مختار الخلفاوي - سياسة الجسد وتدبيره: ملاحظات على كتاب "الجسد والمجتمع، دراسة أنتربولوجيّة لبعض ا

- تنُوسيَ الجسدُ من التاريخ والمؤرّخين رغم أنّه كان وما يزال صانعَ مأساة..
جاك لوكوف (J .LE Goff ): تاريخ الجسد في العصر الوسيط ( بالفرنسيّة ) باريس 2003

كيف نقرأ التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والدينيّ والأخلاقيّ من خلال الجسد البشريّ عامّة والجسد الأنثوي خاصّة؟ إنّ تاريخيّة الجسد والجسد الأنثويّ خاصّة تكشف حجم المحرّمات في الثقافة العربيّة الإسلاميّة. وليس من القسوة أن نعترف بأنّ منظورنا العربيّ والإسلاميّ إلى الأجساد ما يزال منبنيا على ذهنيّة خرافيّة سحريّة، ولذلك بقيت النصوص والأدبيّات الجسدانيّة تدور حول تصنيف الجسد الأنثويّ بوصفه مركزا للرغبات والممنوعات في إطار من سياسة الشهوة وصناعة العنف.
كيف يتمّ تمثّل الجسد الأنثويّ في المجتمع الحفصيّ؟ و كيف يتمّ تدبيره من حيث هو إنتاج اجتماعيٌّ في إفريقيّة العصر الوسيط؟ كيف يتمّ التعاطي مع هذا الجسد في ظلّ شرط ثقافيّ مسيّج بكثير من الطابوات؟ وما الاستراتيجيّات التي تؤسّس لاشتغال الجسد في ظلّ هذا الشرط؟
لعلّه بهذا الكتاب الذي كان في الأصل أطروحة دكتورا نوقشت في قسم التاريخ بالجامعة التونسيّة أنْ يُذَلَّل من المآخذ الموجّهة إلى الممارسة البحثيّة في هذا الموضوع، إذ خصّصت مؤلّفته صوفية السحيري بن حتيرة ما يقرب من 358 ص للفحص عن الجسد والمجتمع، وكانت الباحثة نفسها قد أنجزت قبل ذلك بحثا عن " الجسد الأنثويّ من خلال كتب الجنس وكتب الطبّ في العهد الحفصيّ " سنة 1997 ممّا يجعل كتابها الجديد الذي نزل منذ أيّام واعدا بنتائج أعمق وبخلاصات أوثق.
سعت المؤلّفة، عبر دراستها الجسد، إلى المساهمة في التاريخ الدينيّ والذهنيّ والاجتماعيّ بإفريقيّة في العهد الحفصيّ. وامتدّ بحثها على محور زمنيّ مداه ثلاثة قرون من أواسط القرن 12 م إلى أواخر القرن 15 م، وهي الفترة التي يمكن القول إنّه قد ازدهر فيها أدب إيروتيكيّ ككتاب " نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب " للتيفاشي القفصيّ ( تـ 665 هـ) أو كتاب " تحفة العروس ومتعة النفوس " للتيجاني(تـ 709 هـ ) أو كتاب " الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي ( تـ 825 هـ ). بنت الكاتبة مبحثها على أربعة أبواب ومقدّمة وخاتمة للنتائج التي تمّ الخلوص إليها. تناولت في البابيْن الأوّل ( المرأة بين الثقافي والقدسيّ ) والثاني ( المكان كقطب للتوتّر والصراع ) منزلة الجسد الأنثويّ في المجتمع الحفصيّ. ودرست هذه المنزلة من خلال ما يحفّ بها من منظومات التحريم والتقنين والتسييج الفقهيّ والاجتماعيّ والعرفيّ حتّى عُدَّ الجسد الأنثويّ بوّابة للشيطان ومصدرا للفوضى ووعاء للشهوة تتهدّد المجتمع المسلم. وفي هذين البابيْن درست الجسد بوصفه فتنةً والبكارةَ باعتبارها شهادة على الشرف مع ما يكافئهما من إجراءات وقائيّة كالخفض والتصفيح ( وهو ممارسة سحريّة غايتها صيانة بكارة الأنثى من أيّ اختراق أو اغتصاب). ودرست الزنا والغيرة والحمل والعورة والنظر، كما درست الباحثة المكان فضاءً للتوتّر والصراع وحركة الجسد الأنثويّ بين المساجد والمقابر وأضرحة الأولياء والأسواق والحمّامات واللّباس وميل الفقهاء إلى الحدّ، قدر الإمكان، من حالات خروج النساء من بيوتهنّ حتّى نَهى بعضُهم عن صنع الأخفاف النسائيّة أصلا لكي تمتنع النساء عن الخروج.
على أن الباحثة لم تغفل عن الوقوف عند أشكال الخروج والانتقاض على الموانع والتحريم والكراهة التي خاضتها المرأة الحفصيّة عصرئذ، ورأت بأنّ المنع وتنظيم المنع لم يستطيعا أن يستأصلا " متعة " ارتكاب المحظور والممنوع والمحرّم فدرست الجنسيّة المثليّة واللّواط والسحاق والبغاء.. ولكنّها، أيضا، ألمعتْ إلى ما يمكن تسميته بمكتسبات المرأة التونسيّة في العهد الحفصيّ كحديثها عمّا يعرف في أحكام الأنكحة بالزواج على الطريقة القيروانيّة أو عن حقّ الإجهاض وهو حقّ ما زالت مجتمعات عديدة ترفضه إلى اليوم. فلقد اعتاد أهل القيروان منذ القرن الثاني للهجرة أن يشترطوا على الزوج في عقد النكاح ألاّ يتخذ زوجة ثانية أو سريّة، فإنْ أخلّ الزوج بهذا الشرط حُقَّ للزوجة تطليق نفسها، بل حقّ لها أيضا تطليق زوجة دخيلة عليها. ويذكر النفزاوي صاحب : الروض العاطر في نزهة الخاطر " والطبيب أحمد الصقلّي صاحب " موسوعة الطبّ الشعبيّ " وغيرهما وصفات مخصوصة " لإسقاط النطفة من الرحم " إذا دعت ضرورة أو كُرِه الولد رغم موقف شقٍّ من الفقهاء يعارض الإجهاض. ومرّت الباحثة، في البابيْن الثالث والرابع، إلى استصفاء صورة للواقع الفكريّ والسلوكيّ والوجدانيّ للمجتمع الحفصيّ، وكيف نظر إلى الجسد وتعامل معه في مستويات الجسد المتعدّدة: الجسد الأنثويّ، الجسد الجميل، الجسد المدنّس، الجسد الطاهر، جسد الوليّ الطاهر، الجسد المريض، وانتهاء بالجسد الميّت.
إنّ هذا الكتاب حاولت فيه صاحبته أن تعتمد منهجا تركيبيّا يتوسّل، وإنْ بدرجات متفاوتة، تقنيّات قادمة من قارّات السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والسيكولوجيا واللّسانيات والإستيطيقا، الشيء الذي يجعل منه، رغم النقائص، نصّا قويّا يستدعي القراءة والمناقشة والتفاعل معه. على أنّه من الصحيح أيضا القول إنّ المؤلّفة انصرفتْ أكثر إلى الاشتغال على النصوص فتعاملت مع المخطوطات والمطبوعات معا في المصادر، وهذا في حدّ ذاته جيّد، ولكنّها لم تبذل جهدا مكافئا في الاستناد على مراجع تناسب تلك المصادر. إن الإفادة من الدرس السوسيولوجيّ في حالة البنائيّة الاجتماعيّة مثلا تضعنا أمام أفكار جديدة تردّ على الصورة الرائجة للجسد البشريّ، وهي أفكار مؤسّسة على أن الجسد متقبّل بدلا من أن يكون منتجا للدلالات الاجتماعيّة (أنثربولوجيا ماري دوغلاس ) كما أنّ أعمال ميشال فوكو التي عدّها صاحبها، عن وعي، " تاريخا للأجساد " تجعل من مقاربته أمرا لا غنى عنه وخاصّة في ما يمكن تسميته بالجسد الخطابيّ الذي أسّس عليه فوكو تحليله وخاصة في الفصول التي تعرّضت فيها الكاتبة إلى المؤسّسات السجنيّة للنساء كدار الثقة أو دار جواد لـ" تأديب " المرأة الناشز، دون أنْ ننسى الاستفهام عن علّة غياب دراسات أرفنك كوفمان Goffman المنصرفة إلى علاقة الجسد بالهويّة الذاتيّة والهويّة الاجتماعيّة ولا سرّ غياب مقاربات بيار بورديو P .Bourdieu للجسد حاملا لقيمة رمزيّة عن الثبت البيبليوغرافيّ لكتاب في هذا الموضوع ( إذا استثنينا دراسات " جندريّة " ظهرت بالعربيّة بعد تاريخ المناقشة وقبل طبع الكتاب على أيّة حال لرجاء بن سلامة أو آمال غرامي مثلا ).
صحيح، يمكن أن نقول على مذهب الأستاذة منيرة شابوطو الرمادي في تقديمها للكتاب : " إنّ أقل ما يمكن أن نقوله هو أن السيدة صوفيّة السحيري بن حتيرة قدّمت للقارئ تأليفا متحمّسا ومشوّقا ( وهذا صحيح أوافق عليه بدليل أنّي التهمته في أيّام قليلة ).." ولكنّي لست مقتنعا بما أضافته قائلة " وهذه الدّراسة الجيدة مكتوبة بلغة أنيقة يستسيغها القارئ..". أمّا هذه فلا، لأنّ لغة الكتاب سهلةٌ ولكنّها، أيضا، ضعيفة الصياغة حينا كثيرةُ الأخطاء اللغوية البيّنة حينا آخر. ولكم تمنّيت لو نُقّي الكتاب قبل طبعه من شوائبه اللّغوية ومن بعض زلاّت الإحالة فيه حتّى لا تشين الكتاب ومنهجيّته الإجرائيّة وطرافة موضوعه.
ما نخلص إليه من هذا الكتاب القيّم بحقّ أنّ الجسد كاللّغة نظام من العلامات الدالّة المنتجة للمعاني، ولذلك فإنّ قراءة الجسد على أنّه نصّ تتيح فهم الجدليّة القائمة بين الفرد والمجتمع، فنقول إنّه لا وجود للجسد مطلقا، بقدر ما يرتبط ذلك الوجود بالعلاقة التي تحكمه بالفضاء الذي يوجد فيه. كما أنّ قراءة تاريخنا السرّي موشوما على أجسادنا لممّا يزيد من الرغبة في اكتشاف ما تتيحه هذه الزوايا في المقاربة الأنتربولوجيّة والسوسيولوجيّة والتاريخيّة.
في مقال لرجاء بن سلامة عقدته للإجابة عن سؤال: " من يمتلك الجسد البشريّ؟ ( الأوان ) " انتهت بعد اطّراح ملكيّة الجسد البشريّ للدولة أو للّه أو لصاحب الجسد نفسه إلى " أنْ لا أحد يملك جسد الإنسان، لا صاحبه ولا غيره لأنّه ليس شيئا مادّيّا يمتلك، ولأنّه خارج كلّ منطق امتلاك..» وإلى " أنّ الإنسان غاية في حدّ ذاته، وأنّه أعلى من كلّ شيء، وقيمته لا يمكن أن تقدّر بثمن، لأنّه خارج منطق التّقدير بثمن ". لوضع هذه المصادرة موضع الرهان حقّا لزم الحفر في " تاريخ الأجساد " في ثقافتنا، غير أنّ العرب لم يكتبوا، بعد وإلى اليوم، تاريخهم الجسديّ. وإلى أن يحصل هذا منهم تبقى منطقة خطيرة من تاريخهم في العتمة، أعني بذلك تاريخ المكبوت واللّامفكر فيه والمسكوت عنه في هذه الحضارة.

نقلا عن الأوان.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...