمل فني فإنه يظهر بوضع تشكيلي يشبه الرسم الأيقوني يؤكد رمزية الصورة أكثر من جمالها.
يختلف التصور الديني للجسد في المسيحية اختلافا حادا عن نظيره في الإسلام، فالجسد الإنساني في المسيحية تم تأليهه! فالرب تجسد في شخص الابن -يسوع المسيح- وهذا حول الجسد الإنساني من واقع حسي إلى جوهر روحاني، وتولد من مقولة “الرب لأجل الجسد” مفهوم لاهوتي رفع الجسد إلى مرتبة الخلود والخلاص، وبات الاعتناء به فرضا من فرائض الدين لأن الأجساد هي هياكل الروح القدس، والجسد في المسيحية يرمز إلى كينونة الإنسان بكليته وإلى كامل شخصه ومصيره. ومن هنا الاعتقاد بأن الاقتران – أي الزواج – يؤدي إلى وحدة الرجل والمرأة في جسد واحد، أي كينونة واحدة ومصير واحد.
يظهر التمايز في التصور الديني للجسد بين المسيحية والإسلام بشكل واضح في أماكن العبادة كالمسجد والكنيسة، ففي المسجد لا توجد صور أو رسوم أو تماثيل تشبه جسد الإنسان، وفي تزيين المساجد يُكتفى بالحرف العربي أو بالخط التشكيلي أو باللون، وهذه كلها أدوات جامدة لا توحي بالحياة “فالله وحده هو الحي القيوم”، وهذا بخلاف الكنيسة التي تمتلئ جدرانها بصور القديسين والملائكة، وتوجد صورتان مرسومتان للمسيح والعذراء على مدخل المذبح، وكثيرا ما تظهر صورة المسيح على شكل جسد إنساني شبه عار مصلوبا على الصليب، وعلى رأسه إكليل من الشوك، والدم ينضح من رجليه ومعصميه المسمَرتين على خشبة الخلاص، يرمز كل هذا –الصلب والشوك والدم– إلى آلام المسيح الإله التي يعتقد المسيحيون أنها طريق الخلاص البشري.
الجسد في تصورات الفلاسفة:
عندما نتأمل في مقولات الفلاسفة نجد أن أفلاطون لم يهتم بالجسد قدر اهتمامه بالنفس، فحسب التصور الأفلاطوني يكدر الاهتمام المفرط بالجسد النقاء الذهني ويفسد التأمل الفكري، والنفس تفكر أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعكر صفوها لا السمع ولا البصر ولا الألم ولا اللذة، بل تعتكف قاطعة مع الجسد كل معاشرة واتصال سعيا إلى إدراك الواقع، فالأفلاطونية ترى أن الجسد منجذب إلى الملذات بينما تسمو النفس إلى طلب العلم والحكمة، ثنائية الروح والجسد تقوم على الاعتقاد بأن الروح جوهر لا يفنى بالموت بخلاف الجسد، ولذا يتوجب على الإنسان أن يبذل ما في وسعه لاستعادة نقاوة النفس التي انحطت بسبب ارتباطها “الظرفي” بالجسد، وليس ما يفعله الفيلسوف سوى محاولة حثيثة لتخليص النفس من اغترابها في الجسد.
لكن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) له رأي مغاير، فهو يرفض المقولات التقليدية التي تعلي من شأن النفس على حساب الجسد، فالجسد عند نيتشه هو الأصل الذي ينبع منه كل أشكال الفكر والوعي، يقول نيتشه على لسان زرادشت: “الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير”، ويقول في موضع آخر: “إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك”! والغريزة في رأي نيتشه هي ماهية الإنسان التي تتجلى مظاهرها في عالم الشهوات والأهواء، والفكر ليس سوى العلاقات المتبادلة بين هذه الغرائز التي تلقي بظلالها على الوعي، يقول باروخ اسبينوزا (1632 – 1677): “يستطيع الجسد بقوانين طبيعته الخاصة أن يقوم بأفعال كثيرة يندهش لها العقل”.
وكان اهتمام علماء النفس –قبل ظهور مدرسة التحليل النفسي– منكبا على دراسة الظواهر العقلية الشعورية وغافلا عن ملاحظة تأثير العمليات العقلية اللاشعورية، ولذا ظل كثير من مظاهر السلوك الإنساني غامضا وبعيدا عن متناول البحث العلمي، وبعد ظهور مدرسة التحليل النفسي اكتشفنا أن الشطر الأكبر من حياتنا النفسية هو بالأساس “لاشعوري”، فالسلوك الإنساني لا يتحكم به العقل دائما وإنما للرغبة دور أساسي فيه، وأصبح التحليل النفسي يطالب الذات بالغوص في أعماق الجسد وسبر غور اللاشعور لكي نتمكن من معرفة ما يحرك الذات ويوجه سلوكها ومشاعرها.
التكامل بين الجسد والنفس والوعي:
الإنسان بكيانه ومشاعره وجسمه وعقله عبارة عن بنية متآلفة بين عنصري النفس والجسد، وهو يستحضر الأشكال والألوان ويستعيد الروائح والملموسات ويبني تصوراته الذهنية للواقع عن طريق إدراكه الحسي (السمع والبصر والشم والذوق واللمس)، والوجه له مكانة خاصة لأنه يعطي الجسد خصوصيته وفردانيته وهو أكثر الأعضاء تواصلا مع الآخرين، ولذا يصعب احتمال تشوه الوجه لأنه مرادف لفقدان الهوية، وتعطل إحدى حواس الجسد يورث الإنسان ما لا حصر له من الاضطرابات الجسدية والتهومات النفسية.
يتجلى الضعف الإنساني –في أشد صوره تراجيدية ومأساوية– حين تفتك بالجسد الأوجاع وتتسلط عليه الآفات؛ وذلك درس بليغ لكل من ينعمون بالصحة ويتدثرون بلباس العافية؛ لكن المفارقة تظهر عندما تنكشف الروح على مستويات فائقة من الوعي نتيجة تعاظم آلام الجسد (أنا أعاني، إذًا أنا موجود!)، حينما تتعذب أجسادنا نحس بكينونتنا ونقترب من ذواتنا “فنحن لا نتحرر عن طريق أفكارنا وإنما بفضل آلامنا وحدها”، المعاناة مع أمراض الجسد هي التي جعلت بودلير ينفث آلامه قصائد وأشعارا، وحولت كافكا إلى ربان سفينة تمخر عباب بحر الرواية، وأورثت البشرية ألحان بيتهوفن وميراثه الفني الخالد “فالمرض هو المولد الأول للأحاسيس والأفكار”!
اغتراب الجسد البشري هو الدافع الرئيسي لاغتراب الذات، والإنسان مهدد بكارثة حقيقية إذا ما تحول جسده إلى موضوع للتقنية والتلاعب الجيني والتجارة غير المشروعة بالأعضاء، والتاريخ لن يرحم المدافعين عن تطبيقات وتجارب تنتهك حرمة الجسد كأبحاث تحسين النسل التي تبرر تعقيم آلاف المواطنين الذين يعانون من التخلف العقلي والإدمان والميول الإجرامية، ومن المؤسف أن نرى اليوم بنوكا وأسواقا للمشتريات والسلع الجينية لتشكيل الجسد، فالافتتان بقوة التكنولوجيا أوجدت خرافة الإنسان الكامل الذي رسخته الأساطير الباحثة عن إكسير حياة الشباب والخلود. إخضاع جسد الإنسان لمنطق السلع والعرض والطلب يسلبه كرامته وقدسيته، تلك القدسية التي لا تليق إلا بالإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي يتمتع بالعقل والإرادة والحرية.
.
يمثل الجسد برمزيته وإيحاءاته مرتكزا أساسيا لفهم طبيعة التابوه الذي يغلف علاقة البشر بأجسادهم، فالوعي بالجسد كان أصعب تجربة وجودية خاضها أبونا آدم عليه السلام كما يحكي القرآن، وكيفية التعامل مع الجسد هو أول درس تربوي يتلقاه الطفل منذ نعومة أظفاره، بل إن مراحله العمرية وأطواره النفسية (طفولة وشبابا، كهولة وشيبا، قوة وضعفا، صحة ومرضا، شهوة وخمولا) إنما تتحدد بالتغيرات الفسيولوجية التي تلم بجسمه وتحيط بجسده، ويبدو أن أسلوب تعامل الإنسان مع جسده وطريقته في الإيحاء والتعبير هو ما يشكل المعالم المميزة لشخصيته.
لاهوت الجسد بين الإسلام والمسيحية:
يتعامل الفكر الديني في الإسلام بحزم وجدية في كل ما يتعلق بشؤون الجسد، وتتجلى هذه الحقيقة عند النظر إلى الطقوس المصاحبة للعبادات (الوضوء، الاغتسال، ستر العورة… إلخ) أو الآداب العامة (الختان، الاستحداد، قص الأظافر…إلخ) أو متطلبات بعض الشعائر (الصيام في رمضان، الإحرام للعمرة والحج، غسل الميت… إلخ) بل إن التعامل مع الجسد هو ما يحدد المعيار الأخلاقي للسلوكيات الاجتماعية (النهي عن التبرج، منع الرجال من التشبه بالنساء، تحريم تغيير خلق الله… إلخ) ولذا أصبح الجسد موضوعا للعقوبات الجنائية (الجلد، القطع، الرجم..إلخ) ومادة دسمة للجدل في المؤتمرات الدولية (عمليات التجميل، تأجير الرحم، بيع الأعضاء… إلخ) كل هذا يظهر رفض الفكر الإسلامي لمفهوم تملك الإنسان لجسده ويؤكد سلطته المطلقة على هذا الجسد وتوجيهه لشؤونه.
يورد فؤاد إسحق الخوري في كتابه (أيدولوجيا الجسد) الفروقات الجوهرية في التصور الديني للجسد بين الإسلام والمسيحية، ففي الإسلام يعتبر الجسد “عورة” يجب ستره عن الآخرين، وهذه العورة محصورة عند الرجل في الجزء الواقع بين السرة والركبة بينما يعتبر جسد المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكف والقدم، ولأن الجسد عورة فينبغي أن “يُـحفظ ويُستر لا أن يُرسم ويُصوَر”، ولهذا السبب ركز الفن الإسلامي على هندسة الحروف والزخرفة أكثر من تركيزه على إبراز مفاتن الجسد الإنساني وخفاياه، وإذا برز الجسد في عمل فني فإنه يظهر بوضع تشكيلي يشبه الرسم الأيقوني يؤكد رمزية الصورة أكثر من جمالها.
يختلف التصور الديني للجسد في المسيحية اختلافا حادا عن نظيره في الإسلام، فالجسد الإنساني في المسيحية تم تأليهه! فالرب تجسد في شخص الابن -يسوع المسيح- وهذا حول الجسد الإنساني من واقع حسي إلى جوهر روحاني، وتولد من مقولة “الرب لأجل الجسد” مفهوم لاهوتي رفع الجسد إلى مرتبة الخلود والخلاص، وبات الاعتناء به فرضا من فرائض الدين لأن الأجساد هي هياكل الروح القدس، والجسد في المسيحية يرمز إلى كينونة الإنسان بكليته وإلى كامل شخصه ومصيره. ومن هنا الاعتقاد بأن الاقتران – أي الزواج – يؤدي إلى وحدة الرجل والمرأة في جسد واحد، أي كينونة واحدة ومصير واحد.
يظهر التمايز في التصور الديني للجسد بين المسيحية والإسلام بشكل واضح في أماكن العبادة كالمسجد والكنيسة، ففي المسجد لا توجد صور أو رسوم أو تماثيل تشبه جسد الإنسان، وفي تزيين المساجد يُكتفى بالحرف العربي أو بالخط التشكيلي أو باللون، وهذه كلها أدوات جامدة لا توحي بالحياة “فالله وحده هو الحي القيوم”، وهذا بخلاف الكنيسة التي تمتلئ جدرانها بصور القديسين والملائكة، وتوجد صورتان مرسومتان للمسيح والعذراء على مدخل المذبح، وكثيرا ما تظهر صورة المسيح على شكل جسد إنساني شبه عار مصلوبا على الصليب، وعلى رأسه إكليل من الشوك، والدم ينضح من رجليه ومعصميه المسمَرتين على خشبة الخلاص، يرمز كل هذا –الصلب والشوك والدم– إلى آلام المسيح الإله التي يعتقد المسيحيون أنها طريق الخلاص البشري.
الجسد في تصورات الفلاسفة:
عندما نتأمل في مقولات الفلاسفة نجد أن أفلاطون لم يهتم بالجسد قدر اهتمامه بالنفس، فحسب التصور الأفلاطوني يكدر الاهتمام المفرط بالجسد النقاء الذهني ويفسد التأمل الفكري، والنفس تفكر أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعكر صفوها لا السمع ولا البصر ولا الألم ولا اللذة، بل تعتكف قاطعة مع الجسد كل معاشرة واتصال سعيا إلى إدراك الواقع، فالأفلاطونية ترى أن الجسد منجذب إلى الملذات بينما تسمو النفس إلى طلب العلم والحكمة، ثنائية الروح والجسد تقوم على الاعتقاد بأن الروح جوهر لا يفنى بالموت بخلاف الجسد، ولذا يتوجب على الإنسان أن يبذل ما في وسعه لاستعادة نقاوة النفس التي انحطت بسبب ارتباطها “الظرفي” بالجسد، وليس ما يفعله الفيلسوف سوى محاولة حثيثة لتخليص النفس من اغترابها في الجسد.
لكن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) له رأي مغاير، فهو يرفض المقولات التقليدية التي تعلي من شأن النفس على حساب الجسد، فالجسد عند نيتشه هو الأصل الذي ينبع منه كل أشكال الفكر والوعي، يقول نيتشه على لسان زرادشت: “الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير”، ويقول في موضع آخر: “إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك”! والغريزة في رأي نيتشه هي ماهية الإنسان التي تتجلى مظاهرها في عالم الشهوات والأهواء، والفكر ليس سوى العلاقات المتبادلة بين هذه الغرائز التي تلقي بظلالها على الوعي، يقول باروخ اسبينوزا (1632 – 1677): “يستطيع الجسد بقوانين طبيعته الخاصة أن يقوم بأفعال كثيرة يندهش لها العقل”.
وكان اهتمام علماء النفس –قبل ظهور مدرسة التحليل النفسي– منكبا على دراسة الظواهر العقلية الشعورية وغافلا عن ملاحظة تأثير العمليات العقلية اللاشعورية، ولذا ظل كثير من مظاهر السلوك الإنساني غامضا وبعيدا عن متناول البحث العلمي، وبعد ظهور مدرسة التحليل النفسي اكتشفنا أن الشطر الأكبر من حياتنا النفسية هو بالأساس “لاشعوري”، فالسلوك الإنساني لا يتحكم به العقل دائما وإنما للرغبة دور أساسي فيه، وأصبح التحليل النفسي يطالب الذات بالغوص في أعماق الجسد وسبر غور اللاشعور لكي نتمكن من معرفة ما يحرك الذات ويوجه سلوكها ومشاعرها.
التكامل بين الجسد والنفس والوعي:
الإنسان بكيانه ومشاعره وجسمه وعقله عبارة عن بنية متآلفة بين عنصري النفس والجسد، وهو يستحضر الأشكال والألوان ويستعيد الروائح والملموسات ويبني تصوراته الذهنية للواقع عن طريق إدراكه الحسي (السمع والبصر والشم والذوق واللمس)، والوجه له مكانة خاصة لأنه يعطي الجسد خصوصيته وفردانيته وهو أكثر الأعضاء تواصلا مع الآخرين، ولذا يصعب احتمال تشوه الوجه لأنه مرادف لفقدان الهوية، وتعطل إحدى حواس الجسد يورث الإنسان ما لا حصر له من الاضطرابات الجسدية والتهومات النفسية.
يتجلى الضعف الإنساني –في أشد صوره تراجيدية ومأساوية– حين تفتك بالجسد الأوجاع وتتسلط عليه الآفات؛ وذلك درس بليغ لكل من ينعمون بالصحة ويتدثرون بلباس العافية؛ لكن المفارقة تظهر عندما تنكشف الروح على مستويات فائقة من الوعي نتيجة تعاظم آلام الجسد (أنا أعاني، إذًا أنا موجود!)، حينما تتعذب أجسادنا نحس بكينونتنا ونقترب من ذواتنا “فنحن لا نتحرر عن طريق أفكارنا وإنما بفضل آلامنا وحدها”، المعاناة مع أمراض الجسد هي التي جعلت بودلير ينفث آلامه قصائد وأشعارا، وحولت كافكا إلى ربان سفينة تمخر عباب بحر الرواية، وأورثت البشرية ألحان بيتهوفن وميراثه الفني الخالد “فالمرض هو المولد الأول للأحاسيس والأفكار”!
اغتراب الجسد البشري هو الدافع الرئيسي لاغتراب الذات، والإنسان مهدد بكارثة حقيقية إذا ما تحول جسده إلى موضوع للتقنية والتلاعب الجيني والتجارة غير المشروعة بالأعضاء، والتاريخ لن يرحم المدافعين عن تطبيقات وتجارب تنتهك حرمة الجسد كأبحاث تحسين النسل التي تبرر تعقيم آلاف المواطنين الذين يعانون من التخلف العقلي والإدمان والميول الإجرامية، ومن المؤسف أن نرى اليوم بنوكا وأسواقا للمشتريات والسلع الجينية لتشكيل الجسد، فالافتتان بقوة التكنولوجيا أوجدت خرافة الإنسان الكامل الذي رسخته الأساطير الباحثة عن إكسير حياة الشباب والخلود. إخضاع جسد الإنسان لمنطق السلع والعرض والطلب يسلبه كرامته وقدسيته، تلك القدسية التي لا تليق إلا بالإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي يتمتع بالعقل والإرادة والحرية.
.
صورة مفقودة