نقوس المهدي
كاتب
يعدّ كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي من أروع ما خُط من أدب العصر الوسيط في دراسة الحب، لتحليله لهذه الظاهرة، وأبعادها الإنسانية الواسعة، ولقدرته على سبر طبائع البشر وأغوارهم.
والكتاب هو سيرة ذاتية لكاتبه أن ما يماثل حياته العاطفية، فقد جمع ابن حزم ما بين الفكرة بمفهومها الفلسفي وما بين الواقع التاريخي، فكان بذلك محلقاً بأفكاره، وراسخاً على الأرض بقدميه، جريئاً وصريحاً ومتحرراً من الخوف ومن التزمت، وقد دعم أفكاره بحكايات سمعها أو عاشها، واختار لها العديد من أشعاره المناسبة.
سلكت مطبوعة "طوق الحمامة" طريقاً طويلاً حتى وصلت إلينا في نسختها الحالية، وتعاقب على نسخها وتحليلها وتصحيحها العديد من المستشرقين، الذين كان لهم الفضل الأكبر في إيصالها لنا.. ففي نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر، قام السفير الهولندي المستشرق "فون وارنر" بدراسة المخطوطات العربية خلال فترة انتدابه سفيراً في الآستانة، ومن محاسن الصدف أنه اشترى ألف مخطوط من "حاجي خليفة" الذي كان يملك واحدة من أكبر مكتبات الآستانة، وكان من بين هذه المخطوطات مخطوط "طوق الحمامة"، الذي قُدر له أن يستقر في مكتبة ليدن/هولندا، لمدة 175 عاماً، إلى أن جاء مطلع القرن التاسع عشر، حيث قام المستشرق الهولندي "رينهارت" بإصدار أول طبعة لفهرس المخطوطات العربية في جامعة ليدن، عَرَف العالم من خلالها على مخطوطة "طوق الحمامة"، ودام الحال إلى أن قام المستشرق الروسي الشاب "د. ك. بتروف" بنشر النص العربي لطوق الحمامة كاملاً، في سلسلة كتب كانت تصدرها كلية الآداب في جامعة بطرسبرغ. وطبع في مطبعة بريل العربية في ليدن عام 1914. وبعد سبعة عشر عاماً قام السيد محمد ياسين عرفة، صاحب مكتبة عرفة في دمشق، بطبع النص العربي ثانية عام 1930، ولم يجر تغييراً كبيراً عن نسخة بتروف، إلى أن صدرت الطبعة الثالثة عام 1949 على يد المستشرق الفرنسي "ليون برشيه" في الجزائر، وبعدها بعام أي عام 1950 قام الأستاذ حسن كامل الصيرفي بطباعة النسخة الرابعة للكتاب في القاهرة. لكن هذه الطبعة جاءت أسوأ مما صدر من طبعات، لجهل الصيرفي بتاريخ الأندلس وحضارتها. ومن ثم تقدم د. الطاهر أحمد مكي بضبط نص الكتاب وتحرير هوامشه، في طبعة صدرت عن دار المعارف المصرية في العام 1975..
وعلى هذه النسخة الأخيرة سنعتمد في تلخيصنا لمحتوى مخطوطة "طوق الحمامة"، واضعين نصب أعيننا أن ما ارتضاه ابن حزم الأديب والعالم والفقيه الظاهري في قرطبة عاصمة الأندلس، وكذلك ما ارتضاه المسلمون في القرن العاشر الميلادي، لا يجوز لنا رفضه في قرننا الواحد والعشرين، أي بعد مضي إحدى عشر قرناً، بحجة التدين أو الورع، أو حفاظاً على القيم والأخلاق، أو بحجة أن هذه النصوص تخدش الحياء العربي العام، الذي لم يخدشه واقعنا بكل ما فيه من جهل وتخلف وهزيمة.
قسّم ابن حزم المخطوطة إلى ثلاثين باباً، عشرة منها في أصول الحب، واثنا عشر في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وستة في الآفات الداخلة على الحب، وباب في قبح المعصية، والباب الأخير في فضل التعفف.
الكلام في ماهية الحب:
قال ابن حزم إن الحب أوله هزل وآخره جد، ولا تُدرك حقيقته إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، وأن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة، فالنفوس المتماثلة تتصل وتتوائم، أما النفوس المتنافرة فتتباعد. والمحبة برأي ابن حزم متعددة: فمنها محبة القرابة ومحبة الألفة ومحبة المصاحبة ومحبة البر ومحبة الطمع في جاه المحبوب ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه لستره ومحبة بلوغ اللذة ومحبة العشق وأفضلها محبة المتحابين في الله.
وكل ضروب المحبة تنقضي بانقضاء عللها، إلا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس، فهي لا فناء لها بالموت.
والإنسان بطبعه يقع في حب الصورة الحسنة للوهلة الأولى، وإذا لم يتجاوز هذا الحب الصورة الحسنة سمي بالشهوة.
وشبه الحب بالداء، والدواء منه على قدر المعاملة لا يود المصاب به الشفاء.
باب علامات الحب:
هناك علامات تظهر قبل استعار الحب، حيث يمكن لأي إنسان فَطِن ملاحظتها، ومنها إدمان النظر إلى المحبوب وملاحقته أينما حلّ، والانذهال عند رؤيته فجأة، واضطراب المحب لدى ورود ذكر المحبوب والإقبال بالحديث عبر الاستماع إليه، وتصديقه حتى ولو كذب، ودعم أقواله حتى ولو جار على الآخرين، ومحاولة لمسه، وعدم الرغبة في مغادرة المكان المتواجد فيه، وقد قال ابن حزم واصفاً هذه الحالة:
"وإذا قمت عنك لم أمش إلا = مشي عان تقاد نحو الفناء
في مجيء إليك أحتث كالبدر = إذا كان قاطعاً للسماء
وقيامي إن قمت كالأنجم = العالية الثابتات في الإبطاء"
أما إذا تمكن الحب من الإنسان فعندها ترى الحديث همساً، والإعراض جهاراً عن كل الناس عدا المحبوب ومن علاماته الانبساط الزائد، وكثرة الغمز، وتعمد ملامسة المحبوب، والاتكاء عليه، وشرب فضلة ما أبقى من إناء شرابه.
وهناك أيضاً علامات متضادة، فالأضداد أنداد، فنجد مثلاً أن الفرح الزائد قاتل، والضحك الكثير يسيل الدمع، ومن أعراضه استدعاء اسم المحبوب وحب الوحدة والأنس بالانفراد، والسهر، وقد وصف الشعراء هؤلاء المحبين برعاة النجوم. ويقلق المحبون عند توقع لقاء المحبوب، ويحول دون ذلك حائل، وعند العتاب، فإما أن ينال المحبوب العفو، وإما أن يصير القلق والحزن، ومن أعراضه احمرار الوجه، والجزع والتأوه والبكاء.
باب من أحب في النوم:
وهذا الباب هو من أبعد أسباب الحب، إذ يحلم المحب بمحبوبه ويذهب قلبه به ويعتريه الهم، ويشغل نفسه بوهم نتيجة تعلقه بشخص غير موجود.
باب من أحب بالوصف:
وهو من أغرب الأبواب في أصول الحب، إذ يقع المحب في حب محبوبه فقط على الوصف أو لصفة ما يتمتع بها أو لسماع صوته، فيبدأ الهم والوجد، فيكون المحب كمن بنى بناء بغير أساس، إذ أن المحب يقوم بتخيل صورة معينة لمحبوبه، فإذا توافقت الصورة مع مخيلة المحب يثبت الحب، وإن حصل العكس انتهى ذلك الوهم. والنساء بحسب ابن حزم أثبت من الرجال في هذا النوع من الحب، وذلك لتمكن هذه العاطفة منهن. وقد وصف ابن حزم هذه الحالة قائلاً:
"ويا من لازمني في = حب من لم يره طرفي
لقد أفرطت في وصفك = لي في الحب بالضعف
فقل: هل تُعرف الجنة = يوماً بسوى الوصف".
باب من أحب من نظرة واحدة:
وهو عشق إنسان لا تعرف من هو أو من أين أتى، ووقوعه دليل على قلة الصبر نظراً لسرعة الإحساس به، وهو كحال الأشياء التي تأتي بسرعة وتنتهي بسرعة.
باب من لا يحب إلا مع المطاولة:
والمقصود هنا في المطاولة، هو كثرة اللقاءات والمشاهدات وتنامي الشعور بالحب، فما دخل عسيراً إلى القلب لا يخرج منه بشكل يسير، فيبقى الحب في القلب كلما طال زمن ملاصقة المحبوب للمحب، وهو تأكيد على تلاقي النفوس المقسومة، ولأنه تجاوز الاستحسان الجسدي أي الشهوة، فيسمى في هذه الحالة بالعشق. من هنا يخطئ البعض بالاعتقاد أنه يمكن للمحب أن يجمع بين شخصين مغايرين، فهذا ابن حزم يدخل تحت مفهوم الشهوة، إذ لا يمكن للمحب أن يحب أكثر من شخص يلهيه عن دينه ودنياه، فكيف إذا للمحب الالتهاء بحب ثان.
باب من أحب صفة:
يقع المحبون هنا في حب أناس يتميزون بصفة معينة، حتى ولو كانت غير مقبولة، كصفة من صفات الحسن كقصر القامة وقصر الرقبة وما إلى ذلك. ويبقى هؤلاء المحبون على حالهم حتى مفارقتهم الدنيا.
باب التعريض بالقول:
ويعمد المحبون هنا إلى كشف أحاسيسهم من خلال إنشاد الشعر، مثلاً، أو تسليط اللسان، ويستخدمون هذه الوسيلة طلباً للوصل ولكشف مكنونات قلوبهم تجاه المحبوب.
باب الإشارة بالعين:
ويأتي هذا الباب عادة عقب باب التعريض بالقول. وللإشارة معان متعددة كالوعيد والتهديد والنهي والأمر والضحك والحزن والسؤال والإيجاب والعطاء.
باب المراسلة:
تنوب الرسائل عن المحب في سرد ما يشعر به تجاه المحبوب، كما تنوب عن رؤيته، ويقول ابن حزم إن هذه الرسائل يجب أن تكون مميزة الورق لأنها تعبر عن لسان المحب، وكثيراً ما تمتزج حروف هذه الرسائل بدموع المحب أو ريقه أو دمائه.
باب السفير:
باب السفير أو باب رسول الحب والذي يحب أن يكون لبيباً يفهم الإشارة، وأميناً أمانة مطلقة، كونه يحمل سر المحبين الذي إذا ما فضح تم القضاء عليهما. ويختار المحبون عادة شخصاً بسيطاً أو عجوزاً لا يشك بها، أو ذا صفة تمكنه من التقرب من المحبوب كالطبيب أو المعلم أو القريب قرابة عائلية.
باب طي السر:
يعد باب طي السر أو الكتمان من أحد صفات الحب، وفيه يتظاهر المحب بالصبر ويكبت نار الحب المتأججة في ضلوعه، ولا تظهر عواطفه إلا من خلال نظراته. قد ينجح المحب في البدء في إخفاء مشاعره، أما حين تستفحل هذه المشاعر يصبح من المستحيل النجاح في ذلك.
باب الإذاعة:
هناك ثلاثة أنواع من أبواب إذاعة الحب، أولها: محاولة المحب التشبه بالمحبين، ورغبته في أن يُحسب عليهم، وهذه عاطفة مزيفة، وثانيها: فتكون هنا إذاعة الحب لغلبة المشاعر على المحب بحيث لا يتورع عن المجاهرة بها متغلباً بذلك على حيائه. وثالثها: في حال رأى المحب غدراً أو مللاً أو كراهية من محبوبه، فيعمد إلى إذاعة حبه له وذلك انتقاماً منه، وهذا وجه مرفوض للحب وفعل ساقط.
باب الطاعة:
وباب الطاعة هو من عجيب ما يقع في الحب، حيث يطيع المحب محبوبه ويغير الكثير من طباعه لتتماشى مع طبائع المحبوب، لنرى مثلاً شرس الطباع وصعب الشكيمة بعد أن تنسم عبير الحب قد تحول إلى شخص سهل المراس ويستسلم استسلاماً كاملاً للمحبوب.
باب المخالفة:
وقد يركب المحب رأسه ويتعمد الحصول على شهوته ومسرته من محبوبه، شاء هذا الأخير أم لم يشأ، فيذهب غمه ويبلغ مراده، وهذا مرذول في الحب.
باب العاذل:
ويعتبر هذا الباب من آفات الحب، والعذال نوعان، فأولهما صديق، رقيق بالمحبين، يعرف متى ينهي، وثانيهما عاذل زاجر، لا يكف عن الملامة وهذا صعب الاحتمال.
باب المساعد من الإخوان:
وهنا يأمل المحب في العثور على صديق مخلص، وفي، كتوم، لطيف، أنيس، طيب الأخلاق وإلى ما ذلك من صفات حميدة ليصبح أنيساً له ولتنجلي الأحزان بوجوده. وبحسب ابن حزم، فالنساء أقدر من الرجال في المحافظة على أسرار المحبين وخاصة العجائز منهن.
باب الرقيب:
والرقيب من آفات الحب وأمراضه. ويقسم الرقباء إلى رقيب غير متعمد، تصادف وجوده في مكان اجتماع المحبوبين، فكان شاهداً على حبهما، ورقيب أحس بأمرهما، وأراد تبين ذلك، فعمد إلى مراقبتهما وإحصاء أنفاسهما. ورقيب على المحبوب الذي ما يلبث أن يتحول إلى رقيب له وليس عليه بعد استرضاء المحبوب له. والطريف في هذا الباب أن يكون المحب والرقيب على مذهب واحد في حب المحبوب فيتحول كل منهما إلى رقيب على صاحبه.
باب الواشي:
والواشي هو أحد شخصين واحد يرغب في الفصل بين المحبين كان يهمس في أذن المحبوب واشياً على المحب، أو هو واشٍ ليفصل بين المحبين، لينفرد بعدها بذلك المحبوب وليستأثر به.
باب الوصل:
باب الوصل هو وجه من وجوه العشق وأعلى درجة منه. وإن وصل المحبان إليه وصلا إلى الصفاء والسلام الكامل حيث تكتمل فيه الآمال والأماني.
باب الهجر:
من آفات الحب وهو على أنواع: هجر يفرضه وجود رقيب على المحبين إبعاداً للظنون، وهجر بغرض التذلل بهدف امتحان حب كل من الطرفين، وهجر لذنب ارتكبه المحب وهو موجع، لكن فرحة اللقاء ثانية لا تعدلها لحظة أخرى في الحياة، وهجر لملل أحد الطرفين من الآخر، وهجر المحب لمحبوبه لدى إحساسه بجفائه أو ميله إلى شخص آخر، وأخيراً هجر القلب وهو يذهب بالعقول وليس له دواء شاف.
باب الوفاء:
وهو من أهم الفضائل في الحب، وهو دلالة على طيب الأصل. وأولى مراتبه وفاء المحبين أحدهما للآخر، وهذا حق وواجب وثاني المراتب الوفاء لمن غدر، وهذا عادة ما يقوم به المحب وهو غير ملزم للمحبوب، وثالث هذه المراتب الوفاء حتى بعد قضاء أحد المحبين والعزوف عن الحياة والزهد فيها.
باب الغدر:
ويعتبر من الأعمال المذمومة.
باب البين:
سمع أحد الحكماء شخصاً يصف البين "الموت" قائلاً: الفراق أخو الموت، فرد الحكيم، بل قل إن الموت أخو الفراق.
وقد يكون الفراق لفترة زمنية محددة تشجي القلب وتؤلم صاحبها ولا يبرأ منها الإنسان إلا باللقاء، وقد يكون المحب والمحبوب في نفس الدار ولا يسمح لهما باللقاء مما يبعث على الحزن والأسى. وهناك فراق متعمد من قبل المحب خوفاً من أن يدري أحد ما بهذا الحب فيجبر الطرفان على الابتعاد.
وأخيراً بًينُ الموت، وهو أصعبها لما يصيب المحبين من حزن وألم لا يمحوه أحياناً إلا موت صاحبه.
باب القنوع:
وهنا لا بد للمحب بأن يرضى بحرمانه الوصل والاكتفاء بالقليل من المحبوب كالزيارة أو المخاطبة أو الاحتفاظ بشيء من أثر المحبوب وما إلى ذلك.
باب الضنى:
فبعد حالات الهجر أو الموت، يصاب المحبان بالمرض والنحول والسقم، وفي هذه الحالة الوحيد الذي يمكنه المساعدة هو الطبيب.
باب السلو:
والسلو هنا أو النسيان إما يأتي طبيعياً وكأن الشخص لم يحب أو لم يفقد حبيبه، فيوصف الشخص بأنه من ذوي الأخلاق المذمومة، وإما سلو قسري أو تطبعي، يرغم فيه الإنسان على التذرع بالصبر وإخفاء ما يعتري قلبه من حزن.
باب الموت:
تقول الأمثال: "من عشق فعف فمات فهو شهيد" إذ عندما يعظم الحب إلى درجة كبيرة ويحصل الفراق ينحل صاحبه ويضعف إلى أن يموت.
باب قبح المعصية:
وهنا يغلب لشخص شهواته على عقله. ويحسب ابن حزم فالإنسان يتمتع بطبيعتين: الأولى خبرة تغلب العقل على الشهوة، والثانية شريرة تغلب الشهوات على العقل، ويربط بين هاتين الطبيعتين الروح.
باب فضل التعفف:
يمنع التعفف الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويغلب العقل على الشهوة.
انتهى ابن حزم الأندلسي عند هذا الحد، مقدماً لنا كتاباً في الحديث عن الحب، واصفاً إياه بأنه استسلام غير مشروط وذوبان كامل للمحب بالمحبوب تحت وطأة العشق والوجد والوصل.
والكتاب هو سيرة ذاتية لكاتبه أن ما يماثل حياته العاطفية، فقد جمع ابن حزم ما بين الفكرة بمفهومها الفلسفي وما بين الواقع التاريخي، فكان بذلك محلقاً بأفكاره، وراسخاً على الأرض بقدميه، جريئاً وصريحاً ومتحرراً من الخوف ومن التزمت، وقد دعم أفكاره بحكايات سمعها أو عاشها، واختار لها العديد من أشعاره المناسبة.
سلكت مطبوعة "طوق الحمامة" طريقاً طويلاً حتى وصلت إلينا في نسختها الحالية، وتعاقب على نسخها وتحليلها وتصحيحها العديد من المستشرقين، الذين كان لهم الفضل الأكبر في إيصالها لنا.. ففي نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر، قام السفير الهولندي المستشرق "فون وارنر" بدراسة المخطوطات العربية خلال فترة انتدابه سفيراً في الآستانة، ومن محاسن الصدف أنه اشترى ألف مخطوط من "حاجي خليفة" الذي كان يملك واحدة من أكبر مكتبات الآستانة، وكان من بين هذه المخطوطات مخطوط "طوق الحمامة"، الذي قُدر له أن يستقر في مكتبة ليدن/هولندا، لمدة 175 عاماً، إلى أن جاء مطلع القرن التاسع عشر، حيث قام المستشرق الهولندي "رينهارت" بإصدار أول طبعة لفهرس المخطوطات العربية في جامعة ليدن، عَرَف العالم من خلالها على مخطوطة "طوق الحمامة"، ودام الحال إلى أن قام المستشرق الروسي الشاب "د. ك. بتروف" بنشر النص العربي لطوق الحمامة كاملاً، في سلسلة كتب كانت تصدرها كلية الآداب في جامعة بطرسبرغ. وطبع في مطبعة بريل العربية في ليدن عام 1914. وبعد سبعة عشر عاماً قام السيد محمد ياسين عرفة، صاحب مكتبة عرفة في دمشق، بطبع النص العربي ثانية عام 1930، ولم يجر تغييراً كبيراً عن نسخة بتروف، إلى أن صدرت الطبعة الثالثة عام 1949 على يد المستشرق الفرنسي "ليون برشيه" في الجزائر، وبعدها بعام أي عام 1950 قام الأستاذ حسن كامل الصيرفي بطباعة النسخة الرابعة للكتاب في القاهرة. لكن هذه الطبعة جاءت أسوأ مما صدر من طبعات، لجهل الصيرفي بتاريخ الأندلس وحضارتها. ومن ثم تقدم د. الطاهر أحمد مكي بضبط نص الكتاب وتحرير هوامشه، في طبعة صدرت عن دار المعارف المصرية في العام 1975..
وعلى هذه النسخة الأخيرة سنعتمد في تلخيصنا لمحتوى مخطوطة "طوق الحمامة"، واضعين نصب أعيننا أن ما ارتضاه ابن حزم الأديب والعالم والفقيه الظاهري في قرطبة عاصمة الأندلس، وكذلك ما ارتضاه المسلمون في القرن العاشر الميلادي، لا يجوز لنا رفضه في قرننا الواحد والعشرين، أي بعد مضي إحدى عشر قرناً، بحجة التدين أو الورع، أو حفاظاً على القيم والأخلاق، أو بحجة أن هذه النصوص تخدش الحياء العربي العام، الذي لم يخدشه واقعنا بكل ما فيه من جهل وتخلف وهزيمة.
قسّم ابن حزم المخطوطة إلى ثلاثين باباً، عشرة منها في أصول الحب، واثنا عشر في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وستة في الآفات الداخلة على الحب، وباب في قبح المعصية، والباب الأخير في فضل التعفف.
الكلام في ماهية الحب:
قال ابن حزم إن الحب أوله هزل وآخره جد، ولا تُدرك حقيقته إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، وأن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة، فالنفوس المتماثلة تتصل وتتوائم، أما النفوس المتنافرة فتتباعد. والمحبة برأي ابن حزم متعددة: فمنها محبة القرابة ومحبة الألفة ومحبة المصاحبة ومحبة البر ومحبة الطمع في جاه المحبوب ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه لستره ومحبة بلوغ اللذة ومحبة العشق وأفضلها محبة المتحابين في الله.
وكل ضروب المحبة تنقضي بانقضاء عللها، إلا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس، فهي لا فناء لها بالموت.
والإنسان بطبعه يقع في حب الصورة الحسنة للوهلة الأولى، وإذا لم يتجاوز هذا الحب الصورة الحسنة سمي بالشهوة.
وشبه الحب بالداء، والدواء منه على قدر المعاملة لا يود المصاب به الشفاء.
باب علامات الحب:
هناك علامات تظهر قبل استعار الحب، حيث يمكن لأي إنسان فَطِن ملاحظتها، ومنها إدمان النظر إلى المحبوب وملاحقته أينما حلّ، والانذهال عند رؤيته فجأة، واضطراب المحب لدى ورود ذكر المحبوب والإقبال بالحديث عبر الاستماع إليه، وتصديقه حتى ولو كذب، ودعم أقواله حتى ولو جار على الآخرين، ومحاولة لمسه، وعدم الرغبة في مغادرة المكان المتواجد فيه، وقد قال ابن حزم واصفاً هذه الحالة:
"وإذا قمت عنك لم أمش إلا = مشي عان تقاد نحو الفناء
في مجيء إليك أحتث كالبدر = إذا كان قاطعاً للسماء
وقيامي إن قمت كالأنجم = العالية الثابتات في الإبطاء"
أما إذا تمكن الحب من الإنسان فعندها ترى الحديث همساً، والإعراض جهاراً عن كل الناس عدا المحبوب ومن علاماته الانبساط الزائد، وكثرة الغمز، وتعمد ملامسة المحبوب، والاتكاء عليه، وشرب فضلة ما أبقى من إناء شرابه.
وهناك أيضاً علامات متضادة، فالأضداد أنداد، فنجد مثلاً أن الفرح الزائد قاتل، والضحك الكثير يسيل الدمع، ومن أعراضه استدعاء اسم المحبوب وحب الوحدة والأنس بالانفراد، والسهر، وقد وصف الشعراء هؤلاء المحبين برعاة النجوم. ويقلق المحبون عند توقع لقاء المحبوب، ويحول دون ذلك حائل، وعند العتاب، فإما أن ينال المحبوب العفو، وإما أن يصير القلق والحزن، ومن أعراضه احمرار الوجه، والجزع والتأوه والبكاء.
باب من أحب في النوم:
وهذا الباب هو من أبعد أسباب الحب، إذ يحلم المحب بمحبوبه ويذهب قلبه به ويعتريه الهم، ويشغل نفسه بوهم نتيجة تعلقه بشخص غير موجود.
باب من أحب بالوصف:
وهو من أغرب الأبواب في أصول الحب، إذ يقع المحب في حب محبوبه فقط على الوصف أو لصفة ما يتمتع بها أو لسماع صوته، فيبدأ الهم والوجد، فيكون المحب كمن بنى بناء بغير أساس، إذ أن المحب يقوم بتخيل صورة معينة لمحبوبه، فإذا توافقت الصورة مع مخيلة المحب يثبت الحب، وإن حصل العكس انتهى ذلك الوهم. والنساء بحسب ابن حزم أثبت من الرجال في هذا النوع من الحب، وذلك لتمكن هذه العاطفة منهن. وقد وصف ابن حزم هذه الحالة قائلاً:
"ويا من لازمني في = حب من لم يره طرفي
لقد أفرطت في وصفك = لي في الحب بالضعف
فقل: هل تُعرف الجنة = يوماً بسوى الوصف".
باب من أحب من نظرة واحدة:
وهو عشق إنسان لا تعرف من هو أو من أين أتى، ووقوعه دليل على قلة الصبر نظراً لسرعة الإحساس به، وهو كحال الأشياء التي تأتي بسرعة وتنتهي بسرعة.
باب من لا يحب إلا مع المطاولة:
والمقصود هنا في المطاولة، هو كثرة اللقاءات والمشاهدات وتنامي الشعور بالحب، فما دخل عسيراً إلى القلب لا يخرج منه بشكل يسير، فيبقى الحب في القلب كلما طال زمن ملاصقة المحبوب للمحب، وهو تأكيد على تلاقي النفوس المقسومة، ولأنه تجاوز الاستحسان الجسدي أي الشهوة، فيسمى في هذه الحالة بالعشق. من هنا يخطئ البعض بالاعتقاد أنه يمكن للمحب أن يجمع بين شخصين مغايرين، فهذا ابن حزم يدخل تحت مفهوم الشهوة، إذ لا يمكن للمحب أن يحب أكثر من شخص يلهيه عن دينه ودنياه، فكيف إذا للمحب الالتهاء بحب ثان.
باب من أحب صفة:
يقع المحبون هنا في حب أناس يتميزون بصفة معينة، حتى ولو كانت غير مقبولة، كصفة من صفات الحسن كقصر القامة وقصر الرقبة وما إلى ذلك. ويبقى هؤلاء المحبون على حالهم حتى مفارقتهم الدنيا.
باب التعريض بالقول:
ويعمد المحبون هنا إلى كشف أحاسيسهم من خلال إنشاد الشعر، مثلاً، أو تسليط اللسان، ويستخدمون هذه الوسيلة طلباً للوصل ولكشف مكنونات قلوبهم تجاه المحبوب.
باب الإشارة بالعين:
ويأتي هذا الباب عادة عقب باب التعريض بالقول. وللإشارة معان متعددة كالوعيد والتهديد والنهي والأمر والضحك والحزن والسؤال والإيجاب والعطاء.
باب المراسلة:
تنوب الرسائل عن المحب في سرد ما يشعر به تجاه المحبوب، كما تنوب عن رؤيته، ويقول ابن حزم إن هذه الرسائل يجب أن تكون مميزة الورق لأنها تعبر عن لسان المحب، وكثيراً ما تمتزج حروف هذه الرسائل بدموع المحب أو ريقه أو دمائه.
باب السفير:
باب السفير أو باب رسول الحب والذي يحب أن يكون لبيباً يفهم الإشارة، وأميناً أمانة مطلقة، كونه يحمل سر المحبين الذي إذا ما فضح تم القضاء عليهما. ويختار المحبون عادة شخصاً بسيطاً أو عجوزاً لا يشك بها، أو ذا صفة تمكنه من التقرب من المحبوب كالطبيب أو المعلم أو القريب قرابة عائلية.
باب طي السر:
يعد باب طي السر أو الكتمان من أحد صفات الحب، وفيه يتظاهر المحب بالصبر ويكبت نار الحب المتأججة في ضلوعه، ولا تظهر عواطفه إلا من خلال نظراته. قد ينجح المحب في البدء في إخفاء مشاعره، أما حين تستفحل هذه المشاعر يصبح من المستحيل النجاح في ذلك.
باب الإذاعة:
هناك ثلاثة أنواع من أبواب إذاعة الحب، أولها: محاولة المحب التشبه بالمحبين، ورغبته في أن يُحسب عليهم، وهذه عاطفة مزيفة، وثانيها: فتكون هنا إذاعة الحب لغلبة المشاعر على المحب بحيث لا يتورع عن المجاهرة بها متغلباً بذلك على حيائه. وثالثها: في حال رأى المحب غدراً أو مللاً أو كراهية من محبوبه، فيعمد إلى إذاعة حبه له وذلك انتقاماً منه، وهذا وجه مرفوض للحب وفعل ساقط.
باب الطاعة:
وباب الطاعة هو من عجيب ما يقع في الحب، حيث يطيع المحب محبوبه ويغير الكثير من طباعه لتتماشى مع طبائع المحبوب، لنرى مثلاً شرس الطباع وصعب الشكيمة بعد أن تنسم عبير الحب قد تحول إلى شخص سهل المراس ويستسلم استسلاماً كاملاً للمحبوب.
باب المخالفة:
وقد يركب المحب رأسه ويتعمد الحصول على شهوته ومسرته من محبوبه، شاء هذا الأخير أم لم يشأ، فيذهب غمه ويبلغ مراده، وهذا مرذول في الحب.
باب العاذل:
ويعتبر هذا الباب من آفات الحب، والعذال نوعان، فأولهما صديق، رقيق بالمحبين، يعرف متى ينهي، وثانيهما عاذل زاجر، لا يكف عن الملامة وهذا صعب الاحتمال.
باب المساعد من الإخوان:
وهنا يأمل المحب في العثور على صديق مخلص، وفي، كتوم، لطيف، أنيس، طيب الأخلاق وإلى ما ذلك من صفات حميدة ليصبح أنيساً له ولتنجلي الأحزان بوجوده. وبحسب ابن حزم، فالنساء أقدر من الرجال في المحافظة على أسرار المحبين وخاصة العجائز منهن.
باب الرقيب:
والرقيب من آفات الحب وأمراضه. ويقسم الرقباء إلى رقيب غير متعمد، تصادف وجوده في مكان اجتماع المحبوبين، فكان شاهداً على حبهما، ورقيب أحس بأمرهما، وأراد تبين ذلك، فعمد إلى مراقبتهما وإحصاء أنفاسهما. ورقيب على المحبوب الذي ما يلبث أن يتحول إلى رقيب له وليس عليه بعد استرضاء المحبوب له. والطريف في هذا الباب أن يكون المحب والرقيب على مذهب واحد في حب المحبوب فيتحول كل منهما إلى رقيب على صاحبه.
باب الواشي:
والواشي هو أحد شخصين واحد يرغب في الفصل بين المحبين كان يهمس في أذن المحبوب واشياً على المحب، أو هو واشٍ ليفصل بين المحبين، لينفرد بعدها بذلك المحبوب وليستأثر به.
باب الوصل:
باب الوصل هو وجه من وجوه العشق وأعلى درجة منه. وإن وصل المحبان إليه وصلا إلى الصفاء والسلام الكامل حيث تكتمل فيه الآمال والأماني.
باب الهجر:
من آفات الحب وهو على أنواع: هجر يفرضه وجود رقيب على المحبين إبعاداً للظنون، وهجر بغرض التذلل بهدف امتحان حب كل من الطرفين، وهجر لذنب ارتكبه المحب وهو موجع، لكن فرحة اللقاء ثانية لا تعدلها لحظة أخرى في الحياة، وهجر لملل أحد الطرفين من الآخر، وهجر المحب لمحبوبه لدى إحساسه بجفائه أو ميله إلى شخص آخر، وأخيراً هجر القلب وهو يذهب بالعقول وليس له دواء شاف.
باب الوفاء:
وهو من أهم الفضائل في الحب، وهو دلالة على طيب الأصل. وأولى مراتبه وفاء المحبين أحدهما للآخر، وهذا حق وواجب وثاني المراتب الوفاء لمن غدر، وهذا عادة ما يقوم به المحب وهو غير ملزم للمحبوب، وثالث هذه المراتب الوفاء حتى بعد قضاء أحد المحبين والعزوف عن الحياة والزهد فيها.
باب الغدر:
ويعتبر من الأعمال المذمومة.
باب البين:
سمع أحد الحكماء شخصاً يصف البين "الموت" قائلاً: الفراق أخو الموت، فرد الحكيم، بل قل إن الموت أخو الفراق.
وقد يكون الفراق لفترة زمنية محددة تشجي القلب وتؤلم صاحبها ولا يبرأ منها الإنسان إلا باللقاء، وقد يكون المحب والمحبوب في نفس الدار ولا يسمح لهما باللقاء مما يبعث على الحزن والأسى. وهناك فراق متعمد من قبل المحب خوفاً من أن يدري أحد ما بهذا الحب فيجبر الطرفان على الابتعاد.
وأخيراً بًينُ الموت، وهو أصعبها لما يصيب المحبين من حزن وألم لا يمحوه أحياناً إلا موت صاحبه.
باب القنوع:
وهنا لا بد للمحب بأن يرضى بحرمانه الوصل والاكتفاء بالقليل من المحبوب كالزيارة أو المخاطبة أو الاحتفاظ بشيء من أثر المحبوب وما إلى ذلك.
باب الضنى:
فبعد حالات الهجر أو الموت، يصاب المحبان بالمرض والنحول والسقم، وفي هذه الحالة الوحيد الذي يمكنه المساعدة هو الطبيب.
باب السلو:
والسلو هنا أو النسيان إما يأتي طبيعياً وكأن الشخص لم يحب أو لم يفقد حبيبه، فيوصف الشخص بأنه من ذوي الأخلاق المذمومة، وإما سلو قسري أو تطبعي، يرغم فيه الإنسان على التذرع بالصبر وإخفاء ما يعتري قلبه من حزن.
باب الموت:
تقول الأمثال: "من عشق فعف فمات فهو شهيد" إذ عندما يعظم الحب إلى درجة كبيرة ويحصل الفراق ينحل صاحبه ويضعف إلى أن يموت.
باب قبح المعصية:
وهنا يغلب لشخص شهواته على عقله. ويحسب ابن حزم فالإنسان يتمتع بطبيعتين: الأولى خبرة تغلب العقل على الشهوة، والثانية شريرة تغلب الشهوات على العقل، ويربط بين هاتين الطبيعتين الروح.
باب فضل التعفف:
يمنع التعفف الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويغلب العقل على الشهوة.
انتهى ابن حزم الأندلسي عند هذا الحد، مقدماً لنا كتاباً في الحديث عن الحب، واصفاً إياه بأنه استسلام غير مشروط وذوبان كامل للمحب بالمحبوب تحت وطأة العشق والوجد والوصل.