عبد الرحمن التاجي - خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ

خليليَّ ما أحلى الوصالَ بلا هجرِ = وما منه أشهى للمحبين بالحصرِ
نعمتُ به دهراً برَيعان نشأتي = وذلك من أحظى الحِبَى ليد الدهرِ
وبي أغيدٌ حلوُ الشمائلِ وجهُه = يري البدرَ حسناً وهو في صورة البدرِ
أحاديثُه كالشُّهدِ تحلو فكاهةً = إذا ما احتساها السمعُ أغنتْ عن الخمرِ
يُشعشِع فحواها ليَ الكأسُ لذَّةً = بنكهةٍ أزكى ما يكون من العطرِ
كأن نسيمَ الروض بات يعلُّه = فأهدى لنا من طيبِه طيِّبَ النشرِ
فكرِّر بذكر الكأسِ لي دَرّ دَرُّه = تعلَّة قلبٍ من جوى الحب في جمرِ
وإن يحكِ ريحَ الحب لطفاً فعاطني = وإن لم يسوِّغه الغناءُ على السكرِ
فيا بأبِي منه الدلالُ معشَّقاً = ويا حسنَ ذاك المعطفِ اللَّيِّن الهصرِ
رنا بقوامٍ كالقضيبِ ومُقلةٍ = يجول بهُدبيها غرارٌ من السحرِ
وماس وقد حار الوشاحُ بخصره = رَشاً لم يُطق حملَ الوشاحِ على الخصرِ
إليه تَوالاني هواه فمذْ رأى = ولوعِي به غطَّى التَّعارفَ بالنُّكرِ
وأغفى وقد ولَّى الغرامَ مقاتِلي = وولَّى ولم يعبأ بلومٍ ولا عذرِ
فقلتُ وقد ضاقتْ عليَّ وسائلي = أراجِعُه الطُّولَى بفكِّ عَنا أسري
حنانيك لا تسمع مقالا لكاشحٍ = بتنميقِه يُغوِي لمن بالجفا يُغري
على أنني رُحماك لا أحملُ الجفا = وقد نفِدت مني الذخائرُ من صبري
وجسميَ منهوكٌ ولبِّيَ ذاهلٌ = وقلبي أسيرٌ آهِ في قبضة الهجرِ
وعنِّي نأى زهوُ الشباب وليتَه = يعود ويثني لي الأعنَّة بالبشرِ
وهبْ أنني أثني إلى الودِّ عَزمةً = فأين زمانُ اليسرِ من زمن العسرِ
فيا سائلي أين الزمانُ وطيبُه = ألا فاسألِ الأيامَ تنبيك بالخُبرِ
لقد عوَّضتني الشِّيبَ عنه وإنه = يقال وقارٌ لو يقال بلا وقرِ
فمن بعده لم يصفُ عيشي ولم أمِلْ = إلى لذةٍ هيهات تهتِف في الفكرِ
وجانبتُ أنحاء القريضِ وسوحَه = بحيث أرى في سوقِه النَّضَّ كالغَرِّ
وحتى استماعي للقريضِ سئمتُه = كأن سيمَ سعرُ الشعرِ في الوزن بالشَّعرِ
وأوحشت الآداب عني فخلتُها = كمعنًى لمغنًى لاح كالآلِ في قفرِ
فحرَّك طبعي بعد ما كان جامداً = على ما امتطاه من كلالٍ ومن فترِ
وآنس من طورِ المعالي مُخاطباً = تجلَّى بأنواع المعاني على فكري
مشيراً إلى مولًى سجايا كماله = تهلُّ سحاباً بالفضلِ والبرِّ
ويُدعى بحقٍّ بالأمين وإسمُه = محمدُ من نسلِ الكرام بلا نُكرِ
ألا وهو مولانا المحبِّيّ إنه = رقيق حواشي الطبع ضخم ذُرى الفخرِ
ومن فتيةٍ سادوا وشادوا إلى العلى = دعائمَ مجدٍ نوَّرت عملَ الفجرِ
وهم في سماء السُّؤدد الشامخ الذُّرى = سراةٌ سرَوْا حدًّا له النجمُ لا يسرِي
وإنك يا مولايَ جاوزتَ حدَّهم = إلى مفخرٍ فوق السَّماكين والنَّسرِ
وحزتَ مجالا في المعارفِ واسعاً = وعلماً غزيراً جلَّ مع سعةِ الصدرِ
وتهذيبَ أخلاقٍ وحسبُك نسبةً = إلى الشرفِ المُدلي إلى المصطفى الطُّهرِ
فاًن تبدو شمسُ الأُفق قلتُ بأنَّها = مُحيَّاك لا أغْلو وأنت بها تُزرِي
وشِعرُك أحلى في النفوسِ من المُنَى = وأفْعَلُ بالألبابِ من قرقَفٍ بِكْرِ
وقد نِلتُ يا مولايَ أسْنَى مآثِرٍ = تجِلُّ عن التَّعداد في الفضل بالحَصرِ
فمنها التآليفُ الحِسان التي غدتْ = بما قد حوتْ كالدُّررِّ في لبَّةِ الدهرِ
وناهِيك بالتاريخ فضْلاً فإنه = حَرِيٌّ بكتبِ التِّبرِ فضلاً عن الحِبرِ
لما قد حوَى أبحاثَ علمٍ أنيقةً = تُميطُ شحوب الشكِّ كاليُسرِ للعسرِ
وتقريرَ أفهامٍ بديعٌ بيانُها = معانِيه أسرارَ البلاغة تسْتقْرِي
وتحريرَ منقولٍ وضبطَ وقائِعٍ = يحقِّق منها ما اسْتُريبَ من الأمرِ
كتابٌ لأهل الفضلِ زُخْرُفُ روضةٍ = يُسيمون منها في معانٍ كما الزَّهرِ
نَهجْتَ به في الفضلِ أبهجَ منهجٍ = تدوم به حيًّا إلى الحشرِ والنشرِ
به ذِكرُ من يسْتوجبُ الذِّكرَ في الورَى = وإحياءُ موْتى للفضائلِ بالذِكرِ
به يُهتدَى للغابرين ومَن مضَى = كما يعتدِي السَّارون بالأنجُمِ الزُّهرِ
كأنَّ مزايا ذكْرِهم في طُروسِه = متى تُتْلَ جناتٌ جداولُها تجرِي
لك الفضلُ فيما صُغْتَ من دُرِّ لفظِه = نسيقَ معانٍ خِلْنَ ضرباً من السحرِ
فجازاك ربُّ العالَمينِ بفضْلِه = جزاءً يُنيل الأجرَ مع رِفعةِ القَدْرِ
وأنت وأيمُ اللهِ مُفردُ عصرِنا = وحامِي حِمَى الآداب في النظمِ والنثرِ
تتيه بك الأيَّامُ قلَّدتَ عُطْلَها = وقلَّدت منها الجِيدَ من فضلِك الوَفْرِ
ومنك جَلاها من سَنا البرقِ شارقٌ = وصَاكَ بها من عرفِك العنبرُ الشِّحرِي
وهاك أيا مولاي منِّي مدائِحاً = سهِرتُ بها والنجمُ يسبِرُ من فكرِي
وما هي إلاَّ الروضُ حيَّاك عَرْفُه = وقد باكرَتْه نَوْءُ فضلِك بالقَطرِ
ومع ذاك لم أقدُرك حقَّك مِدحةً = ولكنه جُهدُ الأناشيدِ من شعرِي
وإن يكُ قد حازَ انْطِباعاً فإنه = لمكتسِبَنْه من خلائِقك الغُرِّ
أُقِرُّ بعجْزِي ليس شعرِي مُكافِياً = فَصاحَتَك العظمى ولو صِيغ من تِبْرِ
على أنه ما اسطعْتُه وأعوذ من = مَلامةِ تَقصيرِي بعفوِك عن وِزْرِي


.


* عبد الرحمن التاجي
عبد الرحمن بن تاج الدين بن محمد بن أبي بكر بن موسى بن عبده
[SIZE=5]- سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر[/SIZE]
 
أعلى