نقوس المهدي
كاتب
بين مؤيد ومستنكر وصامت. كان ظهورها هو الانجح بالمعنى التسويقي، وفتح باب التأوهات والرغبات والأوهام والهيامات والاستيهامات، مثلما جعل الشائعات تحاك عن احتمال زيارة نانسي للمعرض أيضا.
اين يبدأ الأصل، وأين الصدى؟ اصل الشيء هو مرجع جوهره، يقول مارتن هايدغر. فهل هيفا جديدة في الثقافة ام انها نسخة معدلة عن سابقاتها، ميزتها انها ولدت في عصر الفضائيات لا في عصر ابي الفرج الأصفهاني؟
لنعد الى نجوم الماضي الغابر قبل الكلام عن هيفا وأخواتها، فالتاريخ العربي الإسلامي يضج بنجمات جريئات، نذكر منهن سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، ولهذه الأخيرة قصتها.
هيفا نموذج من نماذج المرأة المتلفزة في العالم العربي، مع ما يكتنف هذا التصنيف من مغزى ومعنى. المرأة المتلفزة كيف تصير نجمة؟ كيف تتسرب الى أذهاننا، مثل سلوكية الديكتاتور، فتجعلنا عبيد الصورة؟ لو كان نيتشه موجوداً ماذا كان سيقول عن “حضارة” عالمها هيفا ونانسي؟
حين حلت العين في ثقافة الصورة محل الفم والأذن كأداة وحيدة فاعلة، فإنها حلت هنا كموضة مركزية، تغيرت معها مقاييس الثقافة كلها، إرسالا او استقبالا، فهما وتأويلا، مثلما تغيرت قوانين التذوق والتصور. لقد كان نيتشه يطلق الأوصاف على الحضارة الحديثة في اعتبارها “حضارة صحف”، لافتاً الى أنها حضارة “الحمّى والجهد الباطل”، عالمها “عالم الصحائف والأوراق”، وانسانها “عبد اليوم والورق”. هذا قبل ان يغدو الانسان “عبد الصورة” و”عبد الشاشة”، وهو في الحالين “عبد الخبر”. انه لا يكف عن تقصي الأخبار ومتابعة الأحداث ومواكبة المستجدات كل يوم، بل كل لحظة.
وها هم الشبان والرجال يتابعون أخبار هيفا كما لا يتابعون أخبار أولادهم.
النسخ الطباعي والصناعي أخرج أعمال الرسامين من المتاحف الى بيوت الناس ومنازلهم ومكاتبهم ومصانعهم ومقاهيهم ومطابعهم وحافلات نقلهم ومقطوراتهم، قبل ان تحتل هذه الأعمال الشاشات الكبيرة والصغيرة. وماشى النسخ الفوتوغرافي الصناعي جانبا من السينما وصورها المتحركة الصامتة والناطقة، واحتل التلفزيون محل السينما واخرجها من صالات العرض وعتمتها الى حجرات الجلوس والطعام والنوم والمطبخ ودورات المياه والسيارة والطيارة. واخرج التلفزيون ايضا الغناء من المسارح والمهرجانات، وايضا من الصوت الى دائرة الجسد والأغراء.
مع هيفا وهبي نجد ان الصورة تصنع النجمة.
النجمة هي من نتاج الأحداث التي لا هي حقيقة، ولا هي خيالية، لا أصيلة ولا مزيفة. هذا يذكّرنا بأن التلفزيون في السياسة الأميركية قد أهمل القضايا المهمة بإجبار المرشحين للرئاسة في أميركا تحديدا، في الإجابة عن الأسئلة الفورية، وبذلك ساهم بشكل رئيسي في جعل الصورة تنتصر على المحتوى. وهذا نجده في صورة هيفا المنتصرة على صوتها. ذلك أن جسدها يغنّي لا صوتها، او أن جسدها يسمو ليكون “سوبرمان الرغبة”. ولا يمكن بلوغ هذه الحال الا من طرق المواربة، إذ ان الجمهور يرى هيفا وكأن جسدها فيض رغبتها. يراها تحرك ردفيها، فيصفق او تتعالى صيحات متفرقة من صفوفه. ما يشعر به وبصوته هو واحد، أي السفر في معراج الرغبة.
وعلى هذا، يحضر الزيف المضمر في بريق الصورة، يحاكينا ليصبح حقيقة او لا حقيقة، كما حين بدا مشهد هيفا على شاشة “دريم” وهي لا ترتدي سوى البلوزة الشفافة. وصلت صورتها عبر الإنترنت، لم تكن ترتدي رافعة النهدين تحت السترة الشفافة. هل كانت هيفا في عريها المستور تريد إثارتنا، ام انها انضمت الى الحركة النسوية التي كانت تعتبر رافعة النهدين من علامات الخضوع؟ تحبس النهدين وتبرزهما في الوقت نفسه، وحين تتخلى عن رافعة النهدين تعود الى الطبيعة والتمرد. مع ان العديد من النساء لا يرتحن بل يشعرن بالارتباك إزاء التنقل من دونها.
الإثارة المارقة
على شاشة “دريم” لم يكن نهدا هيفا ثديين بل كانا عريا مستورا برداء مكشوف. هنا يصبح للثديين معنى آخر. ليس هو الرغبة بل استدعاء الأصابع الهائمة. ليس الهيام هياما ولا الرغبة رغبة، لكننا نستشف في جسد هيفا الإثارة المارقة. لا يرى العرب صور هيفا بل يتلقونها. تخبئ النساء هيفا في دواخلهن وأجسادهن. كل امرأة تجد فيها مثالا لشغف وتوق وحرية تبحث عنها. وكل رجل يبحث عن شبهها لتلبي مخيلته. يقف الرجال أو الشبان قبالة والجمهور المتلهف يهتز لوركيها. هذا الجمهور يدعو الجسد، جسدها، الى ذراه المستهامة، وينزل معه الى زيفه البصري الذي هيفا فإذا هي محط أنظارهم وقبلة تلفتهم ورغبتهم. هي تنظر إليهم بعينين باهرتين، يميلون كما يميل جسدها. تحمل مكبّر الصوت وتهز وركيها أمام الجمهور المتلهف، لا يعتمد على الكلمة بل على الجسد. وهي اذ تطلق آهاتها الناعمة والرتيبة تصير وجسدها واحدا.
يرى الرجال هيفا في ظهور نسائهم، أو ينامون مع زوجاتهم ويتخيلون هيفا. وهذا يذكّرنا بكتاب “الضحك والنسيان” وبقصة بطلها طالب شاب ينام مع امرأة لا يني ظهرها يتحول الى مرآة يشاهد من خلالها صور كل امرأة سابقة في حياته. كان الشاب يعتقد ان في ممارسة الحب محواً للذاكرة، ذلك أن النسيان يعيد تكوين الذاكرة على نحو أبهى. تصبح هيفا معيارا عند الرجال للمقارنة مع الزوجات. هي صورة تدخل الى بيوتنا، بل نكتة تتلفظها رغباتنا واستيهاماتنا يوميا. ملايين الشبان في مصر لا يستطيعون الزواج فيلجأون الى الخيال، ويتعلقون بنماذج من نجمات السينما والتمثيل والطرب والتلفزيون والإعلان، ويجدون فيها الأنثى اللازمة في وقت أصبح الشعب المصري محاصرا بالفقر والحجاب والأصفاد الأصولية.
هكذا يبدو العالم العربي مهووسا بنجمات الغناء وبحياتهن. طبعا، يستخف أهل الثقافة بالمطربة الشابة وبأغانيها وبجمهورها لكنهم لا يتأملون قليلا أثرها في الواقع الاجتماعي وحضورها في الأوساط الشبابية.
واذا كان “الفيديو كليب” ادخل البصر والصورة في استقبال الأغاني، فلأن الصوت لم يعد الموضوع الأساسي بل الاعتماد على الحركات والإيماءات وهز البطن والردفين وعري النهدين. وفي ذلك إشارات جنسية فاقعة. فكما يفرش الديك ذيله وينفش جناحيه ضاربا بهما الأرض، متطاولاً بعنقه، رافعا رأسه استعداداً لركوب الدجاجة، كذلك يفعل الرجال حين يسعون لاستمالة النساء. ونرى الفتيات، بدورهن، يحاولن اجتذاب الشباب واستراق النظرات المعبرة، بالتبرج والحياء حينا، وبالتعطر والمشية المترنحة أحيانا. والحق ان هذا من متطلبات صنّاع “الفيديو كليب” الذين يوظفون ما يلبي طلب العين، وكأن الجسد النسائي أسرع تلك العناصر وأسهلها.
ظاهرة هيفا تعود جذورها الى أوائل القرن الماضي، فقد كانت منيرة المهدية تثير مشاعر المستمعين ببحة صوتها ذات الطابع الجنسي والتي تشبه بحة الأغاني التي تقدمها الأميركيات اليوم في الأغنية الراقصة. جسد هيفا يغنّي، ويغنّي أيضا جسد نانسي عجرم، وهما تشغلان العرب من لبنان الى سوريا الى مصر والخليج. هيفا تغني وتستعرض جسدها، والعرب يتعاملون هكذا مع النجمة: بين من يحاول محاربة حريتها، ومن يستعمل حريتها ليحارب حرية الآخرين. هذا “السيستام” في التعاطي مع النجم يبدو مقلقا. لكن اكثر ما نستنبطه من ذلك ان الأيديولوجيا، مهما تكن قوية لا تصمد في وجه نسائم الترفيه والتسلية التي تأتي من ظاهرة نانسي واليسا والين خلف. واذا كان بعضهم يتهم مغنيات “الفيديو كليب” بالغربنة والتغريب، فهذا يبدو مضحكا. ففي مجتمع الاحتشام فإن تقليد الغربنة بالأزياء والتصرف، أي التشابه والتماهي، خطوة اولى على طريق التحرر والاستقلالية الذاتية. ثمة انتصار عظيم حققته المرآة التي أظهرت محاسنها للملأ، وربما كانت تلك الخطوة الأولى لاستعادة الأنثى حقها وسلطانها على جسدها. فالغواية والإثارة الجنسية أمنت هامش الحرية للنساء وضربت في الصميم سلطة المجتمع الأبوي وصورة الآخر، مما زعزع أساس قاعدة أبناء العم.
توتاليتارية
ما الذي نستنتجه من ظاهرة هيفا وأخواتها؟ كتبت حنة ارندت يوما: “ان الفاعل الذي كان وراء التوتاليتارية ليس النازي المتشنج، ولا الشيوعي المتعصب، وانما الفرد الذي لم يعد يفرّق بين الوهم والواقع، ولا بين الصواب والخطأ”. انه الفرد الذي فقد القدرة على أدراك حقيقة التجربة الواقعية. اصبح يساوي بين كل الأمور، وبين الكل. كتبت حنة ارندت هذا الكلام لتبين ان أصول الكليانية تتجاوز ظهور تيارات في عينها مثل النازية او الشيوعة، والاعلام هو الأداة الأساسية التي تجعل الواقع اليوم يفقد واقعيته. انه هو الذي يكمن وراء الوضعية التي تجعل الواقع يتلبس الوهم، فيتحول الى سينما، وتغدو الشاشة صورة عن الواقع، وتغدو هيفا بديلا من الرغبة واللمس، والجسد بديلا من الصوت والغناء.
تنجح هيفا في الغناء لان في جسدها رغبة أقوى من الصوت. على قدر ما نلاحظ جاذبية وتعالياً في صوت أم كلثوم، نتحسس الرغبة في جسد هيفا، نميل إليه ونسمعه. هي تقول الآه من شرايينها.
هيفا ونانسي والشقيقات الأخريات كيتش الغناء العربي، والكيتش في تعريف بعضهم ليس مجرد عمل سقيم الذوق، بل ينطوي على موقف رخيص، وسلوك رخيص. وحاجة الإنسان التافه الى عمل رخيص، هي الحاجة الى التحديق في المرآة، حتى تبتل عيناه بدموع الفرح لرؤية انعكاس صورته الخاصة. انها موقف الشخص الذي يريد أن يعجب الآخرين بأي ثمن. ولكي يعجب الآخرين، يجب عليه أن يؤيد ما يريد الكل سماعه او مشاهدته.
الكيتش كالحب، يتأصل في قدرة الانسان على الإحساس الوجداني، خلافا للتفكير المنطقي. إلا أن محتواه العاطفي، على عكس الحب، يتضمن شيئا زائفا او خاطئ الوجهة، ولكنه ليس عنصر رياء.
يحضر الكيتش عند هيفا ونانسي والشقيقات من خلال تقليد الفنانات القديمات، من فاتن حمامة الى هند رستم وسعاد حسني. في كليب “آه ونص” تشبه نانسي فتيات الصعيد المصري. تحب بائع الدجاج، وتتدلع قبالته، وهو يأتي على دراجته النارية يرمي حجراً على النافذة ويبدأ القص الصوري. تستيقظ المغنية، تمشي بين أسرّة اخوتها، تفتح “الاباجور” وتبدأ بالغناء. بدل “اخصمك آه” تقول “آه ونص” في حركة شيطانية وملائكية، وتغسل ثيابها في “الطشت” (جاط الغسيل)، وتترنح ذات اليمين وذات اليسار في حركات أنثوية دلالية وقد أبرزت ساقيها بحنكة، من فتحة الجلباب الجانبية، وحرصت على ترك أزراره مفتوحة، في مزج خبيث بين شخصية النجمتين سعاد حسني في فيلم “الزوجة الثانية” ونادية لطفي في “قصر الشوق”. وبعد كليب “آه ونص” انتشر الجلباب في الخليج العربي.
ليست أغاني نانسي عجرم جديدة كما يكتشف الفيلسوف علي حرب، فـ”الطقطوقة” ظهرت في أوائل القرن العشرين، ولاقت إقبالاً كبيراً لتميزها بالبساطة، فلحنها رشيق سلس، كما أنها تعكس مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
لا ندري هل احب الجمهور نانسي لأنها جميلة، أم لأنها تجعله يعيش مناخ إغراء البداوة، فيؤخذ كما البدوي بوقع حوافر الخيل وينتشي لسماعها. العربي البدوي نفسه ينتشي لإغراء الفتاة الصعيدية (نانسي).
صارت نانسي نجمة المشاهد المأخوذة من الأفلام المصرية القديمة. هي من أصناف الرغبة، تمثيلها “يفجر” المخيلة الجنسية للشبان والرجال القابعين في أدغال الكبت العربي. ينبغي القول ان نانسي هي فتاة متخيلة لا ينبغي لمسها. قالت إنها متأثرة بالأفلام المصرية كلها وتحب مشاهدتها. وأكدت انها ليست متأثرة بأداء النجمة هند رستم ولكنها معجبة بها. ولا يختلف اثنان على ان نانسي “رستمت” الصورة و”عجرمتها”. ويعود الفضل في ذلك الى نادين لبكي التي اشتهرت في تقديم الشخصيات المستوحاة من الأفلام المصرية.
غداً هناك فنانات كثيرات يستنبطن جديدهن مما هو قديم. صورت هيفا كليبا يتضمن ثلاث قصص مختلفة، الأولى شبيهة بشخصية هند رستم في فيلم “باب الحديد”، والثانية تقّلد نبيلة عبيد في فيلم “شادر السكر” والثالثة مستوحاة من ماريلين مونرو.
ولا ينفصل انتشار الكيتش عن العولمة التي ظهرت من دون سابق انذار، ويتحدث بها بعض المثقفين والعالمين ببواطن الأمور، فإن معناها يسري في حياة المجتمع، واقرب مثال على ذلك نانسي وهيفا، فهما وزميلاتهما يعملن على سد الهوة الفكرية والثقافية والأخلاقية بيننا وبين الغرب، فلا يقتصر الكيتش الكليبي على استنباط مشاهد الأفلام العربية القديمة بل ان بعض الكليبات العربية منسوخة عن اصلها الغربي
.
Auguste Delacroix
اين يبدأ الأصل، وأين الصدى؟ اصل الشيء هو مرجع جوهره، يقول مارتن هايدغر. فهل هيفا جديدة في الثقافة ام انها نسخة معدلة عن سابقاتها، ميزتها انها ولدت في عصر الفضائيات لا في عصر ابي الفرج الأصفهاني؟
لنعد الى نجوم الماضي الغابر قبل الكلام عن هيفا وأخواتها، فالتاريخ العربي الإسلامي يضج بنجمات جريئات، نذكر منهن سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، ولهذه الأخيرة قصتها.
هيفا نموذج من نماذج المرأة المتلفزة في العالم العربي، مع ما يكتنف هذا التصنيف من مغزى ومعنى. المرأة المتلفزة كيف تصير نجمة؟ كيف تتسرب الى أذهاننا، مثل سلوكية الديكتاتور، فتجعلنا عبيد الصورة؟ لو كان نيتشه موجوداً ماذا كان سيقول عن “حضارة” عالمها هيفا ونانسي؟
حين حلت العين في ثقافة الصورة محل الفم والأذن كأداة وحيدة فاعلة، فإنها حلت هنا كموضة مركزية، تغيرت معها مقاييس الثقافة كلها، إرسالا او استقبالا، فهما وتأويلا، مثلما تغيرت قوانين التذوق والتصور. لقد كان نيتشه يطلق الأوصاف على الحضارة الحديثة في اعتبارها “حضارة صحف”، لافتاً الى أنها حضارة “الحمّى والجهد الباطل”، عالمها “عالم الصحائف والأوراق”، وانسانها “عبد اليوم والورق”. هذا قبل ان يغدو الانسان “عبد الصورة” و”عبد الشاشة”، وهو في الحالين “عبد الخبر”. انه لا يكف عن تقصي الأخبار ومتابعة الأحداث ومواكبة المستجدات كل يوم، بل كل لحظة.
وها هم الشبان والرجال يتابعون أخبار هيفا كما لا يتابعون أخبار أولادهم.
النسخ الطباعي والصناعي أخرج أعمال الرسامين من المتاحف الى بيوت الناس ومنازلهم ومكاتبهم ومصانعهم ومقاهيهم ومطابعهم وحافلات نقلهم ومقطوراتهم، قبل ان تحتل هذه الأعمال الشاشات الكبيرة والصغيرة. وماشى النسخ الفوتوغرافي الصناعي جانبا من السينما وصورها المتحركة الصامتة والناطقة، واحتل التلفزيون محل السينما واخرجها من صالات العرض وعتمتها الى حجرات الجلوس والطعام والنوم والمطبخ ودورات المياه والسيارة والطيارة. واخرج التلفزيون ايضا الغناء من المسارح والمهرجانات، وايضا من الصوت الى دائرة الجسد والأغراء.
مع هيفا وهبي نجد ان الصورة تصنع النجمة.
النجمة هي من نتاج الأحداث التي لا هي حقيقة، ولا هي خيالية، لا أصيلة ولا مزيفة. هذا يذكّرنا بأن التلفزيون في السياسة الأميركية قد أهمل القضايا المهمة بإجبار المرشحين للرئاسة في أميركا تحديدا، في الإجابة عن الأسئلة الفورية، وبذلك ساهم بشكل رئيسي في جعل الصورة تنتصر على المحتوى. وهذا نجده في صورة هيفا المنتصرة على صوتها. ذلك أن جسدها يغنّي لا صوتها، او أن جسدها يسمو ليكون “سوبرمان الرغبة”. ولا يمكن بلوغ هذه الحال الا من طرق المواربة، إذ ان الجمهور يرى هيفا وكأن جسدها فيض رغبتها. يراها تحرك ردفيها، فيصفق او تتعالى صيحات متفرقة من صفوفه. ما يشعر به وبصوته هو واحد، أي السفر في معراج الرغبة.
وعلى هذا، يحضر الزيف المضمر في بريق الصورة، يحاكينا ليصبح حقيقة او لا حقيقة، كما حين بدا مشهد هيفا على شاشة “دريم” وهي لا ترتدي سوى البلوزة الشفافة. وصلت صورتها عبر الإنترنت، لم تكن ترتدي رافعة النهدين تحت السترة الشفافة. هل كانت هيفا في عريها المستور تريد إثارتنا، ام انها انضمت الى الحركة النسوية التي كانت تعتبر رافعة النهدين من علامات الخضوع؟ تحبس النهدين وتبرزهما في الوقت نفسه، وحين تتخلى عن رافعة النهدين تعود الى الطبيعة والتمرد. مع ان العديد من النساء لا يرتحن بل يشعرن بالارتباك إزاء التنقل من دونها.
الإثارة المارقة
على شاشة “دريم” لم يكن نهدا هيفا ثديين بل كانا عريا مستورا برداء مكشوف. هنا يصبح للثديين معنى آخر. ليس هو الرغبة بل استدعاء الأصابع الهائمة. ليس الهيام هياما ولا الرغبة رغبة، لكننا نستشف في جسد هيفا الإثارة المارقة. لا يرى العرب صور هيفا بل يتلقونها. تخبئ النساء هيفا في دواخلهن وأجسادهن. كل امرأة تجد فيها مثالا لشغف وتوق وحرية تبحث عنها. وكل رجل يبحث عن شبهها لتلبي مخيلته. يقف الرجال أو الشبان قبالة والجمهور المتلهف يهتز لوركيها. هذا الجمهور يدعو الجسد، جسدها، الى ذراه المستهامة، وينزل معه الى زيفه البصري الذي هيفا فإذا هي محط أنظارهم وقبلة تلفتهم ورغبتهم. هي تنظر إليهم بعينين باهرتين، يميلون كما يميل جسدها. تحمل مكبّر الصوت وتهز وركيها أمام الجمهور المتلهف، لا يعتمد على الكلمة بل على الجسد. وهي اذ تطلق آهاتها الناعمة والرتيبة تصير وجسدها واحدا.
يرى الرجال هيفا في ظهور نسائهم، أو ينامون مع زوجاتهم ويتخيلون هيفا. وهذا يذكّرنا بكتاب “الضحك والنسيان” وبقصة بطلها طالب شاب ينام مع امرأة لا يني ظهرها يتحول الى مرآة يشاهد من خلالها صور كل امرأة سابقة في حياته. كان الشاب يعتقد ان في ممارسة الحب محواً للذاكرة، ذلك أن النسيان يعيد تكوين الذاكرة على نحو أبهى. تصبح هيفا معيارا عند الرجال للمقارنة مع الزوجات. هي صورة تدخل الى بيوتنا، بل نكتة تتلفظها رغباتنا واستيهاماتنا يوميا. ملايين الشبان في مصر لا يستطيعون الزواج فيلجأون الى الخيال، ويتعلقون بنماذج من نجمات السينما والتمثيل والطرب والتلفزيون والإعلان، ويجدون فيها الأنثى اللازمة في وقت أصبح الشعب المصري محاصرا بالفقر والحجاب والأصفاد الأصولية.
هكذا يبدو العالم العربي مهووسا بنجمات الغناء وبحياتهن. طبعا، يستخف أهل الثقافة بالمطربة الشابة وبأغانيها وبجمهورها لكنهم لا يتأملون قليلا أثرها في الواقع الاجتماعي وحضورها في الأوساط الشبابية.
واذا كان “الفيديو كليب” ادخل البصر والصورة في استقبال الأغاني، فلأن الصوت لم يعد الموضوع الأساسي بل الاعتماد على الحركات والإيماءات وهز البطن والردفين وعري النهدين. وفي ذلك إشارات جنسية فاقعة. فكما يفرش الديك ذيله وينفش جناحيه ضاربا بهما الأرض، متطاولاً بعنقه، رافعا رأسه استعداداً لركوب الدجاجة، كذلك يفعل الرجال حين يسعون لاستمالة النساء. ونرى الفتيات، بدورهن، يحاولن اجتذاب الشباب واستراق النظرات المعبرة، بالتبرج والحياء حينا، وبالتعطر والمشية المترنحة أحيانا. والحق ان هذا من متطلبات صنّاع “الفيديو كليب” الذين يوظفون ما يلبي طلب العين، وكأن الجسد النسائي أسرع تلك العناصر وأسهلها.
ظاهرة هيفا تعود جذورها الى أوائل القرن الماضي، فقد كانت منيرة المهدية تثير مشاعر المستمعين ببحة صوتها ذات الطابع الجنسي والتي تشبه بحة الأغاني التي تقدمها الأميركيات اليوم في الأغنية الراقصة. جسد هيفا يغنّي، ويغنّي أيضا جسد نانسي عجرم، وهما تشغلان العرب من لبنان الى سوريا الى مصر والخليج. هيفا تغني وتستعرض جسدها، والعرب يتعاملون هكذا مع النجمة: بين من يحاول محاربة حريتها، ومن يستعمل حريتها ليحارب حرية الآخرين. هذا “السيستام” في التعاطي مع النجم يبدو مقلقا. لكن اكثر ما نستنبطه من ذلك ان الأيديولوجيا، مهما تكن قوية لا تصمد في وجه نسائم الترفيه والتسلية التي تأتي من ظاهرة نانسي واليسا والين خلف. واذا كان بعضهم يتهم مغنيات “الفيديو كليب” بالغربنة والتغريب، فهذا يبدو مضحكا. ففي مجتمع الاحتشام فإن تقليد الغربنة بالأزياء والتصرف، أي التشابه والتماهي، خطوة اولى على طريق التحرر والاستقلالية الذاتية. ثمة انتصار عظيم حققته المرآة التي أظهرت محاسنها للملأ، وربما كانت تلك الخطوة الأولى لاستعادة الأنثى حقها وسلطانها على جسدها. فالغواية والإثارة الجنسية أمنت هامش الحرية للنساء وضربت في الصميم سلطة المجتمع الأبوي وصورة الآخر، مما زعزع أساس قاعدة أبناء العم.
توتاليتارية
ما الذي نستنتجه من ظاهرة هيفا وأخواتها؟ كتبت حنة ارندت يوما: “ان الفاعل الذي كان وراء التوتاليتارية ليس النازي المتشنج، ولا الشيوعي المتعصب، وانما الفرد الذي لم يعد يفرّق بين الوهم والواقع، ولا بين الصواب والخطأ”. انه الفرد الذي فقد القدرة على أدراك حقيقة التجربة الواقعية. اصبح يساوي بين كل الأمور، وبين الكل. كتبت حنة ارندت هذا الكلام لتبين ان أصول الكليانية تتجاوز ظهور تيارات في عينها مثل النازية او الشيوعة، والاعلام هو الأداة الأساسية التي تجعل الواقع اليوم يفقد واقعيته. انه هو الذي يكمن وراء الوضعية التي تجعل الواقع يتلبس الوهم، فيتحول الى سينما، وتغدو الشاشة صورة عن الواقع، وتغدو هيفا بديلا من الرغبة واللمس، والجسد بديلا من الصوت والغناء.
تنجح هيفا في الغناء لان في جسدها رغبة أقوى من الصوت. على قدر ما نلاحظ جاذبية وتعالياً في صوت أم كلثوم، نتحسس الرغبة في جسد هيفا، نميل إليه ونسمعه. هي تقول الآه من شرايينها.
هيفا ونانسي والشقيقات الأخريات كيتش الغناء العربي، والكيتش في تعريف بعضهم ليس مجرد عمل سقيم الذوق، بل ينطوي على موقف رخيص، وسلوك رخيص. وحاجة الإنسان التافه الى عمل رخيص، هي الحاجة الى التحديق في المرآة، حتى تبتل عيناه بدموع الفرح لرؤية انعكاس صورته الخاصة. انها موقف الشخص الذي يريد أن يعجب الآخرين بأي ثمن. ولكي يعجب الآخرين، يجب عليه أن يؤيد ما يريد الكل سماعه او مشاهدته.
الكيتش كالحب، يتأصل في قدرة الانسان على الإحساس الوجداني، خلافا للتفكير المنطقي. إلا أن محتواه العاطفي، على عكس الحب، يتضمن شيئا زائفا او خاطئ الوجهة، ولكنه ليس عنصر رياء.
يحضر الكيتش عند هيفا ونانسي والشقيقات من خلال تقليد الفنانات القديمات، من فاتن حمامة الى هند رستم وسعاد حسني. في كليب “آه ونص” تشبه نانسي فتيات الصعيد المصري. تحب بائع الدجاج، وتتدلع قبالته، وهو يأتي على دراجته النارية يرمي حجراً على النافذة ويبدأ القص الصوري. تستيقظ المغنية، تمشي بين أسرّة اخوتها، تفتح “الاباجور” وتبدأ بالغناء. بدل “اخصمك آه” تقول “آه ونص” في حركة شيطانية وملائكية، وتغسل ثيابها في “الطشت” (جاط الغسيل)، وتترنح ذات اليمين وذات اليسار في حركات أنثوية دلالية وقد أبرزت ساقيها بحنكة، من فتحة الجلباب الجانبية، وحرصت على ترك أزراره مفتوحة، في مزج خبيث بين شخصية النجمتين سعاد حسني في فيلم “الزوجة الثانية” ونادية لطفي في “قصر الشوق”. وبعد كليب “آه ونص” انتشر الجلباب في الخليج العربي.
ليست أغاني نانسي عجرم جديدة كما يكتشف الفيلسوف علي حرب، فـ”الطقطوقة” ظهرت في أوائل القرن العشرين، ولاقت إقبالاً كبيراً لتميزها بالبساطة، فلحنها رشيق سلس، كما أنها تعكس مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
لا ندري هل احب الجمهور نانسي لأنها جميلة، أم لأنها تجعله يعيش مناخ إغراء البداوة، فيؤخذ كما البدوي بوقع حوافر الخيل وينتشي لسماعها. العربي البدوي نفسه ينتشي لإغراء الفتاة الصعيدية (نانسي).
صارت نانسي نجمة المشاهد المأخوذة من الأفلام المصرية القديمة. هي من أصناف الرغبة، تمثيلها “يفجر” المخيلة الجنسية للشبان والرجال القابعين في أدغال الكبت العربي. ينبغي القول ان نانسي هي فتاة متخيلة لا ينبغي لمسها. قالت إنها متأثرة بالأفلام المصرية كلها وتحب مشاهدتها. وأكدت انها ليست متأثرة بأداء النجمة هند رستم ولكنها معجبة بها. ولا يختلف اثنان على ان نانسي “رستمت” الصورة و”عجرمتها”. ويعود الفضل في ذلك الى نادين لبكي التي اشتهرت في تقديم الشخصيات المستوحاة من الأفلام المصرية.
غداً هناك فنانات كثيرات يستنبطن جديدهن مما هو قديم. صورت هيفا كليبا يتضمن ثلاث قصص مختلفة، الأولى شبيهة بشخصية هند رستم في فيلم “باب الحديد”، والثانية تقّلد نبيلة عبيد في فيلم “شادر السكر” والثالثة مستوحاة من ماريلين مونرو.
ولا ينفصل انتشار الكيتش عن العولمة التي ظهرت من دون سابق انذار، ويتحدث بها بعض المثقفين والعالمين ببواطن الأمور، فإن معناها يسري في حياة المجتمع، واقرب مثال على ذلك نانسي وهيفا، فهما وزميلاتهما يعملن على سد الهوة الفكرية والثقافية والأخلاقية بيننا وبين الغرب، فلا يقتصر الكيتش الكليبي على استنباط مشاهد الأفلام العربية القديمة بل ان بعض الكليبات العربية منسوخة عن اصلها الغربي
.
صورة مفقودة
Auguste Delacroix