لسان الدين ابن الخطيب - الإحاطة في أخبار غرناطة

ولما استقر بالحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات، أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب فيها مذاهبه. فمن ذلك ما خاطبته به، وقد تسرى جارية رومية إسمها هند صبيحة الابتناء بها.
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن من تكره
سيدي، لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج. اخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية تمتعت من الربيع بفرشي موشية، وابتذلت منها أي وساد وحشية وقد أقبل ظبي الكناس من الديماس، ومطوق الحمام من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل النظرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فهي كأنها الأمرية، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمى من الكف الرقيم بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول إني سقيم. وقد تفتح ورج الخفر، وحكم لزنجي الظفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب. وأقبلت الغادة يهديها اليمن. وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحياء، وقد ذاع طيب الريا، وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصحب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوا والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل:
ومرت فقالت متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث
وكاد بمزق سرباله ... فقلت إليك بساق الحديث
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام، وخاطت خيوط المنام، عيون الأنام، تأتى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبله الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القلية قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير إلى السرير.
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال
هذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في حل التكة، ونزع الشكة، وتهيئة الأرض الغرار عمل السكة، ثم كان الوحى والاستعجال. وحمى الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق. وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانة، وطال الترواغ والتزاور، وشكى التجاور وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أو تربح الأموال، فمن عصا تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونه تصير تنيناً، وبطل لم يهله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرته الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض، ثم شق الصف، وقد خضب الكف، بعد أن كاد يصيب البرى بطعنه، ويبوء بمقت الله ولعنته:
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البال، وتشوف إلى مذهب الثنوية، من لم يكن للتوحيد بسبال، وكثر السؤال عن البال بما بال، وجعل الجريح يقول، وقد نظر إلى دمه يسيل على قدمه:
أنى له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا
ومن سنان عاد عنانا، وشجاع صار هدانا جباناً، كلما شابته شائبة ريبة، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأسر، ويغلب الحصر، ويجف اللباب، ويظهر العاب، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق. ويقوي اللجاج ويعظم الخرق. فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الجارحة المؤمنة إلا ردة:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
فكم مغري بطول اللبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعلم باليد الاحتيال:
إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أو صابه. ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال سيحدث الله بعد عسر يسرا، وبعد عي بياناً، اللهم إنا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها، ولم تسم بالنجيع أعفالها، ومن معرات الأقدار والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدر، ولا تجعلنا من يستحي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أو جال، وأعملت روية وارتجال. فمن قائل:
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطربة أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله
أو قايل:
عدمت من أيري قوى حسه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خر على أسه
وقايل:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي ورأسي دملاً وزكاما
فليتها كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يريد قياما
وقائل:
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به خبت من أير وغالتك داهية
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه ......من كل ناحية
وقايل:
تعفف قوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف
وقايل:
تكرش أيري بعد ما كان أملسا ... وكان غنياً من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي ... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى
وقايل:
بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران منه على بال
وقابلني بالهزء والنجة بعدما ... حططت به رجلي وجردت سريالي
وما ارتجى من موسر فوق دكة ... عرضت له شيئاً من الحشف البالي
علل لا تزال تبكي، وعلل على الدهر تشكي، وأحاديث تقص وتحكي. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول، ولم تقل، وهل عند رسم دارس من معول، فقد جنيت الثمر. واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف السمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى، فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد، واكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصك بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمورك بالكتمان
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتفجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج. فكم غمام طبق وما همي، وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، وأملك بعدها عنان نفسك، حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشتره إلى عمل لا تفئ منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در عروة بن حزام.
الله يعلم ما تركتن قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم ... أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام. ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً أكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركاب اليمن مأمولة، حتى يكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتضفو عليه نعمة باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عبص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص. والسلام.



.

صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...