ماهر شرف الدين - العروس

* إلى زينب
مَدَد
كانت سرّتها أثر إصبع في عجينة، وفماً مختوماً،
وعيناً مغمضة. وكانت سرّتها تقول: المسني،
وتقول: احترس، وتقول: آه. وكنت إذا رأيتها أهرب،
وأقول لأمّي: رأيت هرّاً كبيراً. وكانت سرّتها زكيّة
كحفرة جديدة، وطافية كندب أو عضّة. وكنت أقول
للناس إنها كمين، وإنها حفرة مموّهة، وأوزّع
المناشير ضدّها. وكانت سرّتها تأتيني في المنامات
بقناع، فأضرب بقدمي على الأرض لتهرب، وأنقر
بإصبعي على الزجاج لتعود. وكنت إذا لحستُها تموء،
وإذا عضعضتُها تزأر. السرّة حلمة واطئة، وحبّة بظر
مرتفعة. السرّة هدف خاطئ، ونقطة رمي
مغشوشة. وكانت سرّتها حبّة فاصولياء بيضاء، ونقرة
خطأ على أصابع البيانو. وكنت أحسب الزغب الذي
يحوطها أهداباً، ودبابيس أقول للناس. لا تتثاءب
سرّتها كي لا تصبح فماً (المصوّرون يلتقطون صوراً
فوريّة لسرّة وقورة). وكانت سرّتها خابية للحَمَام
فيشرب، وجرناً للبطّ فينام. وكنت إذا الشفاه
استحلتْ أملأها حليباً. وفي الشتاء، زبدةً ومربّىً.
السرّة بصمة الله على البطن، نسيها لتكون دليلنا
عليه. وكانت سرّتها تغمزني كعين فأفرح، وتعضّني
كفم فأصيح. ولو كان لها لسان لتدلّى، ولو كان لها
لعاب لشربتُ. وكانت سرّتها تقف عند كشك الجرائد
ولا تشتري. وتقرأ واقفة كما لو أنها تقيس فستاناً.
وعندما يطردونها تقول: الجرائد كالفساتين.
وتطقطق بكعبها العالي. وكانت سرّتها حلقة ذِكْر،
فندوخ. وكان المتصوّفة يدورون فيدوخون. وكنتُ أدور فأدوخ.
وكان الأنبياء وكان الصالحون. ودارت سرّتها.
مَدَد. مَدَد. مَدَد. سرّتها التي لا تنتصب. مَدَد. مَدَد.
مدَدَ. سرّتها القادمة كوعد. مَدَد. مَدَد. مَدَد. وكانت
سرّتها ملوّنة كورق الرسائل، ومعطّرة كمناديل
المطاعم. وكانت إذا غمزتُها تضحك، وإذا نهرتُها
تتطاول كجرح عنيد. السرّة فأرة الجسد، وعدوّة
علماء الفلك. وكانت سرّتها سكّيرة تقول للناس:
سأتوب. وحشّاشة تقول للأهل: قريباً. وحين يلحس
الليل أسفل ذقنها تذهب إلى النايتات لتشرب،
وترقص مع الغرباء إلى الفجر. وحين يقولون خليعة
تغضب، وتنام على الكنبة البنّية. كان على سرّتها
أن تلبس سوتياناً كي نثق، وأن تضع قرطاً كي
نغرم. وكان علينا أن نرضى ونحمدها بسبحات المئة
حبّة وحبّة. سرّتها الليّنة كثدي، الطريّة على كلّ
حال. وكانت سرّتها أثر شتلة مقلوعة من البطن.
شتلة تبغ أو خشخاش. وكان المارّة يحسبونها
نعناعاً فيشهقون، والنساء يحسبنها حَبَقاً. السرّة
فرج مزيّف، أو مسدود، أو خامد أسوة بالبراكين.
السرّة عاصمة الزنّار، ونقطة التماس. نقطة حدودية
بين الصدر والمؤخّرة. وكانت سرّتها تلاعب الصابون
وتقول: يحرق عينيّ. وتكره الثياب الداخليّة وتقول:
أقفاص. وكانت إذا اكتأبت تنام على كرسي هزّاز،
وإذا أتتها الدورة تذهب إلى السينما. السرّة قمر
الجسد وعينه الجبانة. لا سبيل إلى الغدر في
السرّة لأنّها في البطن. لا ظهر للسرّة. أو لا سرّة
في الظهر. وكانت سرّتها محتارة كرقّاص ساعة،
وقبلها كانت حواجبي متواضعة، وبلا رعد أذناي.
وانفجرت سرّتها حليباً ولوزاً وعسلاً، وأكلنا وشربنا.
وكانت سرّتها من أهل الكرامات، تضيء القمر
كاللمبة، وتطفئ قاعة السماء بالسبّابة. وكنت
أرتقي سلالم الرجلين إليها، ودرج الركبتين إليها،
ومصعد الفخذين. سرّتها الصريحة كسهم،
المرسومة كمفتاح الصول. وكانت سرّتها أبخل من
أنف سبّاح، وأعند من صحافيّة مغمورة. وكانت تنزل
البحر بمايوه رفيع (لا يحجب البحر سوى مايوه!)،
حاسبةً الغرقى أسماك زينة. وكانت سرّتها متأنّية
وحكيمة، ولأنها كذلك قالوا: قفل الجسد. وقالوا:
قفل نهائيّ مفتاحه في بطن الحوت. وقالوا: سرّة.
وكانت سرّتها تكذب على الناس بلطف، وتثرثر مع
العابرين بلطف، وتسأل المارّة بلطف. وكانت
تستخفّ بالمؤخّرات التامّة، والأثداء الناقصة. السرّة
بانيو صغير. يروق سرّتها أن تُعرّف الشعر، فتقول إنّه
صلاة أمام مرآة. وتقول إنّه سرّةٌ عذراء. ويحدث أن
تعقد مؤتمراً صحافياً تعلن فيه: "النهدان خصيتا
المرأة، المؤخّرة قمّة سهلة، الجدائل بلا طموح"...
كانت سرّتها تغار وتحقد، وتردّ على الذين نادوها: يا
عقدة البطن، وتقضم أظافرها بأسنانها. وكانت
سرّتها بيضاء كلافتة للبيع، صغيرة وعنصريّة كطابع
بريد. تقود التظاهرات، وتُسقط الحكومات. وكانت إذا
أضربتْ عن الطعام، تقول: زمن الصوم. السرّة وجه
ممحو، وقبلة تظلّ. السرّة حكمة الجسد ولؤلؤة
البطن. السرّة جُحْر النظرة وقبو الأماني. وكانت
سرّتها تكتب الشعر في أوقات فراغها، والرواية في
دأوقات ضجرها. وحين نحتجّ تقول: أتسلّى.
وتقول: أقتل الوقت. وتستخدم الإصبع الوسطى. وكانت
سرّتها عدوّة للصدر، في الشتاء تهجوه: خيمتي
السيّئة، مظلّتي المفلوقة، سناما جَمَلي، مؤخّرة
في الأمام... وفي الصيف تعقد المقارنات: السوتيان
غمد الصدر، السرّة بلا غمد... كانت سرّتها نيتشه
صغيراً، تخبط بقدمها على الأرض، وتقول: أنا. وحين
نقول: حرام. تقول: أوغاد. وتنشّف شعرها أمام
المروحة. وكانت تربط عيون المعجبين كبالونات،
وتصعد في سيّارات الأجرة والنقل العامّ. وكان
الشعراء يتلون القصائد على رنّة حذائها،
والموسيقيّون يضعون العلامات الموسيقيّة على
سلّم تنهداتها. وكانت سرّتها تخلط البكاردي بعصير
الليمون، وترطّب الكعك بالشاي، وتشعّ كوجه
مذعور. السرّة قاع الجنّة وأرضها البائرة. السرّة
حفرة الخلد، وتلّة قزمة في سلسلة جبال الأنثى.
وكانت سرّتها ساحرة كصغار العقارب. تقول للأرض
قلب، وتضع أذنها على التراب وتنصت. تلعق جَزَر
الأصابع، وتكتب مذكراتها في دفاتر صغيرة. تحسب
العالم سرّة، والقمر سرّة، والناس. كان يا ما كان
حبّة عنب ستنفجر ادّعوا أنها سرّة. وكِلّة ولد ضائعة
زعموا أنها سرّة، وخرز ملوّن، وخاتم سليمان،
ومحارة صغيرة. كان يا ما كان سرّة ملمومة وسط
البطن حسبها المارّةُ برعم رمّان، والشعراءُ فَرْجاً غير
متفتّح. كان يا ما كان سرّة ليّنة وعجيبة، تتورَّد من
نظرة عين، وتحبّ النميمة، وتعشق القيل والقال.
كان يا ما كان سرّة صغيرة بحجم قلب عصفور.
عيناها لوزتان طويلتان. ويدها شمعدان صغير.
تمشي على رؤوس أقدامها حين تمشي على
رؤوس أقدامها. وتمدّ لسانها للمارّة والمباني
العالية. تكتب قصائد قصيرة وروايات قصيرة، وتحزن.
لم يمسك أحد بيدها حين كتبت قصّتها، ولم تلتقط
طفلة حبّات النجوم من بين خصلات شعرها الفاحم.
كان يا ما كان سرّة صغيرة بحجم قلادة عنق ذهبيّة،
نزلت الشاطئ يوم الأحد، وأحرقت جلدها بشمس
آب، وحسدت البحر على جلده. كانت حزينة
وفرحانة في آن. وكان المارة ينظرون إليها فيحزنون
ويفرحون في آن. وحين رأيتها مستلقية فوق الكنبة
البنّيّة فرحتُ وحزنتُ في آن. كان يا ما كان سرّة
صغيرة محفورة في عين سنونو كقفص. حين رآها
الرهبان خنقهم بخورهم، والعرّافون غيّروا التقاويم
الشمسيّة والقمريّة، وطمروا أجسادهم بتربة
زراعيّة. كان يا ما كان سرّة ملونة بحجم حبّة عنّاب،
يزعجها صغر نهديها. تقف على أصابع قدميها
حين تغضب. وعلى رؤوس شعرها حين تنام. تجلس وراء
الكيبورد. سريعة الملل والغضب. كان يا ما كان سرّة
ملولة تشرب العرق على الريق، والحليب على
الريق، والدمع على الريق، وحين نلومها على ذلك
تكتب الشعر على الريق. أخرجها الحزن عن صمتها.
تركت حجابها واستقلّت أقرب بوسطة إلى النايت
كلوب. لم نسمع حكايتها من قبل، ولا كتبت
الصحافة عنها. كان يا ما كان سرّة سحريّة وعجيبة،
وُجدت مرميّة على قارعة طريق. لم ينحنِ أحد
لالتقاطها، ولم يرها أحد. هكذا إذاً، سرّة ذهبيّة
بحجم الإصبع تقف أمام مربعات خشبيّة وترسم.
تصنع عقداً من قلوب حمراء، وتدّعي أنها خرز. لنا أن
نرفع حواجبنا، ولنا أن نغار وندهن مؤخّراتنا بالفلفل.
هكذا إذاً، لوحة كبيرة، وسرّة صغيرة تمسك
فرشاتها بكلتا يديها، وترسم أمام المرآة: ترسم
نفسها. هكذا إذاً، سرّة مهجورة كعشّ، وامرأة
صغيرة بحجم الإصبع ترفض حيازة سرّتها، تخشى
الاعتراف بها. هكذا إذاً، حلقة ذِكْر، وسرّة ملوّنة
بحجم برعم تدّعي أن الشمس بدعة، وأن جامعاً
قريباً لا يزعج. هكذا إذاً، كانت وسادتي الرقيقة أصل
الوجع في رقبتك، وأصل كوابيسك الليليّة. وكان
فراشي المهترئ أصل الألم في فقرات ظهرك. مع
ذلك لم تنتبهي إلى أن السماء مثبّتة بالصمغ، وإلى
أن الغريق هو السمكة الخطأ. مَدَد. مَدَد. مَدَد...


(2003)



. * عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان



.
صورة مفقودة
 
أعلى