نقوس المهدي
كاتب
صدّر الشيخ النفزاويّ كتابه (الروض العاطر في نزهة الخاطر) بخطبة، منها : الحمد لله الذي جعل اللّذّة الكبرى للرّجل في فُروج النساء، وجعلها للنّساء في أيور الرّجال. فلا يرتاح الفرْج ولا يهدأ ولا يقرّ له قرار إلاّ إذا دخله الأير، والأير إلاّ إذا دخل بالفرج. فإذا اتّصل هذا بهذا وقع بينهما النكاح والنطاح وشديد القتال، وقربت الشهوتان بالتقاء العانتين وأخذ الرجل في الدكّ والمرأة في الهزّ، بذلك يقع الإنزال..
يعِد هذا التحميد المختلفُ بما لم نعهده، كثيرا، لدى سائر من ألّف في "الباه"، إذ جعل اللّذّة الجنسيّة شراكة بين الذكر والأنثى، بمثل ما جعل الرغبة والمتعة والشهوة بينهما واحدة. على أنّ الشيخ النفزاوي ما يلبث، في المتن، أن يسير على ما درجت عليه الكتُب ليسقط من حسبانه جنسانيّة المرأة إلاّ بالقدر الذي تحقّق فيه لذّة الرجال. وإذا المحمود من الرجال هو وافرُ المتاع طويل الاستمتاع ( والعكس بالعكس )، فيما المحمود من النساء والمرذول لا يرتبطان، حصرا، بعضو مخصوص.
تعكس هذه الصنافة الكلاسيكيّة التي تبدأ بها بعض الكتب في هذا الباب تعييرا غير متكافئ لجنسانيّة الرجل والمرأة، فإذا كان الرجال، في الحبّ، ينتظرون من النساء جملة من الخصال النفسيّة والذهنيّة والعضويّة فإنّ النساء ليس يشغلهنّ إلاّ الكبير المتاع، القويّ الغليظ البطيء الإنزال!
نتحدّث عن الجنسانيّة Sexualité، إذن، باعتبارها حقلاً اجتماعيّا تاريخيّا تتقاطع فيه المستويات البيولوجيّة والسيكولوجيّة والسوسيولوجيّة الثقافيّة. بينما الجنس بمعنى Sexe / Sex لا يعدو كونه عمليّة حيويّة تستهدف المتعة واللّذّة والتوالد.
الجنسُ، بهذا المعنى، استعمال مستحدث في العربيّة، إذ الجيم والنون والسين هي الضرب من الشيء، ومنه الذكورة والأنوثة، والمجانسة المشاكلة، أيضا. وقبل ذلك، كان هذا المعنى المستحدث جاريا في ألفاظ من قبيل الجماع والباه والنيك، وغيرها من الألفاظ القريبة كالمضاجعة والمواقعة والوطء… وألّف في الجنس من الكتب المفردة والموسوعات والمنتخبات عناوين كثيرة. وممّا يلاحظ أنّ أغلب مؤلّفيها من الفقهاء أو من ذوي الخلفيّة الفقهيّة (نواضر الأيك في معرفة النيك للسيوطي، نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب للتيفاشي، تحفة العروس ونزهة النفوس للتيجاني، رجوع الشيخ إلى صباه في القوّة على الباه لابن كمال باشا، والروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي، وغيرها ).. طبعا دون أن نغفل المدوّنة الإيروسيّة (ألف ليلة وليلة )، ولا ما ورد أشتاتا في كتب المنتخبات (كالأغاني، والعقد الفريد..وغيرها).
ثمّة احتفال بالجنس في هذه الثقافة، حتّى أنّ كتابا في التصوّف هو كتاب "التوهّم" للحارث المحاسبيّ لم يخل من صفحات إيروتيكيّة بديعة. على أنّه ينبغي القول، أيضا، إنّ هذا الاحتفال كان مصروفا، في كلّيته تقريبا، إلى بناء نموذج قضيبيّ المرأة فيه أداة أكثر منها ذات.
هل اللّه يكره الجنس وينكره في الدنيا؟ وهل اعتبار المرأة أصل الفساد والخطيئة في اليهوديّة، وحظر الكنيسة الكاثوليكيّة الزواج على كهنتها، وإلزام المرأة بالحجاب في الإسلام إلاّ موقف يزدري الرغبات ومواطنها في الأجساد، ويتوجّس من فتنة المشاعر الوحشيّة المتأبّية على الضبط والتقنين كالرغبة والشهوة والهزّة والنشوة؟ كيف وقع المسلمون تحت عقدة الذنب إزاء ثورة الحواسّ التي هبّت بها رياح الحداثة، وجعلتهم يشعرون أنّهم يعيشون الآثام، وبأنّ عليهم التكفير عنها بشتى الطرق حدّ التضحية بالنفس بل والتضحية بالآخرين..
كيف يمكن انطلاقا من التساؤل عن وضعيّة المرأة أن نكتب تاريخ الإقصاء والنسيان أو ما سمّاه فتحي بن سلامة، في سياق حفره عن الجدّة هاجر، "الطلاق الأصليّ"، وما كان لمحو الأمّ الأصليّة من استتباعات جوهريّة في بنية المكبوتات الإسلاميّة؟ لمَ اتّسمت وضعيّة المرأة بالدونيّة، والحال أنّ امرأة هي خديجة كانت "شاهد إثبات" على البعثة النبويّة، وأنّ امرأة هي عائشة كان لها الدور الكبير في بناء دولة المدينة؟
مجلّة (لوبوان)1 Le Point )، في سلسلتها (مراجع)، خصّت موضوع الجنس والأديان بعدد عقدته على هذه العلاقة الملتبسة في اليهودية والمسيحيّة والإسلام والهندوسيّة والبوذيّة والكونفشيوسيّة والتاويّة..
عن الجنسانيّة في الإسلام، تحدّث إلى المجلّة المحلّل النفسيّ وأستاذ علم النفس العلاجيّ في جامعة باريس 7، فتحي بن سلامة.
المترجم
إلام تعود منزلة المرأة الدونيّة في أكثر البلدان الإسلاميّة؟
التمييز بين المظهر الأنطولوجيّ والمظهر القانونيّ أمرٌ جوهريّ، في رأيي. فمن منظور القرآن، نجد أنّ المرأة قد اتّخذت محلّا معتبرا وتأسيسيّا على وجه من الوجوه.
أوّل من أسلَم امرأة. إنّها خديجة زوج محمّد الأولى. وهي، كما يخبرنا التاريخ الرسميّ الذي بلغنا ولا نعرف، على وجه اليقين، مدى واقعيّته، أوّل من آمن ببعثة محمّد. ساندته حينما كان، في بداية الوحي، يمرّ بلحظات من الكآبة، فيتساءل إن كان مجنونا، إلى حدّ أنّه رغب في الانتحار. لقد كانت خديجة من أسنده وشدّ من عزيمته. خديجة، فوق ذلك، كانت أوّل الصحابة، وبصفتها تلك، كانت شاهد إثبات على "البعثة".
ولعائشة، المرأة التي تزوّجها محمّد وهي طفلة، وهام بحبّها- الدور المهمّ في الإسلام، لتشهد على أفعال محمّد، وتؤصّل أقواله، ولتقاتل، أيضا، ضدّ من تصدّى لخلافته. وستواصل سائر النساء القيام بدور جوهريّ في المجتمع، غير أنّهنّ – وهنا المفارقة- سيعاملْن، على المستوى القانونيّ والسياسيّ، باعتبارهنّ قاصرات.
ولكنّ الإسلام قد طوّر مجتمعا عدائيّا تجاه المرأة بصفة خاصّة؟
المجتمعات الإسلاميّة، في جوهرها، مجتمعات أبويّة. وبقيت كذلك رغم التحوّلات العميقة التي مرّت بها. وباستثناء بعض البلدان مثل تركيا وتونس، فإنّ أغلب بلاد الإسلام تعيش في تنظيمات قروسطيّة من زاوية نظر العلاقة بين الجنسيْن. في كثير من شواغل الحياة اليوميّة، تظلّ المرأة تحت وصاية الرجل سواء كان أبا أو زوجا أو ابنا أو أخا. ثمّة فجوة حقيقيّة بين منزلة المرأة الحقيقيّة داخل المجتمع وبين منزلتها القانونيّة.
رغم أنّ الاهتمام الذي صرفته الحضارة الإسلاميّة للحبّ والإيروسيّة قلّ نظيره..
بالضبط. لقد طوّر الإسلام فنّا إيروسيّا ليس يعدله، في العالم، إلاّ قليل عرفته الهند واليابان أو الرومان. لا يمكن أن نهتمّ بالإسلام دون أن نضع في الحسبان هذه التناقضات كلّها، لا سيّما أنّ المرأة، اليوم، رهانٌ خطير في الحرب الأهليّة التي تمزّق البلدان الإسلاميّة.
حربٌ أهليّة؟
أجل. إنّ العالم الإسلاميّ، في جملته اليوم، فريسة صراع داخليّ بدأ منذ السبعينات، وتحوّل، منذ التسعينات، إلى شكل من السُّعار. رهانات هذه الحرب الأهليّة تتجاوز المشكلات الاقتصاديّة والسياسيّة الموصولة بالنفط أو الحرب في الكويت أو العراق. إن كان القتال، اليوم، ناشبا فعلى الاستحواذ على سلطة الكلام عمّا تعنيه كلمة إسلام. وثقوا أنّ هذا الصراع لا يقتصر فقط على جماعات القاعدة أو حماس. الجميع معنيّ، والشبح يمتدّ من المتطرّفين المتعصّبين إلى اللاّئيكيّين مرورا بتلك الأطياف المتفاوتة الاعتدال، وذلك الشرخ بين الشيعة والسنّة، إلخ..
إنّها حربُ تعريفات أو هويّات : من ربحها فقد فرض أنموذجه على الآخرين.
ولكنْ لماذا؟
يمثّل الإسلام أساسا لأنموذج اجتماعيّ تيوقراطيّ استمرّ لقرون. اليوم، دخلت لتلقيح هذا الأنموذج معايير جديدة مستمدّة من منظومة الحقوق الشخصيّة بالمعنى الذي لها في الغرب. تقع المرأة في المركز من هذه المراجعة، ذلك أنّ إعطاء المرأة حقوقا كحقوق الرجال - وهو من بديهيّات الأمور في الغرب – يعني انقلابا كاملا في البنية الاجتماعيّة الأبويّة للإسلام.
وعلى سبيل المثال، فالبنت ترث، تقليديّا، نصف ما يرثه إخوتها. بل إنّ تونس المستقلّة، ورغم أنّها مضت أشواطا في المساواة بين حقوق الجنسيْن، لم تتجرّأ على مراجعة هذا القانون القرآني. إنّ جسد المرأة ذاته يطرح مشكلا، لأنّ تحريره سيجرّ تغييرا في العلاقة بالجنسانيّة التي نظّمها الرجال للرجال على أساس نموذج قضيبيّ يتيح لهم التفوّق ويضمنه. هذا أمر ألاحظه مع مرضاي باستمرار : إنّ المسلم التقليديّ يحار في الجواب إذا ما همّ بالفحص عن جنسانيّة المرأة. لن يفهم متعة المرأة إنْ هو قاسها إلى متعته الخاصّة، وهي متعة ذات شكل بسيط : انتصاب، فانتشاء، فارتخاء. جنسانيّة المرأة أشدّ لطافة حيث إنّها لا تخضع، في اللّذّة، للعبة القمّة والتلاشي.
يشهد الأدب الإيروتيكي في الإسلام على سوء الفهم هذا : المتعة الأنثويّة مرغوبة، ولكنّها، في الوقت ذاته، ملغزة بل مخيفة.
من هنا، ذاك الموضوع المتكرّر عن "المرأة المغتلمة"..
نعم. وهي المرأة التي تعترضنا في "ألف ليلة وليلة" كما في كتب الباه التي نعرف في الإسلام. لقد سعى التحليل النفسيّ إلى أنْ يحدّد ما نسمّيه "المتعة الأخرى" Jouissance autre أو المتعة الأنثويّة. تلك اللّذّة الذي لا تقوم على الأنموذج القضيبيّ، ولا تتأطّر به. لكنْ، وللإنصاف، ليس المسلم، وحده، المذعور أمام جنسانيّة المرأة. الحالة عامّة. لقد بدت جنسانيّة غامضة شيطانيّة، منذ المسيحيّة التي أحرقت ساحراتها. كان التحليل النفسيّ في أوروبا أحد الأفكار التي قادت إلى التخلّص من هذا الخوف من جنسانيّة المرأة. ثمّ، أدّى تطوّر المجتمعات الحديثة، والمساواة في الحقوق على وجه الخصوص إلى ألفة الجنسانيّة الأنثويّة، بالرغم من حدود تلك الألفة على مستوى السلوك. ولكنّ الكُشف عن الجسد الأنثويّ حوّله، أيضا، إلى سلعة في الفضاء العموميّ. نحن، هنا، في صورة عكسيّة لما جرى في الإسلام، حيث كان عزل الجسد بالحَجْب ينعش غموضا قد يغري حتّى بعض النسويّات.
ولكنّ القرآن لا يعرف ذلك الخوف من الأنثى..
لا أتّفق مع تحليلك. في سيرة محمّد، تغيّرت العلاقة مع المرأة منذ أن تكوّنت الحاضرة الإسلاميّة في "المدينة". بل يمكن أنْ نعتبر أنّ مسألة المرأة تصلح مقياسا لتقييم هذا التغيّر : إنّها الفترة التي بدأ فيها النبيّ بفرض قيود على حركة زوجاته. هو نفسه تطوّر بين مكّة حيث كان زوج خديجة امرأة الأعمال الغنيّة، وبين المدينة التي هاجر إليها حيث مرّ من زيجة واحدة إلى زيجات متعدّدة. ولم تكن زيجاته المتعدّدة مرتبطة باهتمامه بتأسيس تحالفات مع مختلف الأطراف فقط، ولكنّها تفهم، أساسا، بالرغبة أيضا. بدأت النساء يشكّلن، إذن، خطرا على نظام المدينة. وهكذا، وجد محمّد عنتا لإقناع صحابته بأنّ زوجته الشابّة عائشة لم تخنه، حينما اختفت ليلة كاملة في الصحراء مع رجل كان يتبعها. والحقّ أنّ التاريخ الرسميّ كان يقول إنّها قد أضاعت طوقا لها، وأنّها مضت للبحث عنه.
بل هو نفسه قد اشتهى زوجة ابنه بالتبنّي…
أجل. وكان لا بدّ أن يطلّق ابنه زوجته، ليتزوّجها محمّد، من بعد، ممّا خلق حرجا بين صحابته. ولكن، في الوقت نفسه، كان النبيّ قد أبطل التبنّي : لم يعد زيدٌ ابنا له. لكلّ ذلك، صار يُنظَر إلى النساء أكثر فأكثر على أنّهنّ مصدر الفتنة في صلب الجماعة، ليتمّ، شيئا فشيئا، إقصاؤهنّ من الفضاء العموميّ.
على أنّنا نعدم تاريخا علميّا لتلك الفترة. فلقد أُعيد بناءُ حياة محمّد، بأخرةٍ من الوقت، وحُمِّل كثيرا من الأمور لتبرير سياسات لاحقة. من قال إنّه من فرض الحجاب حقّا؟ التأريخ الرسميّ لتلك المرحلة تأخّر قرنا عنها. ولكن، مثلما يقول المؤرّخ جان أسمان Jan Assmann فإنّ التاريخ المؤسطر أشدّ أثرا من التاريخ الموضوعيّ أحيانا، لأنّ الأسطورة هي ما ينفق بين الناس.
كيف لمسلم أن يعيش التناقض بين مقتضيات الشريعة وبين الصور التي يهَبها كتاب إيروتيكيّ مثل "ألف ليلة وليلة"، الأثر الأكثر شهرة في الثقافة الإسلاميّة؟
هذا يتوقّف على الطريقة التي يشعر فيها الناس بأنّهم مسلمون. فيمكن للمرء أن يكون مؤمنا يصوم رمضان، ولكنّه يحيا حياة رجل عصريّ. هؤلاء المسلمون هم، في الغالب، حضريّون، ويكون فيهم شبّان وشابّات عرفوا علاقات جنسيّة قبل الزواج، على أن تقع استعادة الشابّات لـ"عذريّتهنّ" اصطناعيّا. تلك سلوكيّات نفعيّة لم تعد تحكمها بعض المعايير القديمة. غير أنّ هؤلاء المسلمين يحتفظون، أيضا، ببعض الطقوس على سبيل محو مشاعر الذنب.
من الطرف الآخر، المسلمون التقاة الورعون المتمسّكون بالشريعة، وهم من يرى في "ألف ليلة وليلة" كتابا ينبغي حرقه.
ثمّة صنف ثالث من المسلمين. صنف محافظ ومنضبط للشريعة في أفعاله، ولكنّه يحبّ رواية الحكايات البذيئة. ها هنا، في تقديري، يكمن المشكل. فجموع المسلمين رجالا ونساء مأخوذة بتناقض حادّ بين دين زجريّ تأثيميّ وبين حساسيّة حقيقيّة لفنون الحبّ كما هي في الثقافة الإسلاميّة. في كلمة "إسلام" لا نرى، في العادة، إلا الدين، بينما نغفل ثقافة نشأت ونمت على خرق الشريعة. بلْ إنّي أزعم أنّ الثقافة الإسلاميّة في أجلى مكّوناتها، وبالخصوص في شعرها، وفنونها، وعلومها، قد تشكّلت في مواجهة التشدّد الدينيّ.
إذن، كيف تفسّرون أنّ الفقهاء هم، في الغالب، من كتب في الشبق والجنس مثل الكتاب المشهور (الروض العاطر في نزهة الخاطر) La prairie des plaisirs؟
لتحريض المؤمنين على المتعة.
ما أردتَ أن تقول؟
بقدر ما يزيد التحريض على المتعة الجنسيّة عبر الأقوال، يزيد وقوفنا على حدود تلك المتعة وقيودها. إنّ الاتصال الجنسيّ، في حدّ ذاته، يفرّق بمقدار ما يوحّد. وهذا ما برهن عليه الماركيز دو ساد. لقد فهم الفقهاء جيّدا أنّهم بدعوة المؤمنين إلى الإيروسيّة يضعونهم في مواجهة الشريعة.
مثال "ألف ليلة وليلة" مثال مختلف: من خلال رؤيته الإيروسيّة، يحاول الكتاب الإجابة عن مشكلة المتعة الأنثويّة، وذلك بتعرية الهُوامات الذكوريّة. ذريعة "ألف ليلة وليلة" تنطلق من سوء الظنّ بالنساء. ملكان يكتشفان خيانة زوجتيهما. أحدهما (شاه زمان) يضبط زوجته على فراشه مع "عبد أسود"، فيقتلهما جميعا. ثمّ يسير إلى أخيه (شهريار)، ليكتشف أنّ أخاه، أيضا، تمّت خيانته. يهيم الملكان على وجهيهما، معذّبيْن، إلى أنْ يلقيا جنّيا ضخما نائما، وقد خرجت من صندوق محكم الغلق كان معه امرأة دعتهما إليها في غفلة منه. ذلك كان دليلا آخر على "مكر" المرأة و"دعارتها". وهكذا طفق (شهريار) يتّخذ له كلّ ليلة زوجة يقتلها قبل الصباح لكيلا تخونه. تتوقّف المذبحة، مع شهرزاد، من خلال قصصها المشوّقة التي لا تنتهي عن مكر النساء وغلمتهنّ، وعن جنسانيّتها التي تتأبّى على الفهم.
لمَاذا التأكيد على هذه الصورة؟
ذلك من أجل مشهدة هوامات الرجال. عندما تكون الجنسانيّة في الأقوال، تغيب في الأفعال. زد على ذلك، فهذه القصص شفّافة لمّاحة. المرأة، في اللّيالي، تهذّب الجنسانيّة الذكوريّة، فيما هي تنتزع حقّها في الكلام.
ولكنْ، بمَاذا تفسّر، إذن، موقف النساء الراغبات في حمل الحجاب، اليوم؟
اختلّ المعيار. وتلك العلامات ليست بقادرة على حظر متعة كفّت عن التلبّس بكلام (الآداب). يواجه الناس عالما يدعوهم إلى متعة عبر كلّ الحواسّ، وأكاد أقول إلى حدّ انعدام الحواسّ. فقدوا البوصلة. واتُّهم النساءُ بكونهنّ سببا لإخفاق الشريعة. وصدّق بعضهنّ على كلام الأصوليّين بأنّهنّ المسؤولات عن هذا الإخفاق. وعقدة الذنب شعور شديد التأثير في الأفراد والجماعات. شعور يقود إلى القتل، قتل النفس أو قتل الآخرين. الناس، اليوم، نراهم في شهر رمضان لا يصلّون خمس صلوات، ولكنْ ستّا أو عشرين أو ثلاثين صلاة..
ويدخل الحجاب في استراتيجيّة الشعور بالذنب تلك؟
أجل. إنّ الجسد الأنثويّ، سواء بالنسبة إلى من يحملن الحجاب طوعا أو من يُكره النساء على عليه، هو في كلّيته جسد فاحش لأنّه مصدر الرغبة والفتنة. يؤكّدون أنّ ذلك ما وعته النصوص. وليس يَهمّ إن كانت تلك النصوص لا تتحدّث عن الأمر بوضوح. لقد اختار الأصوليّون أن يكونوا في صفّ إله مظلم، ويريدون إلزامنا بافتداء إله الظلمات هذا.
ثمّة، إذن، حربٌ أهليّةٌ بين هؤلاء وبين المؤمنين بإله النور، دون أن ننسى أصحاب إله بين بين، ولا أن ننسى، أيضا، أصحاب إله غائب.
هامش:
1- حوار: كاترين غوليو Catherine Golliau
Le Point, Références : Sexe et religions (Novembre – Décembre 2010
.
يعِد هذا التحميد المختلفُ بما لم نعهده، كثيرا، لدى سائر من ألّف في "الباه"، إذ جعل اللّذّة الجنسيّة شراكة بين الذكر والأنثى، بمثل ما جعل الرغبة والمتعة والشهوة بينهما واحدة. على أنّ الشيخ النفزاوي ما يلبث، في المتن، أن يسير على ما درجت عليه الكتُب ليسقط من حسبانه جنسانيّة المرأة إلاّ بالقدر الذي تحقّق فيه لذّة الرجال. وإذا المحمود من الرجال هو وافرُ المتاع طويل الاستمتاع ( والعكس بالعكس )، فيما المحمود من النساء والمرذول لا يرتبطان، حصرا، بعضو مخصوص.
تعكس هذه الصنافة الكلاسيكيّة التي تبدأ بها بعض الكتب في هذا الباب تعييرا غير متكافئ لجنسانيّة الرجل والمرأة، فإذا كان الرجال، في الحبّ، ينتظرون من النساء جملة من الخصال النفسيّة والذهنيّة والعضويّة فإنّ النساء ليس يشغلهنّ إلاّ الكبير المتاع، القويّ الغليظ البطيء الإنزال!
نتحدّث عن الجنسانيّة Sexualité، إذن، باعتبارها حقلاً اجتماعيّا تاريخيّا تتقاطع فيه المستويات البيولوجيّة والسيكولوجيّة والسوسيولوجيّة الثقافيّة. بينما الجنس بمعنى Sexe / Sex لا يعدو كونه عمليّة حيويّة تستهدف المتعة واللّذّة والتوالد.
الجنسُ، بهذا المعنى، استعمال مستحدث في العربيّة، إذ الجيم والنون والسين هي الضرب من الشيء، ومنه الذكورة والأنوثة، والمجانسة المشاكلة، أيضا. وقبل ذلك، كان هذا المعنى المستحدث جاريا في ألفاظ من قبيل الجماع والباه والنيك، وغيرها من الألفاظ القريبة كالمضاجعة والمواقعة والوطء… وألّف في الجنس من الكتب المفردة والموسوعات والمنتخبات عناوين كثيرة. وممّا يلاحظ أنّ أغلب مؤلّفيها من الفقهاء أو من ذوي الخلفيّة الفقهيّة (نواضر الأيك في معرفة النيك للسيوطي، نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب للتيفاشي، تحفة العروس ونزهة النفوس للتيجاني، رجوع الشيخ إلى صباه في القوّة على الباه لابن كمال باشا، والروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي، وغيرها ).. طبعا دون أن نغفل المدوّنة الإيروسيّة (ألف ليلة وليلة )، ولا ما ورد أشتاتا في كتب المنتخبات (كالأغاني، والعقد الفريد..وغيرها).
ثمّة احتفال بالجنس في هذه الثقافة، حتّى أنّ كتابا في التصوّف هو كتاب "التوهّم" للحارث المحاسبيّ لم يخل من صفحات إيروتيكيّة بديعة. على أنّه ينبغي القول، أيضا، إنّ هذا الاحتفال كان مصروفا، في كلّيته تقريبا، إلى بناء نموذج قضيبيّ المرأة فيه أداة أكثر منها ذات.
هل اللّه يكره الجنس وينكره في الدنيا؟ وهل اعتبار المرأة أصل الفساد والخطيئة في اليهوديّة، وحظر الكنيسة الكاثوليكيّة الزواج على كهنتها، وإلزام المرأة بالحجاب في الإسلام إلاّ موقف يزدري الرغبات ومواطنها في الأجساد، ويتوجّس من فتنة المشاعر الوحشيّة المتأبّية على الضبط والتقنين كالرغبة والشهوة والهزّة والنشوة؟ كيف وقع المسلمون تحت عقدة الذنب إزاء ثورة الحواسّ التي هبّت بها رياح الحداثة، وجعلتهم يشعرون أنّهم يعيشون الآثام، وبأنّ عليهم التكفير عنها بشتى الطرق حدّ التضحية بالنفس بل والتضحية بالآخرين..
كيف يمكن انطلاقا من التساؤل عن وضعيّة المرأة أن نكتب تاريخ الإقصاء والنسيان أو ما سمّاه فتحي بن سلامة، في سياق حفره عن الجدّة هاجر، "الطلاق الأصليّ"، وما كان لمحو الأمّ الأصليّة من استتباعات جوهريّة في بنية المكبوتات الإسلاميّة؟ لمَ اتّسمت وضعيّة المرأة بالدونيّة، والحال أنّ امرأة هي خديجة كانت "شاهد إثبات" على البعثة النبويّة، وأنّ امرأة هي عائشة كان لها الدور الكبير في بناء دولة المدينة؟
مجلّة (لوبوان)1 Le Point )، في سلسلتها (مراجع)، خصّت موضوع الجنس والأديان بعدد عقدته على هذه العلاقة الملتبسة في اليهودية والمسيحيّة والإسلام والهندوسيّة والبوذيّة والكونفشيوسيّة والتاويّة..
عن الجنسانيّة في الإسلام، تحدّث إلى المجلّة المحلّل النفسيّ وأستاذ علم النفس العلاجيّ في جامعة باريس 7، فتحي بن سلامة.
المترجم
إلام تعود منزلة المرأة الدونيّة في أكثر البلدان الإسلاميّة؟
التمييز بين المظهر الأنطولوجيّ والمظهر القانونيّ أمرٌ جوهريّ، في رأيي. فمن منظور القرآن، نجد أنّ المرأة قد اتّخذت محلّا معتبرا وتأسيسيّا على وجه من الوجوه.
أوّل من أسلَم امرأة. إنّها خديجة زوج محمّد الأولى. وهي، كما يخبرنا التاريخ الرسميّ الذي بلغنا ولا نعرف، على وجه اليقين، مدى واقعيّته، أوّل من آمن ببعثة محمّد. ساندته حينما كان، في بداية الوحي، يمرّ بلحظات من الكآبة، فيتساءل إن كان مجنونا، إلى حدّ أنّه رغب في الانتحار. لقد كانت خديجة من أسنده وشدّ من عزيمته. خديجة، فوق ذلك، كانت أوّل الصحابة، وبصفتها تلك، كانت شاهد إثبات على "البعثة".
ولعائشة، المرأة التي تزوّجها محمّد وهي طفلة، وهام بحبّها- الدور المهمّ في الإسلام، لتشهد على أفعال محمّد، وتؤصّل أقواله، ولتقاتل، أيضا، ضدّ من تصدّى لخلافته. وستواصل سائر النساء القيام بدور جوهريّ في المجتمع، غير أنّهنّ – وهنا المفارقة- سيعاملْن، على المستوى القانونيّ والسياسيّ، باعتبارهنّ قاصرات.
ولكنّ الإسلام قد طوّر مجتمعا عدائيّا تجاه المرأة بصفة خاصّة؟
المجتمعات الإسلاميّة، في جوهرها، مجتمعات أبويّة. وبقيت كذلك رغم التحوّلات العميقة التي مرّت بها. وباستثناء بعض البلدان مثل تركيا وتونس، فإنّ أغلب بلاد الإسلام تعيش في تنظيمات قروسطيّة من زاوية نظر العلاقة بين الجنسيْن. في كثير من شواغل الحياة اليوميّة، تظلّ المرأة تحت وصاية الرجل سواء كان أبا أو زوجا أو ابنا أو أخا. ثمّة فجوة حقيقيّة بين منزلة المرأة الحقيقيّة داخل المجتمع وبين منزلتها القانونيّة.
رغم أنّ الاهتمام الذي صرفته الحضارة الإسلاميّة للحبّ والإيروسيّة قلّ نظيره..
بالضبط. لقد طوّر الإسلام فنّا إيروسيّا ليس يعدله، في العالم، إلاّ قليل عرفته الهند واليابان أو الرومان. لا يمكن أن نهتمّ بالإسلام دون أن نضع في الحسبان هذه التناقضات كلّها، لا سيّما أنّ المرأة، اليوم، رهانٌ خطير في الحرب الأهليّة التي تمزّق البلدان الإسلاميّة.
حربٌ أهليّة؟
أجل. إنّ العالم الإسلاميّ، في جملته اليوم، فريسة صراع داخليّ بدأ منذ السبعينات، وتحوّل، منذ التسعينات، إلى شكل من السُّعار. رهانات هذه الحرب الأهليّة تتجاوز المشكلات الاقتصاديّة والسياسيّة الموصولة بالنفط أو الحرب في الكويت أو العراق. إن كان القتال، اليوم، ناشبا فعلى الاستحواذ على سلطة الكلام عمّا تعنيه كلمة إسلام. وثقوا أنّ هذا الصراع لا يقتصر فقط على جماعات القاعدة أو حماس. الجميع معنيّ، والشبح يمتدّ من المتطرّفين المتعصّبين إلى اللاّئيكيّين مرورا بتلك الأطياف المتفاوتة الاعتدال، وذلك الشرخ بين الشيعة والسنّة، إلخ..
إنّها حربُ تعريفات أو هويّات : من ربحها فقد فرض أنموذجه على الآخرين.
ولكنْ لماذا؟
يمثّل الإسلام أساسا لأنموذج اجتماعيّ تيوقراطيّ استمرّ لقرون. اليوم، دخلت لتلقيح هذا الأنموذج معايير جديدة مستمدّة من منظومة الحقوق الشخصيّة بالمعنى الذي لها في الغرب. تقع المرأة في المركز من هذه المراجعة، ذلك أنّ إعطاء المرأة حقوقا كحقوق الرجال - وهو من بديهيّات الأمور في الغرب – يعني انقلابا كاملا في البنية الاجتماعيّة الأبويّة للإسلام.
وعلى سبيل المثال، فالبنت ترث، تقليديّا، نصف ما يرثه إخوتها. بل إنّ تونس المستقلّة، ورغم أنّها مضت أشواطا في المساواة بين حقوق الجنسيْن، لم تتجرّأ على مراجعة هذا القانون القرآني. إنّ جسد المرأة ذاته يطرح مشكلا، لأنّ تحريره سيجرّ تغييرا في العلاقة بالجنسانيّة التي نظّمها الرجال للرجال على أساس نموذج قضيبيّ يتيح لهم التفوّق ويضمنه. هذا أمر ألاحظه مع مرضاي باستمرار : إنّ المسلم التقليديّ يحار في الجواب إذا ما همّ بالفحص عن جنسانيّة المرأة. لن يفهم متعة المرأة إنْ هو قاسها إلى متعته الخاصّة، وهي متعة ذات شكل بسيط : انتصاب، فانتشاء، فارتخاء. جنسانيّة المرأة أشدّ لطافة حيث إنّها لا تخضع، في اللّذّة، للعبة القمّة والتلاشي.
يشهد الأدب الإيروتيكي في الإسلام على سوء الفهم هذا : المتعة الأنثويّة مرغوبة، ولكنّها، في الوقت ذاته، ملغزة بل مخيفة.
من هنا، ذاك الموضوع المتكرّر عن "المرأة المغتلمة"..
نعم. وهي المرأة التي تعترضنا في "ألف ليلة وليلة" كما في كتب الباه التي نعرف في الإسلام. لقد سعى التحليل النفسيّ إلى أنْ يحدّد ما نسمّيه "المتعة الأخرى" Jouissance autre أو المتعة الأنثويّة. تلك اللّذّة الذي لا تقوم على الأنموذج القضيبيّ، ولا تتأطّر به. لكنْ، وللإنصاف، ليس المسلم، وحده، المذعور أمام جنسانيّة المرأة. الحالة عامّة. لقد بدت جنسانيّة غامضة شيطانيّة، منذ المسيحيّة التي أحرقت ساحراتها. كان التحليل النفسيّ في أوروبا أحد الأفكار التي قادت إلى التخلّص من هذا الخوف من جنسانيّة المرأة. ثمّ، أدّى تطوّر المجتمعات الحديثة، والمساواة في الحقوق على وجه الخصوص إلى ألفة الجنسانيّة الأنثويّة، بالرغم من حدود تلك الألفة على مستوى السلوك. ولكنّ الكُشف عن الجسد الأنثويّ حوّله، أيضا، إلى سلعة في الفضاء العموميّ. نحن، هنا، في صورة عكسيّة لما جرى في الإسلام، حيث كان عزل الجسد بالحَجْب ينعش غموضا قد يغري حتّى بعض النسويّات.
ولكنّ القرآن لا يعرف ذلك الخوف من الأنثى..
لا أتّفق مع تحليلك. في سيرة محمّد، تغيّرت العلاقة مع المرأة منذ أن تكوّنت الحاضرة الإسلاميّة في "المدينة". بل يمكن أنْ نعتبر أنّ مسألة المرأة تصلح مقياسا لتقييم هذا التغيّر : إنّها الفترة التي بدأ فيها النبيّ بفرض قيود على حركة زوجاته. هو نفسه تطوّر بين مكّة حيث كان زوج خديجة امرأة الأعمال الغنيّة، وبين المدينة التي هاجر إليها حيث مرّ من زيجة واحدة إلى زيجات متعدّدة. ولم تكن زيجاته المتعدّدة مرتبطة باهتمامه بتأسيس تحالفات مع مختلف الأطراف فقط، ولكنّها تفهم، أساسا، بالرغبة أيضا. بدأت النساء يشكّلن، إذن، خطرا على نظام المدينة. وهكذا، وجد محمّد عنتا لإقناع صحابته بأنّ زوجته الشابّة عائشة لم تخنه، حينما اختفت ليلة كاملة في الصحراء مع رجل كان يتبعها. والحقّ أنّ التاريخ الرسميّ كان يقول إنّها قد أضاعت طوقا لها، وأنّها مضت للبحث عنه.
بل هو نفسه قد اشتهى زوجة ابنه بالتبنّي…
أجل. وكان لا بدّ أن يطلّق ابنه زوجته، ليتزوّجها محمّد، من بعد، ممّا خلق حرجا بين صحابته. ولكن، في الوقت نفسه، كان النبيّ قد أبطل التبنّي : لم يعد زيدٌ ابنا له. لكلّ ذلك، صار يُنظَر إلى النساء أكثر فأكثر على أنّهنّ مصدر الفتنة في صلب الجماعة، ليتمّ، شيئا فشيئا، إقصاؤهنّ من الفضاء العموميّ.
على أنّنا نعدم تاريخا علميّا لتلك الفترة. فلقد أُعيد بناءُ حياة محمّد، بأخرةٍ من الوقت، وحُمِّل كثيرا من الأمور لتبرير سياسات لاحقة. من قال إنّه من فرض الحجاب حقّا؟ التأريخ الرسميّ لتلك المرحلة تأخّر قرنا عنها. ولكن، مثلما يقول المؤرّخ جان أسمان Jan Assmann فإنّ التاريخ المؤسطر أشدّ أثرا من التاريخ الموضوعيّ أحيانا، لأنّ الأسطورة هي ما ينفق بين الناس.
كيف لمسلم أن يعيش التناقض بين مقتضيات الشريعة وبين الصور التي يهَبها كتاب إيروتيكيّ مثل "ألف ليلة وليلة"، الأثر الأكثر شهرة في الثقافة الإسلاميّة؟
هذا يتوقّف على الطريقة التي يشعر فيها الناس بأنّهم مسلمون. فيمكن للمرء أن يكون مؤمنا يصوم رمضان، ولكنّه يحيا حياة رجل عصريّ. هؤلاء المسلمون هم، في الغالب، حضريّون، ويكون فيهم شبّان وشابّات عرفوا علاقات جنسيّة قبل الزواج، على أن تقع استعادة الشابّات لـ"عذريّتهنّ" اصطناعيّا. تلك سلوكيّات نفعيّة لم تعد تحكمها بعض المعايير القديمة. غير أنّ هؤلاء المسلمين يحتفظون، أيضا، ببعض الطقوس على سبيل محو مشاعر الذنب.
من الطرف الآخر، المسلمون التقاة الورعون المتمسّكون بالشريعة، وهم من يرى في "ألف ليلة وليلة" كتابا ينبغي حرقه.
ثمّة صنف ثالث من المسلمين. صنف محافظ ومنضبط للشريعة في أفعاله، ولكنّه يحبّ رواية الحكايات البذيئة. ها هنا، في تقديري، يكمن المشكل. فجموع المسلمين رجالا ونساء مأخوذة بتناقض حادّ بين دين زجريّ تأثيميّ وبين حساسيّة حقيقيّة لفنون الحبّ كما هي في الثقافة الإسلاميّة. في كلمة "إسلام" لا نرى، في العادة، إلا الدين، بينما نغفل ثقافة نشأت ونمت على خرق الشريعة. بلْ إنّي أزعم أنّ الثقافة الإسلاميّة في أجلى مكّوناتها، وبالخصوص في شعرها، وفنونها، وعلومها، قد تشكّلت في مواجهة التشدّد الدينيّ.
إذن، كيف تفسّرون أنّ الفقهاء هم، في الغالب، من كتب في الشبق والجنس مثل الكتاب المشهور (الروض العاطر في نزهة الخاطر) La prairie des plaisirs؟
لتحريض المؤمنين على المتعة.
ما أردتَ أن تقول؟
بقدر ما يزيد التحريض على المتعة الجنسيّة عبر الأقوال، يزيد وقوفنا على حدود تلك المتعة وقيودها. إنّ الاتصال الجنسيّ، في حدّ ذاته، يفرّق بمقدار ما يوحّد. وهذا ما برهن عليه الماركيز دو ساد. لقد فهم الفقهاء جيّدا أنّهم بدعوة المؤمنين إلى الإيروسيّة يضعونهم في مواجهة الشريعة.
مثال "ألف ليلة وليلة" مثال مختلف: من خلال رؤيته الإيروسيّة، يحاول الكتاب الإجابة عن مشكلة المتعة الأنثويّة، وذلك بتعرية الهُوامات الذكوريّة. ذريعة "ألف ليلة وليلة" تنطلق من سوء الظنّ بالنساء. ملكان يكتشفان خيانة زوجتيهما. أحدهما (شاه زمان) يضبط زوجته على فراشه مع "عبد أسود"، فيقتلهما جميعا. ثمّ يسير إلى أخيه (شهريار)، ليكتشف أنّ أخاه، أيضا، تمّت خيانته. يهيم الملكان على وجهيهما، معذّبيْن، إلى أنْ يلقيا جنّيا ضخما نائما، وقد خرجت من صندوق محكم الغلق كان معه امرأة دعتهما إليها في غفلة منه. ذلك كان دليلا آخر على "مكر" المرأة و"دعارتها". وهكذا طفق (شهريار) يتّخذ له كلّ ليلة زوجة يقتلها قبل الصباح لكيلا تخونه. تتوقّف المذبحة، مع شهرزاد، من خلال قصصها المشوّقة التي لا تنتهي عن مكر النساء وغلمتهنّ، وعن جنسانيّتها التي تتأبّى على الفهم.
لمَاذا التأكيد على هذه الصورة؟
ذلك من أجل مشهدة هوامات الرجال. عندما تكون الجنسانيّة في الأقوال، تغيب في الأفعال. زد على ذلك، فهذه القصص شفّافة لمّاحة. المرأة، في اللّيالي، تهذّب الجنسانيّة الذكوريّة، فيما هي تنتزع حقّها في الكلام.
ولكنْ، بمَاذا تفسّر، إذن، موقف النساء الراغبات في حمل الحجاب، اليوم؟
اختلّ المعيار. وتلك العلامات ليست بقادرة على حظر متعة كفّت عن التلبّس بكلام (الآداب). يواجه الناس عالما يدعوهم إلى متعة عبر كلّ الحواسّ، وأكاد أقول إلى حدّ انعدام الحواسّ. فقدوا البوصلة. واتُّهم النساءُ بكونهنّ سببا لإخفاق الشريعة. وصدّق بعضهنّ على كلام الأصوليّين بأنّهنّ المسؤولات عن هذا الإخفاق. وعقدة الذنب شعور شديد التأثير في الأفراد والجماعات. شعور يقود إلى القتل، قتل النفس أو قتل الآخرين. الناس، اليوم، نراهم في شهر رمضان لا يصلّون خمس صلوات، ولكنْ ستّا أو عشرين أو ثلاثين صلاة..
ويدخل الحجاب في استراتيجيّة الشعور بالذنب تلك؟
أجل. إنّ الجسد الأنثويّ، سواء بالنسبة إلى من يحملن الحجاب طوعا أو من يُكره النساء على عليه، هو في كلّيته جسد فاحش لأنّه مصدر الرغبة والفتنة. يؤكّدون أنّ ذلك ما وعته النصوص. وليس يَهمّ إن كانت تلك النصوص لا تتحدّث عن الأمر بوضوح. لقد اختار الأصوليّون أن يكونوا في صفّ إله مظلم، ويريدون إلزامنا بافتداء إله الظلمات هذا.
ثمّة، إذن، حربٌ أهليّةٌ بين هؤلاء وبين المؤمنين بإله النور، دون أن ننسى أصحاب إله بين بين، ولا أن ننسى، أيضا، أصحاب إله غائب.
هامش:
1- حوار: كاترين غوليو Catherine Golliau
Le Point, Références : Sexe et religions (Novembre – Décembre 2010
.
صورة مفقودة