عبدالله كرمون - أيقونة الصدر!

قد نقول، دون أن يتعاقد معنا المعنيّ بذلك الشأن، أن كتاب "نهود أخرى" لصاحبه الكاتب الفرنسي جان غيرشي، الذي صدر هذه الأيام لدى غاليمار، هو الجزء الثاني الذي يعقب سابقه "نهود" والذي صدر خلال السنة الماضية وأشرنا إليه حينئذ بمقال في هذا المكان عينه. لقد اقترح فيه بشكل يتراوح بين العفوية والجهد المصطنع تناولا للنهد ينصب في مجمل خطه الذي استمد أغلبه من تلمذته على يد دي لاسيرنا من خلال كتابه "نهود" الأصلي، بل مضى حتى إلى ارتكاب سرقات جزئية نوعا لنصوص وعناوين وعبارات ومناطق تفكير المعلم، أقلها محاكاته غير الفنية للنهد الذي ناداني من الخلف لدي لاسيرنا من خلال نهوده التي تتأتي من الظهر ص.85، أو في شأن اختيار أحد النهدين دون آخر وما يخلق ذلك من فوضى وعسر اختيار أو فصل بين نهد وآخر ص.115، ما رأيناه بشكل لطيف لدى دي لاسيرنا. أرى أنه ليس من الجد اغتفارها، حتى وإن حسنت نيته، لأي متعطش أو حتى لمريد مثله.
إن أمرَ نشر النصوص، في لحظتين، في كتابين متباعدين في الزمن وفي انفصالِ جسديْ النصين، قد لا يكون، حسب اعتقادي، غير ناتج إلا عن اتفاق إجرائي بين الناشر والكاتب على أساس نشر النص مجزأ وإن كانت إمكانية نشره كليا بالمرة في البدء واردة بطبيعة الحال. ما نستشفه إذن من طبيعة هذا الكتاب مادمنا قد لامسنا ذلك سالفا من خلال أجواء الأول.
الذي يهم هنا، على كل حال، هو كون الكتاب ظل منشغلا بما شرع في تناوله سابقه، إذ بقيت تأملات جان تصب في غالبيتها على تناول الفرادة التي تشكلها حيوية بل فنية النهد، دون أن يتخلص إلا قليلا من أبوة أبيه في المجال: رامون.
التحذير الأول الذي نقرأه على رأس الكتاب ليست فيه ملامح أية جدة، وإن يحدث أن يفتر أي قارئ حر عن ابتسامة لما يقع عليها نظره، مفاده أن كل شبه محتمل مع أي نهد ليس إلا مجرد صدفة. غير أن الكتاب سلسلة من عناوين بل نصوص تستحضر حال وأحوال النهد في فصول متنوعة.
الفرق بين نص دي لاسيرنا ونص جان هو كون نص الأول يمتاز أكثر بدقة وعمق وإيجاز. دون أن نكرر نفس المؤاخذات التي سجلناها بخصوص الكتاب الصادر العام الماضي وإن كان مبرر رصد أغلبها موجودا. ذلك أن طريقته في الحديث عن أوضاع وطبيعة النهد الذي يتخذ كل مرة هيأة خاصة في حالات متباينة هي نسخ واضح لعالم دي لاسيرنا ومحايثة لدقة ملاحظته بل عمقها.
حري إذن التذكير بأنني لست من يقحم في اللاموقع دي لاسيرنا ولكن جان غيرشي نفسه هو من يذْكُرُه كل مرة متى لم يعمد مباشرة إلى السطو على نتاجه الثر، إذ في حالات كثيرة يشير بل يحاور اقتباساته منه.
لماذا نفتح إذن هذا الكتاب مادمنا لسنا إلا من يخاصمه حتى الآن؟
كتاب "نهود أخرى" يتناول موضوعا جميلا وحساسا، سواء من جهة تفحصه لحيوات النهد التي تعنينا جميعا متى لم نرزح لأسباب أو أخرى تحت ثقل محرمات، جمال هذا العضو المزدوج والناتئ في قبته المنيعة، وكأنه فر من مكان سفلي ولاذ من شر ما أو خطر إلى الصدر، كما لو أنه مثله في ذلك مثلما قرأت في أسطورة هندية عن هرب الفرج من تحت الركبة التي كانت في البدء موضعه إلى ما بين الفخذين تلافيا لوخزات مناقير الديكة إذ كان إذ ذاك في متناولها!
أو سواء من خلال كسر طوق الحرام وتسمية الأشياء بأسمائها. ذلك أن حديثه عن النهد وإعلانه حبه لهما، للنهد وللحديث عنه، دليل على التخلص، إن لم يكن على التحريض على التخلص من اللجام واللثام وغيرها من آليات القمع التي تفرضها الثقافة المهترئة على الناس، باسم الدين أو الأخلاق أو غيرها..
حكاية جان عن قدرته على تتبع فن النهد في المتاحف ليست تؤكد سوى عدم كفاءته في الأمر رغم أنه أبرز مجهودا ليس يستهان به في ذلك غير أنه أبعد من أن ينازع دي لاسيرنا لقب "كاتب النهود وناقدها الفني الأكبر"، ومجرد مقارنة بسيطة بين نصوص الكاتبين حول لوحات الفن سوف تبدي ذلك جليا.
نهود من سيفر رأيناها لكن جان تعامل معها بطريقته لما كتب: "أعرف رجلا حطمه زوج نهد من سيفر. قال أنه يفضل أن يحطم من طرفهما على أن يظل معافى دون أن يسعد بمعرفتهما". ص.47.
أو قوله عن أن "القمصان ذوو الصدفات هي دعوة لليد كي تدخل، تنزلق ثمة مثل رسالة في الصندوق". ص.49.
تأمل خاص إذن لدن جزئية من اليومي مثلما ذكر لدى تجوله في منتجع سان كلو غير بعيد عن باريس حيث كان ثمة شاهدَ منظرٍ ليس يتاح إلا نادرا، غير أنه تذوق ندمًا مّا، قال: "النهود التي سأتحدث عنها تجعلني أحس بالذنب حتى اليوم. هي النهود التي شاهدت دون أن أكون مدعوا إلى مشهد تعريها في الهواء الطلق". ص.52.
لكنهن "جحافل تلك النساء اللواتي عمدن إلى ربطنا إلى قلوب لا تحبنا. لكن المأساة تكمن في كون هذه النهود التي منحن لنا إياها ثم حرمننا منها نستمر في حبها. نستمر في حبها ونحن ندرك أنها لن تعود أبدا. نتشوق إليها حتى ولو فرّ الصدر معية آخر، مع اثنين، مع كل الرجال الذين سوف يهمون بها من الآن فصاعدا". ص.63.
(...) يومٌ يكرمك هذا النهد ويوم تُحرم من نفس النهد. لماذا؟ لا توجد أية إجابة لهذه ال"لماذا". على الرجل أن يتأقلم مع ذلك الوضع أو ليهلك". ص.64.
"يلزم رجل دين كي يجيب عن هذا السؤال: نهدٌ لم يُرَ وليس يُرى هل يمكن اعتباره موجودا؟!" ص.65
ذلك أنه انوجد بالفعل لكي يملأ بؤبؤ العين ويسكن شكله دورة الدم. قال: "أفضل نهدها على الكتابة" ص. 155. أو أنه لم يدرك "أجمل تحقق سوى ليأس أن نكتب وأن نحب في الآن نفسه".
لم يضع اسم التوسير ولكنه ذكر تعلقه وقوله عن نهد حبيبته فرونكا. أو عن بيونكا التي "ليست تملك شدادة صدر أخرى من غير بشرة نهديها".207. ندرك أنه قد قارب حقيقة وهو يقول أن "لاشيء في العالم يضاهي لمس نهد".ص.224. قالها بودلير نفسه يوما بنفس الحزم عن أن لاشيء يضاهي فرح رجل يشرب!
لن ننتهي يوما مع هذه النهود. لكن شبح دي لاسيرنا بل شخصيته العارفة في هذا المضمار ليست تغيب لحظة. هو معلمها الكبير وراعي أمانها بلا نظير. إذ هي أيقونات الصدر وأوسمته الطبيعية، فلننظر إليها إذن كل يوم بلا حرج!


.


صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...