الشروق الجديد - طوق الحمامة لابن حزم الأندلسى.. الحب فى التراث العربى

فى تراثنا الإسلامى كتب عديدة تتحدث عن الحب العفيف الطاهر ويأتى كتاب طوق الحمامة فى الآلفة والآلاف للإمام ابن حزم الأندلسى وهو واحد من كبار الفقهاء المسلمين، بل هو مؤسس المذهب الظاهرى. هذا الكتاب فريدٌ فى معالجته للحب وبواعثه وشجونه، فهو يعالج الموضوع مستخدما منهجا سليما وفكرا صائبا بعيدا عن الفكر العاطفى الذى يرسل الكلام إرسالا عفويا، فقد قام منهجه على جعل الحب مقننا له قواعد وأصول ومقدمات ونتائج ولهذه النتائج آثار فى النفوس فكأنه بذلك يؤسس لعلم جديد علم الحب قائم على المنهج العلمى.
فطوق الحمامة يقدم لنا نموذجا رائعا لاهتمام الفقهاء المسلمين بحياة الإنسان من جوانبها الإنسانية المختلفة مثل «الحب» فلم يهاجموه ولم يبعدو عنه بل ناقشوه بشكل موضوعى، ويأتى هذا الفهم فى إطار الفهم المتكامل للإسلام الذى قدم للإنسان كل ما يحتاجه فى حياته، لذلك لا عجب أن نرى أن الاسلام اهتم بأمور يظن أعداؤه أنه كان بعيدا عنها مثل الجنس فى الإسلام، وهناك عشرات الأحاديث فى ذلك، ولكن الجنس الذى يتحدث عنه الإسلام هو تلك العلاقات السوية بين الزوجين. ولكن يبدو أننا فى خضم الحياة المعاصرة أهملنا التراث وكتبه وأهملنا ما فيه من علوم وثقافات متعددة.
أما عن سبب تأليف الكتاب يذكر الإمام ابن حزم أنه آلف هذا الكتاب بناء على طلب صديق له لا يرد له طلب وفاء لأيام طويلة من المودة والصدق. ويذكر أن مادة هذا الكتاب مستمدة من خبراته الشخصية وتجاربه، وكذلك رؤيته لتجارب القريبين منه ومن حوله. لذا فقد أورد أشعارا له قيلت فى مناسبات شاهدها بنفسه، وحدد المنهج الذى اتبعه فى هذا الكتاب وهو كما يذكر «الاقتصار على ما رأيت أوضح عندى بنقل الثقات».
من هنا نعتبر الكتاب أولا: وثيقة تصور الجانب العاطفى لحياة الإمام ابن حزم وكذلك فهو يصور الحياة العاطفية لعدد من خلفاء الأندلس وأمرائه فهم فى البداية والنهاية بشر وليسوا ملائكة، وهو يعرف هذه المعلومات عنهم بحكم علاقاته بهم.
ثانيا: الكتاب يؤسس لعلم جديد هو علم الحب قائم على المنهج العلمى الصارم الذى التزم به المؤلف فى حوادثه وأخباره.
يُعرِّف ابن حزم الحب بأن أوله هزل وآخره جد، وأن معانيه لجلالتها دقت عن أن توصف، فلا تدرك حقيقته إلا بالمعاناة، وهناك أنواع منه تزول بزوال السبب الذى يجمع بين المحبين إلا العشق الصحيح الذى يتمكن من النفس ولا خلاص منه إلا بالموت فهو أى الحب الحقيقى «استحسان روحانى وامتزاج نفسانى» وهو اتصال بين النفوس فى أصل عالمها العلوى، والحب يغير النفوس فهو يجعل من الإنسان القاسى إنسانا بسيطا حنونا، يتذلل للمحب.
والمحب الذى نال منه الحب وأضربه الوجد، لا يتمنى الشفاء مما هو فيه إلا بوصل المحبوب، ويكره من يدعو له الله أن يخفف عنه ما هو فيه إلا بوصل المحب.
وأستلذ بلائى فيك يا أملى ولست = عنك بمدى الأيام أنصرف
إن قيل لى أتسلى عن مودته = فما جوابى إلا اللام والألف
ومن الطريف أنه يحدد علامات الحب فى: إدمان النظر، لأن العين باب النفس المنقبة عن أصولها، والتى تكشف عما بداخل الإنسان، كذلك الإقبال بالحديث على المحبوب، فلو جمعت الظروف المحبان لا يكاد أحدهما ينجذب إلا للآخر حتى لو تعمدا غير ذلك، كذلك الإسراع بالسير نحو المكان الذى يكون فيه، والتعمد للقرب منه، والاستهانة بكل أمر مهما بلغت أهميته يدعو لمفارقته.
وإذا قمن عنك لم أمش إلا = مشى عان يقاد نحو الفناء
من مجيئ إليك احتث كالبدر = إذا كان قاطعا فى السماء
وقيامى إن قمت كالأنجم العا = لى الثابتات فى الإبطاء
وعند رؤية المحب للمحبوب يشعر بروعة تقع على المحبوب فجاة واضطراب يبدو عليه وهو يذكر أنه من الناس من يحب بالمراسلة «فمن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة» وهذا ما حدث فى العصر الحديث لاثنين من كبار أدبائنا وهما جبران خليل جبران ومى زيادة اللذان ارتبطا بقصة حب من خلال المراسلات دون الرؤيا، ويرى ابن حزم أن هذا غير مجد وغير سليم فهو «بنيان هار على غير أساس».
ويذكر ابن حزم أن هناك نوعا من الحب لا يأتى إلا بالمعاشرة الطويلة، وهو الذى يدوم، وهذا مثل قولنا فى زماننا الحالى «الحب يأتى بعد الزواج، وهو يرفض القول بحب اثنين فى وقت واحد، فهذا حب جسد وشهوة».
وهناك أمور كثيرة تحدث عنها المؤلف مثل المراسلة وشكلها وأنواعها، والإشارة، وأنواعها كذلك ومعانيها وما تحويه من دلالات.
ويرى ابن حزم أن عجيب الأمور أن نرى طاعة المحب لمحبوبه، فهناك الإنسان شرس الخلق جموح القيادة ما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب حتى تتحول الشراسة إلى لينا والصعوبة سهولة والحمية استسلاما.
ويورد ابن حزم القصص الكثيرة فى هذا المجال العدد كبير من القادة ورجال الحكم والفقهاء وهى تفيدنا أيضا فى دراسة الفترة التاريخية، وهو يتحدث عن العازل وأنواعه. كما أنه تحدث عن الأسباب المتمناة فى الحب وهو أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقا مخلصا، لطيفا القول، بسيط الطول، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، شديد الاحتمال وهو يتحدث عن آفات الحب، ويذكر منها آفات كثيرة.
وبالكتاب عشرات القصص والأشعار والمواعظ وغيرها. فما أحوجنا للعودة للتراث واستلهامه وفهمه فهما صحيحا.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...