نقوس المهدي
كاتب
(1)
تتوافر لدينا اليوم أعداد كبيرة من دوريات فمنستية متخصصة تصدرها أقسام دراسات المرأة في الجامعات الغربية وعلى الأقل الناطقة باللغة الأنكليزية عامة ، وجامعات شمال أمريكا خاصة . وكذلك فأن المكتبات الجامعية عامرة بوافر من كتب منجزة من قبل باحثات نسويات يشرفن على مراكز بحوث الدراسات الفمنستية . وهذا التراث الفمنستي المتراكم يغطي كل مجالات الحضارة والثقافة والتفكير والعلم ومناهج البحث وستراتيجيات التربية والمنهج الأكاديمي ، والقياس والتقويم ، وتصميم الأسئلة الإمتحانية ، والنظم الإدارية والسياسية والقانونية والتشريعية والأقتصادية والتكنولوجيا* .. وفي طرف من هذا التراث قراءات نسوية لتاريخ ما قبل الفلسفة ، وهذا هو الموضوع الذي نود مناقشته في هذا المحور . أما قراءة تاريخ الفلسفة من زاوية فمنستية . فهذا موضوع سنتناوله في محور من مجلة أوراق فلسفية جديدة على الأقل في المستقبل من أعدادها القادمة .
* قبل سبع سنوات نشرت مقالاً مقتضباً عن الحركة الفمنستية في شمال أمريكا ، وبينت فيه الأتجاهات العامة التي تهيمن على مسيرة الحركة الفمنستية (نشرته جريدة البلاد اللندنية (كندا) في العام 2004) . وأشعر اليوم (في الربع الأخير من العام 2011) بوجع لا حدود له عندما أراجع برامج الجامعات في الوطن العربي عامة والعراق خاصة ، ولا أجد فيها أقساماً لدراسات المرأة ، ولا توجد مراكز بحوث تنشر الجديد مما يدور في مضمار الدراسات الفمنستية . وهو مضمار بحد ذاته متنوع وخصب ، وفيه تجديد لمناهج البحث والتفكير . وفيه الكثير الكثير من إمكانيات قلب معادلات وحسابات التفكير القار الثابت ، والذي تسمروتحول إلى معوق للتغيير والنمو..
ولا أخفي سراً إذا قلت بأن التغيير والتجديد أصبح سراباً عند المراهنة في التفكير على الأقل في إنجازه خلال الحركات الماركسية والليبرالية ، وذلك لأنها تحولت إلى فكر وأيديولوجيات كلاسيكية دخلت ذمة التاريخ ، وما دخل ذمة التاريخ لا قوة ولا حول له ، ولا فرج منه في التجديد إذا هو عجز عن تجديد نفسه .. إن الرهان اليوم بيد الحركات الفمنستية ، ففيها الأمل في العدالة والإنصاف وإقامة المجتمع الإنساني الحقيقي الموعود ، والذي يعيش في ظلاله الآمنة كل أبنائه بكرامة وسلام ، ومهما كان جندرهم وجلدهم ولسانهم .
ومن النافع أن نعلم القارئ بأن الدوائر الأكاديمية الغربية خاصة ، والأدب الغربي الثقافي عامة ، يتداولان بصورة واسعة إصطلاح ” الفلسفة الفمنستية ” . والسؤال : ماذا يقصدون بالفلسفة الفمنستية أو الإنثوية ؟ فمثلاً حسب أم . كيتنس إن الفلسفة الفمنستية ، هي جنس من الفلسفة مقروءً ومدروساً من زاوية إنثوية . وتتوزع نشاطات الفلسفة الفمنستية في مجموعتين من المثابرات :
الأولى – مجموعة مثابرات فلسفية تستخدم طرق الفلسفة ومناهجها بصورة أكثر عمقاً لصالح الحركة النسوية (الفمنستية) .
الثانية – مجموعة مثابرات فلسفية تركز على إنجاز قراءات نقدية وتقويمية لتاريخ الفلسفة في مجراه العام ، ومن زاوية مرجعية إنثوية جديدة (للإستشهاد أنظر : أم . كيتنس ؛ الفمنستية والفلسفة : وجهات نظر حول الإختلاف والمساواة ، نشرة مطبعة جامعة إنديانا 1991) .
وهذه المثابرات تعتقد بأن تاريخ الفلسفة قد كتبه رجال من الفلاسفة ، وإن مثابرات النقد والتقويم له قد أنجزتها عقول وأقلام فلاسفة رجال . وهنا تكمن أبعاد وخطورة ثورة الفلسفة من زاوية المشروع الفلسفي الفمنستي الذي يقوده اليوم مجموعة من الأكاديميات الفمنستيات في عدد من أقسام الفلسفة في الجامعات الغربية ، وعلى الأقل في جامعات أمريكا الشمالية (وخصوصاً في أقسام الفلسفة والدراسات النسوية في الجامعات الكندية) ولعل الباحث شاهد قريب على نشاطاتهم ومطلع على نشرياتهم ومؤلفاتهم الفلسفية .
وهنا نقدم قراءة فمنستية لفكر ما قبل الفلسفة ، وبالتحديد لأسطورة بندورا
والتي تناولها الشاعر الملحمي اليوناني هزيود وكان معاصراً للشاعر الملحمي اليوناني هوميروس . كتب هزيود ملحمتين شعريتين : الأولى كانت بعنوان ” أصل الألهة ” والثانية هي ” الأعمال والأيام . وبدءً من البيت الشعري رقم 60 من ملحمته الشعرية ” الأعمال والأيام ” تحدث هزيود عن خلق المرأة ” بندورا ” وصندوقها . وهو في الحقيقة جرة كبيرة قُدمت لها هدية ، وهي مملوءة بكل شرور العالم (وهنا أرجو الإنتباه إلى صندوق أو جرة بندورا المملوءة بكل شرور العالم وعلاقة الشر بالمرأة بندورا) . وقد طُلب من بندورا عدم فتحها . وعندما فتحته ، ماذا حدث على يد المرأة بندورا ؟ هو أن كل الشرور أًطلقت إلى العالم ، وبالطبع هو عالم الرجال ، ولم يبقى في الصندوق إلا شئ واحد هو ” الأمل ” . وفعلاً فأن اليوم يعني صندوق بندورا خلق الشر الذي لا يمكن إخضاعه والسيطرة عليه مرة أخرى (أنظر : أبوستولس إثنسكيس ؛ هزيود : أصل الألهة والأعمال والأيام ودرع هيركليس ، ترجمة ومدخل وشرح ، نشرة مطبعة جامعة جونز هوبكنز 1983، ص 95 وما بعد).
وبندورا في الإسطورة اليونانية الكلاسيكية القديمة ، هي أول إمرأة خُلقت على وجه الأرض . فقد أمر رب الأرباب والبشر ” زيوس ” ولده ” هفستيوس ” ، وهو إله الصناعة والحرف أن يخلق بندورا من ” الطين والماء ” ( هنا أرجو الإنتباه إلى عملية خلق بندورا من الماء والطين ) . وكذلك فقد منحت الألهة بندورا الكثير من المهارات والقدرات . فمثلاً منحتها الإلهة ” فروديت ” الجمال . ومنحها الإله ” أبولو ” الموسيقى ومنحها ” هرمس ” رسولاً خاصاً بها . كما ومنحها ألهة أخرون ملكة حب الإستطلاع وطلب المعرفة .
وتستمر تفاصيل إسطورة المرأة بندورا ، فعندما سرق ” برومثيوس ” النار من السماء وسلمها إلى الإنسان ، فإن رب الأرباب والبشر ” زيوس ” وضع خطة للإنتقام من برومثيوس ، وذلك عن طريق إحضار بندورا إلى ” أبمثيوس ” (وهو أخ برومثيوس) وكان معها صندوق جميل ، وقد إشترط عليها أن لا تفتحه أبداً ومهما تكن الظروف . ولكن بندورا كانت مجبولة بحب الإستطلاع والمعرفة ، ولذلك لم تلتزم بآوامر رب الأرباب والبشر ، ففتحته بدافع معرفة ؛ لماذا رب الأرباب رفض فتحه ؟ وما هو السر الذي يحتويه ؟ وفي تلك اللحظة إنطلقت كل شرور العالم المسجونة في صندوق بندورا وإنتشرت على وجه الأرض . وأسرعت بندورا إلى إقفال الصندوق . ولكن في الحقيقة رد فعلها جاء متأخراً جداً ، إذ لم يبقى سوى ” الأمل ” الذي ظل في قاع الصندوق .
فأصاب بندورا الكرب والحزن الشديد نتيجة ما قامت به ، ولعصيانها أوامر رب الأرباب . وكانت في حالة فزع وخوف وذلك لفشلها من القيام بالواجب الذي أوكله لها رب الأرباب ، فأخذ تفكيرها يدور ويبحث عن كيفية مواجهة غضب ” زيوس ” ، ونوع العقاب الذي سيصيبها . ولكن رب الأرباب لم يعاقبها ، وذلك لكونه عارف بكل شئ وعارف بما سيقع في المستقبل (أنظر: يعقوب وليم فاردنيوس ؛ شرح لعمل هزيود في الأعمال والأيام ، ليدن 1985 . والحقيقة هذا بحث تركيبي شمل مناقشات عميقة ، وإعتمد على نظريات متنوعة وتأويلات خاصة حول قصة بندورا وصندوقها أو جرتها . قارن مثلاً الصفحات 62 ، 63 وما بعد) .
التحليل الفمنستي لقصة بندورا :
إنبرت الباحثة الأكاديمية ” لورا مالفي ” في بحثها المعنون ” إسطورة بندورا من زاوية التحليل النفسي ” إلى تحليل الإسطورة من زاوية فمنستية . وذهبت إلى إن بندورا ، هي إمرأة جميلة ، صنعها الألهة وذلك لإغراء الرجل وإحداث الضرر له . ولهذا الغرض فقد بُعثت بندورا إلى الأرض مع صندوقها السري الذي يحتوي على كل شرور العالم .
ولاحظت بأن هناك نوعاً من التابو (أوامر بالتحريم والتحذير والإرهاب) قد أحاطت صندوق بندورا ، خصوصاًً فيما يخص محتويات الصندوق ، والتي تحمل الدمار لسعادة الرجل ، وتهديد لسطوته . ولكن على خلاف ما هو سائد في المحيط الثقافي من إن المرأة ينقصها المعرفة . فإن في الإسطورة رموزاً وإشارة مهمة للحركة النسوية ، وهي إن الألهة منحتها ملكة ” حب الإستطلاع وطلب المعرفة ” وهذا هو السبب الذي حملها على فتح الصندوق وعدم الإنصياع لأوامر المنع والتحريم التي فرضها رب الأرباب ” زيوس ” . وكانت النتيجة إن كل شرور العالم هربت إلى العالم . وخلاصة القضية ، هي إن المرأة سبب كوارث وأحزان الرجل . مع نسيان إن الرجل هو سبب الكوارث بعد إن سرق برومثيوس النار من السماء وسلمها للرجل ، فسبب غضب رب الأرباب وقرر الإنتقام من الرجل وإستخدام بندورا وصندوقها وسيلة إنتقام من الإنسان الرجل .
إن الأكاديمية لورا وجدت في إسطورة بندورا :
أولاً – إن بندوراً رمزاً نسوياً مهماً تقدمه الأساطير اليونانية ، ويظل مثالاً أولياً إحتضنته الثقافة اليونانية في مرحلة ما قبل الفلسفة ، ويحق للحركة الفمنستية أن تحتفل به رغم ما حُمل من أبعاداً فرضتها ثقافة الرجل المهيمينة .
ثانياً – إن هناك سؤالاً مهماً يجب إستثماره في الأسطورة ، وهو إن المرأة لم تكن ناقصة معرفة ، وإنما كان لديها الدافع لطلب المعرفة . ولعل ملكة ” حب الإستطلاع ” التي منحتها الألهة لبندورا ، هي مثال أولي على رغبة المرأة لطلب المعرفة . وهذا طرف مهم لازم الحركة الفمنستية على طول التاريخ وعرضه (أنظر : لورا مالفي : إسطورة بندورا من زاوية التحليل النفسي ، منشور في كتاب : الفمنستية في السينما ، نشرة مطبعة جامعة إنديانا 1995 ، ص 3 وما بعد) .
- الدكتور محمد جلوب الفرحان: قراءة فمنستية لفكر ما قبل الفلسفة
.
تتوافر لدينا اليوم أعداد كبيرة من دوريات فمنستية متخصصة تصدرها أقسام دراسات المرأة في الجامعات الغربية وعلى الأقل الناطقة باللغة الأنكليزية عامة ، وجامعات شمال أمريكا خاصة . وكذلك فأن المكتبات الجامعية عامرة بوافر من كتب منجزة من قبل باحثات نسويات يشرفن على مراكز بحوث الدراسات الفمنستية . وهذا التراث الفمنستي المتراكم يغطي كل مجالات الحضارة والثقافة والتفكير والعلم ومناهج البحث وستراتيجيات التربية والمنهج الأكاديمي ، والقياس والتقويم ، وتصميم الأسئلة الإمتحانية ، والنظم الإدارية والسياسية والقانونية والتشريعية والأقتصادية والتكنولوجيا* .. وفي طرف من هذا التراث قراءات نسوية لتاريخ ما قبل الفلسفة ، وهذا هو الموضوع الذي نود مناقشته في هذا المحور . أما قراءة تاريخ الفلسفة من زاوية فمنستية . فهذا موضوع سنتناوله في محور من مجلة أوراق فلسفية جديدة على الأقل في المستقبل من أعدادها القادمة .
* قبل سبع سنوات نشرت مقالاً مقتضباً عن الحركة الفمنستية في شمال أمريكا ، وبينت فيه الأتجاهات العامة التي تهيمن على مسيرة الحركة الفمنستية (نشرته جريدة البلاد اللندنية (كندا) في العام 2004) . وأشعر اليوم (في الربع الأخير من العام 2011) بوجع لا حدود له عندما أراجع برامج الجامعات في الوطن العربي عامة والعراق خاصة ، ولا أجد فيها أقساماً لدراسات المرأة ، ولا توجد مراكز بحوث تنشر الجديد مما يدور في مضمار الدراسات الفمنستية . وهو مضمار بحد ذاته متنوع وخصب ، وفيه تجديد لمناهج البحث والتفكير . وفيه الكثير الكثير من إمكانيات قلب معادلات وحسابات التفكير القار الثابت ، والذي تسمروتحول إلى معوق للتغيير والنمو..
ولا أخفي سراً إذا قلت بأن التغيير والتجديد أصبح سراباً عند المراهنة في التفكير على الأقل في إنجازه خلال الحركات الماركسية والليبرالية ، وذلك لأنها تحولت إلى فكر وأيديولوجيات كلاسيكية دخلت ذمة التاريخ ، وما دخل ذمة التاريخ لا قوة ولا حول له ، ولا فرج منه في التجديد إذا هو عجز عن تجديد نفسه .. إن الرهان اليوم بيد الحركات الفمنستية ، ففيها الأمل في العدالة والإنصاف وإقامة المجتمع الإنساني الحقيقي الموعود ، والذي يعيش في ظلاله الآمنة كل أبنائه بكرامة وسلام ، ومهما كان جندرهم وجلدهم ولسانهم .
ومن النافع أن نعلم القارئ بأن الدوائر الأكاديمية الغربية خاصة ، والأدب الغربي الثقافي عامة ، يتداولان بصورة واسعة إصطلاح ” الفلسفة الفمنستية ” . والسؤال : ماذا يقصدون بالفلسفة الفمنستية أو الإنثوية ؟ فمثلاً حسب أم . كيتنس إن الفلسفة الفمنستية ، هي جنس من الفلسفة مقروءً ومدروساً من زاوية إنثوية . وتتوزع نشاطات الفلسفة الفمنستية في مجموعتين من المثابرات :
الأولى – مجموعة مثابرات فلسفية تستخدم طرق الفلسفة ومناهجها بصورة أكثر عمقاً لصالح الحركة النسوية (الفمنستية) .
الثانية – مجموعة مثابرات فلسفية تركز على إنجاز قراءات نقدية وتقويمية لتاريخ الفلسفة في مجراه العام ، ومن زاوية مرجعية إنثوية جديدة (للإستشهاد أنظر : أم . كيتنس ؛ الفمنستية والفلسفة : وجهات نظر حول الإختلاف والمساواة ، نشرة مطبعة جامعة إنديانا 1991) .
وهذه المثابرات تعتقد بأن تاريخ الفلسفة قد كتبه رجال من الفلاسفة ، وإن مثابرات النقد والتقويم له قد أنجزتها عقول وأقلام فلاسفة رجال . وهنا تكمن أبعاد وخطورة ثورة الفلسفة من زاوية المشروع الفلسفي الفمنستي الذي يقوده اليوم مجموعة من الأكاديميات الفمنستيات في عدد من أقسام الفلسفة في الجامعات الغربية ، وعلى الأقل في جامعات أمريكا الشمالية (وخصوصاً في أقسام الفلسفة والدراسات النسوية في الجامعات الكندية) ولعل الباحث شاهد قريب على نشاطاتهم ومطلع على نشرياتهم ومؤلفاتهم الفلسفية .
وهنا نقدم قراءة فمنستية لفكر ما قبل الفلسفة ، وبالتحديد لأسطورة بندورا
والتي تناولها الشاعر الملحمي اليوناني هزيود وكان معاصراً للشاعر الملحمي اليوناني هوميروس . كتب هزيود ملحمتين شعريتين : الأولى كانت بعنوان ” أصل الألهة ” والثانية هي ” الأعمال والأيام . وبدءً من البيت الشعري رقم 60 من ملحمته الشعرية ” الأعمال والأيام ” تحدث هزيود عن خلق المرأة ” بندورا ” وصندوقها . وهو في الحقيقة جرة كبيرة قُدمت لها هدية ، وهي مملوءة بكل شرور العالم (وهنا أرجو الإنتباه إلى صندوق أو جرة بندورا المملوءة بكل شرور العالم وعلاقة الشر بالمرأة بندورا) . وقد طُلب من بندورا عدم فتحها . وعندما فتحته ، ماذا حدث على يد المرأة بندورا ؟ هو أن كل الشرور أًطلقت إلى العالم ، وبالطبع هو عالم الرجال ، ولم يبقى في الصندوق إلا شئ واحد هو ” الأمل ” . وفعلاً فأن اليوم يعني صندوق بندورا خلق الشر الذي لا يمكن إخضاعه والسيطرة عليه مرة أخرى (أنظر : أبوستولس إثنسكيس ؛ هزيود : أصل الألهة والأعمال والأيام ودرع هيركليس ، ترجمة ومدخل وشرح ، نشرة مطبعة جامعة جونز هوبكنز 1983، ص 95 وما بعد).
وبندورا في الإسطورة اليونانية الكلاسيكية القديمة ، هي أول إمرأة خُلقت على وجه الأرض . فقد أمر رب الأرباب والبشر ” زيوس ” ولده ” هفستيوس ” ، وهو إله الصناعة والحرف أن يخلق بندورا من ” الطين والماء ” ( هنا أرجو الإنتباه إلى عملية خلق بندورا من الماء والطين ) . وكذلك فقد منحت الألهة بندورا الكثير من المهارات والقدرات . فمثلاً منحتها الإلهة ” فروديت ” الجمال . ومنحها الإله ” أبولو ” الموسيقى ومنحها ” هرمس ” رسولاً خاصاً بها . كما ومنحها ألهة أخرون ملكة حب الإستطلاع وطلب المعرفة .
وتستمر تفاصيل إسطورة المرأة بندورا ، فعندما سرق ” برومثيوس ” النار من السماء وسلمها إلى الإنسان ، فإن رب الأرباب والبشر ” زيوس ” وضع خطة للإنتقام من برومثيوس ، وذلك عن طريق إحضار بندورا إلى ” أبمثيوس ” (وهو أخ برومثيوس) وكان معها صندوق جميل ، وقد إشترط عليها أن لا تفتحه أبداً ومهما تكن الظروف . ولكن بندورا كانت مجبولة بحب الإستطلاع والمعرفة ، ولذلك لم تلتزم بآوامر رب الأرباب والبشر ، ففتحته بدافع معرفة ؛ لماذا رب الأرباب رفض فتحه ؟ وما هو السر الذي يحتويه ؟ وفي تلك اللحظة إنطلقت كل شرور العالم المسجونة في صندوق بندورا وإنتشرت على وجه الأرض . وأسرعت بندورا إلى إقفال الصندوق . ولكن في الحقيقة رد فعلها جاء متأخراً جداً ، إذ لم يبقى سوى ” الأمل ” الذي ظل في قاع الصندوق .
فأصاب بندورا الكرب والحزن الشديد نتيجة ما قامت به ، ولعصيانها أوامر رب الأرباب . وكانت في حالة فزع وخوف وذلك لفشلها من القيام بالواجب الذي أوكله لها رب الأرباب ، فأخذ تفكيرها يدور ويبحث عن كيفية مواجهة غضب ” زيوس ” ، ونوع العقاب الذي سيصيبها . ولكن رب الأرباب لم يعاقبها ، وذلك لكونه عارف بكل شئ وعارف بما سيقع في المستقبل (أنظر: يعقوب وليم فاردنيوس ؛ شرح لعمل هزيود في الأعمال والأيام ، ليدن 1985 . والحقيقة هذا بحث تركيبي شمل مناقشات عميقة ، وإعتمد على نظريات متنوعة وتأويلات خاصة حول قصة بندورا وصندوقها أو جرتها . قارن مثلاً الصفحات 62 ، 63 وما بعد) .
التحليل الفمنستي لقصة بندورا :
إنبرت الباحثة الأكاديمية ” لورا مالفي ” في بحثها المعنون ” إسطورة بندورا من زاوية التحليل النفسي ” إلى تحليل الإسطورة من زاوية فمنستية . وذهبت إلى إن بندورا ، هي إمرأة جميلة ، صنعها الألهة وذلك لإغراء الرجل وإحداث الضرر له . ولهذا الغرض فقد بُعثت بندورا إلى الأرض مع صندوقها السري الذي يحتوي على كل شرور العالم .
ولاحظت بأن هناك نوعاً من التابو (أوامر بالتحريم والتحذير والإرهاب) قد أحاطت صندوق بندورا ، خصوصاًً فيما يخص محتويات الصندوق ، والتي تحمل الدمار لسعادة الرجل ، وتهديد لسطوته . ولكن على خلاف ما هو سائد في المحيط الثقافي من إن المرأة ينقصها المعرفة . فإن في الإسطورة رموزاً وإشارة مهمة للحركة النسوية ، وهي إن الألهة منحتها ملكة ” حب الإستطلاع وطلب المعرفة ” وهذا هو السبب الذي حملها على فتح الصندوق وعدم الإنصياع لأوامر المنع والتحريم التي فرضها رب الأرباب ” زيوس ” . وكانت النتيجة إن كل شرور العالم هربت إلى العالم . وخلاصة القضية ، هي إن المرأة سبب كوارث وأحزان الرجل . مع نسيان إن الرجل هو سبب الكوارث بعد إن سرق برومثيوس النار من السماء وسلمها للرجل ، فسبب غضب رب الأرباب وقرر الإنتقام من الرجل وإستخدام بندورا وصندوقها وسيلة إنتقام من الإنسان الرجل .
إن الأكاديمية لورا وجدت في إسطورة بندورا :
أولاً – إن بندوراً رمزاً نسوياً مهماً تقدمه الأساطير اليونانية ، ويظل مثالاً أولياً إحتضنته الثقافة اليونانية في مرحلة ما قبل الفلسفة ، ويحق للحركة الفمنستية أن تحتفل به رغم ما حُمل من أبعاداً فرضتها ثقافة الرجل المهيمينة .
ثانياً – إن هناك سؤالاً مهماً يجب إستثماره في الأسطورة ، وهو إن المرأة لم تكن ناقصة معرفة ، وإنما كان لديها الدافع لطلب المعرفة . ولعل ملكة ” حب الإستطلاع ” التي منحتها الألهة لبندورا ، هي مثال أولي على رغبة المرأة لطلب المعرفة . وهذا طرف مهم لازم الحركة الفمنستية على طول التاريخ وعرضه (أنظر : لورا مالفي : إسطورة بندورا من زاوية التحليل النفسي ، منشور في كتاب : الفمنستية في السينما ، نشرة مطبعة جامعة إنديانا 1995 ، ص 3 وما بعد) .
- الدكتور محمد جلوب الفرحان: قراءة فمنستية لفكر ما قبل الفلسفة
.