جهاد فاضل - حقيقة الحب العذري عند ابن حزم الأندلسي

استنتج الباحثون الإسبان من حبّ ابن حزم العذري لجاريته نُعم ما لا يتفق لا مع الواقع ولا مع أصول البحث العلمي.

قالوا إن هذا الحبّ العفيف لابن حزم تجاه هذه الجارية مردُّه أصلُه الأسباني وأصولُه النصرانية، لأن الحبّ عند المسلمين يختلف تمامًا عنه. فهذا الحب الرومانسي عنده لا يمكن تفسيره إلا في ضوء الوراثة النفسية. وقد تصّدى لهذا النظر اللاعلمي مستعرب أسباني هو ميجيل أسين بلاثيوس الذي سخر من تحليلات زملائه الباحثين الأسبان وردّ عليهم مسفهًا وجهة نظرهم. قال إن من يقرأ هذه التحليلات يتصوّر أن ابن حزم كان ضحية ذلك الحب الأول لأيام شبابه وأنه أمضى حياته يبكي الحظ التعس لقلبه. وهذا غير صحيح لأن من يقرأ "طوق الحمامة"، وهو نوع من سيرته الذاتية، يجد أنه لم يصبر طويلاً وهو يمثّل الدور الرومانسي لعاشق يائس، إذ سرعان ما جفّف دموعه لينسى في حب آخر، أكثر سهولة، أحزان حبه الأول.

يقول ابن حزم: "وقد ضمني المبيت ليلة في بعض الأزمان عند امرأة من بعض معارفي مشهورة بالصلاح والخير والحزم، ومعها جارية من بعض قرابتها، من اللاتي قد ضمّها معي النشأة في الصبا. ثم غبت عنها أعوامًا كثيرة. وكنت تركتها حين أعصرت، ووجدتها قد جرى على وجهها ماء الشباب، ففاض وانساب، وتفجرت عليها ينابيع الملاحة فترددت وتحيرت، وطلعت في سماء وجهها نجوم الحسن فأشرقت وتوقدت، وانبعثت في خدّيها أزاهير الجمال فتمت واعتمت".

إذن لم يخفق قلب ابن حزم في حبه مرة واحدة بل مرات. وحبّه اللاحق فقد درجات من مثاليته وأفلاطونيته. لكن لا يمكن الإنكار أنه ينطوي على مشاعر رقيقة لم تفقد توهجها ولا تعرف ما هو حسّي، ومصدر ذلك تعاسة مزاجه، أو أن هذا المزاج جاء نتيجة ميل فطري عنده. وهو نفسه يعترف بأن لديه دائمًا قدرة بالغة وعزوفًا عن كل ما هو جنسي. ويرى أن اجتماع الأرواح، وليس التقاء الأبدان، هو الذي يبقي على الحب.

ولكن ليس صحيحًا أن حبه الأفلاطوني لجاريته نُعم يجب أن يُعدّ شيئًا شخصيًا وطابعًا يتصل بأخلاقه، وأنه استثناء واضح في نفسية الإسلام الأسباني أو الأندلسي. فقارئ "طوق الحمامة"، وهو يتضمن روايات من مجتمع الأندلس الراقي، يجد أن كل الطبقات المثقفة والمحترمة في المجتمع القرطبي والأندلسي بعامة، كانت تهتدي في حياتها العاطفية بهذه الروح المثالية الراقية في الحب. كان ثمة نفسية تشيع في هذا المجتمع تقدّم وهي في قمة توهجها الدلائل على رقي ثقافي وعاطفي. إذن لم يكن حب ابن حزم الأفلاطوني لنُعم وليد عدوى سلالية، كما زعم باحثوه الأسبان، أو أنه تلقاه من نفسية أسلافه المسيحيين، لأن من أبطال الغزل الرومانسي كثيرين ينحدرون من أصول عربية خالصة ولا يمكن أن تجري في دمائهم الخصائص الموروثة التي يُفترض أنها عند ابن حزم.

ويتابع ميجيل أسين بلاثيوس تحليله حول عذرية ابن حزم التي لفتت نظر زملائه الأسبان وأساءوا تفسيرها، فيرى أن هذه العذرية "صناعة عربية" خالصة. ذلك أنه ومنذ العصر الجاهلي ظهر عند العرب لون من الغزل العاطفي، عفيف وروحي. ففي الصحراء العربية عرفت قبيلة بدوية كيف تسمو بفهمها إلى أدق ما يمكن أن يُتصوّر من الحب البشري. هذه القبيلة هي قبيلة بني عذرة الذين يفضّلون الحزن الحلو المستسلم المشوق في الحب الأفلاطوني على العواطف الحادة للغرائز الحيوانية، ويعرفون كيف يموتون من الحب قبل أن يدنسوا بالشهوة الملول المشبعة عرس الأرواح العفيفة. لقد تغنّى أعظم شعرائهم إلهامًا في قصائد تفيض رومانسية، بالحلاوة المرّة، للرغبة الكظيمة إلى الأبد. كان هذا الشاعر، وهو جميل بن عبدالله العذري إلى جانب شعراء آخرين من هذيل، النموذج الكامل الذي تحققت فيه العفة المثالية. لقد مات من الحب دون أن يجرؤ يومًا على أن يمسّ بيده محبوبته بثينة.

ثم إن هذا الحب العذري والعفيف لبني عذرة، المطهّر هكذا شيئًا فشيئًا بحرارة الزهد البدوي الإسلامي، والسابق للصوفية، أخذ شكله النهائي في بغداد قريبًا من القرن الثالث الهجري كنموذج مثالي للحب السامي. وفي نوادي بغداد الأدبية كانت هذه الرومانسية التقليدية تباشر تأثيرًا قويًا على النفوس، حيث شاع الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من عشق فعفّ ومات، مات شهيدًا".

ومهما تكن خصائص "الجنس البعيد" لابن حزم، التي نسبه إليها المستشرق الهولندي دوزي، فقد تهاوت كلها أمام هذا العرض القوي لميجيل أسين بلاثيوس الذي كان بالإضافة إلى عمله في مجال الاستعراب، أسقفًا على إحدى المدن الأسبانية. ولكنه كان قبل كل شيء إنسانًا شريفًا لم يخضع للمؤثرات التي يخضع لها المستشرقون أحيانًا.

ويرى الدكتور الطاهر أحمد مكي الذي نقل هذه الدراسات إلى العربية أن دوزي كان متأثرًا بما كان شائعًا في أوروبا على أيامه من أن السموّ في الحب وليد المسيحية، فطبّق هذا الاتجاه في دراسته عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة" وحاول أسين بلاثيوس في مهارة وذكاء، أن يرد الغزل العذري، لا الأندلسي منه وحسب، إلى أصول مسيحية.

ولكن نظرية كليهما، حسب الطاهر أحمد مكي، ينقضها واقع الأندلس. "فهما يعرفان جيدًا أن مسيحية الأسبان عند الفتح كانت رقيقة، وأن علم الناس بها - خارج طبقة رجال الدين- كان مشوشًا، وأن جانبًا لا بأس به من السكان كانوا وثنيين. وإذا كان من المرجح أن ابن حزم ينحدر من أصول أسبانية، فمن المرجح أيضًا أن أجداده لم يكونوا قد اعتنقوا المسيحية عند دخول الإسلام، لأنه من المنطقة الفقيرة في جنوب غرب أسبانيا، وغالبية أهلها عند الفتح كانوا من الوثنيين. وعلى أية حال، فإن ما كان يجري في الجانب العربي والإسلامي من الأندلس من مظاهر الحب الحسّي، كان يجري مثله، وأفحش منه، في الجانب الأسباني المسيحي، ولم تجرِ في عروقهم دماء عربية، ولا اتخذ جدودهم الإسلام دينًا"!.

والواقع أن ربط العفة بدينٍ ما، والتبذل بدين آخر، فضلاً عن مخالفته للواقع التاريخي يتنافى مع بسائط أي منهج علمي، مثله في ذلك القول بأن مسلمي الأندلس الذين انحدروا من أصول رومانية كانوا أرقى في عواطفهم من الذين عبروا إليه المضيق فاتحين أو وافدين"، "إن المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام في الأندلس فقدوا شيئًا فشيئًا الإحساس بأصولهم التي انحدروا منها، حتى أن بعضهم اصطنع له شجرة نسب عربية ترفعه إلى قبائل معروفة ومشهورة، مقابل أثمان دفعوها ذهبًا. وحافظ آخرون على ألقابهم الرومانية الأولى، فكان هناك بنو أنجلين وبنو شبريق في إشبيلية، وما كان المرء يستطيع أن يفرّق بين الذين صنعوا لهم نسبًا عربيًا والذين احتفظوا بألقابهم الرومانية، وبين الوافدين على الأندلس، عربًا أو بربرًا. لقد صنعهم الإسلام على هواه وصاغ منهم مجتمعًا متجانسًا.

ويأتي أميركو كاسترو، أحد كبار المؤرخين الأسبان المعاصرين، ليزيد الأمر دقة ووضوحًا، فهو يرى "أن تحليل دم الأندلسيين عمل علماء الأحياء وليس من صناعة المؤرخين. فلم يكن الأندلسيون (ويعني بهم الممالك المسيحية في شمال الأندلس) أسبانًا. لم يشعروا بهذه الأسبانية أبدًا قبل القرن الثالث عشر الميلادي. وكان الذين يتقاتلون أو يتوادّون على بطحاء الأندلس، إما مسلمون أو مسيحيون. إن تاريخ شبه الجزيرة الإيبرية في العصور الوسطى لايمكن أن يُرى بوضوح ما دام ثمة مستشرقون كبار، وآخرون غير مستشرقين، يواصلون الحديث عن "جنس أسباني" واصل وجوده في أسبانيا وراء الذين هم من دم عربي. إن المستشرقين الأسبان يطبقون مفهوم الأسبانية على كل الأندلس، مهما تكن الأجيال التي تفصل بين الأندلسيين المسلمين وأصولهم المسيحية. فإذا ذهب مسلمو الأندلس ليقاتلوا في المغرب سمّوهم أسبانًا، وابن حزم أسباني، وتغليب هذه الفكرة يعني أن المسلمين تنقصهم الشخصية التاريخية الصريحة.

فهم جميعًا يصبحون بربرًا في المغرب، ومصريين على ضفاف النيل". وينتهي المؤرخ الأسباني إلى هذا القانون الاجتماعي: "الذين يتكلمون لغة جماعة إنسانية، ويعتنقون دينها، ويطبقون نظمها السياسية والإدارية، يصبحون جزءًا منها مهما كانت الظروف التي عاش فيها أسلافهم".

ولكن ميجيل أسين بلاثيوس وقع بنظرنا في خطأ. فقولهُ بأن الحب العذري نشأ بين بني عذرة نتيجة تأثير مسيحي، ينقضه أن بني عذرة هؤلاء كانوا بدوًا، يأخذون الدين مأخذًا سهلاً، وقلما يبلغ من عقولهم ونفوسهم مبلغًا قويًا يتأثرون به ويكيّفون حياتهم وفق مُثُله. ولو كانت المسيحية وراء هذه الظاهرة لكان أولى أن تكون على نحو أوضح وأعمق في نجران أو الحيرة، أو بين الغساسنة، حيث استقرت المسيحية زمنًا وباشرت نفوذها على النفوس وأصبحت دين الأسرة الحاكمة ردحًا من الزمن.

ويبقى بعد ذلك أن نشأة الحب العذري في الأدب العربي بعامة، ما تزال أرضًا بكرًا تنتظر من يبحثها في ضوء مناهج البحث المتطورة.

إن كتاب ابن حزم "طوق الحمامة" وثيقة في غاية الأهمية عن حياته وعن الحياة الاجتماعية في الأندلس في زمانه. لا نكاد نمضي خطوات معه في هذا الكتاب حتى نجد أنفسنا أمام فيض من ذكرياته، عن نفسه وعن أصدقائه، وآخرين مجهولين، وكلهم من العشاق. زفراتهم حارة وأحاسيسهم صادقة يخلطون المداد بالدمع ويستخدمون في التراسل الحمام والعيون والرسل، ويعانون من الوشاة ويموتون من الحب. وهو إلى جانب ذلك معرض حافل بالحديث عن شيوخ ابن حزم، والشخصيات العامة في قرطبة، وبالإشارات التاريخية والأحداث الهامة والحفلات الخاصة وتخطيط العاصمة ومعمارها، ومساكن آل حزم ومستواها، وكلها تتحرك نابضة بالحياة وتمضي متماسكة مثل عناقيد العنب. والكتاب قبل ذلك كله سيرة ذاتية للمؤلف خطّها بقلمه، واعترافات مخلصة ألقى بها في جرأة وصدق غير معهودين في الفكر العربي على أيامه وما بعدها إلى أيامنا.

واستنادًا إلى ما باح به في كتابه، يبدو ابن حزم رقيقًا سريع التأثر يهوى الشكل الجميل، (أو الصورة الحسنة فيما يقول) ويعي جيدًا ما يحدثه في الأرواح من هزة لأن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن ويرى في إثارة الجمال سلطانًا لا يقاوم.

وقد عاش ابن حزم في بيئة عامرة بالصبايا الجميلات وأحبّ في سن مبكرة للغاية، صبا قلبه ولما يتجاوز الخامسة عشرة، وكان في حبه غربيًا عصريًا للغاية، يتميز عن الروح الشرقي والعربي تمامًا، فلا يؤمن بالحب مع النظرة الأولى، ويعجب ممن يدعي أنه يحب من نظرة واحدة فقط، ولا يكاد يصدّقه، ويجعل مثل هذا الحب ضربًا من الشهوة، لا ينفذ إلى حجاب القلب ولا يتمكن من صميم الفؤاد.

فالشهوة تسقط على المرء مع أول نظرة، والحب يحتاج إلى زمن ومعاناة وفهم متبادل. وهو يقول عن نفسه معترفًا: "وما لصق بأحشائي حبّ قطّ إلا مع الزمن الطويل".

ويدعنا نفهم في مواربة أن حبه ليس عذريًا، وكلمة "عذري.. لا ترد على امتداد كتابه ولا مرة واحدة. كما أنه ليس فاجرًا في الوقت نفسه.

يقول: "ما رويت قط من ماء الوصل، ولا زادني إلا ظمأ"، و"لقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرقى، فما وجدتني إلا مستزيدًا، وحين يكون مع من يحب لا يجول بخاطره فن من فنون الوصل، إلا وجدتهُ مقصِّرًا عن مرادي، وغير شافٍ وجدي، ولا قاضٍ أقلّ لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددتُ دنوّاً ازددتُ ولوعًا، وقد حثّ زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي. ويرى التوافق في ممارسة الحب يقويه "إذ الأعضاء الحسّاسة مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها".

ويردّ العفة إلى أسباب موضوعية، إلى طبع يميل بالرجل أو المرأة إلى غير هذا الشأن، واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه. فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين، ولا في يوم ولا في يومين. ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لحادث طباعهم، وأجابوا هاتف الفتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك، وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد انقمعت به طوالع الشهوة.

ويقدّم "طوق الحمامة" صورة جلية لوضع المرأة في قرطبة وبالتالي في الأندلس في زمانه. وأول ما نلحظ في حديثه أنه يقف عند نساء الطبقة العالية، أي فتيات الأسر التي ينتمي إلى طبقاتها، وحتى الجواري منهن يتصل حديثهن برجال هذه الطبقة. ولم يعرض لنساء مشرقيات إلا نادرًا.

ولم يتعرض للمرأة في الطبقة الوسطى أو الدنيا ولا نجد لديه ولا إشارة واحدة حتى ولو من بعيد عن المرأة المستعربة أو اليهودية، وهو أمر طبيعي من رجل لا يكتب بحثًا، وإنما يدفع بذكرياته وما رأى أو سمع من خلال دراسته عن الحب. وما كان لأي من هاتين الطبقتين أن ترتفع إلى مجلس ابن حزم، خارج نطاق الدرس، ولم يجلس فيه أستاذًا إلا بعد سنوات من تأليفه "الطوق"، أو يعير أحداثها نصيبًا من اهتمامه.

يهدف كتاب "طوق الحمامة" إلى تحليل المشاعر العاطفية، ومواقف العشاق، ويأتي الحديث عن المرأة فيه بوصفها طرفًا في هذه القضية. وليدعم ابن حزم آراءه أورد عددًا من الوقائع الغرامية حدثت فعلاً، ولو أنه يصعب علينا في أحوال كثيرة أن نحدد نوع المحبوب: أهو فتاة أم غلام، أو نعرف ظروفه الاجتماعية. وأحيانًا ترد القصص فضفاضة يعسر علينا أن نستنتج منها شيئًا محددًا ودقيقًا. ويتعمد ابن حزم ذلك حفاظًا على أسرار الناس واحترامًا لحياتهم الشخصية.

وترد لفظة "جارية" بكثرة في "الطوق". ولكن ما معناها؟، الطاهر أحمد مكي يعود إلى المعاجم القديمة فيجد أنها تعني حينًا "فتية النساء"، أو "التي نهد ثديها" أو أنها "الشابة لخفتها" و"الفتاة الكاعب الشابة". ويرى أنها كانت تطلق في قرطبة على الفتيات والشابات من الحرائر أيضًا، ممن يجمعن هذه الصفات وصفات أخرى ارتبطت بالجواري في تلك الأيام من التربية والثقافة والعواطف الدافئة والتمكن من الموسيقى عزفًا وتذوقًا ومعرفة الغناء وحفظ الشعر وألوان من الجمال الحسّي.

إذن ليست كل جارية "رقيقة" في كتاب "الطوق". لقد تحدث عن فتيات حرائر يذكرهن بأسمائهن حين لا يسيء ذلك إليهن ولا يمسّ القاعدة التي اختطها لنفسه في أول "الطوق". وكلهن ينتسبن إلى الطبقة العالية التي ينتمي إليها. ونعرف من روايته أنهن لسن دون الجواري ثقافة وتمكنًا من المعارف العامة وإجادة الفنون الجميلة وإقبالاً عليها. فهو يحدثنا عن ضنا العامرية كريمة المظفر عبدالملك بن أبي عامر الذي تولى الحجابة بعد أبيه، وكان يقرب منه هيبة ووقارًا وإن قصرت أيامه. ونعرف أنها تعزف الموسيقى وتصنع الألحان لنفسها وتطلب من ابن حزم أن ينظم لها شعرًا تلحنه وتتغنى به.

وقد عرض مرة واحدة لحالة في أسرته، وذكرها بالاسم حين حدثنا عن الحب العفيف المتبادل بين أخيه أبي بكر وزوجه عاتكة بنت قند، وكانت فيما يقول: لا مرمى وراءها في جمالها وكرم أخلاقها. وكان أبوها قائد الثغر الأعلى على أيام المنصور بن أبي عامر، وقد شفّها حبّه وأضناها الوجد فيه وأنحلها شدّة كلفها به، وكانا في حدّ الصبا وتمكّن سلطانه لا يلهيها عن الناس شيء ولا تسر من أموالها على عرضها وتكاثرها بقليل ولا كثير إذا فاقها اتفاقه معها وسلامته لها. فلما توفي في الطاعون الذي اجتاح قرطبة عام 401 هجرية، وهو ابن اثنين وعشرين سنة، لفها السقم والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام، ولم يكن له قبلها ولا معها امرأة غيرها، وهي كذلك لم يكن لها غيره.

وقدم لنا ابن حزم عرضًا، وفي إلماحات خاطفة، لألوان من المهن التي أسهمت فيها المرأة أو اختصت بها، ومن غير طبقته بالطبع، فهي تعمل مربية ومدرّسة لأبناء الطبقة العليا، وتربى هو نفسه على يدها. تعلم معها القرآن وأجاد الخط وتذوق الشعر. ومنهن كانت الطبيبة والحجامة والدلالة والماشطة والمغنية والمعلمة. ومن الجواري من كانت للبهجة والمعاشرة، فهي قارئة تغني وتجيد الموسيقى وتقرض الشعر وتنشده لغيرها إن لم تحسن نظمه، ومنهن التي ليست على ذلك، أو حظها منه قليل، فهن للخدمة وما شقّ من أعمال البيت.

إن كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم، استنادًا إلى كل ما عرضنا فيه من سيرة لهذا العالم والأديب الأندلسي النابه، ولأنماط الحياة الأندلسية في حواضر الأندلس الكبرى، ليس مجرد كتاب في "الألفة والأُلاف"، على حد تعبيره، أي في العشق والعشاق، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك كتاب في الحياة الاجتماعية للأندلسيين.

إنه يصلح مدخلاً لدراسة تلك الحياة الراقية لمجتمع كان مؤلفًا من مزيج من شعوب وأجناس وأديان وقارات ولغات مختلفة أمكنها التعايش وإنتاج حياة رغدة متقدمة هي نموذج حضاري فذّ تم وأده واستئصاله في غمار الطائفية والعنصرية والتطهير العرقي على النحو الذي عرفه العالم عند سقوط غرناطة وطرد الموريسكيين من أسبانيا.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...