محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي - العشق

1- تعريف العشق .
2- خطورة العشق وعظيم جنايته .
3- أنواع العشق .
4- الأسباب الحاملة على العشق .
5- مظاهر العشق .
6- أضرار العشق .
7- أهمية التنبه لمكائد الشيطان وحيله .


التعريف

قال ابن فارس في مادة عشق: العين، والشين، والقاف أصل صحيح يدل على تجاوز حدِّ المحبة. تقول: عَشِقَ يَعْشَق، عِشْقاً وعَشَقاً [معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/321] .

وقال ابن منظور: العشق فرط الحب، وقيل: هو عُجْبُ المحبِّ بالمحبوب يكون في عفاف الحبِّ، ودعارته، عَشِقه يَعْشَقه عِشْقاً، وعَشَقاً، وتعشَّقه. وقيل: التَّعَشُّقُ تكلُّف العشق، وقيل: العِشْق الاسم، والعَشَق المصدر [لسان العرب لابن منظور 10/251] .

وقال: ورجل عاشق من قوم عُشَّاق، وعِشِّيق مثال فسِّيق كثير العِشق، وامرأة عاشق بغير هاء وعاشقة. والعَشَقُ، والعسق بالشين، والسين المهملة: اللزوم للشيء لا يفارقه. ولذلك قيل لِلْكَلِف: عاشق; للزوم هواه [لسان العرب 10/252] .

وقال: وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال: الحبُّ; لأن العشق فيه إفراط، وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العَشَقَةُ إذا قطعت. وقال ابن عبد البر: سئل بعض الحكماء عن العشق، فقال: شغل قلب فارغ [بهجة المجالس لابن عبد البر 2/817] .


وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة [روضة المحبين لابن القيم ص153] .

وقال أرسطو: العشق جهل عارض صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة [روضة المحبين ص154] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل، والمعرفة; فإن العاشق يُخَيَّل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبَه ما يصيبُه من داء العشق [جامع الرسائل لابن تيمية 2/243_ 244] .

آيات

1- قال الله تعالى: (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67] .


2- قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 30، 31] .

أشعار

1- قال منصور النمري:

وإن امرءاً أودى الغرام بُلُبِّه = لعريان من ثوب الفلاح سليبُ

[بهجة المجالس لابن عبد البر 3/816] .


2- رحم الله من قال يصف حال العشاق:

كعصفورة في كف طفلٍ يسومها = حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت = وما في الأرض أشقى من محبٍّ
وإن وجد الهوى حُلْوَ المذاقِ تراه باكياً = في كل حين مخافةَ فرقةٍ أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم = ويبكي إن دنوا حذرَ الفراقِ
[العشق ص9] .

حكم

1- قال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق من فنونه [روضة المحبين ص197] .

2- قال أحدهم: العشق مشغلةٌ عن كل صالحةٍ وسكرةُ العشق تنفي لذة الوسنِ [روضة المحبين ص198] .

3- قالوا: والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً [روضة المحبين ص199] .
متفرقات

1- قال ابن تيمية: فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود. وأصدقُ شاهدٍ على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك; فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته، ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية; فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته [الاستقامة لابن تيمية 1/459] .

وقال: وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى; فدوام تعلق القلب بها أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه. وهؤلاء يُشَبَّهون بالسكارى والمجانين كما قيل: سكْران: سُكْرُ هوىً وسُكر مدامةٍ ومتى إفاقةُ مَنْ به سكران وقيل: قالو: جننت بمن تهوى فقلت لهم: العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في حين [العبودية لابن تيمية 97_ 98] .

وقال متحدثاً عن حقيقة العشق: قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة; فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق. ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة [جامع الرسائل لابن تيمية 2/243_ 244] . وقال: وقيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب; فإذا أفرط فيه كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم [جامع الرسائل 2/242] .

2- قال ابن أبي حصينة مبيناً ضرر العشق، غابطاً مَنْ لم يقع في أشراكه: والعشق يجتذب النفوس إلى الردى بالطبع واحسدي لمن لم يعشق [روضة المحبين ص198] .

3- قال ابن القيم مبيناً خطر العشق على الدين: ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد. وكلما كان أكثر إخلاصاً، وأشدّ توحيداً كان أبعد من عشق الصور. ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق; لشركها، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.

قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24] . فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا; فالمخلص قد خَلُص حُبُّه الله، فخلَّصه الله من فتنة عشق الصور، والمشرك قلبه متعلق بغير الله، فلم يخلص توحيده وحبه الله عز وجل [إغاثة اللهفان لابن القيم ص513] .

وقال في موضع آخر: وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه، وعزَّ عليهم شفاؤه، وهو لعمر الله الداء العضال، والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعزَّ على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره إلا وصعب على الخلق تخليصه من ناره. وهو أقسام; تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه ندَّاً يحبه كما يحب الله; فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه; فإنه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك. وعلامة العشق الشركي الكفري أن يقدم رضا معشوقه على رضا ربه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه، وحظُّه، وحقُّ ربه وطاعتُه_قدَّم حقَّ معشوقه على حقِّ ربه، وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه_إن بذل_أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه، وجعل لربه_إن أطاعه_الفضْلَة التي تفْضُل عن معشوقه من ساعاته; فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله ورسوله ويطابق العدل [الجواب الكافي لابن القيم ص490، 491] .

4- قال ابن القيم رحمه الله متحدثاً عن أضرار العشق: قالوا: وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلّت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء; فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية; فلو سألت النِّعم ما الذي أزالك؟ والنِّقم ما الذي أدالك؟ والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك؟ والستر ما الذي كشفك? والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك? والحياة ما الذي كدَّرك? وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك? وعزة النفس ما الذي أذلَّك? وبالهوان بعد الإكرام بدَّلك لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً. هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون [روضة المحبين ص202] .

5- يقول ابن حزم: وكم مصون الستر، مسبل القناع، مسدول الغطاء، قد كشف الحبُّ ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه، فصار بعد الصيانة عَلَماً، وبعد السكون مثلاً [طوق الحمامة لابن حزم ص.39].

6- يقول محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي هناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقا، وتجر إليه جرا. وفيما يلي ذكر لبعض تلك الأسباب:

1) الإعراض عن الله عز وجل : ذلك أن في الله عوضا عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.

2) الجهل بأضرار العشق: وقد مر شيء من أضراره، ; فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.

3) الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق. قال ابن عقيل: وما كان العشق إلا لأرعن بطال، وقل أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة; فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ [الآداب الشرعية لابن مفلح 3/.126] . وقال ابن عبد البر: سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شغل قلب فارغ [بهجة المجالس 2/.817] . وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة [روضة المحبين ص.153] . وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلبا خاليا لا شغل له من تجارة، ولا صناعة [روضة المحبين ص.153] . وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفسا فارغة [روضة المحبين ص.153] .

ومن الفراغ أيضا فراغ القلب من محبة الله عز وجل. قال ابن القيم: وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه; فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور [زاد المعاد لابن القيم 4/.246] . وقال: ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد بطالته، وفراغه; فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد [طريق الهجرتين لابن القيم ص.488] .

4) وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة; فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلى الهاوية إذا هي انحرفت; فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم. وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح. وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية; حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منواله. وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية; فهي الترجمان الناطق عمليا لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة [انظر: الصحافة المسمومة لأنور الجندي ص76 ، وحصوننا مهددة من داخلها ص31، 39 ،والأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز لمروان كجك ص191، وأربع مناقشات لإلغاء التلفزيون لجيري ماندرو، ترجمة سهيل منيمنة] .

5) التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق. وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة; فترى هذا الغر يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعرا. وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه. ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى: أول العشق مزاح وولع ثم يزداد فيزداد الطمع كل من يهوى وإن عالت به رتبة الملك لمن يهوى تبع [أدب الدنيا والدين للماوردي ص.138] .

وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق = فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة = فلما تمكن منها غرق
ولما رأى أدمعا تستهل = وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره = فلم يستطعها ولم يستفق
[ذم الهوى لابن الجوزي ص.440] .

6) الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه; حيث يظن أن لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادرا في غيه، لا يكاد يفيق من سكره. فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقة، وظرف، ولطافة، وكرم، ونحو ذلك. ومن لم يعشق، ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خال من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى = فكن حجرا من جامد الصخر جلمد
ا [الجواب الكافي ص509] .

ولا ريب أن المتجرد في عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل. ولكن حصر الحب والعشق في زواية حب الصور المحرمة جهل وانحراف; ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل. وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها; فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وحب الطبيعة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه. ولهذا يجد أهل العلم من اللذة في العلم، ما لا يحاط به، أو يقدر على وصفه. يقول الإمام الشافعي مبينا عظيم اغتباطه بالعلم، ولذته، وفرحه به:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي = من وصل غانية وطيب عناق
وصرير أقلامي على صفحاتها= أحلى من الدوكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها = نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طربا لحل عويصة = في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وأبيت سهران الدجى وتبيته = نوما وتغي بعد ذاك لحافي
[ديوان الشافعي تحقيق د.محمد عبد المنعم خفاجي ص113، 114] .

بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل كل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك. قال ابن القيم: فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته. والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها; فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق. فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.

والمحبة مع الله أصل الشرك، والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها [إغاثة اللهفان ص512، 513] . وقال في موضع آخر متحدثا عن فضل محبة الله_عز وجل_: =ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها الله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه; فيوحد محبوبه، ويوحد حبه. فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له; فهذا الحب_وإن سمي عشقا_فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله; فلا يحب إلا الله [روضة المحبين ص.211] . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار [رواه البخاري (16)، و (21)، و (6041)و (6941)، ومسلم (43) ] .

قال ابن القيم عن هذا الحديث: فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت الله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله، مضعفة لها. وتصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة; فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحب إليه من نفسه. وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهرا وباطنا. وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان [روضة المحبين ص.212] .

وقال: والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقا ممدوحا مثابا عليه، وذلك أنواع: أحدها: محبة القرآن; بحيث يغنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومراد المتكلم سبحانه منه. وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه; فمن أحب محبوبا أحب كلامه [روضة المحبين ص.213] .

وقال: وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته; فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه; فيحتاج إلى من يذكره. وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه; فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق. وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق. ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر. ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية. فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة [روضة المحبين ص.213] .

وصدق من قال:

ونفاسة الأشياء في غاياتها = فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا[خواطر الحياة للشيخ محمد الخضر حسين ص.139] .

7) الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل; حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر [انظر: الجواب الكافي ص.705]

. ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته. والجواب عما مضى: أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة; فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول; لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقول لا تصح، أو نقول لا تدل على ما ذهبوا إليه. قال ابن القيم في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاث أقسام: أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها. والثاني: نقول كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه. والثالث: نقول مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه [روضة المحبين ص 139] .

ثم شرع في تفصيل ذلك. وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارئ على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه. بل إن ابن حزم لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه_استغفار من يعلم أن كلامه من عمله. ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو_إن شاء الله_من اللمم المعفو [طوق الحمامة ص141] .

وقال على سبيل الوعظ: رأيت الهوى سهل المبادي لذيذها وعقباه مر الطعم ضنك المسالك ومن عرف الرحمن لم يعص أمره ولو أنه يعطى جميع الممالك [طوق الحمامة ص152] . وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور. وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه; إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به [روضة المحبين ص147] .

وليس في ذلك حجة لمن أراد أن أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به. وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة. ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أربت على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه. وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيدا. وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء [الحديث أخرجه ابن حبان في المجروحين 1/،349 والخطيب البغدادي في تاريخه 5/،156 ،262 6/50، 51] .

8) التهتك والتبرج والسفور: فذلك من أعظم محركات العشق; فهو سبب للنظرات الغادرة، التي تعمل عملها في القلب.

9) إطلاق البصر: فبداية العشق في الأغلب تكون عند النظر إلى المحاسن; فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب; فإذا أطلق الإنسان بصره أطلق القلب شهوته، ومن أطلق بصره دامت حسرته; فأضر شيء على القلب إرسال البصر; فإنه يريه ما يشتد طلبه له، ولا صبر له عنه، ولا سبيل إلى الوصول إليه، وذلك غاية ألمه، وعذابه. ثم إن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس وشأن السهم أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم، فإن بادر، واستفرغه، وإلا قتله ولابد. وكذلك النظرة فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهم في الرمية; فإن لم تقتله جرحته. والنظرة بمنزلة الشرارة التي ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:

كل الحوادث مبداها من النظر = ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها = فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها = في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته = لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر. قال ابن القيم: ولما كان النظر أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وأباحته في موضع الحاجة. وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل; فإنه يباح للمصلحة الراجحة [روضة المحبين ص112] .

قال جرير بن عبد الله رضي الله عنهما: سألت رسول الله"عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري [أخرجه أحمد 4/358_ ،361 وأبو داود (2148)، والترمذي (2776) وقال: حسن صحيح] . قال ابن القيم: ونظر الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد; فما لم يتعمده القلب لا يعاقب عليه; فإذا نظر الثانية تعمدا أثم; فأمره النبي"عند نظر الفجأة أن يصرف بصره، ولا يستديم النظر; فإن استدامته كتكريره [روضة المحبين ص113] .

10) المعاكسات الهاتفية: فهي من أعظم ما يجر إلى العشق; فقد تكون الفتاة حصانا رزانا لا تزن بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأسدل عليه الستر. فما هي إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه، فربما وافقت صفيقا يغترها بمعسول الكلام، فتعلقه، وتقع في أشراكه; ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا. وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها. وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات; حيث تمسك بسماعة الهاتف، وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصودا بعينه، وإما أن يكون الاتصال خبط عشواء; فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها. والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة الله تعالى . والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجره من فساد يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه. والمقصود من ذلك الإشارة إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى العشق والتعلق; فسد هذا الباب واجب متعين. هذه على سبيل الإجمال هي الأسباب الحاملة على العشق [العشق باختصار يسير] .




إحالات

1- الآداب الشرعية – ابن مفلح الحنبلي 3/125 مؤسسة قرطبة .
2- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان – ابن القيم تحقيق محمد عفيفي 2/63 المكتب الإسلامي الطبعة الأولى 1407 .
3- جامع الرسائل – ابن تيمية تحقيق محمد رشاد سالم 2/262 دار المدني جدة الطبعة الثانية 1405.
4- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي – ابن القيم ص 216 المطبعة السلفية الطبعة الثالثة 1400 .
5- الداء والدواء – ابن القيم تحقيق يوسف بديوي ص 350 مكتبة دار التراث الطبعة الثالثة 14120.
6- ذم الهوى – ابن القيم ص 228 دار الكتب الحديثة الطبعة الأولى 1381 .
7- روضة المحبين ونزهة المشتاقين – ابن القيم ص 182 دار الكتب العلمية .
8- زاد المعاد في خير هدي العباد – ابن القيم تحقيق الأرناؤوط 4/265 مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1399 .
9- صيد الخاطر – ابن القيم الجوزي ص 105 .
10- طريق الهجرتين وباب السعادتين – ابن القيم تحقيق عمر أبن محمود أبو عمر ص 504 دار ابن القيم الدمام الطبعة الأولى 1409 .
11- ففروا إلى الله – أبو ذر القلموني ص 141 المكتبة التوفيقية .
12- مجموع الفتاوى – ابن تيمية 36/82،192 الطبعة الأولى 1398 .
13- موارد الأمان المنتقى من إغاثة اللهفان – علي حسن عبد الحميد ص 338 دار ابن الجوزي الدمام الطبعة الأولى 1411 .
14- نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء – محمد حسن موسى ص 1769 دار الأندلس جدة الطبعة الأولى 1411 .
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...