مجلة لير الفرنسية - فلاسفة وماهية الجنس.. ت: سعيد بوخليط

أوغست كونت : عاشق مصاب بالزّهري

انجذبت الحياة الجنسية لمؤسس الوضعية، نحو ثلاث أسماء : بولين (الزوجة الخائنة)، كارولين (العاهرة)، وكلوتيلد (القديسة). أول حب حقيقي له، اتجه إلى “بولين”، امرأة تمارس الخيانة الزوجية. لا نعرف، إلا اسمها الشخصي وأنها تبلغ من العمر خمسة وعشرين سنة، لكنها قبل ذلك أمّ أيضا. كان أوغست كونت في سن العشرين، حينما اعترف لصديقه Valat ، انعدام : ((أي إحساس لديه حتى ذاك الوقت اتجاه المرأة))، وقبل “بولين”: ((لم يعرف غير خيال ملذات جسدية، بجوار تلك الجميلات المقززات المتواجدات بشارع فالوا Valois)). اكتشف الشاب خريج مدرسة البو لتيكنيك، مع “بولين” التي تقترف الخيانة، الإحساس بالحب، امتد به إلى الإنسانية جمعاء، كلما ازداد بعدا عن التوظيف الشهواني. هكذا، تضاءل بسرعة شغفه الحسي بها، كي يتمركز ليبيدو النبيّ الكبير المرتقب للإنسانية، حول موضوع آخر.

بينما يتسكع “كونت” ذات أمسية احتفالية، بجانب القصر الملكي، لمح بصره “كارولين” امرأة شابة وماجنة حقا، أمّ مفلسة (لكنها مع ذلك لا تنقصها المبادئ والأحاسيس)، فاقدة لعذريتها، منذ لقاءها العابر مع المحامي سبيركلي. بعد ذلك، فإن هذا الأخير استقر، كي يموه الشرطة. بينما اشتغلت “كارولين” ككُتبية في قاعة للقراءة، تتواجد بشارع المعبد، بحيث سيلتقيها كونت مجددا وبالصدفة. العاهرة السابقة، تحولت إلى الإشراف على إصدارات In-folio . أبدى إعجابه بها، وشرع يلقنها دروسا في الجبر : ((كانت الدروس مثمرة والتعليم مشتركا)). انتهى الوضع إلى زواج، أو حبّ معقلن على الأقل : أحس كونت باحتياجه لامرأة ترافقه في هذا العالم، ويسعى إلى أن تشكل هذه العلاقة شعورا دائما أكثر من مجرد شهوة عابرة. كارولين بدورها، توخت الإفلات من وضعها، لأن اسمها مسجل في قوائم الشرطة، مما يعرضها لعقوبات قاسية، ويحتم عليها الخضوع لمراقبة صحية نصف شهرية شأنها شأن بنات الهوى أيضا، احتاج أوغست كونت إلى الراحة، لأن صحته الذهنية تدهورت جراء صدمة عصبية بسبب الإرهاق. إجمالا، تزوج “كارولين ماسين” “عاملة التصبين” لتسوية وضعيته المدنية. من بين شهود الزواج، الأستاذ “سيركلي” العاشق السابق.

لكن من الممكن، بل الراجح، أن الإفلاس البنيوي للفيلسوف، سيجبر زوجته على العودة إلى ممارساتها السابقة. فتراجع صحة قدرته الذهنية وكذا مزاج كونت الفلسفي، عاملان أثرا مع مرور السنين على رباطهما.

الوجه الثالث، يشير إلى اسم “كلوتيلد” ، أخت “ماكسيميليان ماري”، تلميذ شاب عند كونت. هي، امرأة في الثلاثين من عمرها، تخلى عنها زوجها “أميدي دوفو” الذي كان يشغل جابيا ب ميرو Méru. أطلق عليه كونت لقب الرجل المشؤوم، بحيث فر بالخزينة نحو بلجيكا. التقاء “كونت” ب “كلوتيلد”، شكل له صعقة حب عاطفية وفكرية، جعلته يقول أمام قبرها : ((ابتدأت الوضعية الدينية يوم 16 ماي 1845، حينما تأتت لقلبي فجأة، أمام عائلتك المدهشة الحكمة المتميزة : لا يمكن أن نفكر دائما، لكن يمكننا أن نحب باستمرار)). بعد اللقاء مباشرة، اكتفت “كلوتيلد” بالتعبير لأختها بصيغة أكثر ابتذالا : ((كم هو دميم ! كم هو دميم !)) وهو أمر صحيح بكل تأكيد، نتيجة، إصابته بداء الجُدري، هكذا ميزت وجه “كونت” حمرة ملتهبة. إذن، ولو تخيلت في لحظة ما، أن يصبح “كونت” أب الطفل الذي تمنته، فإنها في نهاية المطاف، سترفض تقديم جسدها إلى العاشق المتآكل. رأى “كونت” في موقفها دليل سمو أخلاقي. ونموذج، ألهم الفيلسوف بكل ما تحمله الكلمة من معاني. “كلوتيلد” طوباوية بالعفة، ولا ينقصها غير أن تكون شهيدة : لقد أصيبت الشابة بداء السل، بالتالي فالحب الذي يسقط بين براثين هذا الوباء تكون عاقبته سيئة ! ملازمته ل “كلوتيلد” وهي طريحة فراش الموت، جعلت الفيلسوف المسن والمريض بداء الجُدري، يقطع وعدا على نفسه، حينما قال : ((أبدا، ليس بعدك امرأة أخرى !)). ارتقى الموت ب “كلوتيلد” إلى مرتبة قديسة الديانة الجديدة، لكن أيضا بين الفينة والأخرى تقفز “كارولين” إلى ذهن الفيلسوف وقد شوهها بدورها داء الجُدري، وتجسد دور الزوجة الساقطة. الجنس تراجيدي !.

[ديوجين بين الاستمناء وتزييف العملة]

غريبة، شخصية ديوجين Diogène، المنتمي إلى سينوب Sinope. هو، أحد الفلاسفة الذين اعتُبروا صعاليك ومشاغبين أيضا، دأب التقليد على تسميتهم ب : “الكلبيين” (أو بمعنى آخر، يعيشون “مثل كلاب”). أهم ما نعرفه عنه يعود إلى بعض الروايات التي جاءت على لسان ديوجيني آخر اسمه « Laërce » ثرثار من العصر القديم، جمّاع للآراء، مشهور باغتيابه، تشبه كتاباته صحيفة شعبية، أو صياغة جذاذات نظرية على طريقة تأليفات (ABC) لأقسام الباكالوريا.

أضطر “ديوجين” الكلبي، وهو ابن صيرفي محتال، إلى ترك بلدته الأصلية سينوب بعد تورطه في صنع عملة زائفة. أمر، شكّل لديه فعلا فلسفيا جوهريا، أكثر منه اختلاسا، مادام “تزييف العملة” أضحى شعارا لدى هذا الفيلسوف غير العادي، بحيث يتحتم على المرء في نظره أن يعيش بطريقة تتنكر للقيم التي وجدها.

نعثر عليه بين الأزقة، في أثينا أو ميغار mégare، رث الثياب، وسخ، يعيش بشحّ مرتديا معطفا يستخدمه أيضا كغطاء، يختبئ وسط جرّة كبيرة ـ برميل يخزن داخله الخمر أو الزيت ـ ثم يجوب الشوارع حاملا فانوسه بحثا عن إنسان. لا يتردد في السخرية من معاصريه، حتى ولو كانوا أقوياء. هكذا، حينما سأله ألكسندر الأكبر، إن كان يرغب في شيء ما، أجابه بخشونة : ((أغرب، أنت عن شمسي !)). رفض ديوجين الرهان على شيء أو شخص ما، وكان أكثر الناس تعففا واعتدالا. لكن ! اسمه ارتبط دائما بالاستمناء. تقول الحكايات : ((كان يستمني باستمرار أمام الملأ))، ثم يستمتع بتكرار الأمر : ((آه ! لو فقط نحك البطن، كي نسكت الجوع !)). ولأنه فرداني بامتياز، فلم تتوفر لديه إمكانية الفصل بين الحقيقة الخاصة والعامة ثم الحميمي والخارجي : صاحب دعوة الاستمناء، هو أيضا مبدع فكرة الاستعراض المسرحي في العهد القديم. تجلت عنده الإباحية في نفاق هاته الدواب التي تتوخى التحول إلى ملائكة، أكثر من ممارسات هي إجمالا ةو أو طبيعية جدا، وغير مخجلة أبدا. كما، أنها توافق صحة الجميع. الوقاية الجيدة عند الكلبي، تقضي بأن نكشط ما يحكّنا ، والتخلص فضلا عن ذلك بانتظام من السوائل الجسدية التي تتراكم طيلة اليوم.

غاليان Galien، الطبيب العظيم في العصر القديم ـ مصدر آخر لحكايات الاستمناء الشهيرة عند ديوجين ـ أكد بأن الأخير، فيلسوف لا يتحمل تعقيدات الحياة الزوجية، لذلك كلما أراد تفريغ مكبوتاته، ضرب موعدا مع عاهرة. لكن، ذات يوم أخلّت إحداهن بالموعد، إما بسبب تقلب مزاجي أو أعاقها زبون آخر، حينئذ اكتشف وسيلة “للتخلص من سائله المنوي، بعد أن حك يده بعضوه التناسلي”. هذا الإجراء الاقتصادي، جعل من مزيف النقود بمنطقة سينوب، أول باعث للشبقية الذاتية.

[القديس أوغسطين أو توبة المذنب]

طبعا : كلما تكاثرت الخطايا، إلا وازداد طلب العفو. إن، أغسطين وقبل تحوله إلى المسيحي الذي نعرفه، كان رجلا صاحب مزاج دموي ينتمي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، عاش مختلف الشهوات الجسدية، ولا يخفي ذلك قط. نجد في “اعترافاته” سردا ذاتيا لتوبته. وأقرّ في اللحظة التي اختار معها حياة جديدة : ((أن يكون أيضا مرتبطا ومتشبثا بامرأة)). أغسطين، الذي أدان الملذات الجسدية، مارس قبل ذلك حياة جنسية مطلقة العنان. حين بلغ سن السابع عشرة، انتقل هذا النوميدي إلى المدينة. يقول : ((لقد قدمت إلى قرطاج، فسمعت من حولي غليان بخار الغراميات الشائنة. آنذاك، لم أدرك بعد [الحب الحقيقي، أي حب الله]، وكنت عاشقا ل [الحب الإنساني])). الإطار، المتميز، لهاته الآثام التي صادفها، لم تقتصر فقط على مواخير بجانب الميناء ولكنها المسارح، فضاءات العروض واستمالة النساء : ((حيث يتمتع العشاق بعضهم ببعض، عبر لقاءات فاضحة)). في المعابد الوثنية التي لم تغلق بعد والكنائس أيضا، تصطف أحيانا مومسات في موكب، فالمعتاد لم يفصل بعد الإناث عن الذكور. من “خلال تسكعاته الهائمة”، فإن أوغسطين ((يثيره الجنس، مما أدى إلى تبدده وانهياره))، ثم عثر على الخليلة التي أخلص لها جنسيا قبل أن يتركها (وفي ذمتها صبي) بعد خمس عشرة سنة من الخدمات. انقلبت شخصيته، وانخرط في نظام الأسقفية، فأقلع عن شهوات الجسد. كان أوغسطين، أحد الأوائل، الذين وصفوا عن قرب حرية الليبيدو الجنسي، يقول : ((اللذة، تسبقها شهوة ما، يشعر بها الجسد كرغبة. هاته اللذة التي تتحقق في الأعضاء التناسلية، تسمى عادة ليبيدو)). ثم يضيف، حين نتكلم عن الليبيدو دون تحديد حمولته، فالأمر يعني : ((إثارة لمناطق جنسية في الجسد)). ويؤكد الأسقف المسنّ، بأن اللذة الجنسية تصاحبها دائما لحظة ذروة مقابل إضعاف “لحدة يقظة الفكر”.

إجمالا، انتهى أوغسطين نادما، لأن الزنا يشل النشاط الذهني، لكنه لم يوضح إذا كان العكس حتما صحيحا.

[ميشيل فوكو أو الجنس بمعنى آخر]

رغم دعوة بول فين Paul Veyne، في تأبين جميل، تضمنته دراسته الصادرة مؤخرا : [فوكو، فكره وشخصيته] (2008)، أن لا نخطئ دلالة المشروع الذي خلفه صديقه وزميله في الدراسة، مع ذلك، ينبغي التذكير، كيف كان المجد وسوء الفهم في زمانه متآلفان.

مع استهزائه في قيرورة نفسه، فإن الفيلسوف فوكو الذي أغضب المؤرخين بوقاحته، وأزعج علماء الاجتماع بقوة ابتكاره، انتقل لدراسة لباب فكر 1968 المتمرد. وقد امتلك ما يجعله لكي يغتر.

حينما بين فوكو، بين طيات كتابه : [تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي]. بأنه، انطلاقا من الرؤية العلمية حول المجانين، يتأتى احتجازهم. ثم، مع أعماله الأخرى، مثل : [أنا، بيير ريفيير...]، [المراقبة والعقاب]، يدحض مجتمعا تترصده ديكتاتورية التلصص، حيث يعيش كل فرد داخله تحت مراقبة الجميع، كما لو إنه في سجن بنتهام La Panoptique de Bentham. أيضا، وحيال الصخب الكبير للماركسيين الأرثودوكسيين، اعتبر فوكو بأن السلطة تسود كل شيء وبالتالي لم يعتد في نهاية المطاف باقتحام السلطة السياسية. كيف، مع كل هذا، لا يعرف المجد وسط مناخ من النقمة الزائدة، المهيمنة ؟ علينا، أن نستحضر في الذاكرة، هذا السياق، كيف نفهم سبب الرعب الذي أثاره تأريخه للجنس، حيث أصدر جزأه الأول “إرادة المعرفة” سنة 1976.

إذن، ونحن ننتظر من فوكو، أن يعيد ثانية صياغة أنيقة للفكرة المتداولة عن الجنس المحاصر، وبأن الأمر يدعو أكثر من المستعجل إلى “التمتع دون عوائق”، نجده يجزئ في شكل مقاطع ما سماه “الفرضية القمعية”، ويسخر من الذين يعتقدون، بأن موضوع الجنس صلب كالحديد، بالتالي فهو “طابو” : ((اختفاء الجنس ؟ أو تتستر عليه، محضورات جديدة تعضدها المقتضيات الكئيبة للمجتمع البورجوازي ؟ بل هائج على العكس من ذلك. لقد، ظل متموضعا طيلة مئات السنين، باطن إقرار معرفي رهيب. دعوة ثنائية، أجبرتنا على إدراك ما تحدده عنه، بينما يرتاب في هذا الجنس كي يعرف ما نضمره له)). نستشف، من خلال التأكيد الأخير، بأنه يقصد التحليل النفسي، وقد قال عن تطبيقه متهكما : ((تُسدد تكاليف، بشكل خفي وصامت، كي يحدثوه عن ممارسته الجنسية ويعرف حقيقتها)). لكن، شيئا مؤكدا، إذا أخذنا بالمقلوب، الثنائية الشائعة عن الجنس المقموع والفرويدية، فقد اتجه ميشيل فوكو بحرية مدهشة نحو البحث، في جنس ضائع. غير، أن موته المبكر سيحرمنا من زمان اهتدينا إليه معه.

[نيتشه : فيلسوف بشارب كث، وفتاة فاترة العاطفة]

نعلم، بأن نيتشه سلك حياة التشرد، يأوي إلى فنادق من الصنف الثالث. الرجل، المبشر بالإنسان الأعلى، وكذا خرافة حلمية. من نمط الرياضي الأرستقراطي، ارتأى تقديم ذاته في مؤلفاته باعتباره يتوفر على صحة جيدة، بينما كان باستمرار مريضا يعاني اختلالات عصبية وبصرية متكررة، تجبره على البقاء لأيام بأكملها وسط الظلمة، وأحينا يضع نظارات سوداء ثنائية البؤرة. مسار، مرعب إذن. كل محاولات أقربائه، بهدف تزويجه، باءت بالفشل. قامة متوسطة (1,71 متر)، لقد اعتبر نفسه بأن الطبيعة خدمته نسبيا مقارنة مع كثير من أقرانه. أيضا، اعترف نيتشه إلى طبيبه، بأنه كان يستمني باستمرار، وهو شاب في العشرين من عمره. بالفعل، ومثل أغلب أفراد عهده، فقد اكتشف الجنس في ماخور أدى إلى إصابته بداء الزهري بين سنوات 1864 و 1869. تمثلت، الحياة الجنسية لدى نيتشه، في ممارسة العادة السرية وكذا معاشرته لخليلات.

أما عن لقائه مع “لو أندرياس سالومي”، فقد رتبته صديقة مشتركة لهما في الكاتدرائية الكاثوليكية “سان بيير” بمدينة روما. سالومي، طالبة شابة تدرس الفلسفة، شيئا ما هستيرية. نيتشه فيلسوف بشارب كث، كان لحظتها تحت تأثير “تجربته” المتعلقة بالعود الأبدي. صعقة حب ؟ فالشابة الروسية ذات الأصل الألماني، ألهبت نيتشه. هكذا، صرحت أخته إلى صديقة لها : ((فريدريك، الآن عاشق مجنون)). منهك !، فقد ظل إله الحب، متيما بمعشوقته لأيام عديدة. كان جميلا، أن يحترق شوقا إليها، بينما تواجهه بالرفض. وحين، قبلت، قضاء ثلاثة أسابيع معه (صيف 1882 ـ توتنبرغ)، فيمكننا تخيل صورة نيتشه، وهو يتعذب. لقد تكلمت “لو أندرياس سالومي” عن كل شيء، حتى الجنس. لكن، سيعشق أحدهما الثاني ك “مفكرين ـ حرين”، دون ممارسات طائشة : ظل الاتصال بينهما أفلاطونيا، نتجت عنه مسرحية معقدة توزعت بين التراجيديا العاطفية والميلودراما الأسروية. انحصرت، إذن التجربة الجنسية النيتشوية، في بيوت البغاء وكذا العاهرات المؤدى لهن. وحتى عندما أصابه العته جراء داء السفلس، لم يتوقف نيتشه عن ملاحقة النساء. ولن تكون قط الشابة “لو”، التي حافظت على عذريتها رغم زواجها بالدكتور “أندرياس”، وفرضت عليه زهدا جنسيا صارما. تسقط التفاحة، دائما تحت شجرة التفاح.

[ماركس ومربية الأطفال]

حينما، ننغمس بين نصوص الأعمال الكاملة لكارل ماركس، بهدف التنقيب على كلمة “جنس”، لن يكون بوسعنا غير الخروج بخفي حنين. بالتالي، سنكتفي بملاحقة مقولات مثل “امرأة”، “زواج”، “أسرة”، ألقى عليها ماركس وصديقه إنجلر نظرة من بعيد، في إطار تصورهما لمكونات البنية الفوقية. وفيما يخص الحالات القليلة التي تطرقا إليها، نتذكر الأهم لديهما منذ “مدخل لنقل الاقتصاد السياسي” (1859). لقد بدا، بأن الأساسي عند ماركس يكمن في النظر إلى تطور القوى الإنتاجية، من خلال ارتباطها بالعلاقات المجتمعية للإنتاج. حينما، يتعارض الإثنان “تبدأ تتشكل ملامح الثورة الاجتماعية”. بالتأكيد، إلى جانب هذا التصادم، أقر ماركس بوجود : ((الأشكال القانونية، والسياسية والدينية والفنية والفلسفية، باختصار القوالب الإيديولوجية التي يحصل بواسطتها الوعي لدى الأفراد (…)، لكننا، لا نحكم على فرد انطلاقا من الفكرة التي لديه عن نفسه. كما، لا نقيّم حقبة ثورة مجتمعية بناء على وعيها بذاتها)). إذن، سنشعر، مع برنامج كهذا، اكتفاء الليبيدو بحيز ضئيل من الاهتمام !.

عندما تفحص ماركس وإنجلز في “بيان الحزب الشيوعي” (1847)، لائحة العادات، استحضرا هاته الصياغة : ((إن أفراد بورجوازيتنا، ليسوا سعداء وهم يجدون تحت تصرفهم نساء وفتيات البرولتاريا، دون الحديث عن البغاء الرسمي. لكن تنتابهم سعادة خاصة، بممارستهم للخداع الزوجي بواسطة التبادل)).

خمسة عشر سنة بعد ذلك، فإن الرجل الأسمر، كما تدعوه زوجته “جيني”، استسلم مثل بورجوازي صعلوك لنزوات منتصف العمر، بحيث لم يصمد أمام إغراءات “هيلينا ديموت”، التي تشغل وظيفة مربية أطفال، وذلك منذ بداية منفاه بلندن. مع انطلاق هاته المغامرة، فإن “فريديريك ديموت”، الصديق الوفي لفريديريك إنجلز، ابتغى حقا التكفل بالأبوة. لقد، تأكد له المعتاد، ويمكنه بالفعل تدارك الأسوء.

بخصوص هاته الأسئلة الحساسة، سيدفع ماركس وإنجلز، بتعليلهما حتى النهاية. مثلا، إنجلز تزوج عن حب، بإحدى النساء العاملات، متشبثا ب “النظرية”، ومعتبرا بأن اقترانا نتيجة “رغبة متبادلة”، لا يمكنه أن يتأتى إلا بعد “إلغاء الإنتاج الرأسمالي”.

أما، ماركس، فسيكون من المثير الإشارة، إلى توظيفه لصيغتين، كي يبلور مخططه الكبير الذي استهدف، القطع مع الفلسفة. الأطروحة الحادية عشر الشهيرة، عند فيورباخ، والتي تصلح كي تكون شاهدا على قبره، حين قال : ((لقد عمل الفلاسفة على تفسير العالم، بينما المهم يكمن في تغييره)). ثم من جهة ثانية، غرابة ما نعثر عليه بين مضامين الإيديولوجية الألمانية (1846) : ((الفلسفة وهي تدرس العالم الواقعي، مثل الاستمناء بالنسبة للحب الجنسي)) !.


[أفلاطون : جنس بدون حب إلى حب بدون جنس]

يعتبر الحب أو الرغبة ـ إيروس باليونانية ـ إحدى المهام الكبرى لفلسفة أفلاطون. مع ذلك، حينما يقارب موضوع الحب، سيتجلى دائما بأن التعفف الجنسي يتسامى مع العلاقات الجسدية. من بين أكثر النصوص، المقروؤة في العمل الأفلاطوني، نعثر على خطابات أبطال المأدبة Banquet ” تجمع للواطيين” (حسب تعبير جاك لاكان) حول طبيعة الحب. في الحقيقة هو قضية حب لواطي، بين رجل راشد وفتى. ينبغي التذكير، بأنه مع هذا العرف المقنّن، كانت اللواطية ممنوعة، ويتم الجماع من أمام عبر الفخدين. بين الخطابات السائدة، نجد خطاب “بوزنياس” الذي أقامه الفيلسوف، بالتركيز على ضرورة التمييز بين نوعين من الإيروس ونمطين من الحب، مثلما توجد أفروديت الشعبية وكذا السماوية. إيروس، يهم الرجال والنساء، ولا يكترث بالقواعد كما لا يتوجه إلى الجسد بدلا من الروح. الإيروس الثاني، يهم قبل كل شيء الروح بحيث يعطيها اندفاعا، ويتبلور من خلال اللواطية. هذا، الماجن المعروف خاصة بسعيه وراء ملذات الحواس، يبعث على السخرية حقا. نجد بأن خطاب “أرسطوفان”، قد أدرك مصدر الرغبة العاشقة، وهو يعرض لتاريخ الإنسانية البدائي، بحيث كانت الكائنات الإنسانية مقسمة إلى ثلاثة أنواع : الرجال والنساء ثم الخنثويين، الأفراد شكلهم كروي يتوفرون على أربعة أطراف برأسيين وعضويين جنسيين إلخ. مرتين مذكر، ومرتين أنثى أو مختلطين. لكن، الزهو سيدفع هذه الكائنات الكروية كي تصعد إلى السماء قصد محاربة الآلهة، مما اضطر زيوس ZEUS إلى معاقبتهم، بالتالي قسّمهم إلى قسمين. حكاية عجيبة، تفسر الحب باعتباره رغبة اشتياقية، للتوحد بالنصف الضائع، بل يعلل إذا أمكننا القول توجهات جنسية مثلية أو متغايرة لدى الكائنات الإنسانية، بناء على وظيفة الكائن الأصلي المنحدرة منه. باختصار، الذين يشتهون الجنس المغاير هم خنثويون يجهلون أمرهم، ويحبون التحول إلى ذلك ثانية. يبرز هنا، خطاب سقراط الذي جعل من نفسه ناطقا بلسان الكاهنة “ديوتيم”، ويتحدد الإيروس لديه كغياب لما ليس لنا. يحكي سقراط بين طيات حكاية أخرى اختلقها أفلاطون، عن ولادة إلاله إيروس Eros، ابن الحيلة (الوسيلة الأساسية لتحقيق الرغبة) ثم الافتقار (مادامت الرغبة حاجة وعوز). أخيرا، يبلغ الحوار أوجه من خلال الإيعاز بالارتقاء عبر حب أو عشق جسد معين، إلى حب مؤكد بشكل عام لأجسام وأرواح جميلة. ثم من هاته الأخيرة إلى تأمل المثال الأعلى للجمال. إنه المسار العام، للشبقية الأفلاطونية : كل الاندفاع نحو الجمال. والحب الشهواني في أفضل حالاته، يبقى عند درجة أولى، ثانوية دائما وبلا قيمة.

أما الذين يختزلون اللذة الجنسية إلى معنى ضيق، فأفلاطون لا يطرب كثيرا. لأنه يدين بشدة اللذة الجنسية، حينما تستهدف لذاتها في انفصال عن البعد العاشق. الملذات الجنسية، مثل ملذات الطاولة أو الخمر التي يقارنها بها، توفر فقط إشباعات رديئة وعابرة. إنها أكثر الملذات بشاعة، ما دمنا نستسلم لها سرا، “بحيث لا يمكننا الاستغناء عنها”.

بالنسبة لأفلاطون، يتعارض إذن الشبق الجنسي مع التجربة الميتافيزيقية ـ الشبقية للحب. وحينما يتعلق الأمر، بالتقعيد، فسيغدو أكثر راديكالية : ينبغي على اللذة الجنسية، البقاء في حدود الطبيعة. إن الزيجات، الشرعية بين حراس وحارسات المدينة، تتم خلسة جراء الاختلاط في المعاهد الرياضية نتيجة بناء على “ضرورة شهوانية” بهدف تحسين النسل. أخيرا، وبالرغم من كل التخمينات حول جنسيته المثلية، فأفلاطون يدينها بشدة في كتابه “الجمهورية”، وكذا قوانين أنثوية بقدر ذكوريتها. أخيرا، يشير، تعبير “حب أفلاطوني” كليا إلى حب طاهر ومثالي، تخلص من كل لذة جسدية.

[رولان بارت وماهية السروال]

لقد عشقتم كتبه ومقالاته، وتمتعتم بعذوبة صوته، حين يتحدث عبر المذياع، عن سبب تفضيله عند فريديريك شوبان، إيقاع مازوركا البولوني، أو يعارض باقتضاب الهايكو Haïku، طول الجمل البروستية. لقد ابتهجتم، وأنتم تقرؤون دراسته، حول رسوم موسوعة ديدرو وأليمبرت. كما تأثرتم بأقاويله، عن أمه وهو يدرس فن التصوير. ألم تدهشكم، أو تزعجكم الإشارات التي ترصع كتاباته، لمّا تخللتها تلميحات، عن ميله للذكور. رولان بارت، حين يتأمل جوهر الكتابة عند الرسام « Cy twombly »، يتساءل : ((أية ماهية للسروال (إذا كانت له واحدة) ؟، بالتأكيد، إنه ليس بهذا الشيء الجاهز، والمستقيم، مثلما نجده في تعليقة الملابس التي تعرضها المحلات الكبرى. بل بالأحرى، هو عبارة عن حزمة قماش، تدلت أرضا، وقد تراخت يد الفتى الذي يخلع ملابسه، بإنهاك وكسل ولا مبالاة)). أيضا، فيما يتعلق بصورة للفوتوغرافي الأمريكي mapplethorpe، أكد عن حق، بأن : ((المصور، عمل على تثبيت يد الصبي، من خلال أقصى انفتاحها، وزخم رخاوتها)). في نفس الدراسة، لاحظ مع صورة ل “نادار” « Nadar » بأن ((أحد تلامذة البحرية، وضع يده بكيفية تثير الاستغراب على فخد “برازا”))، شخصية محورية، تجلس بين : ((شابان زنجيان، يرتديان زيا بحريا)). يستحضر، بارت في كتابه :
[Roland Barthes par Roland Barthes] رجلا وامرأة، تصادف وجودهما داخل قطار، لكنه سيتأمل الزوج بعين شاذة : ((الفتاة الشقراء، ذات الأظافر المصبوغة بسخاء، وزوجها الشاب “بردفين محكمي الصنع، وعينين حلوتين” يمارسان الجنس عبر ثقوب الأزرار))، إذا تواردت كثيرا، مع عمل بارت النماذج المحيلة على الجنس “اللواطي”، فهي رغبة سعى، إلى أن يعيشها في إطار الأدب.

كذلك، هل حزنتم، حين علمكم وأنتم تقرؤون كتاب فيليب سولير « Femmes ». أن بارت، ومنذ وفاة أمه : ((بدأ يتورط شيئا فشيئا، في قضايا غلمانية))، وسمي منذئذ ب “مامي” mamie : ((اللقب الذي سيتداول سرا أثناء سهرات خاصة شيئا ما، ينظمها أصدقاؤه، كي يتيحوا له مناسبات للإغراء. لقد، اختزل بارت، إلى عملة صغيرة يومية لاسمه الشخصي، وإشعاع اللقب إلى كنية بئيسة. خيبة أمل، شبيهة بتلك التي سيشعرون بها، حينما تكتشفون بأن فاكهة بروست ، محارة صغيرة لحلوى، كانت في حقيقة الأمر مجرد كعك بالحليب.

ثلاث سنوات، بعد صدور كتاب “سولير” سنة 1986، ستتضمن صفحات « L’autre journal » رسالة، جاءت تحت عنوان :[Fragments pour H] بعث بها بارت سنة 1977، إلى “هريفي غيبير” فشكلت وازعا إضافيا للقلق حينما كتب : ((لم أبتغ قط “لساني على جسده، لكن فقط، أو بشكل ثان “شفتايا على يده”. الفارق أدبي (مادام يقوم على اللغة) ؟ لكني أعيش حسب الأدب، والصيغ التي تعلمتها منه)). ويتابع بارت : ((إن أثرا للأدب، ينتج عندما يغير هذا الأدب (اللغة المحكمة) شيئا ما في الواقع. تقززنا كلمات “لساني على جسده” هو القول قليلا، بأني : سأتخلى عن نفسي وأنسى جسدي)). يبدو، الأدب هنا، وقد غمرته جنسانية “مثيرة” إلى حد ما.

من لسان يلامس الجسد إلى الشفتين على اليد، نفس المسافة التي تفصل “الرغبة الثقيلة، أي البورنوغرافية” عن “الرغبة الخفيفة، الشبقية”، هذا اللسان “مرعب”، مثل ما يتواتر كثيرا في ملصقات الرسام “ريكيشو”. كتب بارت : ((الوجوه الفظيعة، الأشكال، ألسن الحيوانات، تتوارد عنده بكثافة : خنق تنفسي، تفسر ذلك إحدى النقدات. لا ، اللسان هو اللغة : ليس الكلام المدني، لأنه يمر عبر الأسنان (تلفظ أسناني، إشارة عن التمييز : تراقب الأسنان الكلام)، لكنها لغة الأحشاء، الانتصاب. اللسان، إنه العضو الذكوري من يتكلم)).

سنة 1987، بعد مرور عام على ظهور هاته الرسالة، التي أثارت نوعا من الاستهجان. سيصدر، ناشره عمل : [Incidents]، المتضمن لأشياء عاشها في المغرب وسمعها بين 1968 و 1969. يحكي بارت، بخصوص أحد معشوقيه : ((يتمدد في السيارة، كي يكشف عن مفاتنه، إنه مثل قطعة حلوى نادرة، آخر دليل قاطع : “هل تدري، شيئي لم يبتر !)). حين، نكتشف هذه الحوادث بعد وفاة بارت وكذا عزلته المرعبة فترة سنواته الأخيرة، سيدفعنا ذلك إلى أن “الجنون بدافع الشفقة”، مثل نيتشه الذي “ارتمى محتضنا عنق حصان، لأن الأخير عُذب بشدة”. ينبغي، أن نحب رولان بارت.

[هيدغر، والشابة اليهودية الجميلة]

بنظرته السوداء، التي قد تخل بتوازن راهبة، فإن “الثعلب” ـ كما كانت تسميه حنا أرنت ـ لا يمكن، أن يبقى معه جمهور النساء لا مباليا. في الجامعة، يسحر الفيلسوف الشاب مارتن هيدغر مستمعيه. لكن، ستكون له قبل كل شيء وبصفة دائمة إلفريد بيتري Elfride petri التي صارت زوجته وأم أولاده. هذه الآنسة، امرأة متحررة ومشهورة بعدائها للسامية، جلبت معها الحنان الأمومي والرعاية إلى منزل هيدغر أو “عزيزي الأسمر الصغير”، كما كانت تدعوه، ربما بسبب سواد ضفيرة شعره وكذا سحنته الباهتة قليلا.

الجميلة حنا أرنت ، طالبة لامعة تنحدر من أصل يهودي، ستقلب حياة الأستاذ. درست مادة الفلسفة ب ماربورغ Marburg من خريف 1924، إلى غاية 1926. آنذاك، بلغ هيدغر من العمر خمس وثلاثين سنة، ويشتغل على كتابه : الكائن والزمان. عمل، سيغير به أسس الميتافيزيقا الغربية. علينا تخيل لقاؤهما، وسط ذلك الحي الجامعي ب ماربورغ. أستاذ استثنائي، تكتسيه كاريزمية أسطورية، وحلقاته الدراسية التي أثثتها شروط مسرحية كاملة. باختصار، فكر تجلى بلغة ملتهبة، لذلك وقعت حنا أرنت في أسر من جسّد لها : “الملك السري للفكر”. تعود الرسالة الأولى للفيلسوف، إلى تاريخ 10 فبراير 1925. كل شيء، تم ببساطة وشفافية ونقاء. مع ذلك، أنهى هيدغر رسالته، وهو يعتذر بشكل ملح بعد “فترة غواية أثناء إحدى جولاتهما”. ظل، ما وقع لغزا كليا. بعد ذلك، لم يحدث أي اتصال بين حنا أرنت وهيدغر، طيلة الفترة الممتدة من 1933 إلى 1950. غادرت التلميذة، ألمانيا النازية، أما هيدغر فلم يزعجه قط تحت سيادة هذه السلطة، أن يرأس جامعة فرايبورغ سنة 1934. لكنهما، سيلتقيان ثانية يوم 7 فبراير 1950. على الرغم من بعض لامبالاة هيدغر حيال أعمال أرنت، فقد كانت الأخيرة فاعلا أدبيا لا يكل، وكذا الصوت الإعلامي والمنافح الصلب عن مارتن، المعترف به كأحد الفلاسفة النادرين خلال القرن العشرين. إبان سنوات 1960، سيدشن العاشقان السابقان، آخر حلقة لهما. تبادل فلسفي، من طبقة رفيعة. سنة 1969 ـ بلغ هيدغر سن الثمانين ـ نشرت صفحات مجلة « Merkur » ل حنا أرنت في حق : “أستاذها الذي تعلمت بجانبه، كيف تفكر”.

مع ذلك، نطرح التساؤل التالي : ألم يستسلم “العزيز الأسمر الصغير” لشهوته أمام طالبة يهودية جميلة، وهو ما تحظره عليه كاثوليكيته المنتمية إلى منطقة سواب Souab الألمانية.

[كانط : حتمية انتفاء الجنس، خارج الزواج]

نعم، لم يمارس الجنس. لقد حافظ حكيم كوينغسبرغ Konigsberg على طهره، وظلت حياته مضبوطة مثل ساعة توقيت في بروسيا الشرقية. مع ذلك، أوجد بطريقته تنظيرا معرفيا للمسألة الجنسية. الأساسي، بالنسبة لأطروحته ـ ألزمته التربية التقوية ـ أن حب الجنس، وضعته الطبيعة في الإنسان “توخيا للحفاظ على النوع” وليس بسبب اللذة التي تنتج عنه.

تبلور التصنيف الكانطي، في عمله : La métaphysique des mœurs (1798) تحت عنوان “مذهب القانون”، مميزا بين “المعاشرة الجنسية الطبيعية” ثم “ما هو ضد الطبيعة”. يمكن للإنسان، استعمال أعضائه الجنسية بطريقتين : سواء، بالامتثال إلى الحيوانية التي تسكنه، ويحدد كانط ذلك بمفاهيم لاتينية مثل : VAga libido / Venus Vulgivaga/ Fornicatio، أو بمعنى ثان : “لذة ضالة” “فينوس الهائمة”، تعبير ورد عند لوكريس، ثم “المضاجعة” وقد انتظمت حسب جانبها الإنساني، بحيث ستخضع للقانون وحيثياته، أي الزواج. باختصار، لا ممارسة جنسية إنسانية، خارج إطار الزواج، بل هو “ميثاق ضروري قياسا للقانون الإنساني” وكذا “قوانين العقل الخالص”.

عجبا ! يدين كانط، أنصاف المقاييس أو التعاقدات التي تتوخى الدعارة وتستبقي على الجنسانية عند اقتضائها البهيمي، لذلك توصف المعاشرة غير المشروعة ب “ميثاق الدناءة”. نبتهج، ونحن نتخيل كانط، يحتج على اتفاقيات الزنا.

لن يكون الجنس خارج إطار الزواج ، إلا امتداد في الزمان، وتكرارا ل “استئجار شخصية من أجل لحظة متعة”، إنه فقط تعديل لتعبير المدرسة اللاتينية “ميثاق المضاجعة”. كذلك، أليست المعاشرة اللاشرعية ، بمثابة بغاء متبادل، بحيث كل متعاقد يخدم الآخر، من أجل تحقيق متعته الجنسية، انطلاقا من اعتبار استثنائي لهذا الآخر كوسيلة وليس غاية، مما يتناقض مع الأخلاق الكانطية.

يعتقد كانط، بوجود الأسوأ : سياقات “ضد الطبيعة”، مرفوضة بقوة مثل معاشرة الحيوانات والجنسية المثلية بل والاستمناء “لأنها تتعارض كليا مع الطبيعة الإنسانية”. في عمله : [Propos de Pédagogie]، الذي صدر بعد موته، أوصى كانط بأن نبيّن للشخص الشاب، العادة السرية “في كل فظاعتها” ونخبره “بأنه سيكون غير جدير بإنجاب النوع” “ويتسبب لذاته في شيخوخة مبكرة، وكذا مساس دماغه بإصابات خطيرة”. هكذا، أدرج كتابه الآخر : [Métaphysique des mœurs]، الاستمناء، ضمن سلوكات لا يحترم معها الإنسان “واجبه اتجاه نفسه”. وهو حيوان يدمن الخمر وكذا الشراهة، مما يفسر تناوله المخدرات مثل الأفيون وكذا الانتحار. هذه الأفعال (غير الانتحار)، لا يمكنها أن تبعث حسب كانط إلا على التقزز.

إذن، يرفض كانط أخلاقيا، اختزال الحب إلى حب جنسي “بالمعنى الضيق جدات للكلمة” إذا لم يؤطره قانون الزواج.


[سارتر : المستمني ومطارِدته]

“لقد كنت بالأحرى مستمنيا بالنساء، أكثر مني مضاجعا” هكذا، اعترف سارتر في خريف عمره، تحت إلحاح أسئلة سيمون دوبوفوار في كتابها: La cérémonie des adieux. أرادت القنْدس (لقب بوفوار)، أن تعرف، لماذا، صديقها القديم : ((ميزه دائما، هذا البرود الجنسي، رغم عشقه الكبير للنساء)). يجيب، سارتر دون مواربة : ((لأني، كنت منكبا على الجنس بكياسة، أتخلى بسهولة. أمارس الجنس باستمرار لكن بغير رعشة كبيرة، فقط لذة صغيرة حين الانتهاء، بالتالي فالأمر، ضعيف جدا)). سيمون دوبوفوار، التي افتضّ بكارتها، سارتر (أو بولو Poulou، كما كانت تدعوه أمه)، ستكشف بكل صدق إلى عاشقها الأمريكي وقد أرضاها جنسيا، بأن : ((سارتر رجل متحمس، يتماهى مع كل شيء إلا السرير)) (رسائل إلى نيلسون ألغرن، ص 218). هكذا تتجلى قضيته الكبرى ـ أشار إلى ذلك في مفكرته يوم 28 فبراير 1940، محيلا إلى ملهمه ستاندال ـ في هذا الشعور الجميل بأن “يعشق ويكون معشوقا”. سارتر، دونجوان متلهف خاصة كي يغري أكثر من التلذذ، واقتسام اللذة مع طرف ثان متوخيا هنا، التعويض عن جسد غير جذاب كثيرا. صرّح، بأنه يفضل المداعبة عوض الإيلاج. تقول، فقرة صاخبة شيئا ما، عند نهاية عمله “الوجود والعدم” : ((فحش العضو الأنثوي، فحش كل ما هو فاغر. إنها دعوة، من جهة أخرى، كي يكون مثل جميع الثقب. المرأة في ذاتها، تستدعي جسدا غريبا، يجب أن تحوله إلى امتلاء الوجود بالاختراق والذوبان. بالتأكيد، الجنس فم شره يبتلع القضيب، لكنه قبل كل شيء حفرة”.

إذن، الثنائي النموذجي لشباب الستينات، لم يكن متناغما، ونعلم بأن الميثاق المشهور عن غراميات ضرورية وأخرى مفترضة، ترجمه تخلى سارتر وسيمون دوبوفوار، سنوات بعد ذلك عن كل ممارسة جنسية. يبقى، أنه بالنسبة لثلث الوقتي فأجزاء هذه الأطراف المترامية في الهواء على طريقة العمل الإبداعي « Liaisons dangereuses »، لا تشكل كلها مناطق شهوة.

تقوم شهادة للكاتبة والفيلسوفة الفرنسية « Bianca Lamblin » ـ تلقبها بوفوار ب ” Louise Védrine” ـ ، التي أفقدها سارتر عذريتها: ((لقد انزعجت، ولم أفهم سبب تخليه عن لطفه المعتاد. كان مثل من سعى إلى تعنيف شيء في داخلي (بل وداخله أيضا)، يحكمه تأثير قوة هدامة، وليس تلك الشهوة الطبيعية، التي تبيح إقامة علاقات جسدية سعيدة)) (مذكرات فتاة مضطربة). هل سارتر، سادي ؟ إلى حد ما بالتأكيد. فيلسوف الحرية، هذا كان على استعداد للتنازل عن كل شيء إلا ذاته لحظة اللذة.

[شوبنهاور : إعادة إنتاج النوع]

من خلال ملحق متصل، بكتابه الأساسي : [ le monde comme volonté et comme représentation]، تحت عنوان “ميتافيزيقا الحب الجنسي”، هاجم شوبنهاور الأوهام الرومانسية بناء على سؤال “لم يؤخذ بعد، بعين الاعتبار من طرف الفلاسفة”. تؤكد أطروحته، على أن الجنس عامة ولدى الإنسان خاصة، ليس بشيء آخر، غير تعبير عن القوة، التي تشكل في رأيه “إرادة الحياة”. لكن العالم ليس فقط إرادة، بل هو أيضا تمثل واع. هنا، يتعقد كل شيء : فالانسان، لا يرى الحقيقة كما هي. والشخص، يعيش وهما، عندما يظن بأنه يخدم مصالحه، لما يختار شريكا جنسيا. بالفعل، هذا الاختيار، تحدده بدقة معايير، ترتبط بإعادة إنتاج النوع. كل شغف إذن، ينهض في نهاية المطاف على وهم : ((يضفي بريقا لدى الفرد، بخصوص كل ماله قيمة على مستوى النوع)). لذلك، فجمال المرأة المشتهاة يضع حدا للهدف المنشود، وهو ليس في العمق إلا هدف نوع يبتغي البقاء والنمو. باختصار، تعتبر اختياراتنا الجنسية مجرد غريزة جنسية مقنّعة للنوع. النتيجة : الرجل، متعدد الزوجات لأنه

“بوسعه أن يلد في سنة واحدة أكثر من مائة طفل”. لذلك، فالزنا، طبيعي بالنسبة إليه. أما المرأة، التي لا يمكنها في نفس الفترة أن تلد غير طفل وحيد، فسترتبط كليا برجل وحيد، وحتما ستكون وفية له.


*باحث ومترجم من المغرب
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...