لميعة عباس عمارة - المتنبي والحب

-1-
هو أبو الطّيّب المتنّبي، ليس له ولد اسمه الطّيّب، ولده الوحيد اسمه مُحسَّد.
لن أُعيد عليكم متى وأين وُلد، وعلى من درس، واًين رحل، كل هذا تجدونه في الكتب المدرسية. اليوم سأتكلم عن الحـب عند المتنبي… هل أحب المتنبي الحب الذي نعرفه؟
لا شـك أنه أعجب بالجمـال، واستمـلح المليح، وجعل من الغــزل ووصف المرأة مقدمـات لقصـائده وأكثـرها في المـدح الذي هو الغرض الأسـاسي. فما قيمة هذه المقدمـات الغزلية، غير استـهواء السامع العربي الذي يعشـق الغـزل. هل أحب المتنبي؟ شـاعر لا يحـب ليس بشـاعر. إلا المتنبي، شاعر العرب الأكبـر، وشـاعري المفضـل، وإن اختـلـفـنا في الحـب، نحن أسرى العاطفة، وهو طليق مع العـقل. كلما قرأته وجدته جديداً، وأحببته، وأعجبت به أكثر، وتاكّدت أكثر من أنه لم يتنازل لضعف العاشقـين، بل صنع الغزل والتشبيب صناعة متقنة.
المتنبي لم يكن عابئاً بالنساء، فهو لا يحتال لإرضائهن بالأناقة والنظـافة والتعطر ومعسـول الكلام، فتلك عِدًة الغزِليين، والمتنبي ظلَّ جافيا خشن الهيئة، إلى تكبّر وغرور. لم يكن منادماً أو نديماً تلذ مجالسـتـه، لأنه يدرك بعقله عقم الحديث الشـفهي، يُستأنس به في المجالس، ثم يذهب جُفاء، وقد يسـتـفـيد من أفكاره المنافسـون. هو يركز على الشعر وحده، لأن الشعر هو المحفوظ الخالد بقوافيه وأوزانه، ولو استفاد من معاني شعره سواه إذن لزمته جناية الســرّاق كما يقول هو. عقل المتنبي عقل الكومبيوتر المبرمج على الكلام الموزون المقفى، يجهد أن يغذيه بالفكرة الغريبة، والمعنى البعيد. لم يكن المتنبي على علو قدره بالشعر، شخصية محبوبة، بل كثر أعداؤه، بالإضافة إلى حاسديه. لم يستدعه الخليفة للمثول بين يديه وإن ذاع صيته كشاعر كبير، ولا مَن هم حول الخليفة، فما زيّنوا للخليفة أن يستقدم المتنبي، يعترف بذلك المتنبي في ردّه على من لامه لأنه لا يمدح الخلفاء والملوك، ولأول مرة يُشرك المتنبي نفسه مع بقية الشعراء وهم كثيرون الذين يحاولون الوصول إلى الخليفة أو الملك، إذ يقول: وأوقفوا لردِّنا الحُجّابا.
وربما كان هذا لسبب آخر في الخليفة نفسه، فالخلفاء في زمن المتنبي وما بعده ضعفاء، محكومون بالنفوذ الفارسي، ليس لهم من الخلافة العباسية إلا الاسم، وللحاكم الأجنبي كل السلطة، هو يعـزل خليفة وينصب وريثاً عباسياً آخر، فالخليفة منشغل بنفسه عن مديحٍ يعلم أنه لا يزيده قوة، ولا يعيد للخلافة هيبتها الضائعة، وأكثر الأقاليم مستقلة عن بغداد أو شبه مستقلة، وحكـامها أشد رغبة بالمديح، لأن هذا قد يزيدهم أهمية لكي يتـوسعـوا ويكونوا أقوى، وأكثر هيبة، لذلك انفتحت للشعراء أبواب الأمراء والحكام وتنافـسوا على استرضائهم. وإذا ذكرنا سيف الدولة ذكرنا المتنبي فمن يكون سيف الدولة إن لم يخلده المتنبي؟ مقدمات قصائد المديح هي كل غزل المتنبي وعلاقته بالمرأة. ومن هذا الغزل ما هو مبالغات كاريكتيرية. فمن أمثلة مبالغاته الغزلية:
بجسميَ من برته، فلو أصارت = وشاحي ثقبَ لؤلؤةٍ لجالا
أي أفدي بجسمي ـ والناس تقول أفدي بنفسي وبروحي ـ الحبيبةَ التي جعلت هذا الجسم ضعيفاً هزيلأ لو دخل في ثقب لؤلؤة لكان الثقب أوسع منه فهو يجول في اللؤلؤة كما يجول الجسم في الرداء الواسع. ويقول في القصيدة نفسها:
ولولا أنني من غير نومٍ = لكنت أظنني منّي خيالا
أما أكثر أوصافه للمرأه فهي أوصاف سبق المتنبي إليها مثـل هذه التشبيهات المألوفة:
بدت قمراً ومالت خوطَ بانٍ = وفاحت عنبرأ ورنت غزالا
ومن صناعته غير الموفقة قوله:
إذا عذلوا فيها، أجَبت بأنّهُ = حُبَيِّبتي، قلبي، فؤادي، هوى جُملُ
ومن تعسفه في خلـق الصورة الغـزليـة بحيـث تجيء مشوهة من ناحيـه اللغة أو التركيب قوله في الغزل:
وجارت في الحكومة ثم أبدت = لنا من حسن قامتها اعتدالاً
وجارت أي ظلمت. استعمل الحكومة بدل الحكم، واعتدالاً بدل (عدلاً) وواضح إنه وضعهمـا بقصد المطابقـة بيـن المتضادين الظلم (جارت) والعدل و(ثم) ثقيلة هنا وأبطأت فكأن الأحداث قد حدثت بتسلسل زمني. ولو قال:
وجارت في حكومتها وأبدت = لنا من حسن قامتها اعتدالا
لاستغنينا عن هذه الـ(ثم) أو: وجارت في تحكّمها وأبدت
وفي رأيي أنه من حسن حظ الشاعرين أن يكونا في زمن واحد ليتنافسا في الجودة.


يتبع


أديبة عراقية ـ كاليفورنيا
لميعة عباس عمارة
.
 
2
وفي مطلع قصيدة المتنبي التي يعارض فيها نونية جرير المشهورة التي منها:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرّ = قتلننا، ثم لم يُحييـــــن قتلانا
يا أمِّ عمرٍ جزاك اللهُ مغفــــــرةً = رُدّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
جرير الذي اشتهر بالهجاء، فاق المتنبي في صناعة الغزل هنا وقصيـدته من عيون الشعر العربي وهي أيضأ مقدمة لغرض آخر، يقول المتنبي في المعارضة:
قد علّمَ البينُ منًا البينَ أجفانا تدمى = وألّفَ في ذا القلب أحزانا
وأبيـات المتنبي التي تلي هذا البيت لا تتحسن كثيراً عنه، والقصيـدتان تصلحان موضوعأ للمقارنة لمن شاء. وللتذكير إنّ جريراً هو سابق على المتنبي زمناً، فكان من الأجدر بالمتأخِّر وهو المتنبي أن يشحذ براعته ليتجاوز جريراً وهو يعارض قصيدة مشهورة من قصائده. ومثال آخر على تمحكه في صناعة الغزل بحيث يرتكب خطأ في المعنى بالإضافة إلى اللغة قوله:
قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ وتنهدتْ، فأجبتُها: المتنهـّدُ
لا يَسأل أيُّ إنسان مهما كان جاهلاً باللغة:- من بك؟ بدلاً من: ما بك؟ (اشبيك؟) بالإضافة إلى أنّ سؤالا كهذا هو غير لائق.
كل هذا يتكلّفه المتنبي ليصل إلى الزبدة التي هي في الحقيقه زَبَد وليست زبدة: حينما تنهدت وهي تسأله من به، قال لها المتنهدة… أي أنت… يا لهذه الركاكة معنى وتركيبا إذا قيست بقول أبي فراس وهو مجايل المتنبي (أي من جيله) الذي يقول في رائيته التي هي نموذج للقصيدة العربية المتكاملة، يقول أبو فراس في المعنى ذاته:
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلتُ معاذ الله بل أنت لا الدهر
والمقارنة بين مقدمة قصيدة المتنبي:
اليومَ عهدُكمُ فأين الموعدُ = هيهات ليس ليوم عهدكم غدُ
وبين مقدمة قصيدة أبي فراس:
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبرُ = أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ
مقارنة تصلح بحثاً كاملاً… كلاهما تعمّد الغزل كمقدمة، ولأن أبا فراس إنسان مترف محب له خبرة صادقة وقدرة فائقة في الحب، جاءت قصيدته من ذاتها، أما المقدمة الغزليـة لقصيـدة المتنبي فكلها مفتعـل لا ينبض في بيت من أبياتها شعور حقيقي بالحب، إضافة إلى ركاكة الصنعة فيها، يقول المتنبي:
اليوم عهدُكم، فأين الموعدُ؟ = هيهيات ليس ليوم عهدكم غدُ
الموت أقرب مخلباً من بينكم = والعيش أبعد منكم، لا تبعدوا
إن التي سفكت دمي بجفونها = لم تدر أنً دمي الذي تتقلدُ
أي هو (ذنبٌ برقبتها) وقد يكون عقدها أحمر اللون (يفترض أنها كانت تلبس عقداً أحمر)
قالت وقد رأت اصفراري: مَن به؟ = وتنهدت فأجبتها: المتنهِّدُ
فمضت وقد صبغ الحياءُ بياضَها = لوني كما صبغ اللُّـجينَ العسجدُ
أي أن الحياء صبغ لونها الأبيض من لوني الأصفر كما يصبغ الذهبُ الفضةَ. وطبعاً كلنا نعرف أن لون الحياء هو الوردي المحمر لا الأصفر.
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى = متأوّداً غصنٌ به يتأودُ
عدويةٌ بدويةٌ من دونها = سلبُ النفوس ونارُ حرب توقد
وهواجلٌ، وصواهلٌ ،= وذوابلٌ، وتوعدٌ، وتهدد
أبلت مودتنا الليالي عندها= ومشى عليها الدهر وهو مقيّد
برّحتَ يا مرض الجفون بممرض مرض الطبيب له وعيد العوّدُ
ثم ينتقل فجأة إلى المدح. القصيدة من سيئ شعر المتنبي. فالمقارنة هنا بين قصيـدة هي أسوأ شعر المتنبي وقصيـدة أخرى هي أجمل شعر أبي فراس ليس عدلاً، قصيـدة أبي فراس لوحة ملونة من علم النفس، وتحليل لشخصية المرأة، وسلوك الفارس المهذب العارف كيف يعامل المرأة بفن يزيده شموخاً، واسمحوا لي أن أعيد هذه القصيدة على أسماعكم لا بصوت أم كلثوم لتطربوا بل ببيانها لتعجبوا: يبدأ أبو فراس بحوار مع نفسه…
أراك عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ = أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟
فيعترف لنفسه:
نعم (أو بلى) أنا مشتاقٌ وعندي لوعةٌ = ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ
أما متى يُذاع سرُّ هذا الضعف حتى البكاء؟
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى = وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكِبر
تكادُ تُضيءُ النارُ بين جوانحي = إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وهذه أجمل تكاد، لا أقول بعد، = بل مثل قول أبي صخر الهذلي:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها= وينبت في أطرافها الورق النضر
هذا العشق الذي أذل الدموع المتكبرة من أجل امرأة لا وفاء لها، تَعِدُ وتؤجل كل مرة موعد اللقاء بلا انتهاء حتى اليأس:
معللتي بالوصل، والموت دونه = إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر
وحين يُحسب الوفاء ـ هذه الخصلة الحميدة ـ من الفضائل كقاعدة، إلا أن الوفاء لمن لا يستحق من الخطأ أن يحسب ضمن الفضائل.
وفيتُ، وفي بعض الوفاء مذلَّـةٌ = لآنسةٍ في الحيِّ شيمتُها الغدرُ
هذه الآنسة التي ماعرفت الوفاء، ولكنها عرفت وتعرف أبا فراس الشاعر، الأمير، الجميل، الأنيق ، ابن عم سيف الدولة، لدلال في طبعها تتجاهله:
تسائلني: من أنتَ؟ وهي عليمةٌ = وهل لفتىً مثلي على حاله نُكرُ؟!
وأبو فراس يدرك أعماق نفسية المرأة وغنجها وهي تموه وتتجاهل استفزازاً وتحدياً وإثارة، فيجيبها على قدر تمثيلها:
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى: قتيلك. قالت: أيهم؟ فهمو كثر
هنا تثور كرامة الفارس، ويتصاعد الحوار حدة، فبعد أن قدم لها نفَسه ليرضي غرورها: أنا قتيلك، وظن أنها ستكتفي بهذا الجواب تمادت في تجاهلها وغرورها وسألت: من من قتلاي أنت، فهم كثيـرون؟ عند ذلك يلوح لها بالقوة والقسوة التي تستحقها:
فقلتُ لها: لو شئتِ لم تتعنَّتي ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
هنا تتراجع الأنوثة من سطوة التعنت إلى الدلال المتخاذل الذي يتلمس عذراً لإرجاع المياه إلى نهر الحب.
فقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا
ادعت أن حوادث الزمان هي التي غيَّرته إلى الحد الذي لم تعرفه فيه. وحافظت على موقعها في كلمة (بعدنا)… بهذه الكلمة (بعدنا) اعترفت بعلاقتها السابقة به، وحصرت التغير في شكله لبعدها عنه، بقية من الغرور بعد في اعترافها المتذلل لمسه الشاعر وأحسه وأراد أن يؤكده لها بردِّه:
فقلت معاذ الله… بل أنتِ، (التي أزريتِ بنا) لا الدهر.
هكذا شدٌّ وإرخاء، شد الضعيف وإرخاء المقتدر، حوار إن لم يكن قد جرى حقيقة فهو أبلغ من الحقيقة، وإن كان كله صناعة فهي صناعة أثبت من الواقع، وأصدق من التجربة الفعلية، ثم هي لوحة خالدة من الأدب الرفيع. جَـلـَدْنا والله المتنبي، فكيـف أوفّق بين قولي هو شاعـري المفضل وبين هذه القسوة عليه؟ إلا بكوننا نقسو على من نحب أكثر، لأننا نحبهم أكثر.
المتنبي العربي هو شكسبير الإنكليز حتى لو قارنا شعره بشعراء آخرين، وفضلنا عليه في موضوع ما شاعراً… ولكنه بالجملة يبقى المتنبي الأوحد، وشكسبير الأوحد، وهذا ما يؤلم قوماً كالفرنسيين والروس والألمان، ففي أي من هذه الشعوب عباقرة في الأدب والشعر يعلون على شكسبير في أغراض كثيرة، ولكن أحداً منهم لم يكن شكسبيراً. فإذا قارنت المتنبي بجميل بثينة أو المجنون وكُثيّر عزّة في قصائد الغزل رجحت كفتهم على المتنبي، ولكنهم ليسوا المتنبي، ويبقى المتنبي واحداً بالنسبة للشعراء قبله والشعراء بعده، وقد أصاب من دون مبالغة حين قال:
ما نال أهلُ الجاهليةِ كلُهم شعري، ولا سمعتْ بسحريَ بابلُ
فبمراجعة دواوين شعراء الجاهلية وقراءتها قراءة جديدة تعتمد على المراس والنضج والوعي، لم أجد في الدواوين مختـاراً غير القطع التي اختارها لنا أساتذة الأدب وواضعو المناهج الدراسية، لأنهم لم يكونوا أقل منا ذوقاً، ووعياً، ونضجاً، حين اختاروا تلك القصائد، ولم أجد في بقية الديوان ما يفوق أو يوازي هذه المختارات التي حفظناها في المدرسة. المتنبي تفوَّق بكثرة ما نختار منه، وقد يكون أحياناً ثانياً مقارنة مع الشعراء في معنى مشترك. حين نتصفح ديوان المتنبي من أوله إلى آخره نقرأ قبل كل قصيدة هذه العبـارة: وقال يمدح… تبدأ القصيدة على الأكثر بمقدمة غزلية يعتـرف المتنبي نفسه أنها مفروضة على الشعراء حين يقول:
إذا كان (مدحٌ) فالنسيبُ المقدمُ أكلُّ فصيحٍ قال شعراً متيَّمُ؟
لم يقل إذا كان (شعر) فالنسيب المقدم، وكأنه يعتبر كل الشعر هو المديح والمدح هو كل الشعر.

يتبع غدا
 
3/6
وإذا كان أبو نؤاس ـ وهو سابق للمتنبي ـ قد ثار على هذه المقدمة واستبدل المرأة بالخمرة، فذاك لا يلائم خلـق المتنبي، لأنه لا يشرب الخمرة، وقد شربها مرةً مكرهاً تحت ضغط المجاملة.
فالغزل عند المتنبي مقدمات، والمدح هو كل شعره، ولو أنني اكتفيت بهذا التحليل لظلمـت نفسي وأعلنت جهلي، ولكنني كلما تعمقت في قراءة المتنبي أدركت أنه استخدم المدح ولم يتقيد به. قصائد مدح المتنبي هي كل شعره، وليس شعر المتنبي كله مدحاً. فالمدح مناسبة لبيان براعته في كل الأغراض، ومعرض لبلاغته لا أكثر. وقد قرأنا آراء لبعض الأدباء، أو مدعي الأدب والسياسة هي أن شعر المتنبي لا يستحق التقدير، إذ كله مديح وتزلف ابتغاء الحصول على المال… إلى غير ذلك من الآراء الساذجة التي لا نناقشها الآن.
قصائد المتنبي في المدح تعقد في ذهني مقارنة بينها وبين روايات أوسكار وايلد، فأوسكار وايلد يختار هيكلاً مشوقاً لقصصه تستطيع أن تختصر أحداثه بسطور، ولكن كل ما في الرواية يلخص آراء أوسكار وايلد وسخريته من المجتمع الإنكليزي، ونظرته للناس والأشياء، كل هذا يبرزه أثناء الحوار على لسان شخوص الرواية.
المتنبي يمدح. وهذا هيكل القصيدة المختصر، وهذا المدح هو الوعاء الذي يسكب فيه المتنبي آراءه وفلسفته وثقافته وقدرته اللغوية، وبالاختصار كل عبقريته، وعلى القارئ أن يتلمس مكامن الجوهر والحكمة، فكل القصائد هي المتنبي ولم يكن للممدوح دور فيها.
وكيف نحاكم المتنبي الآن لأنه كان يمدح الوجهاء والأمراء في عصر وسيلة الشاعر الوحيدة فيه إلى استخدام الموهبة هي المديح، ومنه تنطلق الشهرة ومنه يجيء المال؟
لا يجوز أن نحكم الآن على المتنبي بحجة أن عمر بن أبي ربيعة لم يمدح… وشعراء آخرون يعدون على الأصابع لم يمدحوا… هؤلاء الشعراء هم الشذوذ في قاعدة ذاك الزمان. ولكل عصر قواعده وضروراته، وفيه الأغنياء وأصحاب النفوذ يطلبون المدح والشاعر إن لم يُسمع يموت مختنقاً من الصمت.
العربي يحب أن يُمدح، والرجل أكثر رغبة من المرأة في هذا المدح وإن ظنَّ العكس… وكل كتب الشعر والتاريخ تؤيد ما أقول، ومادة المدح سهلة تختصر بكلمتين… الشجاعة والكرم، وكل من مدحهم المتنبي تقريباً لا يخرجون عن هاتين الصفتين، فأي واحد منهم هو: أشجع الناس وأكرم الناس، حتى لم يترك معنى لاسم التفضيل، ولا واحد منهم يعترض على المتنبي ليقول له: أما قلت عن غيري أنه أشجع الخلق وأكرم الناس؟ لم يعترض أحد الممدوحين وكأنهم كلهم يعرفون أن القضية متفق عليها… وأن ما يقوله المتنبي فيهم يستحق الجوائز السنية. هذا نظام العصر وسنته، بل هو نظام كل عصر، يتملق الناس أفراداً في موضع السلطة والقوة، كلٌّ بطريقته، إلا أنَّ من يُقبِّل يد الحاكم لا تكتب عليه خطيئة، كما تكتب على الشاعر.
من أين أجمع غزل المتنبي؟
طبعاً من مقدمات القصائد… هذه المقدمات الغزلية المهيأة أحياناً قبل التوجه لممدوح بعينه، هي أسس جاهزة تنتظر البناء عليها، أحياناً يتخلص المتنبي منها بما يسمونه (حسن التخلص) وهو الانتقال من الغزل والنسيب إلى المدح، وأحياناً يقفز المتنبي بلا جسر إلى المدح… لا فرق، فالعرب تحب أن تفتح شهيتها بالحب، وينجذبون للنسيب، وكلهم عشاق، يسكنهم العشق، وليس شرطاً أن يكون المحبوب موجوداً، فأحياناً كثيرة هو عشق للعشق، وحب لا يعرف لمن، لذلك بدأ الشعراء ومنهم المتنبي بالحب، ووصف المرأة التي هي أجمل ما خلق الله.
من مقدمات قصائد المدح نلملم رأي المتنبي بالحب وبالمرأة، وأحياناً نُحس وهجاً من العاطفة، ولا غرو فالشاعر من أرق الناس مشاعر، ومن كل ما قرأت من هذه الغزليات طلعت بأن المتنبي لم يحب، وساعدني المتنبي نفسه لتقدير ذلك… وبيَّن بصراحة موقفه من الحب، والاعتراف سيد الأدلة. يقول أفلاطون: «الحب حركة النفس الفارغة»، والمتنبي معجب بفلسفة اليونان. يقول المتنبي نفسُه عن نفسه:
وما العشقُ إلا غُرَّةٌ وطماعةٌ يُعرِّضُ قلبٌ نفسَه فيصابُ
وقبلها:
وللسرِّ منِّي موضعٌ لا يناله = نديم ولا يُفضي إليه شرابُ
وللخَود مني ساعة ثم بيننا = فلاةٌ إلى غير اللقاء تجــاب
والخود المرأة الجميلة وقد تكون إحدى الجواري مما يهدى له. وله:
تروق بني الدنيا عجائبها، ولي فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرى
أي أن قلبه يميل إلى السيوف (بيض الهند) لا إلى النساء (البيض)
وقوله:
ما دمتَ من أربِ الحسانِ فإنما = رَوقُ الشباب عليك ظلٌّ زائلُ
وقوله:
يا عاذلَ العـاشقيـن، دع فئة =أضلّها اللهُ كيـف تُرشــــــدها
بئس الليالي سهِدت من طرب = شوقاً إلى من يبيت يرقـــدها
وقوله:
مما أضرَّ بأهل العشـــق أنهم = هووا، وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
تفتى عيونُهم دمعاً وأنفسُهم = في إثرِ كلً قبيحٍ وجهُهُ حَسنُ
وقوله:
تحمّلوا! حملتكم كلُّ ناجيةٍ = فكلُّ بَينٍ علَّي اليوم مؤتمَن
ما في هوادجكم من مهجتي = عوض إن متُّ شوقاً ولا فيها (له) ثمن
وأظنها (لها) تعود على مهجتي. يعني بالفصيح: امشوا، الله لا يردكم، ليس في هوادجكم من تستحق أن أموت من أجلها. وقوله عن الدنيا:
بقلبي وإن لم أروَ منها ملالةٌ = وبي عن غوانيها وإن وصلت صدُّ
وقوله:
لولا العلى لم تَجُنب بي ما أجوب بها = وجناءُ حرفٌ ولا جرداءُ قيدود
وكان أطيبَ من سيفي معانقة = أشباهُ رونقه الغيدُ الأماليدُ
لم يتركِ الدهرُ من قلبي لا كبدي = شيئاً تتيّمُهُ عَينٌ ولا جيد
أصخرةٌ أنا؟ مالي لا تُحرِّكُني = هذي المدام ولا هذي الأغاريد
هذا هو عقل المتنبي الطموح للمجد والغِنَى والشهرة والخلود، ومعرفته حقيقة العبقرية التي وهبها الله، واستخدامه لهذه العبقرية إلى أقصى حدودها، كل ذلك يجعله جاداً في تنفيذ مقاصده، لا يلهيه شراب أو حب يستهلك عقله بالتأوه والحسرة وأحلام اليقظة، عارفاً مترفعاً على زمانه وعلى مَن في زمانه، يشق طريقه في السحاب إلى المستقبل اللامحدود، وبهذا تفوّق. كان بإمكانه أن يكون نديماً يجوّد السمرَ في مجالس الخاصة ولم يفعل، وكان بإمكانه أن يكون عاشقاً يتفوق على كل العاشقين بالغزل ولم يفعل.
لا تقل لي إنه كان قبيح الشكل، فأنا لا أريد أن أضع نظرية خاطئة أجعل فيها من قبح المتنبي أساساً لتعامل المرأة معه، أو إعراضها عنه، هذه النظرية خطأ كبير، لأن مغريات المرأة في الرجل تعتمد على القوة، وقوة الرجل في شخصيته لا في شكله، قوته في المال، في الزعامة السياسية، في العبقرية وفي الذكاء الواضح في العلماء والشعراء، والشعر من أكثر المغريات جذباً للمرأة، أجمل النساء يلتففن حول بشار بن برد، وأجمل النساء ضعيفة أمام قصيدة غزل من شاعر كبير، إن لم تحبه فإنها تتجاوب معه بقدر افتخارها بالقصيدة. لو أراد المتنبي أن يكون معشوقاً لما أعوزته الوسيلة على قبحه، وشدة اقتصاده، وخشونة الكبرياء فيه، وللكبرياء ملمس خشن.



* كاليفورنيا
لميعة عباس عمارة
 
4
رجل مثل المتنبي لو كان للمرأة سلطان عليه لترك في كل مدينة زوجة وأطفالاً، على عادة التجار المتجولين، فأين نساء المتنبي؟ بل أين أم محسّد المرأة الوحيدة التي تزوجها، ما شكلها؟ هل أحبها قبل الزواج؟ من أي بلدة هي؟ وهي هذه المرأة (الحلال) في حياة المتنبي الذي جانب الخطايا على حد قول علي بن حمزة: (بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة وذلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط). طموح المتنبي للوصول بالشعر قمةً لم ولن يصلها غيره جعله متفرغاً للشعر وحده لا لهو ولا تضييع وقت سعياً وراء النساء. وثمة شيء آخر منع المتنبي من اللهو غير الطموح الكبير، ذلك هو أخلاق المتنبي، ومُثلُه الفلسفية وقيمهِ المثالية ونجدها في قوله:
عواذل ذاتٍ الخال فيَّ حواسدُ وإنَّ ضجيعَ الخَودِ منّي لماجدُ
يردُّ يدأ عن ثوبها وهو قادرٌ ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
حتى وهو نائم لا يحلم بما ليس يأتيه مستيقظاً، أي أن عقله مبرمج على العفاف، كما هو مبرمج على الشعر، يقول:
متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى مُحبٌّ لها في قربــه متباعدُ
إذا كنت تخشى العار في كلّ خلوةٍ فلِم تتصباك الحسانُ الخرائد؟
وفي القصيدة بيته المأثور:
مررت على دار الحبيب فحمحمت جوادي، وهل تشجي الجيادَ المعاهدُ
وهو الذي يقول:
وليس حياءُ الوجهِ في الذئب شيمةٌ ولكنه من شيمة الأسد الوَردِ
وقوله:
إني على شغفيِ بما في خُمرِها لأعِفُّ عمًا فــي سـرابيلاتها
وترى المروءةَ والفتوة والأبوةَ فـي كلُّ مليحةٍ ضرّاتها
هنَّ الثلاثُ المانعاتي لذاتي فـي خلوتي، لا الخوف من تبعتها
كلُ امرأة مليحة ترى المروءة والفتوة والأبوة فيّ كأنهن ضرّات لها يزاحمنها علي، ويبعدنها عني. ويقول المتنبي:
وأشنبِ معسول الثنيات واضحٍ سترتُ فمي عنه فقبّل مفرقي
وأجيادِ غزلانٍ كجيدكِ زرنني فلم أتبين عاطلاً عن مطوق
وما كلُّ من يهوى يعفُّ إذا خلا عفافي ويُرضي الحُبَّ والخيلُ تلتقي
سقى الله أيام الصبا ما يسرُّها ويفعلُ فعلَ البابلي المعتق
إذا ما لبستَ الدهر مستمتعاً به تخرّقتَ والملبوس لم يتخرق
وقوله:
لنا مذهبُ العبّادِ في ترك غيره وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد
وقوله:
وقد استفدتُ من الهوى وأذقتهُ من عفّتي ما ذقتُ من بلباله
وقوله:
كم حبيب لاعذر للوم فيه لك فيه من التقى لَوّامُ
رفعت قدرَك النزاهةُ عنه وثنت قلبك المساعي الجسام
واضحة حياة المتنبي وسيرته بقدر غموض ماضيه المتعلق بأصله ونسبه وانتمائه، لقد شطب كل شيء خلفه وبدأ من الحاضر صعوداً إلى المستقبل عن طريق الشعر وحده.
تعجب به وإن لم يكن في القصيدة (أو المقطع من القصيدة) ما يلائم مشاعرك وتجربتك الخاصة، الفن وحده في شعره هو الذي يفرض علينا الإعجاب به، وإلا فما علاقتنا بشِعب بوّان… لماذا نحب هذه القصيدة؟ ما يعجبنا في وصفه الملاريا، لماذا نعجب بوصفه الحمى؟ ما علاقتنا بجدته لماذا نردد رثاءه لها بتأثير؟ ما علاقتنا بالأسد وما رأيناه إلا في حديقة الحيوان؟ ما علاقتنا بالقاضي الخصيبي قاضي أنطاكية ونحن نتعوذ بالله من الحاكم والحكيم، ولكننا نحب ونعجب بقاضي أنطاكية الذي يقول فيه المتنبي:
قاضٍ إذا التبس الأمران، عَنَّ له رأيٌ يخلّص بين الماء واللبن
غضّ الشباب، بعيدٌ فجرُ ليلته مُجانبِ العينِ للفحشاء، والوسن
شرابُهُ النشحُ، لا للرِيّ يطلبه وطُعمُه، لقوام الجسم لا السمَن
القائلُ الصدق، فيه ما يضرُّ به والواحد الحالتين: السرِّ والعلنِ
الفاصلُ الحكم عيَّ الأولون به والمظهرُ الحقَ للساهي على الذهن
أفعالهُ نسبٌ لو لم يقل معها جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
لقد أحببنا هذا القاضي وأحببنا ما قاله المتنبي فيه فقد فرض علينا الحب فرضاً بقوة البيان.

ـ كاليفورنيا
لميعة عباس عمارة


.
 
5
كل ما قاله المتنبي رائع سواء مسَّ وترأ حساساً من عواطفنا أو كان بعيداً لا علاقة لنا به، ذاك لأن الرجل قادر على وضع المعاني في كلمات بانسجام معجز كما ينزّل الصائغ الماهر الجواهر على الذهب، ولذلك كان المتنبي الشاعر الأكثر أهمية في تاريخ الشعر العربي كله.
لو جمعنا كل مقدمات المتنبي الغزلية لخرجنا بديوان، وقد نسميه ديوان الشاعر العاشق، ولو لمِ يكن عنده غير هذه القطع لكفت.
ومنها:
أرقٌ على أرقٍ، ومثليَ يأرقُ وجوىً يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
جُهدُ الصبابة أن تكون كما أُرى عينٌ مُسهَّدةٌ… وقلب ٌيخفق
ما لاح برقٌ… أو ترنَّم طائرٌ إلا أنثنيتُ ولي فؤادٌ شيِّق
وعذلتُ أهلَ العشق حتى ذقتُهُ فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وعذرتُهم ، وعرفت ذنبي أنني عيَّرتُهم… فلقيتُ منه ما لقوا

وقوله:
فليت هوى الأحبة كان عدلاً فحمَّلَ كلَّ قلب ما أطاقا

وقوله:
لعينيكِ ما يلقى الفؤادُ وما لقيِ وللحبِّ ما لم يبق منيِ وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشقُ قلبِه ولكنّ من يُبصر جفونك يعشقِ

وهو القائل:
وجائزةٌ دعوى المحبة والهوى وإن كان لا يخفى كلام المنافق

الخطاب يبدو كأنه لمحبوبة، ولكنه خطاب موجه إلى الممدوح فهو صادق الحب حين يكون المحبوب سيف الدولة والمنافقين الشعراء عدا المتنبي، ولو طبقنا بيته هذا على غزل المتنبي لجاء بنتيجة أخرى. وللمتنبي مزاج في الحب، يستهويه الصعب، ويلذ له العذاب في الحب يقول:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربُه وفي الهجر فهو الدهرَ يرجو ويتقي

وقوله:
يا أخت معتنقِ الفوارس في الوغى لأخوكِ ثمَّ أرقُّ منكِ وأرحمُ

وهذا هو البيت الذي شُجّع على الاعتقاد بأن المقصودة به هي خولة أخت سيف الدولة، بينما هو وصف للمرأة العزيزة يصلح لخولة الممنعة ويصلح لمزاج المتنبي الذي يهيم بالصعب الممتنع. ويبلغ الذروة في صناعة الغزل في:
لياليَّ بعد الضاعنين شكولُ طوالٌ، وليلُ العاشقين طويلُ
يُبنَّ ليَ البدرَ الذي لا أريده ويُخفين بدراً ما إليه وصول
وما عشت من بعد الأحبة سلوةً ولكنني للنائبات حَمــــــــول
ألم ير هذا الليلُ عينيك رؤيتي فتظهرَ فيه رقّــــــةٌ ونحول؟

وحين يجاهر المتنبي أنه قبَّل امرأةً قبلة عابرة نستبشر بالخير، ولكن الحكاية لا تطول وقد تكون من نسج الخيال أيضاً:
قبّلتها ودموعي مزجُ أدمعها وقبّلتني على خوف فماً لفـــمِ
أبديتِ مثلَ الذي أبديتُ من جَزَعٍ ولم تُجِنّي الذي أجننتُ من ألم

وقوله:
نسيتُ وما أنسى عِتاباً على الصدِ ولا خفراً زادت به حمرةُ الخد
ولا ليلةً قصّرتها بقصيرةٍ أطالت يدي في جيدها صحبة العقد

ومن أجمل ما قال في الحب ونكاد نراه حباً حقيقياً لامرأة:
ما لنا كلُّنا جوٍ يا رسولُ أنا أهوى وقلبُك المتبـولُ
صَحبتني على الفلاة فتاةٌ عادةُ اللون عندها التبديلُ
نحن أدرى وقد سألنا بنجد أطويلٌ طريقنا أم يطـول
وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ وكثيرٌ من رَدّهِ تعليـــــل

والحقيقة أن هذه القصيدة قيلت حينما جاءه رسول سيف الدولة من حلب إلى الكوفة محملاً بالهدايا ليبلغه أن سيف الدولة أشتاق إليه فالشوق هنا لسيف الدولة.
ويبلغ المتنبي ذروة الرقة في قوله:

ممثلةٌ حتى كأن لم تفارقي وحتى كأن اليأسَ من وصلك الوعدُ
وحتى تكادي تمسحين مدامعي ويعبق في ثوبيَّ من ريحك الندُ

ولكنه بعد هذا الكلام الرقيق مباشرة ينقلب إلى النقد القاسي للمرأة:
إذا غدرت حسناءُ وفّت بعهدها فمن عهدها ألا يدوم لها عهـــدُ
وإن عشقت كانت أشدَّ صبابة وإن فرِكت فاذهب فما فركها قصد
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضى وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
كذلك أخلاقُ النساء وربما يضلُّ بها الهادي ويخفى بها الرشد

ولأن أخلاق النساء هكذا يرى المتنبي أن الحب يجب أن يكون للممدوح فيتخلص إلى المدح.



ـ كاليفورنيا
لميعة عباس عمارة


.
 
الحلقة الأخيرة
مطالع المتنبي الغزلية جميلة انسجاماً مع كل شعره منها:
أتراهـــا لكثــــــرة العشـــاق = تحسب الدمع خلقةً في المآقي
أو قوله الهندسي، وعليك أن ترسم نقطة هي مركز الدائرة أي قلب المتنبي، ومحيط الدائرة هو الفلك الذي يدور فيه العذل واللوم، بينما في مركز الدائرة يستقر الحب، لا يمسه اللوم:
عذلُ العواذل حول قلبي التأئه = وهوى الأحبة منه في سودائه
ومن المطالع الغزلية:
كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدُ = ببياض الطلى وورد الخدود
والعشاق كلهم شهداء، سنَّ هذه السُنّة جميلُ بثينة. شكوى المتنبي من الحب فيها مرارة حقيقية، وربما عنى بالأبيات حبيباً وهمياً أو سيف الدولة أو أحباء مفترضين يقول:
أكيداً لنا يا بينُ واصلتَ وصلنا = فلا دارُنا تدنو ولا عيشها يصفو
أُرددُ: ويلي لو قضى الويلُ حاجةً = وأُكثِرُ لهفي، لو شفى غُلَّة لهفُ
أو قوله:
وقد يتزيا بالهوى غيرُ أهله = ويستصحب الإنسان من لا يلائمُهْ
بليتُ بلى الأطلال إن لم أقف بها = وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتِمُه
حبيبٌ كأنّ الحسنَ كان يحبه = فآثره، أو جار في الحسن قاسِمُه
إن لم يكن المتنبي عاشقاً فهو لا شك صانع ماهر، ومثل هذا قوله:
كأنَّ الحزنَ مشغوفٌ بقلبي = فساعةَ هجرها يجد الوصالا
وقوله الموجع:
إنّ الذي خلَّقتُ خلفي ضائعٌ= مالي على قلقي عليه خيارُ
وقوله:
أما تغلط الأيامُ فيَّ بأن أرى = بغيضاً تُنائي أو حبيبا تقرّبُ؟
وقوله:
عزيزُ أسىً مَن داؤهُ الحدقُ = النجلُ عياءً به مات المحبّون من قبلُ
فمن شاء فلينظر إليَّ فمنظري = نذيرٌ إلى مَن ظنَّ أنّ الهوى سهل
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ = إذا نزلت من قلبه رحل العقل
جرى حبُّها مجرى دمي في مفاصلي = فأصبح لي عن كلِّ شَغلٍ بها شغل
كانَّ رقيباً منكِ سدَّ مسامعي = عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
وقوله:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازل = أقفرتِ أنتِ وُهنَّ منكِ أو اهلُ
اللاءِ أفتكُها الجبانُ بمهجتي = وأحبُّها قربا إلي الباخــــــل
كم وقفةً سجرتك شوقاً بعد ما = غُريَ الرقيبُ بنا ولجَّ العاذل
للهوِ أونةٌ تمرّ كأنّها قُبلٌ = يُزوِدها حبيبٌ راحـــــــل
وقوله:
أجدُ الجفاءَ على سواكِ مروءةً = والصبرَ إلا في نواك جميلا
وأرى تدللَكِ الكثيرَ مُحبباً = وأرى قليلَ تدلّلٍ مملولا
المتنبي يصف النساء فيحسن الوصف، والوصف غير الوجد وغير العشق، وكما أسلفنا يستعمل المتنبي أحياناً كثيرة التشبيهات المألوفة المعروفة ويسبغ عليها هالة من البلاغة يقول:
كم قتيل كما قُتلت شهيد = ببياض الطلى ووردِ الخدودِ
وعيون المها ولا كعيونٍ = فتكت بالمتيم المعمود
عمرَك اللهَ هل رأيت بدوراً = طلعت في براقعٍ وعقود
رامياتٍ بأسهمٍ ريشُها الهُدب = تشقُّ القلوب قبل الجلود
كلُّ خمصانةٍ أرقُ من الخمر = بقلب أقسى من الجلمود
ذاتُ فرع كأنما ضُرب العنبرُ = فيه بماءِ وردٍ وعود
حالكٍ كالغداف جثلٍ دجوجيٍّ =أثيثٍ جَعدٍ بلا تجعيد
تحمل المسكَ عن غدائرها =الريحُ وتفترُّ عن شنيب بَرود
وقوله:
لبسنَ الوشيَ لا متجمّلاتٍ = ولكن كي يَصُنَّ به الجمالا
وضفَّرنَ الغدائرَ لا لحسنٍ = ولكن خِفنَ في الشَعَرِ الضلالا
وقوله أيضاً في وصف النساء:
مَن الجآذرُ في زيّ الأعاريب = حمرَ الحلى والمطايا والجلابيبِ
التي منها:
حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوب
والمتنبي يصل به وصف الحب حد البكاء حين يقول:
متلاحظيَن نسحُّ ماءَ شؤوننا = حذراً من الرقباء بالأكمام
ولا شك في أنه لم يبك يوماً ولا ستر دموعه بأكمامه حذر الرقيب، هكذا نحس نحن حين نقرأه، ولكن الشريف الرضي حين أخذ هذه الصورة في رثائه لأمه وقال:
كم عبرة موهتها بأناملي =وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلّد للعدو، ولو درى = بتململي لقد أشتفى أعدائي
فهذا بكاء حقيقي نحسه ونكاد نشارك فيه.
ديوان المتنبي شرحه في زمانه خمسون من نقاد العصر ومنهم ابن جنّي، ثم استمرت الشروح وعبارة: (شرحه وحققه فلان) على كل طبعة حتى يومنا هذا، فهل الشراّح قد شرحوا كل ما أراد المتنبي بيانه؟
بين يدي بيت من أبيــات المتنبي في وصف المرأة المترفة الرقيقة الجسد، راجعت شرحه في ما يتيسر بين يدي في أمريكا من المراجع، وهو ديوان المتنبي «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» للعالم العلامة اللغوي الشاعر المشهور الشيخ ناصيف اليازجي ـ دار القلم بيروت، لم يذكر السنة. طبعاً الشيخ راجع الشروح السابقة، والبيت الذي استوقفني شرحه هو:
حِسان التثني، ينقش الوشيُ مثله إذا مِسنَ في أجسامهن النواعم
التفسير في الهـامش ورد هكذا: (الوشي: نقش الثوب، ومسن: تبخترن، أي لنعومة أبدانهن إذا تبخترن ينقش الوشي في جلودهن مثل صورته). انتهى الشرح. وفي طبعة مطبعة هندية في الموسكي في مصر سنة 1343 هجرية 1923 ميلادية ورد البيت أيضاً بهذا الشكل، وبالتفسير نفسه. وفي مخطوطة قديمة وجدتها في مكتبة ديوان الكوفة، الذي كان معلما من معالم لندن رقمها ع 7/200 اسم المخطوطة «شرح ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن المتنبي» المؤلف الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، ورد البيت بالخطأ نفسه (إذا مسنَ) وورد الشرح هكذا: أي لنعومة جلودهن يؤثر فيها الوشي مثل نقوشه إذا مشين متبخترات كما قال السريّ:
رقت من الوشي نعمة فإذا = صافح منها الجسوم وشّاها
إنتهى الشرح من المصدر المذكور.
وعلى كثرة الشارحين وعلو مكانتهم أجد أن هذا البيت ورد فيه خطأ في الإملاء لم يصححه المتنبي في حينه، لأنه لم يطلع على الصورة والكيفية التي نسخ فيها البيت. ولا شك أن ليس بين شراّح شعر المتنبي امرأة واحدة، هذا ما يفسر لنا ورود الخطأ، فمن تجارب أي امرأة أن نقوش الرداء لا تنطبع على جسدها أثناء الحركة إنما تنطبع في حالة استقرارها، استقرار الخد على وسادة منقوشة يترك صورة الورود لساعات في خد المرأة الناعمة، حتى تركنا عادة النوم على الوسائد المطرزة. والثوب المطرز ينطبع على الجسد في الجلوس أو النوم بينما الشرّاح والبيت يشترط في أداة الشرط (إذا) أنَّ حسان التثني في حالة تبخترهن فقط ينقش الوشي على جلودهن مثله. وهذه صورة غير واقعية، وباعتقادي أن البيت ورد أصلاً هكذا:
حِسانُ التثني ينقش الوشيُ مثله إذا مسَّ من أجسامهن النواعمِ
وحدث الخطأ بالنقل فجاءت كلمة (مِسْنَ) بدل كلمة (مسَّ) والحرف (في) بدل حرف الجر من التي هي للتبعيض. عند ذاك يكون المعنى: حسان التثني ينقش الوشي صورته إذا مس أي جزء من أجسامهن النواعم، سواء أكنَّ في حالة النوم أو الجلوس أي بدون شرط، إنما الشرط وقع على (مسَّ) فقط. بينما في الشكل الوارد للبيت في الديوان يجعل شرطاً أن تتبختر الحسناء بالثوب حتى ينقش على جلدها رسومه، وإذا لم تتبختر لا ينقش، كذلك يجب أن يتبخترن بأجسادُهن النواعم (لا بأجسام غيرهن) ثمة خطأ آخر ينتج عن هذا الشرح الخطأ إذ لا يعقل أن يكرر المتنبي معنى ورد في أول البيت وهو (حسان التثني) ليضيف له الشراح (يتبخترن)، وهذا خطأ فاضح إذا كان قد فطن له أحد الشراح قبلي فهو ذكي، وإذا اتفقت كل الطبعات على الخطأ فعذرهم أنهم لا يفهمون المرأة، وإذا كان المتنبي قد كتبه كما نقلوه، فهو يؤيد رأينا فيه أنه ما عرف المرأة، وأصرُّ أن المتنبي لم يخطئ ولم يكتبه إلا بالشكل الذي قدْمتُه أي (إذا مسَّ من أجسامهن). ولا بأس أن أضيف مقالة لي نشرت في جريدة «الشرق الأوسط» عام 1996 من سلسلة مقالات نشرتها لي في الأشهر تموز/يوليو وآب/أغسطس وتشرين الأول/أكتوبر من تلك السنة. وهذا هو عنوان المقالة كما نشر: «خطأ مطبعي عمره ألف عام». نودع المتنبي باختصار وإعجاب ونظل نحبه ونفضله، وإن لم يفسح للحب مكاناً في قلبه المليء بالطموح، ونظل نعشقه وإن لم يعشق.

أديبة عراقية ـ كاليفورنيا
لميعة عباس عمارة


.
- -
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...