نقوس المهدي
كاتب
«النفس تبحث، لكن القلب هو الذي يعثر»
جورج صاند
«ربّة الشعر»، هكذا يختزل إلهام الشعراء المرأةَ. لكن، ماذا لو كان لهذه الربّة أرباب شعر من الذكور، تستلهمهم بدورها، إنما ليس قبل أن ترميهم بسهام حبّها؟ هذه كانت حال الأديبة الفرنسية جورج صاند (1804 - 1876) التي أُلهمت وأَلهمت شعراً وموسيقى، ولكن أيضاً حبّاً. فالمرأة فيها لم تقف عند عتبات الأدب فحسب، وإنّما طرقت أبواب الحبّ بأصابع من العزم وربّما من الشره والشبق، نظراً إلى علاقاتها العاطفية التي لا تُعدّ ولا تحصى، بعضها مع مشاهير وبعضها الآخر مع عامّة الرجال. فلم توفّر رجلاً من عشقها، ما جعل وصفاً كـ« شيطانة امرأة» أطلقته الكاتبة آن ماري دو بريم على أحد كتبها عن صاند، في محلّه. غير أن هذه الأنوثة اللعوب التي تنقّلت بخفّة من رجل إلى آخر، كأنّ بها ظمأ عاطفياً لا يكفي رجلٌ واحد لإروائه، قد لا تتواءم أو تتوافق كثيراً مع مظهرها. فالشكل لا يعكس المضمون هنا، بل يعارضه حدّ التناقض. هذا مع عدم إغفال ما في الاسم (جورج) الذي اختارته لنفسها، من رجولة «مُخيَّرة» شاءتها أن تبدأ مع الاسم، فضلاً عن تدخينها الغليون والسيكار اللذين كانا حكراً على الرجال في ذلك الوقت. في الداخل إذاً أنوثة لعوب، وفي الخارج مظهر يتشبّه بالرجال ويقلّدهم. فأي امرأة كانت تلك التي جمعت تناقضات الظاهر والباطن؟
وُلدت أمونتين أورور لوسيل دوبان في باريس في الأول من تمّوز 1804. أضحت يتيمة الأب مذ كانت في الرابعة، فتكفّلت جدّتها لأبيها تربيتها، كما جرت عادات ذلك العصر. إلى أن تزوّجت عام 1822 البارون فرنسوا كازيمير دودوفان، هرباً من تسلّط أمّها عليها. وأثمر زواجهما طفلَين: موريس وصولانج التي تزوّجت في ما بعد النحّات أوغست كليزينجر. غير أن فرنسوا كان رجلاً عادياً جدّاً لم يستطع استيعاب استثنائية زوجته الجامحة. منذ ذلك الوقت بدأت مسيرة صاند العاطفية. فقد شكّل ظهور أورليان دو سيز ما يشبه الزوبعة التي قضت على استقرار الزوجَين. التقته صاند عام 1825، وقد كانت جاذبيّته وثقافته بطاقتَي مروره الفوري إلى قلبها، خصوصاً أن هذين العنصرَين مفقودان عند الزوج. هكذا بدأ يصطحبها إلى رحلات الصيد التي كان يقوم بها، على مدى خمس سنوات؛ عمر علاقتهما. إلى أن نبشت صاند من ماضيها، الفتى الذي عرفته حين كانت في السابعة عشرة، ستيفان أجاسون دو غرانساين، لتعيد نسج أواصر العشق معه. وإليه ينسب كثيرون أبوّة صولانج.
في 1831 تركت صاند زوجها وارتمت في أحضان عشيقها جول صاندو الذي يصغرها بثماني سنوات. ثم باشرت معه مهنة الصحافة في «لوفيغارو»، وتماهى الاثنان في اسم واحد وقّعا به مقالاتهما: «ج. صاند». سرعان ما أصبح هذا الاسم فأل خير بالنسبة إلى أمونتين التي ذيّلت به روايتها الأولى «إنديانا»، إلى أن كانت الانطلاقة الفعلية للاسم كاملاً: «جورج صاند» مع الرواية الثانية.
يرى البعض أن تكنية الأديبات بأسماء ذكورية كان رائجاً وقتذاك، فلم تقتصر هذه الخطوة على صاند وحدها. لكن ماذا عن الثياب الذكورية التي تزيّت بها الأديبة؟ تجيب هي نفسها في السيرة التي كتبتها على شكل رسائل، بعنوان «قصّة حياتي»، بأن ارتداءها ألبسة الرجال جاء لضرورات اقتصادية بحتة. فبعدما وجدت نفسها مفلسة إثر تركها زوجها الذي لم يقاسمها ثروته، ارتأت أن تختار لباس الرجال كونه أرخص آنذاك من الثياب النسائية الباهظة الثمن.
اللافت أن صاند كانت من صنف الأدباء الذين يفعلون ما يقولون وينادون به. فحياتها وأدبها وجهان لثورة واحدة. فهي مثلاً حاربت الزواج على الورق، وفي حياتها الشخصية أيضاً. وقد انعكس رفض الزواج عندها حرّية غير مشروطة أو محدودة، «تُسوِّل» لها و«تُحلِّل» عدداً لا متناهياً من العشّاق. ما جعل حياتها العاطفية عاصفة فعلاً، وتكاد تضاهي سيرة أي «زير نساء».
العشيق التالي بعد جول صاندو، لم يكن إلا الكاتب بروسبير ميريميه، غير أن علاقتهما انتهت بسرعة كما بدأت. ولم تخرج صاند في علاقتها التالية على الأجواء الأدبية، فكان العشيق الجديد الشاعر ألفرد دو موسيه الذي كان يصغرها بعشر سنوات. فهل هي صدفة أم توخٍّ مقصود وواعٍ أن يكون عشّاق صاند أدباء، ويصغرونها سنّاً؟
مهما يكن، لم تعرف علاقة صاند بدو موسيه الثبات على حال يوماً. فالوفاق كان يقابله خصام، والخصام ينتهي بمصالحة موقّتة، وهكذا دواليك. وصولاً إلى خيانة أحد الطرفَين التي كان الطرف الآخر يردّ عليها بالمثل. فأثناء إقامتهما في البندقية، وخلال مرض صاند، كان دو موسيه منهمكاً في ملاحقة الجميلات. لم تنسَ صاند هذه الخيانة، وانتظرت حتى انقلب السحر على الساحر، ومرض دو موسيه. فارتأت أن «الأقربين أولى بالمعروف»، ومن أولى من الطبيب الذي عاين حبيبها من أن يكون عشيقاً لها؟
هذا الاضطراب في العلاقة كانت نتيجته الحتمية فراق الأديبَين بعد حين. لكن القطيعة لم تكن قاطعة بينهما، إذ تبادلا الرسائل بغزارة، وهي تُعدّ اليوم من أجمل ما قيل وكُتب في الحبّ، كونها تطرح خوالج قلب الطرف الأول على بساط الرسالة، لتحطّ في قلب الآخر مباشرة.
في جميع الأحوال، لم يخرج دو موسيه خالي الوفاض من هذه العلاقة. فقد ألهمته صاند « لورينزاكيو» و« نزوات ماريان» و« لا مزاح مع الحبّ». إلى جانب « اعترافات طفل العصر»، وهي سيرته الذاتية التي يلوح فيها طيف صاند بوضوح، وما خبره الاثنان في علاقتهما.
لم تتأخّر صاند عن المباشرة بعلاقة جديدة بعد شهر واحد فقط من افتراقها عن دو موسيه، وهذه المرّة مع محاميها الخاص ميشال دو بورغيس (أصبح في وقت لاحق نائباً). وهو الذي تولّى الدفاع عنها أثناء دعوى طلاقها من زوجها، فضلاً عن أنه نجح في استمالتها إلى الاشتراكية. ويروي البعض طرفة في هذا المجال، مفادها أن نقابة المحامين منعت منذ العام 1830 المحامين من وضع كنبات في مكاتبهم، ذلك أن حبّ صاند ومحاميها كان قد «تفجّر» سابقاً على كنبة مماثلة.
ولعلّ دو بورغيس كان أكثر من أُولعت به صاند، مع أنه متزوّج، لأنه كان الأكثر رجولة بين الذين عرفتهم، وربّما أيضاً بسبب طبعه المتسلّط. وقد منّت نفسها بأن تجد السلام أخيراً إلى جانب رجل، لكنه خيّبها. وحفر الفراق جراحاً عميقة في نفسها، حاولت مداواتها بحفنة علاقات عابرة.
من بين العلاقات التي عمّرت أكثر من غيرها كانت علاقتها بالموسيقار فريديريك شوبان الذي كان يصغرها بست سنوات، إذ دامت قرابة العشرة أعوام، ولم تنجُ بدورها من التعقيدات. بدأت في العام 1838، بعدما وُسم لقاؤهما الأول بالنفور من جانب شوبان الذي قال عنها: «إنها سمجة. ثم هل هي امرأة حقّاً؟! أشكّ في ذلك». لكن الحبّ قلب الأحوال رأساً على عقب، وسرعان ما ألقى عليهما بعصاه السحرية. إلى أن تحوّل بعد ذلك إلى نوع من العاطفة الأمومية التي كانت تحيط بها صاند عشيقها المريض بالسلّ، وهذا ما دعاه إلى القول عند أفول علاقتهما: « ظننتِ نفسك عشيقتي، في الوقت الذي لم تكوني فيه سوى أمّي». مع العلم أن عاطفة شوبان الجامحة أصابت بسهامها ابنة صاند، إذ كان إعجابه بصولانج غير خافٍ على أحد.
مررّت صاند أناملها الإلهامية على شوبان، بعد دو موسيه، لتخرج أجمل المقطوعات الموسيقية: « البولونية البطلة» و« الفالس الأخيرة»... فضلاً عن الخصب الإبداعي الذي عرفه الموسيقي البولندي أثناء إقامته في باريس؛ بلد الحبيبة.
ولأن قطار الحبّ لا يعرف التوقّف في حياة صاند، اتّخذت بعد شوبان، صديق ابنها عشيقاً لها، ويُدعى ألكسندر مونسو. استمرّت علاقتهما زهاء الخمس عشرة سنة، كان ألكسندر خلالها عشيقها وسكرتيرها الخاص حتى وفاته في 1865، لتُسدَل الستارة نهائياً على حياة عاطفية صاخبة تعجّ بالعشّاق، للمرأة التي قالت يوماً: «النفس تبحث، ولكن القلب هو الذي يعثر».
قد يكون قلب صاند لم يعثر على مبتغاه الحقيقي، بل تعثّر برجال كثيرين، أو ربّما عثر قلبها على الكثير، فأتت أعداد العشّاق على قدر نَهَم القلب.
كانت صاند تطلق العنان لعواطفها، غير حافلة بأي انتقاد لسلوكها هذا كما أسماه جوزف باري في كتابه «جورج صاند أو فضيحة الحرّية». البعض انتقدها بقسوة وعنف، أحدهم معاصرها الشاعر الفرنسي شارل بودلير الذي نعتها في كتابه « قلبي في العراء» بـ« العاهرة» و« الغبيّة» و« الثرثارة» و« الثقيلة الظلّ». ومما قاله أيضاً: « لا أستطيع أن أفكّر في هذه المخلوقة الغبيّة من دون أن أُصاب بنوبة غضب. حين ألتقيها لا يمكنني أن أتمالك نفسي عن رمي جرن على رأسها. إذا تولّه بها بعض الرجال، فما هذا إلا دليل على انحطاط رجال هذا العصر»!
أما نيتشه، فقال: «جورج صاند باردة كفكتور هوغو وبلزاك، وكما الرومنطيقيين كلهم حين يجلسون إلى طاولاتهم».
لم تتوقّف صاند عن الكتابة حتى موتها عن 72 عاماً في 1876، إثر انسداد معويّ. وكأنها نفّذت نصيحة أسدتها يوماً: «أكتبوا طالما أنكم تمتلكون العبقريّة، وطالما أن الله يُملي عليكم، لا الذاكرة». من الواضح أن عبقريّتها منّت عليها بالكثير، من كتابة الروايات والقصص، إلى المسرحيات، والرسائل. هذا إن لم يكن الحبّ بدوره عبقريّة أخرى. أكثر من مئة كتاب تركت صاند، تقلب فيها الطاولة على السائد والمكرَّس خصوصاً في القضايا التي تتعلّق بالمرأة، ما جعلها رائدة بحقّ. ففي كتاباتها مناهَضة صريحة للزواج، ومحاربة للسلطة الذكورية، ودعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة، فضلاً عن الأخذ بيد العمّال والفقراء. وقد وصفت صاند رواياتها بكونها محاولات لـ« إعادة تأهيل المرأة». من هنا واقعيتها التي أشار إليها الناقد سانت بوف حين قال إن شخصياتها تنتمي إلى « عالم حقيقي، حيّ، عالمنا».
في السيرة الذاتية كتبت « قصّة حياتي» (1855) على شكل رسائل تبادلتها مع شاتوبريان، روسو، وستندال، وقد صدرت في عشرة أجزاء، فيها تُزيل الغبار عن الطفولة، والشباب، والحرّية، والكتابة. ومن الواضح أن « قصّة حياتي» تختصر الكثير؛ حياة بأكملها أوصت أن يُسلَّم قيادها للقلم: « أكتبوا حياتكم، أنتم الذين فهمتم حياتكم وسبرتم أغوار قلوبكم».
وعلى شكل رسائل أيضاً، كتبت صاند « رسائل حياة» التي تكشف، عبر 434 رسالة، سيرة خمسين عاماً من حياتها.
وللحبّ نصيب من كتبها طبعاً. فحبّها لدو موسيه أرَّخته في «هي وهو» (1859)، من أوج تألّقه إلى سقوطه، وذلك مع البطلَين: تريز التي تتوارى خلفها صاند، ولوران الذي يحمل ملامح الحبيب. وقد أثار صدور هذا الكتاب، بعد وفاة دو موسيه، جدلاً كبيراً بسبب الدور الذي نسبته صاند إليه. ما استوجب ردَّاً من شقيقه على شكل كتاب حمل عنواناً مناكفاً: « هو وهي». أما إحدى عشيقات الشاعر الفرنسي، لويز كوليه، ففضّت الخلاف حول أسبقيّة الـ« هو» والـ« هي»، بالإبقاء على « هو» فقط عنواناً لكتابها.
«وترٌ قُطع من قيثارة العصر»، هكذا رثى إرنست رينان، جورج صاند. أما فكتور هوغو فقال: « أبكي ميّتةً، وأحيّي خالدةً».
«الغاوون»، العدد 30، 1 آب 2010
جورج صاند
«ربّة الشعر»، هكذا يختزل إلهام الشعراء المرأةَ. لكن، ماذا لو كان لهذه الربّة أرباب شعر من الذكور، تستلهمهم بدورها، إنما ليس قبل أن ترميهم بسهام حبّها؟ هذه كانت حال الأديبة الفرنسية جورج صاند (1804 - 1876) التي أُلهمت وأَلهمت شعراً وموسيقى، ولكن أيضاً حبّاً. فالمرأة فيها لم تقف عند عتبات الأدب فحسب، وإنّما طرقت أبواب الحبّ بأصابع من العزم وربّما من الشره والشبق، نظراً إلى علاقاتها العاطفية التي لا تُعدّ ولا تحصى، بعضها مع مشاهير وبعضها الآخر مع عامّة الرجال. فلم توفّر رجلاً من عشقها، ما جعل وصفاً كـ« شيطانة امرأة» أطلقته الكاتبة آن ماري دو بريم على أحد كتبها عن صاند، في محلّه. غير أن هذه الأنوثة اللعوب التي تنقّلت بخفّة من رجل إلى آخر، كأنّ بها ظمأ عاطفياً لا يكفي رجلٌ واحد لإروائه، قد لا تتواءم أو تتوافق كثيراً مع مظهرها. فالشكل لا يعكس المضمون هنا، بل يعارضه حدّ التناقض. هذا مع عدم إغفال ما في الاسم (جورج) الذي اختارته لنفسها، من رجولة «مُخيَّرة» شاءتها أن تبدأ مع الاسم، فضلاً عن تدخينها الغليون والسيكار اللذين كانا حكراً على الرجال في ذلك الوقت. في الداخل إذاً أنوثة لعوب، وفي الخارج مظهر يتشبّه بالرجال ويقلّدهم. فأي امرأة كانت تلك التي جمعت تناقضات الظاهر والباطن؟
وُلدت أمونتين أورور لوسيل دوبان في باريس في الأول من تمّوز 1804. أضحت يتيمة الأب مذ كانت في الرابعة، فتكفّلت جدّتها لأبيها تربيتها، كما جرت عادات ذلك العصر. إلى أن تزوّجت عام 1822 البارون فرنسوا كازيمير دودوفان، هرباً من تسلّط أمّها عليها. وأثمر زواجهما طفلَين: موريس وصولانج التي تزوّجت في ما بعد النحّات أوغست كليزينجر. غير أن فرنسوا كان رجلاً عادياً جدّاً لم يستطع استيعاب استثنائية زوجته الجامحة. منذ ذلك الوقت بدأت مسيرة صاند العاطفية. فقد شكّل ظهور أورليان دو سيز ما يشبه الزوبعة التي قضت على استقرار الزوجَين. التقته صاند عام 1825، وقد كانت جاذبيّته وثقافته بطاقتَي مروره الفوري إلى قلبها، خصوصاً أن هذين العنصرَين مفقودان عند الزوج. هكذا بدأ يصطحبها إلى رحلات الصيد التي كان يقوم بها، على مدى خمس سنوات؛ عمر علاقتهما. إلى أن نبشت صاند من ماضيها، الفتى الذي عرفته حين كانت في السابعة عشرة، ستيفان أجاسون دو غرانساين، لتعيد نسج أواصر العشق معه. وإليه ينسب كثيرون أبوّة صولانج.
في 1831 تركت صاند زوجها وارتمت في أحضان عشيقها جول صاندو الذي يصغرها بثماني سنوات. ثم باشرت معه مهنة الصحافة في «لوفيغارو»، وتماهى الاثنان في اسم واحد وقّعا به مقالاتهما: «ج. صاند». سرعان ما أصبح هذا الاسم فأل خير بالنسبة إلى أمونتين التي ذيّلت به روايتها الأولى «إنديانا»، إلى أن كانت الانطلاقة الفعلية للاسم كاملاً: «جورج صاند» مع الرواية الثانية.
يرى البعض أن تكنية الأديبات بأسماء ذكورية كان رائجاً وقتذاك، فلم تقتصر هذه الخطوة على صاند وحدها. لكن ماذا عن الثياب الذكورية التي تزيّت بها الأديبة؟ تجيب هي نفسها في السيرة التي كتبتها على شكل رسائل، بعنوان «قصّة حياتي»، بأن ارتداءها ألبسة الرجال جاء لضرورات اقتصادية بحتة. فبعدما وجدت نفسها مفلسة إثر تركها زوجها الذي لم يقاسمها ثروته، ارتأت أن تختار لباس الرجال كونه أرخص آنذاك من الثياب النسائية الباهظة الثمن.
اللافت أن صاند كانت من صنف الأدباء الذين يفعلون ما يقولون وينادون به. فحياتها وأدبها وجهان لثورة واحدة. فهي مثلاً حاربت الزواج على الورق، وفي حياتها الشخصية أيضاً. وقد انعكس رفض الزواج عندها حرّية غير مشروطة أو محدودة، «تُسوِّل» لها و«تُحلِّل» عدداً لا متناهياً من العشّاق. ما جعل حياتها العاطفية عاصفة فعلاً، وتكاد تضاهي سيرة أي «زير نساء».
العشيق التالي بعد جول صاندو، لم يكن إلا الكاتب بروسبير ميريميه، غير أن علاقتهما انتهت بسرعة كما بدأت. ولم تخرج صاند في علاقتها التالية على الأجواء الأدبية، فكان العشيق الجديد الشاعر ألفرد دو موسيه الذي كان يصغرها بعشر سنوات. فهل هي صدفة أم توخٍّ مقصود وواعٍ أن يكون عشّاق صاند أدباء، ويصغرونها سنّاً؟
مهما يكن، لم تعرف علاقة صاند بدو موسيه الثبات على حال يوماً. فالوفاق كان يقابله خصام، والخصام ينتهي بمصالحة موقّتة، وهكذا دواليك. وصولاً إلى خيانة أحد الطرفَين التي كان الطرف الآخر يردّ عليها بالمثل. فأثناء إقامتهما في البندقية، وخلال مرض صاند، كان دو موسيه منهمكاً في ملاحقة الجميلات. لم تنسَ صاند هذه الخيانة، وانتظرت حتى انقلب السحر على الساحر، ومرض دو موسيه. فارتأت أن «الأقربين أولى بالمعروف»، ومن أولى من الطبيب الذي عاين حبيبها من أن يكون عشيقاً لها؟
هذا الاضطراب في العلاقة كانت نتيجته الحتمية فراق الأديبَين بعد حين. لكن القطيعة لم تكن قاطعة بينهما، إذ تبادلا الرسائل بغزارة، وهي تُعدّ اليوم من أجمل ما قيل وكُتب في الحبّ، كونها تطرح خوالج قلب الطرف الأول على بساط الرسالة، لتحطّ في قلب الآخر مباشرة.
في جميع الأحوال، لم يخرج دو موسيه خالي الوفاض من هذه العلاقة. فقد ألهمته صاند « لورينزاكيو» و« نزوات ماريان» و« لا مزاح مع الحبّ». إلى جانب « اعترافات طفل العصر»، وهي سيرته الذاتية التي يلوح فيها طيف صاند بوضوح، وما خبره الاثنان في علاقتهما.
لم تتأخّر صاند عن المباشرة بعلاقة جديدة بعد شهر واحد فقط من افتراقها عن دو موسيه، وهذه المرّة مع محاميها الخاص ميشال دو بورغيس (أصبح في وقت لاحق نائباً). وهو الذي تولّى الدفاع عنها أثناء دعوى طلاقها من زوجها، فضلاً عن أنه نجح في استمالتها إلى الاشتراكية. ويروي البعض طرفة في هذا المجال، مفادها أن نقابة المحامين منعت منذ العام 1830 المحامين من وضع كنبات في مكاتبهم، ذلك أن حبّ صاند ومحاميها كان قد «تفجّر» سابقاً على كنبة مماثلة.
ولعلّ دو بورغيس كان أكثر من أُولعت به صاند، مع أنه متزوّج، لأنه كان الأكثر رجولة بين الذين عرفتهم، وربّما أيضاً بسبب طبعه المتسلّط. وقد منّت نفسها بأن تجد السلام أخيراً إلى جانب رجل، لكنه خيّبها. وحفر الفراق جراحاً عميقة في نفسها، حاولت مداواتها بحفنة علاقات عابرة.
من بين العلاقات التي عمّرت أكثر من غيرها كانت علاقتها بالموسيقار فريديريك شوبان الذي كان يصغرها بست سنوات، إذ دامت قرابة العشرة أعوام، ولم تنجُ بدورها من التعقيدات. بدأت في العام 1838، بعدما وُسم لقاؤهما الأول بالنفور من جانب شوبان الذي قال عنها: «إنها سمجة. ثم هل هي امرأة حقّاً؟! أشكّ في ذلك». لكن الحبّ قلب الأحوال رأساً على عقب، وسرعان ما ألقى عليهما بعصاه السحرية. إلى أن تحوّل بعد ذلك إلى نوع من العاطفة الأمومية التي كانت تحيط بها صاند عشيقها المريض بالسلّ، وهذا ما دعاه إلى القول عند أفول علاقتهما: « ظننتِ نفسك عشيقتي، في الوقت الذي لم تكوني فيه سوى أمّي». مع العلم أن عاطفة شوبان الجامحة أصابت بسهامها ابنة صاند، إذ كان إعجابه بصولانج غير خافٍ على أحد.
مررّت صاند أناملها الإلهامية على شوبان، بعد دو موسيه، لتخرج أجمل المقطوعات الموسيقية: « البولونية البطلة» و« الفالس الأخيرة»... فضلاً عن الخصب الإبداعي الذي عرفه الموسيقي البولندي أثناء إقامته في باريس؛ بلد الحبيبة.
ولأن قطار الحبّ لا يعرف التوقّف في حياة صاند، اتّخذت بعد شوبان، صديق ابنها عشيقاً لها، ويُدعى ألكسندر مونسو. استمرّت علاقتهما زهاء الخمس عشرة سنة، كان ألكسندر خلالها عشيقها وسكرتيرها الخاص حتى وفاته في 1865، لتُسدَل الستارة نهائياً على حياة عاطفية صاخبة تعجّ بالعشّاق، للمرأة التي قالت يوماً: «النفس تبحث، ولكن القلب هو الذي يعثر».
قد يكون قلب صاند لم يعثر على مبتغاه الحقيقي، بل تعثّر برجال كثيرين، أو ربّما عثر قلبها على الكثير، فأتت أعداد العشّاق على قدر نَهَم القلب.
كانت صاند تطلق العنان لعواطفها، غير حافلة بأي انتقاد لسلوكها هذا كما أسماه جوزف باري في كتابه «جورج صاند أو فضيحة الحرّية». البعض انتقدها بقسوة وعنف، أحدهم معاصرها الشاعر الفرنسي شارل بودلير الذي نعتها في كتابه « قلبي في العراء» بـ« العاهرة» و« الغبيّة» و« الثرثارة» و« الثقيلة الظلّ». ومما قاله أيضاً: « لا أستطيع أن أفكّر في هذه المخلوقة الغبيّة من دون أن أُصاب بنوبة غضب. حين ألتقيها لا يمكنني أن أتمالك نفسي عن رمي جرن على رأسها. إذا تولّه بها بعض الرجال، فما هذا إلا دليل على انحطاط رجال هذا العصر»!
أما نيتشه، فقال: «جورج صاند باردة كفكتور هوغو وبلزاك، وكما الرومنطيقيين كلهم حين يجلسون إلى طاولاتهم».
لم تتوقّف صاند عن الكتابة حتى موتها عن 72 عاماً في 1876، إثر انسداد معويّ. وكأنها نفّذت نصيحة أسدتها يوماً: «أكتبوا طالما أنكم تمتلكون العبقريّة، وطالما أن الله يُملي عليكم، لا الذاكرة». من الواضح أن عبقريّتها منّت عليها بالكثير، من كتابة الروايات والقصص، إلى المسرحيات، والرسائل. هذا إن لم يكن الحبّ بدوره عبقريّة أخرى. أكثر من مئة كتاب تركت صاند، تقلب فيها الطاولة على السائد والمكرَّس خصوصاً في القضايا التي تتعلّق بالمرأة، ما جعلها رائدة بحقّ. ففي كتاباتها مناهَضة صريحة للزواج، ومحاربة للسلطة الذكورية، ودعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة، فضلاً عن الأخذ بيد العمّال والفقراء. وقد وصفت صاند رواياتها بكونها محاولات لـ« إعادة تأهيل المرأة». من هنا واقعيتها التي أشار إليها الناقد سانت بوف حين قال إن شخصياتها تنتمي إلى « عالم حقيقي، حيّ، عالمنا».
في السيرة الذاتية كتبت « قصّة حياتي» (1855) على شكل رسائل تبادلتها مع شاتوبريان، روسو، وستندال، وقد صدرت في عشرة أجزاء، فيها تُزيل الغبار عن الطفولة، والشباب، والحرّية، والكتابة. ومن الواضح أن « قصّة حياتي» تختصر الكثير؛ حياة بأكملها أوصت أن يُسلَّم قيادها للقلم: « أكتبوا حياتكم، أنتم الذين فهمتم حياتكم وسبرتم أغوار قلوبكم».
وعلى شكل رسائل أيضاً، كتبت صاند « رسائل حياة» التي تكشف، عبر 434 رسالة، سيرة خمسين عاماً من حياتها.
وللحبّ نصيب من كتبها طبعاً. فحبّها لدو موسيه أرَّخته في «هي وهو» (1859)، من أوج تألّقه إلى سقوطه، وذلك مع البطلَين: تريز التي تتوارى خلفها صاند، ولوران الذي يحمل ملامح الحبيب. وقد أثار صدور هذا الكتاب، بعد وفاة دو موسيه، جدلاً كبيراً بسبب الدور الذي نسبته صاند إليه. ما استوجب ردَّاً من شقيقه على شكل كتاب حمل عنواناً مناكفاً: « هو وهي». أما إحدى عشيقات الشاعر الفرنسي، لويز كوليه، ففضّت الخلاف حول أسبقيّة الـ« هو» والـ« هي»، بالإبقاء على « هو» فقط عنواناً لكتابها.
«وترٌ قُطع من قيثارة العصر»، هكذا رثى إرنست رينان، جورج صاند. أما فكتور هوغو فقال: « أبكي ميّتةً، وأحيّي خالدةً».
«الغاوون»، العدد 30، 1 آب 2010