علياء تركي الربيعو - من الحب ما أحيا وقتل العرب

استبد الشوق بشاب لرؤية حبيبته، فذهب لزيارتها في منزلها على الرغم من خطورة الأمر ضمن ما هو متعارف عليه في البيئة العربية. وعندما نجح في الدخول، وجد نفسه محاطاً بعائلة الفتاة، وسرعان ما طوقته العائلة واتهمته بأنه لص جاء ليسرق البيت، فرفعوا أمره الى الوالي للحكم عليه، بحسب ما ينقل لنا أبو بكر أحمد باقادر عن الأصمعي في دراسته "مرايا المروءة: قبس من مفهوم الحب عند العرب في العصور الوسيطة". تقول القصة، إنه عندما نظر الوالي إلى المتهم "أعجبه حسن هيئته ونظافته"، فهو ذو جمال وكمال وأدب ظاهر، بوجه زاهر، حسن الصورة، طيب الرائحة، جميل البزة، عليه سكينة ووقار، الأمر الذي أثار الشك لدى الوالي في دافع الشاب لدخول البيت. فأمر هذا الأخير بأن يخلوا سبيله ليستوضح الحكاية من المتهم مخاطباً إياه "إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وإني ما أظنك سارقاً، وإن لك قصة غير السرقة فأخبرني بها!"، إلا أن إجابة الشاب جاءت موافقة على ما قيل عنه "إن القول ما قالوه والأمر على ما ذكروه"، فأمر الوالي بحبسه، حينها تنفس الشاب الصعداء وأنشد "قطع يدي بالذي اعترفت به، أهون للقلب من فضيحتها". فأمر محبوبته لم يفضح، بل فداها هو بقطع يده مع أنه عقاب قاسٍ. وحتى لا نبخل بسرد النهاية، نكمل الحكاية: ولما كان يوم إنزال العقوبة، هرعت حبيبة الشاب لإنقاذه على الرغم من القيود العائلية وهي تنشد فيه، "فهلا على الصب الكئيب لأنه، كريم السجايا في الهوى غير سارق". فيكشف أمرهما، وخلافاً للقصص الشعبية عن الحب غير المكتمل التي تروى عن حب قيس وليلى، عنترة وعبلة في الوجدان الأدبي العربي، تنتهي القصة بالزواج السعيد للشابين.

لا يتوقف الأدب العربي القديم والحديث عن سرد قصص الحب الجميلة، وهو الأدب الذي طالما بحث عن إجابة لسؤال لا ينفك يؤرق الجميع، ما هو الحب؟ وفي السعي الأدبي المتواصل هذا، حفلت النصوص بموضوعات الحب والمرأة والجنس والعفة، وأبحر في الحديث عن مواضيع الحب والعشق والغرام فقهاء كبار وشعراء وأدباء. نظر إليها أصحاب بعضهم، مثل ابن حزم وابن الجوزية بوصفها مواضيع تعكس العلاقات بين الناس يجب الحديث عنها، جسدتها الصوفية عن طريق نقل الوصف الحسي الى وصف رمزي ليؤكد العلاقة بين العاشق البشري والذات الإلهية. أما الشعراء ولا سيما من عرف بالمجون منهم، مثل أبي نواس وبشار بن برد، فبحثوا وتغنوا بمواضيع الحب والغرام بشكل حسي وجريء، لكن بمسحة إنسانية ما جعلها محبوبة ومقبولة لدى الناس على الرغم من خدشها للحياء في أكثر الأحيان.

مع ذلك لم تنجح هذه التيارات جميعها أو متفردة في إيجاد تعريف واحد وموحد للحب، ولانشغالنا فيما يعرف الآن بالعالم الرقمي، اقتصر البحث على مبادرات تحاول إيجاد وصف لهذا المفرح المعذب للقلب، فها هي الكاتبة المغربية، فاطمة المرنيسي، في كتابها "روضة المحبين: خمسون اسماً للمحبة لابن قيم الجوزية" تجهد في شرح معنى الحب. إذ ترى المرنيسي أن كلمة الهوى، لها "دلالة خطيرة تصعب مقاومتها". ولذلك أفرد العرب للحب أكثر من ثلاثين كتاباً، حاولوا خلالها تصنيف تجلياته المتحولة وانفعالاته المختلفة، في أكثر من ستين كلمة بين القرنين التاسع والرابع عشر، احتفظ منها ابن قيّم الجوزية بخمسين كلمة فقط. معتبراً الكلمات المتبقية غير ذات أهمية. فتشكل لدينا قاموس كلمات الحب تضمن التالي: الحب أو العشق، الوله، التذليه، الهيام، الغرام، الخلم، الخُلَّة، الود، الداء، المخامر، الرسيس، الخَبَلُ، اللَّمَمُ، الفتون، اللوعة، الاستكانة، الحنين، اللهف، الأرق، السهد، الحُرق، اللذع، الكمد، الحزن، الوصب، الاكتئاب، اللاعج، الشجن، الوهل، الغمرات، السدم، الشوق، الخلابة، الجوى، الوجد، الشغف، الصبابة، الهوى، المحبة، الحرمان، الجنون. فأما الوصب، فهو ألم الحب ومرضه، فإن أصل الوصب المرض. وأما البلابل فجمع بلبلة، يقال: بلابل الحب وبلابل الشوق، وهي وساوسه وهمه. وأما اللاعج، لعجه الضرب إذا آلمه وأحرق جلده، ويقال: هو لاعج لحرقه الفؤاد من الحب. وأما الخلم، فهو مأخوذ من المخالمة وهي المصادقة والمودة، والخلم الصديق. وأما الوهل، فأصله الفزع والروع. حيث إن كثيراً من الناس يرى محبوبته فيصفر ويرتعد. قيل: هذا مما خفي سببه على أكثر المحبين، وسببه أن الجمال سلطان على القلوب، وإذا بدا راع القلوب بسلطانه، وقالوا، إن الجمال يأسر القلب، فيرتاع الرجل إذا أحس بمن يأسره.

الخلوة بذكر الحبيب
يروى أن ذا الرمة سئل ذات يوم: كيف تعمل إذا انقفل دونك الشعر؟ فقال "وكيف ينقفل الشعر دوني وعندي مفاتيحه؟ قيل له "وعنها سألناك ماهي؟ قال: "الخلوة بذكر الحبيب".

اشتهر الأدب العربي بأنواع من الغزل، يجسد حالة الوله والتعلق والولع بالمحبوب ولكن بشكل يؤكد طهريته، وهو ما عرف بـ "الحب العذري". وقد يكون هذا ما دفع الطاهر لبيب في كتابه "سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجاً" ليولي أهمية كبرى له. فهذا الحب التعبدي الذي لطالما أثار استفسارات سطرها الأدب العربي، تمحورت جلها حول العلاقة بين الإسلام والحب العذري، وكيفية التوازن بين حب الخالق والمعبود. وفي الوقت الذي استبدل فيه الإسلام تعدد الآلهة القبلي بإله واحد يتماثل كل عابديه أمامه، نما بالتوازي مع هذا الإيمان بوحدانية الإله، عبادة الحبيبة الوحيدة لدى الشعراء العذريين. ويشرح الطاهر لبيب بأن "كلمة عبادة ليست بمبالغة، ما دمنا نرى أنه من الممكن مقارنة أوصاف المحبوبة بأوصاف إلهية". فغالباً ما يدور الأمر حول امرأة سامية من الناحية الإنسانية، يجسد حبها الحياة والموت، وفيها "يبلى الدهر"، "وتجد الروح حينها"، وهو الرضى نفسه الذي يتجه المؤمن الصالح وهو يسلم روحه لخالقه بحسب الطاهر لبيب، ولنأخذ جميل بثينة مثالاً هنا، فهو ينشد: (ولو أرسلت تستهدين نفسي... أتاك بها رسولك في سراج).

ويظهر أثر الابتهال في استحضار ذكرى حبيبته الشافية لكل العلل "وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي". كذلك تصبح العلاقة علاقة رحمة فيقول جميل لبثينة مستكيناً "ارحميني". كما أن الشاعر يتخلى من الناحية المادية، عن ممتلكاته، وينضم الى المتسولين من أجل مضاعفة حظوظه في رؤية حبيبته من جديد: (إني إليك بما وعدت لناظر ... نظر الفقير الى الغني المكثر).

أما أن تكون الحبيبة هي وحدها التي ينبغي أن تشغل قلب الحبيب، فهذا هو موضوع "الميثاق" العذري بالضبط. حيث يستبعد المحب أي إمكانية للتفكير في أي علاقة مع امرأة غير حبيبته، وذلك دون أن يكون على يقين من وجود حب متبادل. فعلى سبيل المثال، حين يجد جميل نفسه أمام سبع فتيات كريمات النسب ترغب كل منهن الزواج به، تركهن ونظم قصيدة عن بثينة التي كان متعذراً عليه بلوغها.

ويضيف الكاتب، أن العذري يقبل بـ "المرأة الوحيدة"، حبيبته، ويلتزم بالوفاء لها حتى الموت، حسب نذر لا يكف عن تأكيد صدقه: (آليت لا أصطفي بالحب غيركم ... حتى أغيب تحت الرمس بالقاع). وهو نذر يذهب الى حد عقد لسان الشاعر فلا تطاوعه الكلمات كلما حاول أن ينظم شعراً في امرأة أخرى غير تلك التي يحبها: (إذا ما نظمت الشعر في غير ذكرها ... أبى، وأبيها، أن يطاوعني شعري).

كما أن الحبيبة عند العذريين هي المخلوقة الوحيدة المتعذرة المنال، هي أسمى من أن تكون زوجة، بل عليها أن تظل غريبة. وهي ألف المخلوقات وياؤها. وهي تركيب لكل صور الجمال، وما من أحد يمكنه مقاومة مفاتنها، بمن فيهم العفيفون الأتقياء:(رهبان مدين لو رأوك تنزلوا .. والعُصم في شغف الجبال الغادر).

بلوغ البهاء الأبدي
وبعيداً عن الحب العذري، نرى صورة الحب الصوفي وجمالياته، تتجلى في نص "الأيام المخمورة" لسعد الله ونوس، إذ تنقلب الحسية في المسرحية الى مستوى بعيد من مستويات الصوفية، لتتضمن نسق حب تنوعت وجوهه لدرجة بلوغه حد الصوفية الذي تبدى بالعشق المتبادل بين أبطاله (حبيب وسناء) وفقاً لدراسة الباحثة، وطفاء حمادي، "من الحب ما قتل": قراءة في المسرح الإغريقي-الفرنسي والشكسبيري والعربي". لنشهد حباً شبيهاً بالحب الإلهي، لكنه ليس مخالفاً للحب الإنساني، وليس كذلك بالحب الإلهي الذي يكون فيه العشق بين خالق ومخلوق، يكون هدفه الاتحاد بذات الخالق، بل بحسب الكاتبة، نرى ونوس يدعو الى حب من النوع الذي يعبر به الجسد ليبلغ درجة البهاء، حيث تبرز العلامات لدى الصوفي عندما تتبدى الرحلة الصوفية سعياً محموماً في طريق بلا علامات.

وبمرافقتنا لمسيرة أبطال المسرحية، يبدو أن الأماني والرغبات ماهي إلا سبيل عبره حبيب وسناء لبلوغ مرحلة الانفصال عن الجسد، إذ يأتي على لسان البطلة وهي تخاطب حبيبها: "جعلت الرعشة تتسلق ظهري. ليكن.. لن أخجل من عريّ. هذا العري الذي حلمت به طوال عمري، عريّ مدهش لذيذ، شبيه بالاسترخاء والنسيان وبداية الحياة، ربما نزحني من الداخل، ولكن، جعلني أشعر أن كل ما في، حتى جلوسي في المرحاض، مدهش وجميل. ليس في ما استحي منه، إني خفيفة كالريشة".

وتضيف الكاتبة، نرى ونوس يتجه في نص الحب هذا الى طريق البهاء سالكاً سلوك الجسد لهدف روحاني، حيث يخف الجسد ويصير كالريشة بتخليه عن الغرائز والشهوات. فيصبح الجسد في علاقة الحب هذه، سبيلاً عبره الحبيبان لبلوغ مرحلة البهاء، هذه المرحلة الصراعية بين حضور الذات المعرفية وتلاشي سطوتها، والتي تتحقق من خلال سعي الذات الصوفية، والسير بالعدمية (عدمية الذات الدنيوية) الى نتائجها من أجل قهرها وتجاوزها بوصفها حضوراً مجسداً للغواية.

وهذا ما يخلص إليه البطل، وهو يَسمو بحب معشوقته سناء "في هذا الفضاء، سنبدأ تجربتنا الفذة، التجربة التي لم يعرفها البشر، تجربة التوغل في الحب، وحين ينفد من جسدينا الحرير، نتحول فراشتين أو فراشة واحدة. وبرفيف إيقاعي لطيف، سنطير الى الألق، حيث يمكن أن نلامس البهي الأبدي".
 
أعلى