ابتسام القشوري - هوامل الجسد في الأدب والفنون

■ إنّ التعامل مع الجسد في كليته في الآداب والفنون مازال من المواضيع المُحرجة والمحظورة قي ثقافتنا العربية, فما عسانا نفعل لو تطرقنا لموضوع أكثر إرباكاً وهو هوامل الجسد؟ والهوامل هي المُهمَل من الأشياء, وحيث- يمكن القول- إنّ الإنسان كائن وَجهاني, يَنظُر الى الوجه ويُهمل أو يتعمد عدم الخوض في الأطراف الأخرى كالمؤخرة والأقدام والإبط. فيُطرح السؤال عن كيفيّة حضور هذه الهوامل في آدابنا وفنوننا الحديثة, بالإضافة إلى النظر في تراثنا العربي القديم وكيف خرج هذا الموضوع من مواضيع للتندر والفكاهة إلى علم رصين؟
طرح الصالون الأدبي «ناس الديكامرون» في تونس هذا السؤال, بحضور كل من الباحث في الفلسفة عدنان الجدي، ومشاركة الروائي كمال الرياحي تحت عنوان «الهوامل من المُستباح الى المُباح».
أكدّ الرياحي بداية أنّ النّاظر في تراثنا العربي وفي تلك المعاجم التي اهتمّت بالحيوان وبالبلدان وبالنباتات سيلاحظ غياب الجسد الإنساني في جزئياته, حيث لم تتناول هذه الموسوعات جسد الإنسان بالدراسة, ولم توله الأهمية الكبرى, نظراً لثقافة التحريم, خاصة بعد تراجع حضور الفلسفة مع نهاية القرن السابع الذي طّور المعارف من الكليات إلى الجزئيات, وكذلك بسبب حضور السلطة الفقهيّة التي أسهمت في تغوّل ثقافة التحريم وحاولت طمس اللذة على حساب تعالي الروح.
وعلى الرغم من هذا, إلاّ أنّ هذه الهوامل ظهرت مبثوثة ومتفرقة في أدبنا القديم خاصة في أدب «التندّر» في مؤلفات «الجاحظ», كما ظهرت في الشعر الجاهلي الذي اهتم في قسم الغزل بجسد المرأة وتفاصيله, مع مراعاة مقاييس الجمال الخاصة بعين الشاعر الجاهلي.
من جهته أكدّ عدنان الجدي أنّ الاهتمام بالهوامل كان حاضراً أيضاً في السنة النبوية التي تحدّثت عن كيفيّة تعامل المرأة مع الجسد وجزئياته، خاصة في علاقته بموضوع العبادات, غير أننا نلاحظ تراجعاً كبيراً في الاهتــــمام بهذا الموضــــوع في أدبنا وفنوننا الحديثة.
علماً أنّ الاهتمام بهوامل الجسد لم يبرز في الحضارة الغربية إلاّ مع نهاية القرن التاسع عشر, خاصة بعد ظهور الصورة الفوتغرافية. حيث ظهر الاهتمام بجزئيات الجسد والخروج من الاهتمام الشامل بالجسد الى التدقيق في الجزئيات المُهملة.

*- حداثيات الإبط في الأدب والفنون :
يقول المخرج السينمائي تودورفسكي: «أحُب أن أصوّر النساء (..) الطبيعة النسائية لغز». في شريطه السينمائي صوّرها على طبيعتها بعدما كانت الصورة النمطية هي لجسد المرأة الحليق. وكان إشهاراُ ظهور المرأة في مشهد سينمائي بالشعر في الأماكن الحميمية, الأمر الذي تزامن مع ولادة الحركات التحرريّة أواخر القرن العشرين والحركات النسويّة.
من السريالية السينمائية انتقل عدنان الجدي بنا الى الفن التشكيلي والتغير الحاصل في رسم جسد المرأة, من لوحة «جيورجيون» المعنونة «فينوس النائمة ـ 1510» التى تَظهر المرأة في كل جمالها الأنثوي الكلاسيكي, إلى لوحة «أولمبيا- 1964» أو «الغانية» لـ»مانيه» التي شكّلت آنذاك صدمة في عالم الرسم، حيث مثلت اللوحة صورة امرأة عارية في طبيعتها جسد غير حليق بنظرتها الغامضة والمستفزة, وقد تساءل مانيه: «لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟».
دشّنت لوحة «آنسات أفنيون» لبيكاسو عهداً جديداً في تاريخ الفن المعاصر, فبالإضافة إلى عمقها الفني, تمازجت الفتيات بين الأجساد، الأجساد الحليقة والأجساد غير الحليقة. فريدا كاهلو قدّمت نفسها في لوحاتها, ولم تكن تحرص على تخليص جسدها من الزوائد فتحافظ على شعر حواجبها وأعلى فمها, وهي من خصوصيات المجتمعات اللاتينية.
بخصوص المجتمعات العربية أضاف كمال الرياحى أنّ حضورالجسد غير الحليق مرتبط بالعذرية في المجتمعات» البكاراتية» بعبارة ابراهيم محمود, كما أنّ الديانة اليهودية لا تعترف بالجسد الحليق, وتحرّم على المرأة حلق الاماكن الحميمية والحواجب, كما تجبر على عدم قص شعرها وكل ذلك لمنع المرأة والرجل من التمتع بالجسد والاحساس باللذة.

*- أدبيات العجيزة مؤنثاً ومذكراً:
« هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة = لا يشتكى منها قصر أو طول»,
هكذا قال الشاعر كعب بن زهير في قصيدته المعروفة بـ»البُردة». والعجز في المعجم العربي هو مؤخرة المرأة فكان العرب قديما يفضلون المرأة متوسطة القامة, مشدودة الصدر, مُمتلئة المؤخرة والأرداف. غير أنّ هذه المقاييس تغيّرت في الثقافة العربية الحديثة. يؤكد عدنان الجدي على أنّه رغم ضعف اهتمام المفكرين العرب بموضوع المؤخرة, فقد أشتغل الكاتب السوري محمود في كتابه «جنازة مؤخرة في مئة وواحد وعشرين نصا» على جمع ما أمكنه من المؤلفات التي تطرّقت لهذه المُهمَلة من الجسد, حيث يفضح حضور هذا الغائب الحاضر في الثقافة الإنسانية بدءاً من العصر الأموي الى أبو نواس وذو الرمة إلى حنظلة، وصولاً إلى شاكيرا في دراسة مستفيضة لتاريخ المؤخرة الاجتماعي والميثولوجي. وقال محمود عن دوافع كتابته: «الاهتمام بالمهمل من الجسد عبر اللغة هو محاولة لرأب الصدع الكبير للجسد عبر الاعتراف بتكامله».

الكتاب الثاني الذي تحدّث عنه الجدي هو كتاب جان ليك هينيغ المعنون «تاريخ الأرداف الموجز», وقد اكتفى مترجمه إلى اللغة العربية باختصار اسمه (ش بيطار), وهذا دليل آخر على إحساس المترجم بالإحراج الذي يسببه الموضوع الذي تعمقه ثقافة المنع والتحريم.
في الكتاب ينتبه هينيغ في بحثه عن توصيف المؤخرة إلى تنويعات المفردات اللغوية, ويقول: «لم يتحلّ الإنسان بذلك الجزء من جسده إلاّ بعدما وقف على رجليه, لأنّ الحيوانات التي تمشي على أربعة قوائم يُطابق ذلك لديها امتداداً لأفخاذها».
أمّا الوجود الرّمزي والنقدى للمؤخرة فنجده عند رسام الكاريكاتور الفلسطيني «ناجي العلي- حنظلة», فلطالما وجّه العلي مؤخرة «حنظلة» في وجوه كل السياسيين كرمز للاستخفاف بهم وأهانتهم. وكذلك في أقصوصة الكاتب المصري يوسف الشاروني عن نكسة (1967).

ختاماً تحدّث الجدي عن الأقدام بوصفها أحد هوامل الجسد, معتبراً أنّ قصة «ساندريلا» تُعزّز من الهويّة الجنسية لقدم المرأة, فهذه القصة تدعو بطريقة غير مباشرة للاعتناء بأقدامهن. وأوّل من اعتبر القدم جزءاً مُثيراً هو العالم والطبيب النمساوي فرويد, الذي رأى أنّ الانجذاب والإذعان الجنسي بالقدم يتشكل خلال مرحلة البلوغ.
بدأ الاهتمام بالأقدام في الأدب مع مازوش, أمّا سينمائياً فمع الشريط السريالي «العصر الذهبي» للمخرج الإسباني لويس بونويل.

في الختام, لوحظَ حضور هوامل الجسد في تراثنا العربي وإن كانت مبثوثة ومتفرقة, وأنّ مُعظم مؤلفي المباحث التي ذكرت هذه الهوامل كانوا من القضاة والفقهاء ورجال الدين, هذا في مقابل عزوف وإهمال من طرف الأدب الحديث نتيجة للإحراج الذي يمثله مثل هذا الموضوع. علماً بأنّ الاعتناء بهوامل الجسد لا يجعلنا قرّاء سيئين أو كتاباً إباحيين, فهذه ليست دعوة للعُريّ بقدر ما هي دعوة لتعرية ما يؤثر فينا يومياً ونتستر عليه!



*- ناس الديكامرون: صالون أدبي من أبرز المرافئ الثقافية في تونس. أسّسه سنة 2011 الروائي التونسي كمال الرياحي مع ثلة من المثقفين, يناقش اليومي ويطرح القضايا المحظورة كالجريمة والاغتصاب والجنون والجثة في الآداب والفنون.

٭ كاتبة تونسية
ابتسام القشوري

.
 
أعلى