محسن بوعزيزي - دفاعاً عن الفحش

1- دفاعاً عن الفحش لـ محمد بن سلامة
تعطي هذه الدراسة الكلمة لمن يعيشها، فتسمع وتقرأ أصوات النّاس وتعبيراتهم على سجيتها. وتركز على الملفوظات تفرّ من اللسان، فلا يستطيع احتباسها. إنه مجال التعبيرات "الفاحشة"، "المتوحشة"، التي تصم الآذان ويثقل سماعها على من لم يألف تداولها. والحال أنها ملفوظات قد تكون أكثر عضوية وارتباطاً بالأرض وارتباطاً من تلك المفردات التي تشتق من نظام اللغة "الشرعي"، بنحوه وصرفه وبلاغته النصيّة. هذه اللغة الفاحشة تبدو مسيطرة على متكلم، تتكلّم من خلاله، حتى يبدو كأنه ليس في موقع السيطرة على ما يتفوّه به منها، إذ تتفلّت منه أحياناً فلا يقدر على حبسها فتبدو بمثابة "الزلة" قد تسبب حرجاً اجتماعياً. هنا تبدو اللّغة فاعلاً يسيطر على متكلّمه، يباغت الملفوظ مستعمله وينقضّ على العبارة ويقتحمها اقتحاماً. وكم من حرج اجتماعي كان مصدره هذه اللغة المتكتمة.
يسمى هذا النمط من التعبير في العربية "فحشاً" وفي الأنقليزية نفاية (Rubbish) وفي الفرنسية "لغة خضراء" (Langue verte) و"فظّة" (Mots grossiés) وكذلك "كلمات نيئة" .(Mots crus) ورغم ما في هذه التسميات من معيارية واضحة، فإنها تستحوذ في بعض الجغرافيات الاجتماعية على متكلّمها، وتكشف عن عناصر جمالية لا تقل إيحاءاً في بعض المواضع عما هو معروف من أحداث بلاغية متواضع عليها في الشعر والأدب والنثر.
هذا ما تحاول الدراسة إثارته، استناداً إلى جلسات تصنّت في بعض مقاهي المدينة موزّعة في جغرافيات اجتماعية مختلفة حاولت المقارنة للمقابلة بين الشعبي والرّاقي من الأحياء. هذا السماع خلسة إلى محاورات شباب المقاهي مكن من جمع مدونة نصيّة من الملفوظات تصنّف اجتماعياً ضمن "الكلام الخائب" أو "السوقي" في مقابل "الكلام الباهي" على معنى "المهذب". فالتفاعل الطبيعي بين أفراد المجموعة وحده القادر على كشف الفروقات الدقيقة للغة الفحش. وإذا ما تنبّه المتحدّث إلى أنه مراقب، يبدأ في تنميق لغته وفرز ما يناسب منها من كلمات تتوافق مع وضعية تواصل اقتحمها جسم غريب.
ويجدر التنبيه هنا أن اللّغة تتكلّم فحشاً، وعلى لسان ذكوريّ، شابّ، قليل الاندماج، إن لم يكن هامشياً، مقصى من النظامين الاجتماعي والاقتصادي، يسكن الأحياء الشعبية في الغالب تربّى في أحضان ثقافة ممتزجة ترجع إلى الريف وتلُمّ بالمدينة. وعادة ما يكون هذا اللسان الذكوري أيضاً أمياً أو قليل الحظ في الدراسة بعد أن غادرها باكراً، فجاء في قطيعة نسبيّة مع "الثقافة الشرعية" المهيمنة ولغتها.
ولأن "القبح" أو"الفحش" في اللّغة تعبيرة وليدة أوضاعها وظروفها فإن هذه الدراسة تنزع عنه كل حكم معياريّ يرى فيه استعمالاً نزقاً، فاسداً، يصدر عن "سواد النّاس" الذين ترسّخت في ملفوظاتهم (Enonciation) الكلمة "الفاحشة" حتى خرجت عن المراقبة.
ولقد جرى تصنيف الفحش في الدراسات الإنسانية ضمن أحد تجليات العنف اللفظي في خانة ما هو سلبيّ تنتجه "السّوقة" من الناس دون غيرهم، فكلّما لانت الكلمة ضمن هذا التصنيف المعياري، كان ذلك دليلاً على الرّقيّ والوجاهة الاجتماعية. وكلّما فحشت الكلمة، كانت مؤشر انحلال وفساد.
على أن الفحش، بقبحه، قد يستبطن جمالاً وبلاغة، وقد يكشف أبعاداً اجتماعية واقتصادية وسياسية وجغرافية ما كان للباحث فيها وعنها أن يتنبه إليها دونه، إذا ما رفعنا عنه صفته السالبة التي علقت به وتعاملنا معه على أنه نسق من الملفوظات ذات طبيعة اجتماعية وليست فردية. ومن المفاجآت الممكنة أيضاً ما يمكن أن ينشأ من علاقة بين الفحش وضيق المجال إذا رام الباحث تحسس أطلسه. حينئذ سيتنبه بيسر أن الفحش يقلّ كلما اتسع المجال بالمعنيين المادّي- الجغرافي والاجتماعي ويتكثّف فيطغى بضيقه. هذه المعادلة يمكن معاينتها بيسر، إذ يكثر الاستعمال الاجتماعي للفحش في المدينة وخاصّة في الأحياء السّكنية الشعبية، عالية الكثافة السكّانية ويقلّ في الريف حيث المجال ممتدّاً وعدد السكّان ضعيفٌ.

وبصرف النظر عن لا معيارية لغة الفحش التي لا تخضع لقواعد موضوعية وتروغ عن قواعد النحو وتتفلّت من قوانين الألسنية، فإنّها تغني اللغة وترفدها ولا تنقض عراها. ولأنها لامعيارية فهي تتغيّر باستمرار وتتطور بإضافة ملفوظات جديدة، مبتكرة أحياناً ومنحوتة أحياناً أخرى. وما إبداعيتها إلاّ مظهراً من مظاهر تملّصها من أنظمة المعايير الثابتة والمفروضة من قبل الثقافة "الشرعية" المهيمنة. ولأنها كذلك متفلّتة من الضوابط المتواضع عليها "رسمياً" فإن منتجيها ومستعمليها هم خاصة من الهامشيين والفقراء والعاطلين وساكني الأحياء الشعبية المكتظّة. هؤلاء الذين لا يعرفون القواعد التقليدية للغة ولا يعيرونها اهتماماً تتجلى لديهم نشاطات إبداعية لغوية لافتة للانتباه خاصة إذا تعلّق الأمر بهتك ستر المحرمات. هذا يعني مع "Jean-Jacques Lecercle" وخلافاً لـ فرديناند دي سوسير أن الأنشطة الإبداعية للغة قد توجد أيضاً خارج نظام اللّغة(1)، أي في منطقة "المتبقي" أو "البقايا" أو "الفواضل" التي لا مكان لها داخل النظام.
هذه المنطقة المظلمة التي يتحدث عنها "Lecercle" هي نفسها تقريباً ما تحاول هذه الدراسة لفت النظر إليها. إنّه ذلك الجانب المظلم "الهذياني"، المنبعث من فاعلين لا يعرفون "اللغة الشرعية" أو قد لا يرغبون عمداً في التفاعل معها والتواصل من خلالها. ومع أنّه جانب مظلم، "متوحش"، نزق، فهو يتسم بالإبداع والاستعمال الخلاّق للغة مخترقاً في ذلك كل القواعد الأخلاقية والاجتماعية والدينية وخاصة النحوية. ويجدر التنبيه إلى أن هذا "المتبقي" كما يسميه "Lecercle" أو هذا الفحش قد يكون في بعض المواضع أكثر بلاغة وراهنية ودقة من نظام اللغة الشرعي. وهو تفوّق له ما يبرره، فالمتبقي أو الفحش، والملفوظ بصورة عامّة يرتبط بعملية التغيير اللغوي، إذ يقترن بسياق الاستعمال (Diachronie). أمّا نظام اللغة أو اللسانيات السوسيرية فتأخذ اللغة في لحظة معيّنة من الزمن (Synchronie) بالتركيز على الثبات أكثر من التغيير. خُذْ مثلاً كلمة "براعم" التي تطلق على تلك الأذرع المتوحشة التي تنبت في جذع الشجرة فتعطّل نموّها. هذا الدال "براعم" لا يعبّر بقوّة عن مدلول الأذرع المزعجة، المعطلة للنمو. في حين أن الكلمة المتداولة اجتماعياً "الرّضّاع" تبدو أكثر تطابقاً مع ما تشير إليه. من معنى: فهو "يرضع" عناصر نمو الشجرة. هذا يعني أن الدّال الشائع في الاستعمال اليومي ليس أقلّ قدرة تعبيرية وبلاغية من الدّال الدّارج في فصحى اللغة، ولعلّه أكثر قدرة وتطابقاً مع مدلوله.
يبدو الفحش في بعض المواضع حاجة اجتماعية ونفسية، ملاذاً لإخفاء الضعف والتظاهر بالقوّة. وكلّما بالغ الشاب في فحشه وهتك ستر الفصحى والتملّص من المعايير الاجتماعية في مستوى التعبير، أثبت انتماءه إلى المجموعة وانسجم مع نظامها الخاص كأن ينعت نفسه وبنوع من التفاخر بأنّه "ابن قحبة" كتعبير عن التمايز والقدرة على الهيمنة وافتكاك المواقع. إنها صرخة المنبوذ (paumé) الذي لا يجد له أفقاً في الثقافة السائدة ولم يفتك موقعاً ضمن المجموعة المركزية كما يقول وليام لايبوف(2) (William Labov).
الفحش عنصر من عناصر القوّة يستند إليه المهمّش أو المقصيّ أو الشابّ الذي لا عمل له، ليخفي ضعفه ويفرض سطوته. ولسان حاله يقول «أنا أنتمي إلى هذا العالم المتفلّت من كل الضوابط الرسمية والأخلاقية. أنتمي إلى من حولي وأرتبط بهم وأفهم لغتهم التي تهتك ستر المحرمات».
الأصل عند هذه المجموعات الاجتماعية هو أن تستعمل مثل هذا اللّسان الفاحش. والاستثناء هو أن تتنكّر له فتصبح خارج التصنيف. فالفحش هنا معيار اجتماعي من معايير الانتماء والارتباط بالمجموعة. وبقدر ما تصبح لا معيارياً في الفحش، تتصالح مع المجموعة. وبقدر ما تكون اللّغة مراقبة ونقيّة، تزداد هشاشة انتظامك داخل المجموعة. هذا يعني أن الفحش هو المعيار المهيمن في لهجة بعض الأصناف الاجتماعية الشابّة التي تسكن الأحياء الشعبية. أمّا اللغة العربية الفصيحة، لغة الأقوياء والناجحين، فلا حظ لها ضمن هذا الاستعمال، بل إن مستعملها، هنا، وضمن هذه السياقات يصبح عرضة للتهكّم والاستهزاء. اللّغة المبنية التي تراعي نحو وصرف المدارس والمؤسسات الرسمية لا تسمع، أو لعلها تثير النفور والسخط لدى شباب الفئات الشعبية الذي انقطع باكراً عن الدراسة. إنه ميال إلى استعمال "لغة خليط". (code-switching) أو إلى التنوع الحرّ في استعمال الألفاظ (variation libre) غير المبنية وغير الخاضعة للتقنيين أو التقعيد. وقد يخفي التمرّد على قواعد اللغة وضوابطها المنطقية رغبة في التحرّر من أوضاع المقصيّ وظروفه. وبهذا المعنى يكون الفحش واستعاراته سلطة بيد الضعفاء، المقصين، المطاردين من النظام الاجتماعي. إن خطاب الفحش بهذا المعنى ردّ على الهيمنة التي تنتجها كل أصناف السلطة اقتصادية كانت أو دينية أو سياسية. ولكنه لا يقف عند هذا الحدّ، فيكون مجرد ردّة فعل متمرّدة على سلطة قاهرة وعنيدة، بل، يبدو كذلك أحد العناصر المساندة للسلطة. وكم من زعيم سياسي في التاريخ عرف بلسانه "الفاحش" والمحبب لدى الناس، فيتندروا بفحشه. وهنا يبدو الفحش في الاستعمال ظاهرة معقّدة، نفشل في فهمها ما لم نأخذ في الحسبان الغايات المتشعبة، المستهدفة.
والفحش أيضاً وفي بعض أبعاده مرتبط بالرّغبة، الرّغبة الجنسية التي أسكتها النظام الاجتماعي أو الظروف الذاتية. وبما أنه المتنفّس الوحيد الأسهل في الغالب، فقد أصبح خطاباً يكاد لا يمكن إيقافه، يخترق المجال العام كل لحظة، بصرف النظر عن السياقات. وكلّما حاولت إخفاءه طفا إلى السطح بأكثر قوّة ولكن بتلوينات جديدة.

2 - العبارة السوداء؛ وليام لايبوف
يمكن أن نفهم صراعات المدينة وتنضيداتها وتقسيماتها الاجتماعية عبر اللّغة. ففي المدينة تتوزّع اللّغة كما تتوزع التقسيمات الحضرية. وللشباب نشاط حيويّ في صياغة لهجات المدينة، إذ ينتقي ويستعمل من المفردات والألفاظ ما يناسب مرحلته العمرية ورغبته في الانتماء.
هذا ما فعله "وليام لايبوف" حين درس جماعة تقطن جزيرة (Martha’s Vineyard)، واهتم بالتنضيدات الاجتماعية لمدينة نيويورك ومنطوق - شبابها السود. وهنا ينتبه إلى أن الفشل المدرسي مردّه فروقات في اللّهجة تخفي صراعات سياسية وثقافية تساهم في فشل التلميذ بعد أن ألقت بظلالها على المدرسة.
يبحث لايبوف في الدراسة الأولى التي اهتمت بسكان الجزيرة في علاقة التغيّرات الصوتيّة بالتغيّرات الاجتماعية. فيلاحظ أن من يرغب في البقاء والاستقرار في هذه الجزيرة الوعرة يستعمل إيقاعاً صوتياً محلياً. أما من يرغب في المغادرة فإيقاعه الصوتي يصبح قارياً (Prononciation continentale)(3).
وفي دراسة أخرى يحلل لايبوف تنضيدات الـ "R" في المغازات الكبرى بنيويورك استناداً إلى تمشّ نظري ومنهجي يربط باستمرار بين التنضيدات اللّسانية والتنضيدات الاجتماعية ليبين أن كيفية نطق هذا "الصوتم" يرتبط بعوامل فوق لسانية من قبيل المكانة الاجتماعية. وفي مؤلفه "الكلام المعتاد" يهتمّ لايبوف بلهجة سود أمريكا من الشباب، فيلاحظ أن صعوبات تعلم الانقليزية مردها صراع بين لهجتهم المحلية شديدة الترسخ لديهم بفعل ثقافة الشوارع والإنقليزية الرسمية. هذا يعني أن الصراعات الثقافية تبدو العامل الأول في الفشل الدراسي وتعلم القراءة والكتابة. أما المحيط المدرسي فلا تأثير له على أطفال تشبعوا بثقافة الشوارع(4). ويقارب لايبوف لغة السود دون أي تمييز عنصري، إذ يرى فيها حدّاً من التجانس والانسجام مثلها مثل لغة الطبقات الغنية.
يفند لايبوف أطروحة الدونية الجينية التي ترى فقراً في العبارة السوداء جرّاء الحرمان اللّفظي والثقافي الذي شهده الطفل في سنوات تكوينه الأولى. وهي أطروحة سادت فيما أنتح من أعمال تصنف ضمن علم النفس المدرسي. فالطفل الأسود يبدو، من هذه الوجهة، أقلّ حظّاً أثناء تنشئته الأولى في التقاطع مع العبارة السليمة، مما يفقر قدرته التعبيرية. وخلافاً لهذه الأطروحة يعاين لايبوف كفاءة لفظية لدى الأطفال السود ساكني الأحياء القصديرية الحضرية، وهي كفاءة لا يتمتع بها أبناء الطبقة الوسطى، عكس ما أكدته بعض أعمال اللسانين وعلماء نفس المدرسة. فقد تعاملت هذه الأعمال مع الأطفال السود بطريقة عدمية إذ تراهم أطفالاً بلا لغة(5) ودون أدوات تسمح لهم بالتفكير المنطقي.
ما يفعله لايبوف في تحليله السوسيولساني يتقابل مع مقاربة فرديناند دي سوسير في تعامله مع اللغة، إذ جردها سوسير من سياقاتها الاجتماعية والتاريخية وفرغها من مضامينها الاجتماعية ليبحث عن العلامة في ما تنسجه الكلمة من علاقات داخلية خارجة عن ظروف إنتاجها. اللّغة عند سوسير نظام من العلامات موضوعة اعتباطاً، يصعب فهمها إلاّ من خلال فهم النظام ككل، ومن خلال علاقاتها في ما بينها، وتفقد معناها خارج هذا النظام. فكلّ علامة من العلامات التي تكوّن الجملة تستقي معناها ووظيفتها التواصلية من العلامات الأخرى التي توجد معها. هكذا ينشأ مع سوسير نظام لا تاريخي ولا اجتماعي، حيث تختزل عملية التواصل في أنظومات مجرّدة ولا يدخل فيها التفاعل بين أشخاص فعلين يجري بينهم الكلام(6).
وبعيداً عن هذا المنحى السوسيري، يدرس لايبوف النحو وما يطرأ عليه من تغيّرات نجمت عن بنية التفاعلات الاجتماعية. فيركز على "لغة المنبوذين" (langue des paumés) الذين أطردوا من ثقافة المجموعة المركزية(7)، فلا مكان لهم فيها لهامشيتهم وفسادهم وتخلفهم الذهني (mentalement taré)(8). ومع هؤلاء تبدو قواعد النحو متحركة بحسب الأوضاع والاستعمالات والتفاعلات. فالفعل ضمن هذه الثقافة "العاميّة" لا يتوافق مع فاعله، مثلما هو الشأن مع الفعل "to be". والمثير في هذا العمل الذي قدمه لايبوف في: "الكلام المعتاد" انحيازه، وعلى غير المألوف، إلى ثقافة المنبوذين، إلى حدّ إبرازه لعناصر التفوّق لديهم بالمقارنة مع أفراد المجموعات المهيمنة داخل ثقافة العامة (culture vernaculaire).

3- اللغة والهيمنة الذكورية
تختزل المرأة في اللغة عادة في بعدها الأنثوي. فهي "المرا" بحذف حرفين منها، وهي "المرا متاعي" تأكيداً للهيمنة وطول يد الرّجل عليها، إذ لا تعدو أن تكون متاعاً له ومرتبطة به كارتباط الأصل بالفرع. وهذا الاستعمال دارج لدى أغلب الفئات الاجتماعية في تونس، رغم أنه يقل في "الراقي" من الأحياء ولدى الفئات الاجتماعية المتعلمة والشابة. وعند هؤلاء فقط تظهر المرأة-الزوجة في الاستعمال. وبصورة عامة يحرص الرجل على إحكام السيطرة كشكل من أشكال التمايز، بعد أن فقد قلاعاً أخرى كانت بالأمس حكراً عليه. ومن مساحاته الخاصة بثقافته. اللغة آخر معاقل الرجل في صراعه مع المرأة، وفيها لا تمثل سوى مجاز رمزي أو مخيال ذهني ينسجه الرجل حسب دواعيه البيانية والحياتية. ومن شدة هيمنة المفردات الذكورية، فإن المرأة تتنازل أحياناً عن أنوثتها اللغوية "لتسترجل"، وتمارس لغة الذكر كاستعمال القضيب في استعاراتها ومجازاتها(9)، كأننا باللفظ الفحل وحده قادر على التبليغ. وتوجد أسماء عوائل كثيرة استنبطها الاستعمال الاجتماعي المحلي للإشارة إلى ذكر الرجل وجهاز الأنثى واسعة الانتشار لدى مختلف الشرائح الاجتماعية ولاسيّما الأنثى. وأبرز هذه الأسماء العوائل ما يشير إلى الأعضاء التناسلية وتلتقي في حرف "الزاء" الذي صار مشبوهاً لاقترانه بمثل هذا الاستعمال. ومن الناس من يحرص على كبح جماح لسانه فيعوض الاسم الذكري بإبدال حرفه الأخير"ب" بـ: "ح" أو "كش".
يعود هذا إلى هيمنة ثقافة تاريخية كانت فيها ولا تزال المرأة معنى من معاني اللّغة: «وبما أن المرأة معنى والرجل لفظ، فهذا يقتضي أن تكون اللغة للرّجل وليست للمرأة. فالمرأة موضوع لغويّ وليست ذاتاً لغوية. هذا هو المؤدى الثقافي التاريخي العالمي عن المرأة. وفي كل ثقافات العالم تظهر المرأة على أنها مجرّد معنى من معاني اللغة، نجدها في الأمثال والحكايات وفي المجازات والكنايات. ولم تتكلّم المرأة من قبل على أنها فاعل لغوي أو كائن قائم بذاته.
والمعنى البكر بحاجة دائمة إلى اللفظ الفحل لكي ينشأ في ظله»(10). الأصل لدى المرأة التذكير، خاصة في الأحياء الشعبية، لأن الذاكرة ذاكرة فحولة. وهنا تردّد المرأة، خضوعاً للفارق التاريخي الذي تحول إلى واقع تاريخيّ: «الرّاجل راجل والمرا مرا» أو «كلمة رجال» إذا أرادت أن تقطع عهداً. وهو فعل استلاب فردي وجماعي للغة الأنوثة وخاصياتها. على أن امرأة الجغرافيات الحضرية استردت بعض ما طمسته الذكورة عبر التاريخ من خصائص لغوية إذ يهيمن ضمير المؤنث "أنتِ" هيمنة تصل حد تأنيث المذكر. أما في الريف فيلغى التأنيث بتذكير المؤثث "أنتَ" أيضاً. الذكورة هي الأصل في الريف. أما في المدينة فيلغى الضمير المذكر من الاستعمال ليدخل الرجل في السياق الأنوثي للغة. ويقبل رجل المدينة بأن يكون في حقل التأنيث. في حين تقبل امرأة الريف بأن تنخرط في حقل التذكير. ولعلّ المجتمع التونسي هو المجتمع العربي الوحيد الذي لم يستطع تحصين الذكورة من "شوائب التأنيث".
إن احتماء المرأة بالقوانين والتشريعات جعلها أكثر عرضة للتنكيل الذكوري بواسطة اللّغة كالتشهير بالجسد المؤنث وتعويضه للإغراء الشبقي الفاضح. ولم تسلم الأم من هذا التنكيل بل إنها، على قداسة قيمتها، الأكثر عرضة لهتك السّتر. وليس هذا دارجاً في الاستعمال الاجتماعي التونسي فحسب، بل في التعبيرات الجمالية الفنية قديماً وحديثاً. فهذا المعرّي يرفع عن المرأة - الأم قدرتها على تربية وليدها:
إذا بلغ الوليد لديك عشراً فلا يدخل على الحرم الوليدُ
ألا إن النساء حبال غيّ بهنّ يضيّع الشرف التليد(11)
اللغة كانت ولا تزال في صالح الذكورة. ولقد اتّجه النحو العربي إلى إبراز الهيمنة الذكورية كغلبة التذكير على التأنيث، وجعل التأنيث مجرّد فرع من أصل ذكوريّ. ويتوافق المنطوق الذكوري أيضاً مع هذا التوجه ليختزل المرأة في بعدها الجنسي، الشّبقي، فهي فرج تلوّن في استعارات مختلفة. وبقدر الاستعارة الأنثوية تكون الفحولة في أكثر مظاهرها قوّة وسطوة.
إنّ النظام اللغوي الفاحش لدى الشاب التونسي ساكن الأحياء الشعبية يشتغل كآلة رمزية كبرى تنزع إلى إقرار الهيمنة الذكورية في الظّاهر كالقول "أكلت فتاة" يعنى أنه واقعها أو "قَطَّعْتُ فتاة" بما في ذلك من نهم وتعطّش للجنس وخاصة إخفاء العجز وإثبات الفحولة. واللفظة الأكثر انتشاراً للتعبير عن السطوة الذكورية، أو لعلها هيمنة مفقودة هي "الأكل" على معنى ممارسة الجنس كالقول مثلاً «أكلت فتاة ونكحت دجاجة». هذه الكناية التي تعبر عن الجنس بالأكل والأكل بالجنس، تهدف إلى شحن العبارة بطاقة تعبيرية أكثر بلاغة وأشدّ إيحاء. ولكنها أيضاً شكل من أشكال التعبير عن السطوة والاستيعاب. وتبلغ مظاهر الهيمنة والإلغاء حدّ "التكسير"، فيردد الفاعل "المرفوع" لفظة "كسرتها" إذا افتضّ بكارتها دون زواج. يردّد هذا الفعل وبنوع من السادية والفخر أيضاً، فذاك مؤشر على فحولته. أما الأفعال التي تشير إلى اشباع الحاجة الجنسية ففيها أيضاً ما يشير إلى هذه النزعة التي ترمي (في الوعي أو اللاوعي) إلى إذلال المرأة والحط من شأنها، إذلالاً يصل حد سحقها. فهي ليست طرفاً في العلاقة الجنسية العاطفية بل مفعولاً به "مكسوراً".
فعندما يعبر الفاعل الذكر عن بلوغ اللّذة يستعمل الأفعال التالية: بزق، بزّع، بال(12). وهي اعلي درجات التنكيل والحطّ من أنثى لم يعد يمتلكها ويتفوّق عليها في الواقع. فيعوّض ما خسره من مساحة في اللّغة واستعاراتها.
يعاين بيير بورديو مظاهر من هذه الهيمنة كذلك في المجتمع الجزائري بما فيه من رؤية أسطورية تتجذّر في علاقة اعتباطية (غير قابلة للاحتجاج) للهيمنة الذكورية على الأنثى. وهي هيمنة منقوشة في واقع النظام الاجتماعي. فالفارق البيولوجي بين الجنسين، بين الذكر والأنثى، وتحديداً الفارق التشريحي (anatomique) بين الأعضاء التناسلية، يمكن أن يكون التبرير الطبيعي لهذا الفارق المبني اجتماعياً بين الأنواع، وبخاصة لهذا التقسيم الجنسي للعمل. هذه الهيمنة، وهذا الفارق يسمحان للجزائري أيضاً أن يستعمل عبارة "أكل وشرب" إشارة إلى ممارسة الجنس وبلوغ درجة اللذة(13). وتبلغ الفحولة في اللغة أعلى درجاتها حينما تشبه ممارسة الجنس "بالعمارة" فيقال «عملت لها عمارة» «عمرتها» وتعني في الأصل "الامتلاء" و"الإعمار" أو "التكاثر". وفيها تبدو ترسيمة التعبئة (أو الإشباع) واضحة (ملآن/ فارغ)، (خصيب/ عقيم). و"العمارة" هي حشوة البندقية. و"العمار"" يعني الضراب كذلك أي العملية الجنسية بين الحيوان خاصة الخيل (الجواد).
ثمة رؤية للعالم تبنى في اللغة وعبرها تجعل من الهيمنة الذكورية على الأنثى هيمنة طبيعية، اعتباطية، غير قابلة للاحتجاج، إذ تدرج ضمن الطبيعة البيولوجية لكل من الجنسين. والحال أن علاقة الهيمنة ليست سوى بناء اجتماعي تحول إلى طبيعة(14). وضمن هذه الرؤية يظهر التقابل بين الذكر والأنثى: «ينسب إلى الرجال الذين يحتكرون المجال الخارجي، الرّسمي، العام، القانوني، ويسيطرون على القاسي، على الأعلى، المتقطّع. وينجزون أفعالاً هي في الآن نفسه مختصرة، خطرة ومشهدية كمثل ذبح عجل، والحرث أو الحصاد، ناهيك عن القتل أو الحرب. هؤلاء الرجال يحدثون قطائع في السيرورة العادية للحياة. وفي المقابل، فإن المرأة، هذه التي تركن في الداخل، وفي الرّطب، وفي الأسفل، في المنحني وفي المتواصل، تكلّف بكل الأعمال المنزلية، أي تلك الأعمال الخاصّة والمخفية لأنها مخجلة(15) والمتواصلة (على عكس قطائع السيرورة العادية).
على أن هذا التقسيم الذي يضع المرأة في الرّكن الرّطب والمظلم ويرفع الرجل إلى المساحات المضيئة والواضحة قد فقد الكثير من بداهته واعتباطيته بفعل عوامل مختلفة. ومع ذلك تظلّ علاقة الهيمنة قائمة ومستقرّة في بنية هذه العلاقة التي أنتجتها سيرورة تاريخية مداها الزمن الطويل، مما يعقّد فرص التخلص من "أزلية الأنثى" الخاضعة رغم التغيرات الواضحة في وضعية المرأة. فهذه الثنائيات التي دفعت فلاسفة ما بعد الحداثة باتجاه تجاوزها بيسر، إذ تستمد قوتها من هذا الترسخ الذي حوّلها من تاريخ إلى طبيعة ومن مكتسب إلى كيان: «إن نظام الأنواع هو الذي يؤسس الفعالية الناجزة (l’efficacité performatives des mots) للكلمات وبالخصوص الشتم»(16).

4 - طبقات اللغة والطبقات الاجتماعية
من وجهة نظر شعبية، تبدو "لغة الخاصّة" لغة متكلفة(17)، تلتصق فيها العلامة بسياقات غير طبيعية. أما لغة "العامّة"، لغة "الشعب" فترتبط بالطبيعة(18). العامة تنسج مفرداتها من الوجود الجماعي. والخاصة تختلف لديها المفردات باختلاف التجربة الفردية من جهة ثرائها وتنوعها وعمقها. من هذ٥ الوجهة فإن اللغة تبدو أكثر قدرة على صناعة المعنى وتكثيفه كلّما ارتبطت بالشّعبي وتتقلص شحنتها الإيحائية كلّما اقترنت بالخاص.
تسمّى لغة الخاصة لدى العامة "لغة القطط" كناية على ميوعتها ونعومة مفرداتها. يقول أحد المبحوثين: «لغتنا مخيفة، إنها تخيفهم فيرونها لغة "أجلاف" والحال أنها تلم (تجمع) الجميع، فيها حرقة التجربة ومرارة الحرمان. ليس لدينا نحن أبناء الأحياء الشعبية سوى العبارة، نمارس فيها اللّذّة و"ننكح" من خلالها ما طاب لنا من النساء. أمّا "الخاصة" فتمارس العبارة، تجسمها فعلاً»(19). ويضيف المبحوث: «نحن نقهر المرأة بالعبارة وفيها، بعد أن قهرتنا بجمالها. أما هم فعباراتهم مفرغة من كل شحنة غاضبة، لأتهم فرغوها على مستوى الفعل»(20). ومن وجهة نظر شعبية تبدو لغة الأحياء "الراقية" كالتالي:
الشعبي ـــــــــــ النخبوي (الراقي)
لغة خشنة ــــــــــــ لغة ناعمة
مشحونة بالمعنى ــــــــــــــــ فاغرة من المعنى
صريحة ـــــــــــــــــــ مخادعة
طبيعية ــــــــــــــــ متكلفة
مقهورة ــــــــــــ قاهرة
هذه الثنائيات تستعيد علاقة التقابل بين الفحولة ولين العريكة (الضّعف)، بين الذكورة والأنوثة.
تختلف اللّغة باختلاف المكان: في الجغرافيات الاجتماعية الشعبية تشتدّ وطأة الإحالات المرجعية "المتوحّشة"(21) وينشط قاموس الفحش. أما الجغرافيات "الراقية" فالفحش فيها، إن وجد، يميل إلى التقشّف والاختزال.
والأنثى هنا أقلّ استخداماً للعبارة المتكلّفة وأقل تصنعاً للخجل وأكثر ارتباطاً بالمصطلحات العارية من الذكر الذي يميل إلى ترقيق العبارة. ويظلّ "الشعبي" أكثر قدرة على توليد الكلمات. فلقد أحصى الباحث أكثر من ستة وأربعين اسماً لذكر الرجل وضعفه بالنسبة لجهاز المرأة ما بين صريح ومكنّى، منه المنحوت ومنه ما ابتدعه الاستعمال ومنه ما استمد من اللغة العربية الفصيحة "كالفوشة" وهي ايطالية الاشتقاق أو "التشفير" فيقال في بعض المواضع شفرها (أي الجماع على شفر فرجها). والتشفير هو الضرب بالرِّجل (الركل) خاصة بمقدم الحذاء. يطغى الشعبي كمياًّ من حيث القدرة على توليد أو استنباط العبارة الفاحشة. وتبرز الخاصة في كفاءتها على تهذيب الفحش من قبيل كلمة "الشفة" إشارة إلى فرج المرأة. على أن اللغة الشعبية تبدو أكثر ثراء وحركة من لغة الخاصّة.
يظهر هذا الثراء خاصة في فحش الشعبي بما فيه من أحداث بلاغية ورقّة النخبوي رغم فقره البلاغي. هذه المعاينة تتجاوز التصنيفات الثنائية المألوفة التي تبني العالم الاجتماعي حسب أصناف تنحدر من الأعلى إلى الأسفل، كالتعامل مع الشعبي وفق نظرة دونية تحطّ من تعبيراته كالقول مثلا: "لغة منحطة" و"لغة هابطة" و"لغة سوقية" و"لغة كلاب السوق" و"القجمي". يقول بيير بورديو في هذا المعنى: «إن مصطلح "اللغة الشعبية" هو احد إفرازات التصنيفات الثنائية التي تنظم العالم الاجتماعي حسب طبقات تنهب من الأعلى إلى الأسفل، من الرقة إلى الخشونة أو البذاءة، ومن المتميز إلى السوقي، ومن القلة إلى الوفرة. واختصاراً من الثقافة إلى الطبيعة (أفلا نتحدث عن لغة خضراء؟) وعن كلمات نيّة»(22). هذه اللغة الشعبية بفحشها وعريها وعنفها، لا يمكن التعامل معها تعاملاً معيارياً يحطّ من شأنها ويثمن لغة الخاصة، أو كما يسميها بيير بورديو باللغة الشرعية. إن تعبيراتها يمكن أن تكون مدخلاً مناسباً لنسج نصّيات اجتماعية تساعد على فهم وتفسير عناصر كامنة في الواقع قد يصعب بلوغها ما لم تكن هذه اللغة مسلكاً إليها، تكشف أصوات فئات لا تتكتم عادة، بل يتكلم من خلالها أو تتكلّمها اللغة. هذه الطاقة التعبيرية "المتوحشة" ليست علامة أمراض اجتماعية تنتاب الفرد وتسري في الجسم الاجتماعي، بل يتعلق الأمر ببناء اجتماعي للسلطة لمن لا سلطة لهم، لهؤلاء الذين حرموا من عناصر المتعة واللذة فوجدوا في لغة اللذة ملاذاً ومخرجاً ومتنفساً.
وما يبدو اتجاهاً عامّاً يجدر تأكيده. فقد بين الجهد التصنيفي لمدّونة النص الذي تقوم عليه هذه الدراسة ما بدا مثيراً في الاستعمال اليومي من فساد ملكة وضعف في البيان إلا فيما هو "وحشيّ" و"سوقيّ" في الغالب من الملفوظات. هنا بالذات يصل الشاب التونسي ساكن الأحياء الشعبية إلى درجة الإبداع في بعض المواضع، خاصة إذا تعلق الأمر بوصف المرأة تمثيلاً وكناية ومجازاً واستعارة تحيل أحداثها عادة إلى "الفحش".
على أن المشهد اللغوي في تونس ليس بهذا المستوى من السهولة بل هو أكثر تعقيداً من ذلك، فطبقات اللغة في الشارع التونسي يتوزع تقريباً بحسب الفئات والتنضيدات الاجتماعية. فكلّما كان الشاب فقيراً، أميّاً، أو انقطع باكراً عن الدراسة وكلّما كان صغير السن وبدون شغل كانت لغته أقرب إلى الفحش البليغ، فإذا راغ معنى جميلاً التمس له لفظاً يقابله ليحيل في الغالب إلى ما يمكن أن ينفي عنه الجمال. وكلّما كان الشاب من وسط غنيّ وحاز من التعليم حقاً أوفر كانت تعبيراته أقرب إلى الصفاء والرّقة ولكن بدون أشكال بلاغية.
وإلى جانب متغيّري الانتماء الاقتصادي والمستوى التعليمي، يوجد متغير ثالث يمثل فارقاً بين فحش اللفظ وسلامته.
إنه فارق الجنس الذي يسمح بمعاينة رشاقة التعبير الأنثوي وفحش العبارة الذكورية. وهذا كنزعة عامة. على أن المنطوق الأنثوي بدأ بدوره يمتزج بالمنطوق الذكوري لتقلّ رشاقته، إذ أن خطاب الأنثى لا يخلو أحياناً من فحش ذكوري كالتلفظ بكلمة القضيب مشاكلة لغير جنسها وابتعاداً عن حلو العبارة وفصيحها.
وللفحش أطلسه كذلك، فكلّما تنقلنا من الشمال إلى الجنوب، تبرأت العبارة ممّا لا تستلذ النفس سماعه من مفردات الجنس، وكلّما ابتعدنا عن الريف باتجاه المجال الحضري، الشعبي منه بالخصوص، تشبّعت التعبيرات الاجتماعية بالفحش إذا اقترنت بوصف المرأة كناية على جمالها وعلى شبقها بالخصوص.
وبشكل عام لا يتمّ التعاقد، لدى الخاصة والعامة على حد سواء، على اللغة الرسمية أو "الشرعية" بفحشها الكامن والقاهر، وشعبيتها راجعة إلى التصاقها أكثر، من جهة إنتاجها إعادة إنتاجها بالمساحات الشعبية. وما هو شعبي في اللغة من وجهة نظر بيير بورديو هو ما كان مقصيّاً من معاجم "اللغة الشرعية": «مثلما هو جليّ تكشف عنه معاجم الأُرغة (l’argot) أو "الفرنسية غير التعاقدية" فإن قاموس ما يسمّى "بالشعبي" ليس إلاّ جملة الكلمات المقصاة من معاجم اللغة الشرعية أو تلك التي لا تبدو إلاّ وقد شحنت بقيمة سالبة»(23).
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ لدى هذا الشاب التونسي، بل نحن إزاء فحش لامعياريّ لا تحكمه كوابح، يتلذذ خاصة بفكّ السّحر عن القيم الأكثر قداسة لديه. فيهتك سترها ويذهب في ذلك بعيداً فيعوّض بذلك عن رغبات لم تتحقق وعن حالة من الهجانة والانبتات والإقصاء بكل أنواعه.
تنشط لغة الفحش لدى التونسي أكثر ما تنشط في الخمارات وفي المقاهي والملاعب الرياضية. ولكنها تسري تدريجيّاً لتنتشر في أغلب المجالات الاجتماعية. وتتقلص إلى الحد الأدنى في الجامعة والمساجد وفي الفضاءات التجارية الكبرى، وفي مناطق العبور كمحطات القطار والمطار. أما فيما عدى ذلك فلا يخرج التونسي عن السخاء في الكلمة الفاحشة ما دام في المدينة. أهواؤه فحش، وحبه كره في مستوى التعبير. إنه يحب كارهاً في استعاراته ومجازاته. وقد يتسامح مع الخطاب الشبقي ويستهجن المحب، مع أن التعبيرات الحادّة عادة ما تكون تعبيرات قصوى راديكالية، تذهب بالصورة مداها حدّ الموت. إنه حب قاتل كالقول مثلاً «هذه الفتاة تقتل»، ويعني تقتل جمالاً، وتستخدم كذلك لوصف وسامة الرجل.
وإشكالية الحبّ والكره معروفة في الشّعر وفي التعبيرات الشعبية وفي الأدب والأسطورة. أما الحبّ السّعيد، المحمول في الاستعارات الجميلة فلا تاريخ له. في نفس هذا المعنى يقول دينيس روجمون في مؤلفه "الحب والغرب": «حب وموت، حب مميت، إذا لم يكن كل الشعر، فعلى الأقل الشعبي منه، كل ما كان في أدبنا بليغ الأثر عالمياً وفي أقدم أساطيرنا وأجمل أغانينا. الحب السعيد ليس له تاريخ، كل رواياتنا حب قاتل على معنى حب مهدّد ومذموم من الحياة نفسها. إن ما يثير في الغنائية (lyrisme) الغربية ليس متعة المعاني، ولا السلّم المثمر بين الزوجين، بل بأهواء الحبّ أكثر من الحبّ الغامر عينه. والهوى ضرب من المعاناة، ذلك هو بيت القصيد»(24).

5 - فحش البلاغة وبلاغة الفحش
الفحش في حدود هذه الدراسة، خاصية تعبيرية أنتجت أحداثاً بلاغية خاصة تكشف خبايا فئات اجتماعية سحقتها ظروفها وأوضاعها، فوجدت متنفساً في اللغة، استعاراتها معكوسة المعالم، هازئة من الجمال بتثمين القبح وفي جدل لا ينتهي من السلب والإيجاب. وبقدر الكبت يكون الفحش: حاجزاً يُبنى وعبارة تُبدع. والفحش صرخة الضعفاء والمحتاجين، يكشفون من خلاله هوّة الفقدان وعطشهم التاريخي إلى المرأة. وليس لهم من سبيل سوى التعلق بحبال المعنى، فتخرج العبارة كأوضاعهم قاتمة، رغم أنها تعبّر عن خلجة الحياة فيهم. وتلك المفارقة الكبرى: تشبيه الجميل بالقبح: ضدان يسكنان العبارة فتأتي جرداء من كل رقة ما لم تر بنفسك المشبه به: نار وكارثة وصاعقة وحرقة وتوعد، تلك استعارات ومجازات وتشبيهات يراد منها إبلاغ رسالة حب، هي كالفاجعة تطبق على المحبوبة التي لم يرها غير تلك المرّة في الغالب. إنها بلاغة الفحش تكشف لظى حرّ الحاجة، لكأنه يغتسل بالنار من التهاباته العاطفية. إن تشبيه المرأة "بالسخطة" على معنى الصاعقة، هو ضرب من الاستعارة بما هي، كما يقول الجرجاني «نقل الاسم عن أصله إلى غيره للتشبيه على حد المبالغة»(25). غير أن الاستعارة من البديع، وليس في تشبيه الجمال بـ: "السخطة" بديع مقلوب، إنما ذلك من خصائص "البلاغة الشعبية" بما فيها من تطرف في المبالغة يكشف أحياناً سخطاً على أوضاع منهكة. والبليغ فيها هو من يحكم بحسن ما يراه قبيحاً ويقبّح ما يعده حسناً. فإذا ما أراد أن يعبر عن إعجابه بامرأة، دعا إليه من الألفاظ أثقلها على السمع وأكثرها بعداً عن صفاتها. إنه يجد في الفحش تعبيراً عن روعة الجمال. على أن الاستعارة تعبيرة اجتماعية تختلف باختلاف الأوضاع التي عبرت عنها وصاغتها. ففي الأحياء "الغنية" وخلافاً للأحياء الشعبية يكون إطلاق اسم الاستعارة على المشبه (المرآة مثلاً) قريباً، لتحدث علاقة مجانسة ومشابهة بين المشبه والمشبه به، كاستعمال الوردة كناية على الجمال أو "الدمية" إفادة على الرقة والأنوثة. في الأحياء الشعبية يكبر الصبي رجلاً وقد نمى سمعه على الكلمة الفاحشة فيستأنس بها ويتآلف معها.
تبدو "البلاغة الشعبية" مركبة من أشكال ومستويات مختلفة في العبارة الواحدة، من قبيل مثلاً ما تتضمنه هذه الاستعمالات مثلاً من أحداث:
«آشبيه اللوز منبوز؟» / «آش بيه الزين حزين؟» / «هذا فمك وإلا سطوش أمك؟»(26)
في هذه التعبيرات الغزلية أشكال مختلفة من البلاغة منها السجع الخالي من كل قيد، المتجاوز لكل القواعد الأساسية التي تضمن صحة. العبارة واستقامتها. ومنها الاستعارة والكناية والمجاز. في التعبيرة الأولى «آش بيه اللوز منبوز؟» ثلاثة مستويات: نحوي تركيبي ورد في صيغة الاستفهام، يسأل فيه المخاطب عن غائب هو المخاطب نفسه، ويوظف أسلوب الالتفات. وهو من الأساليب القرآنية، وفيه عدول من ضمير إلى آخر للحديث عن نفس الذات. والمستوى الثاني في هذه التعبيرة بلاغي ينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام: قسم بديعي يتمثل في السجع وفيه اتفاق فقرتين في نفس الروي، وقسم بياني تجسمه استعارة تصريحية، أصلية، مجردة "اللوز"، وقسم معنوي يتمثل في الأسلوب الإنشائي، الاستفهامي. وقد ورد في صيغة الاستفهام لا لغاية الاستخبار، وإنما لغاية سياقية تهدف إلى لفت الانتباه أو التودّد والتقرّب. أما المستوى الثالث فإيقاعي ومداخيله متعدّدة، منها البلاغي كالجناس والسجع، والصوتي الذي يظهر في تكرار الحروف نفسها بتواتر معين. والسجع، هنا، بمثابة الختم للدلالة على أن ذلك الكلام ليس وليد اللحظة وإنما هو من رواسخ الذاكرة الجماعية، فينبغي أن يأخذ على عواهنه. 

وإلى جانب هذه الأحداث البلاغية يظهر كذلك المجاز المرسل خاصة في هيئة الضدية يميّز "البلاغة الشعبية". وفيها يرد اللفظ الدّال على معنى ما، ويراد ضدّه، كاستعمال ملفوظ "الهمّ" ويراد بها شدّة الجمال أو "الكحلة" ويراد بها الفتاة البيضاء(27).
فالعلاقة بالمرأة تبدو علاقة استعارية إذا تعلّق الأمر بالمجال الشعبي.
هكذا تلعب الكلمة القاسية دوراً في إنتاج وجولان قاموس لفظي، مقصي من القواميس "الشرعية" كما يقول بيير بورديو:
«هكذا، وإذا تعلق الآمر بمستعمل اللغة الشعبية فإن الجميع يجمع على فكرة مفادها أن التعبيرة "المتصلبة" تلعب دوراً حاسماً في إنتاج وجولان أُرغة (l’argot) مقصاة من القواميس الشرعيّة»(28).
يدخل شباب المقاهي، أثناء لعب الورق خاصة، ضمن طقوس من تبادل الفحش في الألفاظ والعبارات يجري كل واحد فيها على منوال أكثرهم فحشاً. والفحش هنا حاجة اجتماعية ونفسية، ضرب من التصعيد (sublimation) تحوّل فيه طاقة الميول المكبوتة عبر المراقبة والرّدع والمعاتبة لتستنفذ في مجال التعبير. وكلّما كان الرادع قويّاً، ازدادت بلاغة الفحش وأطلق عنان صورها، بحثاً عن التعبيرات الأكثر تطرفاً. وضمن هذه التعبيرات القصوى تظهر بعض عناصر الجمال في العبارة، ممّا لا يجعل من الفحش مجرد نفايات لغوية، فنفوت على أنفسنا فرصة التنبه إلى ما قد تنتجه الجماعة من طاقة تعبيرية، تقاوم إكراهات المجتمع ونزعاته الرادعة، والمثير أن هذه المقاومة اللفظية اتخذت من الأعضاء التناسلية سلاحاً، إذ بدت أكثر الألفاظ تداولاً وتكراراً في المنطوق التونسي ويسمح التداول بها في كل المجالات الاجتماعية. وليس ذلك التكرار مردّه فحولة طاغية بل على العكس من ذلك قد يكون الدافع إليها شعوراً بالحرمان منها ضمن ثقافة ذكورية تمجد القضيب وتحتفل بولادته، وتزدري الخصي وتراه موتاً. ولقد كان الأير قبل ذلك إلاهاً يونانياً يدعى الإله أيروس (Le dieu Eros)، إلاه الحب، ليشير بعد ذلك مع فرويد (S. Freud) بدءاً من سنة 1920 إلى جملة غرائز الحياة، ومنها الغريزة الجنسية. إذ يرى فرويد أن العقل الباطن هو مساحة مظلمة في الذات البشرية لا يكبحها كابح. وتعبث فيها الغرائز بدون قيد. على أن هذا العقل الباطن قد يتجلّى في حالات موصوفة كالأحلام وزلات اللسان والنكتة. أما تلميذه جاك لاكان (Jacques Lacan) فيرى في هذه المنطقة المظلمة الفوضوية نظاماً أساسه الكناية والاستعارة إذ تستبدل مفردة بمفردة أخرى أكثر ملائمة. والكناية كأن يقول أحدهم «ثلاثة زبابر» عوضاً عن ثلاثة فتيات جميلات.
في اللغة الفاحشة ترى المعيش عارياً، وترى الأبعاد الخفيّة لمجتمع يعبّر عمّا فيه من تناقضات راكمها الكبت وأتقن آليات إخفاءها. لكن هذه التعبيرات الفاحشة تكسر بفضاضة طوق الثقافة الرسمية أو "الشرعية" التي يرون أنفسهم خارجها، أو في الحد الأدنى تضعهم في أدنى السلمية الاجتماعية. لهذا وغيره تترادف عبارات من قبيل «يدك في زبي»(29) وعلى غرار «روح نيك»(30). ولشدّة تكرار مثل هذه العبارات وكثرة تداولها تشعر أنها بمثابة طقوس تعارف ومدخلاً مناسباً للفهم المتبادل، ولكنها أيضاً إشارة إلى الأوجاع الاجتماعية والنفسية.
نحن هنا إزاء خطاب ملتبس يعسر ضبط المقصود منه ما لم نعرف مسبقاً الخاصّيات التعبيرية للشاب التونسي. الكره فيها فرط حبّ لا يمكن تبليغه إلا "بحيّز النفي"(31). وعمل النفي قد يكون أبلغ من الإثبات، كأن يقال لامرأة جميلة «ما أجملك». والأجدى في التعبيرات الحابّة التونسية التذرع بعدم الإعجاب ونفي الجمال عنها إشهاداً على توقه الحارق إلى وصالها. هذا الخطاب الذي يسلطه النفي ويخفي الحقيقة بضدها ينسحب على مجالات عديدة من مجالات التعبير المرتبطة بالشأن العام كالمجال السياسي. وذلك راجع إلى ضيق المجال العام الذي ضيّق العبارة وقوّى في المقابل قدرتها على المخاتلة والتخفي.
يتمتع هذا الصنف من الشباب الذي تعنى به هذه الدراسة بقدرة لفظية كبيرة تكثر فيها المترادفات، إذا تعلق الأمر بالشتائم اليومية، المألوفة التي أصبحت طقساً "محبباً" أحياناً يدلّ على عمق العلاقة، وفي بعض الحالات يؤشر إلى روابط من الصداقة. وهنا لا يتوانى الشاتم عن هتك ستر كل القيم بما في ذلك أكثرها قداسة وأشدّها صلة بالمشتوم. وضمن هذه الطقوس اليومية التي تستباح فيها كل الأعراض، تتوطد، وبشكل مفارق، العلاقات وتزول الفوارق الاجتماعية. ومن مفارقات الاستعمال الاجتماعي للغة الدعاء بالشر في صيغة الملاطفة من قبيل «يخلي دار أمك»، على معنى التمني بخراب البيت وهي تشبه العبارة العربية: قاتله الله فهي تفيد في بعض الأحيان الإعجاب من قبيل قاتله الله ما أشعره. وقد يكون ذلك تعبيراً عن شدّة الإعجاب في بعض الاستعمالات. وهنا تنقلب معاني الفصاحة. فليست تعني هنا أن يكون الكلام خالصاً ممّا يعدّ عيباً في اللغة، بل الفصاحة حسن توظيف العيب، كالقول مثلاً: «مصلي على النبي ملاّ زبور»(32)، أو من قبيل «آنا مضروب فيك» على معنى «إنني شديد الإعجاب بك» أو على غرار «يعنبو زينك»، وتعني «لعنة الله على جمالك إذ فاق الوصف».
ومن الحروف المريبة التي تحيل عادة إلى الفحش حرف "الزاء" لأنها اقترنت بأكثر الكلمات استعمالاً للفحش في الشارع التونسي "الزب" و"الزبور"(33). ومن المثير ملاحظة الكلمتين عند الزمخشري في معنى كثافة الشعر. فالرجل الأزب (ويطلق كذلك على المرأة فيقال امرأة زباء) كثير شعر الحاجبين والذراعين والجسد. وبعير أزبّ والزّبوة تطلق على الشعر المجتمع على كاهله ومرافقيه(34). ولعل وفرة الشعر تمثل كناية على الجنس والفحولة، فحدث انزلاق من معنى وفرة الشعر إلى معنى الفحولة.
إنّ الوسيلة إلى قلب المرأة، أو في الحد الأدنى، لفت انتباهها، قذفها أحياناً بأبشع الكلمات وأقصاها، تقرباً بها إليها، كأن يمثلها «بالقنبلة» أو أن يختزلها كلها في عضوها التناسلي. وتلك كنايات واستعارات جرى عليها اللسان. والقاعدة هنا (كما سبق توضيحها) أن كل مستحسنة شكلاً، مستقبحة في العبارة، لكأن بالقبح أبلغ في وصف الحسن. وبما أن هذا السلوك بدا نزعة عامة لدى هذا الصنف من الشباب، فإن من عناصر البلاغة لديهم القدرة على تقبيح الحسن بصرف النظر عن الجنس. فالفتاة أيضاً تتواطأ في كناياتها وبفعل التعود، مع هذا الضرب من الغزل الذي يقبح الحسن، ولا تجد في ذلك حرجاً أو ما يكرب النفس ويغمّها، رغم فظاعة التعبير وقبح الكناية. فهذا الأسلوب في وصف الجمال صار عادة ألفتها النساء في حركة جولاتهن في المجال العام. وهنا قد تبدو العبارة المرققة استثناء وموضع استهجان وتقابل بنوع من السخرية لما فيها من تصنّع.
وقد تكون هذه المشاهد الفاتكة التي يعبّر عنها هذا الشاب، وبما فيها من معين لا ينضب من فحش العبارة ومن الوحشية في الممارسة الجنسية، قد تكون التهابات نفسية انفعالية لا تحيل في الغالب إلا إلى فقر عاطفي وجنسي. وقد يتعلق الأمر بانفعال داخلي حاد يتجلى، لغة، في تمزيق المرأة بصورة سادية. إنه الشبق الأرعن، المتضور، العاجز، الذي لا يستطيع أن يتخطى حدود الكلمة نحو المواقعة الفعلية. فالواقع لم يسعفه، فيتمثل أحلامه فحشاً، بما في ذلك من بلاغة قائمة على إبلاغ الانفعال والتي قد تفضي أحياناً إلى ما يشبه "عبقرية القبح"، عبقرية ينفرط عقالها خاصة في جغرافيات الحرمان من المناطق الشعبية المسحوقة عالية الكثافة السكانية. أما المناطق المرفهة فيتوازن فيها التعبير وتتخذ الصورة البلاغية الواصفة للمرأة موقعاً وسطاً. وتصبح العلاقة بين الدال والمدلول أكثر اعتباطية، فلا يقبح فيها الجمال كوصف المرأة فائقة الجمال "بالخنزير" كما في بعض المواقع الشعبية. ثمة حقل دلالي بأكمله يحيل إلى صراع طاحن، يقيمه النكر مع جسد الأنثى. وضمن هذا الحقل يصعب التقاط كلمات تعبر عن الجميل بالجميل، لكأن بالشاب ينتقم لنفسه عبر الاستعارة مما استحال عليه بلوغه، وفي مجتمع ذكوري أصيح فيه الذكر في حاجة إلى إثبات ذكورته وعرضة للكثير من التحدّي والمنافسة في كل المواقع التي كانت حكراً عليه في السابق. هذا الصراع لم يعد يشعره بأنه لا يزال رب الأسرة في الوقع أو في الممكن.

6 - الذكورة في الميزان
بين اللفظ المصرح به (قحبة) والمعنى المكنّى عنه (المرأة الجميلة) مجال تشغله وسائط تاريخية فقدت قدرتها على الفعل: الجميلة تتحول إلى "قحبة" في تعبيرات ثقافة ذكورية لم تعد فاعلة لكثرة الكوابح التي صارت تكبّلها، منها الأوضاع الاقتصادية والنصوص التشريعية التي تنظم الأحوال المدنية، ودخول المرأة بقوة في المجال العام. وهكذا يكون الفضاء الفاصل بين المعنى المكنى عنه والمعنى الحرفي كبيراً، لأنه فضاء يحكمه العجز التاريخي للهيمنة الذكورية، فنشطت المخيال كنوع من الثأر والتنكيل. فيثقل المعنى "الموحش" أو"النابي" ولا يخف. وقلّما تشبه المرأة الجميلة بما يشاكلها كأن يرى جمالها شبها لنبات غض يرف أوراقاً رطبة، بل لهب نار في جسم مستول عليه اليُبس. يتعلق الأمر بتشبيهات مقلوبة تعرف بالضدّ. وهذا الأسلوب معروف في الثقافة العربية وفي البلاغة أيضاً، غايته تأكيد المدح بما يشبه الذمّ كضرب من الاستفزاز، لأنها امرأة عصيّة، إدراكها صعب المنال. وعلى قدر الصعوبة يكون التعلق بها. وعلى قدر التعلق يكون الذمّ، لعله يقرب أو على الأقلّ يمكن من لفت الانتباه.
لم يعد للذّكر ما كان لديه سابقاً من سلطة ذكورية، فعاد إلى ذكره يزايد به على امرأة اكتسحت كل مجالاته التي كانت بالأمس حكراً عليه. لم يبق من عناصر الهيمنة الذكورية التاريخية المتوارثة سوى قضيب يميزه ويتعالى به على الأنثى. ولكنها ذكورية تعبيرية وليست فعلية. يشير الاستعمال الاجتماعي إلى مثل هذا في القول «قضيبي فم» أي باللسان فحسب دون الفعل وبنوع من السخرية إنها دونجوانية لفظية تعبر عن نهم "وقح" للأنثى مع كل تقاطع معها عبر النظر من بعيد. ولعل هذه "الدونجوانية الوهمية" مردها فقر في العلاقات الحابّة. لقد امتلك دون جوان الأسطورة ألف امرأة وثلاث، فكان دائماً محبوباً دون أن يجد الوقت ليحب بالمقابل. ومن هنا اضطرابه ولهثه الذي لا ينتهي(35).
وقد تعود المشكلة في جانب منها، مشكلة هتك ستر الأنثى (حتى وإن كانت أمّاً) عبر الكلمة الخشنة، وتقزيم الذكورة عبر ترقيقها، عائد إلى أنّ الحدود بين الذكورة والأنوثة صارت متحركة، غير معلومة. يبدو ذلك في ما حدث من تطورات في توزع الصفات والنعوت والاستعارات وقابلية التبادل في الأدوار(36). الصور والنماذج بين الذكورة والأنوثة بدأت تتميع وتتقاطع وتتشابه. وضمن هذا التداخل تنعت المرأة بالحريق والرجل بشدة البرودة من قبيل «يقرّس»(37).
التقارب في التعبير بين الجنسين راجع إلى تقاسم نفس المجالات الاجتماعية التي كانت بالأمس القريب حكراً على عالم الذكورة، كالملاعب الرياضية التي ينفطر فيها اللسان من عقاله، مع أن الجمهور صار أنثوياً أيضاً. ومن أغرب الكنايات في هذا التنافذ بين الذكورة والأنوثة استعارة جهاز المرأة للتعبير عن وسامة الرجل.


الهوامش:
1) LECERCLE, Jean- Jacque, The violence of language, Routhedge, 1990
2) LABOV, William, Le parler ordinaire: la langue dans les ghettos noirs des Etats - Unis, Paris, les Ede Minuit, 1993, P.348.
3) LABOV, William, «les motivations sociald’un changement phonétique», in sociolinguistique, Paris, Editions de Minuit, 1976, p53.
4) LABOV, William, le parler ordinaire, op.cit, p.114.
5) المرجع نفسه، ص283
6) جان جاك لوسركل، عنف اللغة، ترجمة وتقديم د. محمد بدوي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة والمعهد العالي العربي للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص 77.
7) LABOV, William, Le parler ordinaire,op,cit, P.348.
8) المرجع نفسه، ص 343.
9) لا يتعلق الأمر هنا بالمرأة في المطلق بل بصنف اجتماعي محدد منها: الأنثى الشابة، الأمية، أو التي غادرت المدرسة مبكرا. والفقيرة التي تقطن الأحياء الشعبية كثيفة السكان.
10) الغذامي، عبد الله محمد، المرأة واللغة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006،ص8.
11) المعري، أبو العلاء، اللزوميات، لزوم ما لا يلزم، القاهرة، المركز الثقافي العربي، 2006
12) بزق تعني بصق، وبزّع تعني سكب وكلاهما يشيران إلى عملية القذف.
13) BOURDIEU, La domination masculine, Paris, Seuil,1998,p.26.
14) ibid, p. 40.
15) ibid, p. 49.
16) ibid, p. 141.
17) تستند هذه المعاينات إلى مجموعة من المقابلات بلغت الثماني مع شباب دون العشرين، خمسة منهم يقطنون أحياء شعبية والثلاثة يقطنون "حياً راقياً".
18) أضع لفظة الشعب بين ظفرين لصعوبة ضبطها علميا.
19) نستعمل العامة أو"العامي" للدلالة على الاستعمالات الاجتماعية للغة في الأحياء الشعبية أما "الخاصة" فللإشارة إلى استعمالاتها في "الراقي" من الأحياء. والغرض من ذلك الابتعاد عن التمييزات المعيارية.
20) قام الباحث بتهذيب عبارة المبحوث مع الحفاظ على المعنى. والمبحوث شاب يقطن حيا شعبيا في تونس العاصمة انقطع عن الدراسة في مستوى السادسة من التعليم الابتدائي. وكان سبب انقطاعه ما تعرض إليه من قسوة أسرية بلغت حد الضرب المبرح يوميا فعزف عن المدرسة رغم ذكائه كما يقول هو..
21) يعني التوحش، في حدود هذا الاستعمال، حدة العبارة التي يراعي فيها مستعملها الكوابح المعيارية للمجتمع.
22) كلمات (mots crus) عكس مطبوخة. وتعني كلمات فجة، غير مراقبة، لا تحكمها كوابح، أنظر بيير بورديو "vous avez dit populaires"، ص 101 .
23) المرجع نفسه، ص 102.
24) ROUGEMONT, Denis de, L’amour et l’occident, Paris, Plon, 1930, pp (11-12)
25) الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، بيروت، دار المسيرة، 983 1، ص 368.
26) «آش بيه اللوز منبوز؟» = ما بال اللوز غاضب
«هذا فمك وإلا سطوش أمك؟»= هذا فمك أم فرج امك؟
27) الكحلة هي المرأة السوداء
28) BOURDIEU, Pierre, «vous avez dit populaires?» in actes de la recherche en sciences sociales, N° 46, mars 1983, p.p. (98 – 105)
29) يشير إلى عضوه ١لتذاسلي كما هو منطوق في اللهجة المحلية التونسية.
30) اذهب "نيك".
31) المبخوت، شكري، توجيه النفي في تعامله مع الجهات والأسوار والروابط، تونس، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009.
32) يثير المتكتم هنا على سبيل الاستعارة إلى الجهاز التناسلي للمرأة تعبيرا عن شدة الجمال، ويصلي على النبي تجنبا للحسد والعين.
33) الأول يشير إلى القضيب والثاني إلى الفرج- ونلتمس عذر القارئ المغربي على إدراجها في النص كما هي مستعملة تونسيا. ونحن نعلم أنها كلمات مبهمة دون دلالة اجتماعية بالنسبة للقارئ المشرقي.
34) الزمخشري، جاد الله أيي القاسم محمود بن عمر، أساس البلاغة، بيروت، دار الفكر، 2000،ص265-266..
35) ROUGEMENT, Dénis, op.cit, p.178.
36) LOUVEAU, Cathrene, «Masculin / Féminin», in Langage et Représentations, Cahiers Internationaux de Sociologie, volume 100 - 1996, Paris, PUF,1996, p.14.
37) تعني هذ٥ الكناية "يقرّس" وهي مستمدة من عبارة "البرد القارس"، أن الرجل وسيم إلى الحد الذي ترتجف معه المرأة.

المصدر: الدكتور محسن بوعزيزي، التعبيرات الاحتجاجية والمجال الإجتماعي، الدار العربية للكتاب، تونس 2009، صص 17-57.


.










صورة مفقودة
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...