نقوس المهدي
كاتب
يؤكد الكاتب «الدكتور عزيز الحدادي» في كتابه «الفلاسفة والنساء» (دار المدى)، أنّ نصوص الفلاسفة العرب والمتصوفة والفقهاء والأدبيات الشعبية، قامت باقتحام لا وعي الإنسان العربي وأصبحت تشكل جزءاً ثميناً من تراثه،
تقيم معه في بيته وتخلصه من الكآبة، ولعلّ ما يجعل النصّ الشعبي محبوباً عند القراء هو استناده إلى القرآن والحديث النبوي في مدح قدسية ومشروعية الكلام في فن الحياة.
أمّا الفلاسفة فقد كانت حياتهم مع النساء مختفية وراء حجاب، فتجد سقراط يدعو إلى مشاعة النساء بين حرّاس الجمهورية من أجل تحقيق النظام والاستقرار لجمهوريته، إنه يحقق فوائد لا نظير لها للدولة بالدفاع عنها في الحرب، وإنجاب أطفال أقوياء وعباقرة، وبوساطة هذه الأفكار يتم إخضاع الدولة للنظام والانسجام والعدالة.
وغير بعيد عن المكر السقراطي، نجد قراءة أخرى لحبّ الحياة في كتاب سرّ الأسرار المنحول على أرسطو الذي هيمن بظلاله على الأدبيات التي تتعلق بفن الحياة والكتابات الطبية الجسمانية والروحانية وحفظ الصحة، لأنه نصّ شامل وجامع لهذه المعارف وغيرها، لغته تمزج بين الإغراء والخرافة. ولعل هذا ما منحه القدرة على النفاذ إلى نصوص فلاسفة الإسلام، وامتلاك حق الإقامة فيها، إلى درجة أنّ ابن سينا وابن عربي وابن رشد وابن خلدون كانوا من ضحاياه.
في رسالة بعث بها أفلاطون إلى فرفوريوس، تحمل عنوان «في حقيقة نفي الهمّ وإثبات الرؤيا»، يقول في مطلعها: «يجب أن تعلم أنّ كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء. فيجب أن نبين ما الهمّ وما الفم، وما سببهما، فالهم تقسّم الأفكار، والفم خطر كبير، وأمر عظيم، وهو ألم نفساني يعرض بفقد محبوب أو لقوت مطلوب». هكذا يتبين أنّ سبب الفمّ هو فقدان المحبوب، وإذا اعتبرنا أنّ هذا المحبوب امرأة عاشقة تتجاوز حدود الذات إلى ما بعد الذات، وكأنه يريد أن يقول إن فن الحياة مرتبط بالمرأة فقط، ومنفصل عن النفس، ذلك أنّ أفلاطون على لسان سقراط يعترف بأنّ الجسد يعتقل النفس، إنه بمنزلة سجن مخيف تلتهمه النار، ولذلك ينبغي على العاقل أن يطلب ما يسعده من دون ما يشقيه، ويحترز من سلوك طريق الشقاء والجهل، في هذا الأفق الأفلاطوني، حيث يصبح فن الحياة بوابة مفتوحة يدخلها الجهال فقط، باعتبارهم قد انغمسوا في الشهوات الحسية، إنه حافز على جمع الثروة والشراب والزينة واقتراف الظلم، والحقيقة إن أفلاطون يوجه نصيحته إلينا قائلاً: «ولا تضيع عمرك، فلن تجد لـه عوضاً، واقسمه على أربع ساعات، ساعة لوظائف علمية وعملية وساعة لتدبير معاشك وساعة للذتك ودعتك، ولا تتجاوزنّ إلى ظلم غيرك».
إنّ فلاسفة الإسلام قد استسلموا لوصايا المذهب المشائي الذي خلفه أرسطو، هذا العبقري اليوناني الذي منح الإنسانية هديته الثمينة في الفلسفة والأخلاق والسياسة، والبرهان العلمي الطبيعي، وقد كانت ظلاله تنتشر في عمق كينونة نصوص فلاسفة الإسلام، الذين أخلصوا لتعاليمه، باستثناء ابن سينا الذي كان متمرداً داخل المشائية الإسلامية، إلى درجة أنه أبدع فلسفته المشرقية، ما أغضب ابن رشد فانتقده بعنف في كتابه تفسير ما بعد الطبيعة، بل اتهمه بالانحراف عن مذهب المعلم الأوّل. إنّ مزاج الشيخ الرئيس، كان ثورياً عاشقاً للإبداع في الفلسفة وصناعة الطب ومتعة الحياة، لأنه لم يكن يقدس النصّ الأرسطي كما يقدس الرهبان النصّ المقدس، فقد ترك هذه المهمة للفارابي وابن رشد. فالجسد يفسد بكثرة الاستعمال والحركة، فكلما تقدم في الزمان، فقد حيويته وقوته إلى أن يتوقف نهائياً عن القدرة على الحياة، وتبدأ مرحلة الكآبة في خريف العمر، إنها مرحلة مشتركة بين الرجل والمرأة عندما ينتظرهما مذاق القدر. وممّا لا شك فيه أن شيخنا كان على وعي بعمق المأساة والشقاء اللذين ينتظرانه في شيخوخته، لذلك قام بإلغاء الشيخوخة من تفكيره، وتعمد عدم الانصياع للنصائح الدوغمائية، من أجل إنهاء الحياة بالحياة، في عنف عنفوانها، في قمة نشوتها وسرورها، فكلما ازداد متعة ونشوة، ازداد قدرة على الكتابة، ولم نعرف أحداً من الفلاسفة استطاع أن يؤلف كتاباً في ثلاثة أيام، إلا شيخنا. فمن أراد أن يعيش حياة سعيدة لا بد أن يكون سيناوياً، معتقداً بمذهبه في الحياة، مذهب البهجة والفرح والسرور، ولكنه لا يدوم إلا فصلاً واحداً يشبه فصل الربيع الذي يطهّر النفس من الأحزان ويحرك النشوة إلى الحياة.
وابن حزم الذي كان بارداً تجاه المرأة، وكأنه يصف الثلج مكتفياً ببياضه وبرودته، لم يتناول هيجانه وذوبانه، وتحوله إلى ماء جارف يجر كل ما يجد في طريقه، ولا يمكن أن ننتظر أكثر مما حمله كتاب طوق الحمامة عن المرأة، فصوّرها مجرّد عاشقة مثالية تلهم النفس، وكأننا أما كتابة تتمّ تحت الطلب، تشبه إلى حدّ ما ما وصفته طبيبة وهمية لمريض يتمتع بصحة جيدة، ومع ذلك يتوهم بأنه مريض بكل الأمراض التي يسمع عنها، فمن المستحيل أن يعرف الإنسان الحبّ من دون الخوض في غماره، والاستمتاع بتقلباته وآلامه الناعمة بل الاحتراق بناره.
كان ابن رشد عقلانياً محافظاً ينظر إلى النساء كأمر ثانوي، إنها دعوة للعدم، لكي يتحد مع المطلق فيقوما باغتيال السعادة والفرح في كلّ مفرط في الحياة، منتشٍ برحيق الوجود الذي لا ينضب، كذلك النهر الأبدي الذي جرف كل الأحباء، وتركنا نتعقب خطاهم، عسانا نصل ذات يوم إلى الإقامة في سرّ من أسرارهم. هكذا سنغلق باب الحوار مع هذا الفيلسوف البارد الذي يتكلم عن الجماع عند الإنسان كالجماع عند الحيوان، إذ لا فرق بينهما، في حين أن سعادة الروح التي يحركها حب الحياة لا يمكن أن تكون إلا عند الإنسان، باعتباره الكائن الوحيد الذي وهب الالتذاذ بالسعادة لأنها قيمة غاية في الشرف والجلالة. اختفى ابن رشد بشكل مفاجئ، وتركنا نتأمل اختزال مسار رجل عظيم في ليلة واحدة ملأى بحب الحياة، ثم إلى عنف الميتافيزيقا التي تقود عاشقها نحو الموت.
يعتقد الشيخ الأكبر في رسالة روح القدس أن الله قد بشره بالجنة، غير أنه لم يكن يدري هل تمسّه النار أم لا... هكذا يتحول تأويل الرؤيا إلى حقيقة قابلة للتصديق، وكان مفتوناً ببريق الجنة ومندهشاً بالجمال، لأنه كان شاعراً متجولاً تقتات روحه من فتنة المرأة والمكان، فالمرأة هي هيبة المكان ومصدر جماله وكشوفاته الروحية، فنساء إشبيلية يتمتعن بالحلاوة والظرافة، والمرأة من الجزيرة العربية تلقّت من الله ثلاث مواهب: الجمال والمعرفة والحكمة، ونساء فاس جمالهن فتنة تغري على ارتكاب المعصية، والشاميات المدهشات مصدر الفناء والخلود.
والواقع إننا بصدد شيخ ممتع، ومحيّر في مزاجه، ومع العلم بأنه يعترف بأن المحبّ مطالب بالتقلب والتحوّل والنسيان: «لأن من لم يذق متعة الحيرة ولذة التقلب لا قلب لـه، ومن لا قلب لـه لا يعول عليه». هكذا تكون الرغبة في التقلب والعمق الوجودي للنسيان، حين يصل إلى الإقامة في تلك الثنائية التي تجمع الموجود بالوجود، وتصبح الذات المطلقة كالوجود حين تلتهمه بشغف، كما تلتهم الجمال، لأنه كان يعتبر أنّ الجمال يأتي من الجنة ليحفز النفس على العمل الفاضل من أجل الدخول إليها ولو مستها النار.
ويكون اللقاء مع نساء جئن من الجنة يشبه من يأكل فاكهة من سوق الجنة. إن ابن عربي كان يقدس النساء ويعتبر جمالهن عبادة وزهداً وورعاً إلى حدود الفناء، لذلك فإن وحدة الوجود لا يمكن أن تتحقق إلا بقوة الجمال التي تتجلى في زهرة الحياة التي يستخرج بها الحقّ، لأن النساء الجميلات: «فتنة يستخرج الحقّ بهن ما خفي عنّا فينا مما هو به عالم، ولا نعلمه من نفوسنا». إنّ سرها يكمن في حفاظها على سيرورة الحياة في الطبيعة... إنها السر الخفي للوجود، بوساطته يتذكر الرجل نسيانه للوجود. إنّ فتنة المرأة متعددة تصيب القلب والروح، وتوقظ النفس من سباتها وتهبها الانسجام والليونة وتحررها من الغضب والطبيعة الشريرة، بل إنه سرّ حياة النفس وسعادتها على الرغم من أنها موجودة في كل نفس وفي كل زمان وحال من الأحوال. ونجد المرأة في الأفق الأكبر كزهرة تعبق بالرائحة والعطر وتحيل إلى الحياة في أعماقها. إنه برزخ يوحد بين الجمال في سوق الجنة، والجمال في سوق الأرض، لأن الجمال هو هبة من السماء إلى الأرض، من الجنة إلى الإنسان، من أجل أن يستخرج الحقّ الجوانب الخفية في عتمات الرجل. هكذا تصبح مقامات المرأة الزهرة الفاتنة هي نفسها مقامات الرجل، فكلاهما محتاج إلى موهبة المعرفة والحكمة، لينتقل من مقام الحيوانية إلى مقام الإنسانية.
إنّ الحوار مع ابن عربي ممتع، ولذلك سنتركه مفتوحاً بشكل أبدي يشبه أبديته، لأنه كان محظوظاً أكثر من ابن سينا وابن حزم وابن رشد، لذلك استطاع أن يترك للإنسانية تراثاً مرحاً يُدخل الفرح والسرور إلى قلب المحوط بعناية التقلب والذي يموت بموتها.
تقيم معه في بيته وتخلصه من الكآبة، ولعلّ ما يجعل النصّ الشعبي محبوباً عند القراء هو استناده إلى القرآن والحديث النبوي في مدح قدسية ومشروعية الكلام في فن الحياة.
أمّا الفلاسفة فقد كانت حياتهم مع النساء مختفية وراء حجاب، فتجد سقراط يدعو إلى مشاعة النساء بين حرّاس الجمهورية من أجل تحقيق النظام والاستقرار لجمهوريته، إنه يحقق فوائد لا نظير لها للدولة بالدفاع عنها في الحرب، وإنجاب أطفال أقوياء وعباقرة، وبوساطة هذه الأفكار يتم إخضاع الدولة للنظام والانسجام والعدالة.
وغير بعيد عن المكر السقراطي، نجد قراءة أخرى لحبّ الحياة في كتاب سرّ الأسرار المنحول على أرسطو الذي هيمن بظلاله على الأدبيات التي تتعلق بفن الحياة والكتابات الطبية الجسمانية والروحانية وحفظ الصحة، لأنه نصّ شامل وجامع لهذه المعارف وغيرها، لغته تمزج بين الإغراء والخرافة. ولعل هذا ما منحه القدرة على النفاذ إلى نصوص فلاسفة الإسلام، وامتلاك حق الإقامة فيها، إلى درجة أنّ ابن سينا وابن عربي وابن رشد وابن خلدون كانوا من ضحاياه.
في رسالة بعث بها أفلاطون إلى فرفوريوس، تحمل عنوان «في حقيقة نفي الهمّ وإثبات الرؤيا»، يقول في مطلعها: «يجب أن تعلم أنّ كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء. فيجب أن نبين ما الهمّ وما الفم، وما سببهما، فالهم تقسّم الأفكار، والفم خطر كبير، وأمر عظيم، وهو ألم نفساني يعرض بفقد محبوب أو لقوت مطلوب». هكذا يتبين أنّ سبب الفمّ هو فقدان المحبوب، وإذا اعتبرنا أنّ هذا المحبوب امرأة عاشقة تتجاوز حدود الذات إلى ما بعد الذات، وكأنه يريد أن يقول إن فن الحياة مرتبط بالمرأة فقط، ومنفصل عن النفس، ذلك أنّ أفلاطون على لسان سقراط يعترف بأنّ الجسد يعتقل النفس، إنه بمنزلة سجن مخيف تلتهمه النار، ولذلك ينبغي على العاقل أن يطلب ما يسعده من دون ما يشقيه، ويحترز من سلوك طريق الشقاء والجهل، في هذا الأفق الأفلاطوني، حيث يصبح فن الحياة بوابة مفتوحة يدخلها الجهال فقط، باعتبارهم قد انغمسوا في الشهوات الحسية، إنه حافز على جمع الثروة والشراب والزينة واقتراف الظلم، والحقيقة إن أفلاطون يوجه نصيحته إلينا قائلاً: «ولا تضيع عمرك، فلن تجد لـه عوضاً، واقسمه على أربع ساعات، ساعة لوظائف علمية وعملية وساعة لتدبير معاشك وساعة للذتك ودعتك، ولا تتجاوزنّ إلى ظلم غيرك».
إنّ فلاسفة الإسلام قد استسلموا لوصايا المذهب المشائي الذي خلفه أرسطو، هذا العبقري اليوناني الذي منح الإنسانية هديته الثمينة في الفلسفة والأخلاق والسياسة، والبرهان العلمي الطبيعي، وقد كانت ظلاله تنتشر في عمق كينونة نصوص فلاسفة الإسلام، الذين أخلصوا لتعاليمه، باستثناء ابن سينا الذي كان متمرداً داخل المشائية الإسلامية، إلى درجة أنه أبدع فلسفته المشرقية، ما أغضب ابن رشد فانتقده بعنف في كتابه تفسير ما بعد الطبيعة، بل اتهمه بالانحراف عن مذهب المعلم الأوّل. إنّ مزاج الشيخ الرئيس، كان ثورياً عاشقاً للإبداع في الفلسفة وصناعة الطب ومتعة الحياة، لأنه لم يكن يقدس النصّ الأرسطي كما يقدس الرهبان النصّ المقدس، فقد ترك هذه المهمة للفارابي وابن رشد. فالجسد يفسد بكثرة الاستعمال والحركة، فكلما تقدم في الزمان، فقد حيويته وقوته إلى أن يتوقف نهائياً عن القدرة على الحياة، وتبدأ مرحلة الكآبة في خريف العمر، إنها مرحلة مشتركة بين الرجل والمرأة عندما ينتظرهما مذاق القدر. وممّا لا شك فيه أن شيخنا كان على وعي بعمق المأساة والشقاء اللذين ينتظرانه في شيخوخته، لذلك قام بإلغاء الشيخوخة من تفكيره، وتعمد عدم الانصياع للنصائح الدوغمائية، من أجل إنهاء الحياة بالحياة، في عنف عنفوانها، في قمة نشوتها وسرورها، فكلما ازداد متعة ونشوة، ازداد قدرة على الكتابة، ولم نعرف أحداً من الفلاسفة استطاع أن يؤلف كتاباً في ثلاثة أيام، إلا شيخنا. فمن أراد أن يعيش حياة سعيدة لا بد أن يكون سيناوياً، معتقداً بمذهبه في الحياة، مذهب البهجة والفرح والسرور، ولكنه لا يدوم إلا فصلاً واحداً يشبه فصل الربيع الذي يطهّر النفس من الأحزان ويحرك النشوة إلى الحياة.
وابن حزم الذي كان بارداً تجاه المرأة، وكأنه يصف الثلج مكتفياً ببياضه وبرودته، لم يتناول هيجانه وذوبانه، وتحوله إلى ماء جارف يجر كل ما يجد في طريقه، ولا يمكن أن ننتظر أكثر مما حمله كتاب طوق الحمامة عن المرأة، فصوّرها مجرّد عاشقة مثالية تلهم النفس، وكأننا أما كتابة تتمّ تحت الطلب، تشبه إلى حدّ ما ما وصفته طبيبة وهمية لمريض يتمتع بصحة جيدة، ومع ذلك يتوهم بأنه مريض بكل الأمراض التي يسمع عنها، فمن المستحيل أن يعرف الإنسان الحبّ من دون الخوض في غماره، والاستمتاع بتقلباته وآلامه الناعمة بل الاحتراق بناره.
كان ابن رشد عقلانياً محافظاً ينظر إلى النساء كأمر ثانوي، إنها دعوة للعدم، لكي يتحد مع المطلق فيقوما باغتيال السعادة والفرح في كلّ مفرط في الحياة، منتشٍ برحيق الوجود الذي لا ينضب، كذلك النهر الأبدي الذي جرف كل الأحباء، وتركنا نتعقب خطاهم، عسانا نصل ذات يوم إلى الإقامة في سرّ من أسرارهم. هكذا سنغلق باب الحوار مع هذا الفيلسوف البارد الذي يتكلم عن الجماع عند الإنسان كالجماع عند الحيوان، إذ لا فرق بينهما، في حين أن سعادة الروح التي يحركها حب الحياة لا يمكن أن تكون إلا عند الإنسان، باعتباره الكائن الوحيد الذي وهب الالتذاذ بالسعادة لأنها قيمة غاية في الشرف والجلالة. اختفى ابن رشد بشكل مفاجئ، وتركنا نتأمل اختزال مسار رجل عظيم في ليلة واحدة ملأى بحب الحياة، ثم إلى عنف الميتافيزيقا التي تقود عاشقها نحو الموت.
يعتقد الشيخ الأكبر في رسالة روح القدس أن الله قد بشره بالجنة، غير أنه لم يكن يدري هل تمسّه النار أم لا... هكذا يتحول تأويل الرؤيا إلى حقيقة قابلة للتصديق، وكان مفتوناً ببريق الجنة ومندهشاً بالجمال، لأنه كان شاعراً متجولاً تقتات روحه من فتنة المرأة والمكان، فالمرأة هي هيبة المكان ومصدر جماله وكشوفاته الروحية، فنساء إشبيلية يتمتعن بالحلاوة والظرافة، والمرأة من الجزيرة العربية تلقّت من الله ثلاث مواهب: الجمال والمعرفة والحكمة، ونساء فاس جمالهن فتنة تغري على ارتكاب المعصية، والشاميات المدهشات مصدر الفناء والخلود.
والواقع إننا بصدد شيخ ممتع، ومحيّر في مزاجه، ومع العلم بأنه يعترف بأن المحبّ مطالب بالتقلب والتحوّل والنسيان: «لأن من لم يذق متعة الحيرة ولذة التقلب لا قلب لـه، ومن لا قلب لـه لا يعول عليه». هكذا تكون الرغبة في التقلب والعمق الوجودي للنسيان، حين يصل إلى الإقامة في تلك الثنائية التي تجمع الموجود بالوجود، وتصبح الذات المطلقة كالوجود حين تلتهمه بشغف، كما تلتهم الجمال، لأنه كان يعتبر أنّ الجمال يأتي من الجنة ليحفز النفس على العمل الفاضل من أجل الدخول إليها ولو مستها النار.
ويكون اللقاء مع نساء جئن من الجنة يشبه من يأكل فاكهة من سوق الجنة. إن ابن عربي كان يقدس النساء ويعتبر جمالهن عبادة وزهداً وورعاً إلى حدود الفناء، لذلك فإن وحدة الوجود لا يمكن أن تتحقق إلا بقوة الجمال التي تتجلى في زهرة الحياة التي يستخرج بها الحقّ، لأن النساء الجميلات: «فتنة يستخرج الحقّ بهن ما خفي عنّا فينا مما هو به عالم، ولا نعلمه من نفوسنا». إنّ سرها يكمن في حفاظها على سيرورة الحياة في الطبيعة... إنها السر الخفي للوجود، بوساطته يتذكر الرجل نسيانه للوجود. إنّ فتنة المرأة متعددة تصيب القلب والروح، وتوقظ النفس من سباتها وتهبها الانسجام والليونة وتحررها من الغضب والطبيعة الشريرة، بل إنه سرّ حياة النفس وسعادتها على الرغم من أنها موجودة في كل نفس وفي كل زمان وحال من الأحوال. ونجد المرأة في الأفق الأكبر كزهرة تعبق بالرائحة والعطر وتحيل إلى الحياة في أعماقها. إنه برزخ يوحد بين الجمال في سوق الجنة، والجمال في سوق الأرض، لأن الجمال هو هبة من السماء إلى الأرض، من الجنة إلى الإنسان، من أجل أن يستخرج الحقّ الجوانب الخفية في عتمات الرجل. هكذا تصبح مقامات المرأة الزهرة الفاتنة هي نفسها مقامات الرجل، فكلاهما محتاج إلى موهبة المعرفة والحكمة، لينتقل من مقام الحيوانية إلى مقام الإنسانية.
إنّ الحوار مع ابن عربي ممتع، ولذلك سنتركه مفتوحاً بشكل أبدي يشبه أبديته، لأنه كان محظوظاً أكثر من ابن سينا وابن حزم وابن رشد، لذلك استطاع أن يترك للإنسانية تراثاً مرحاً يُدخل الفرح والسرور إلى قلب المحوط بعناية التقلب والذي يموت بموتها.