نقوس المهدي
كاتب
لا شكّ أنّ الأخبار القادمة من المملكة السعودية الوهابية في أغلبها قاتم وصادم ومنفّر، ولكن رغم ذلك هناك ما يلفت حقّا وهو تلك الأصوات الروائية الجديدة وخاصة المكتوبة بقلم الأنثى المبدعة (رجاء عالم – سمر المقرن – رجاء عبد الله وغيرها) التي تبدو احتجاجا مدروسا على سلطة دينية وفقهية وسياسية تسلّع الأنثى وتحجبّها وتحجبها محوّلة إياها إلى مجرد فرج للمتعة وفضيحة ينبغي سترها وضلع قاصر وعقل ناقص ينبغي الأخذ بيده والخوف عليه وحفظه عن أعين الغرباء مع الاحتفاظ بحقّ التمتع به كاملا.
ردّا على تلك النظرة التي تروّجها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتعاون مع السلطة السعودية تأتي الرواية السعودية لتقدّم نظرة مغايرة عن المرأة السعودية التي ترفض ما تحاول السلطات الذكورية إلصاقه بها، فتحتج على مصادرة صوتها وتسليعها وتغييبها فتكتب بوحها وحبّها وشوقها غير عابئة بلصوص الجسد ومعهرّي الروح، معبّدة بذلك الطريق للأخريات كي ينتفضن ويخرجن من ليل أسرهن الطويل باتجاه منابع الشمس والحرية.
هذا ما تحاوله الروائية سمر المقرن في روايتها "نساء المنكر" حيث يشي العنوان بجرأتها، من خلال اختيارها اسما تطلقه هيئة الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر على النساء اللواتي تمسك بهنّ الهيئة في حالة حبّ، وكأنّ الروائية تصرخ وتتحدّى قائلة: إذا كان الحبّ منكرا فلنكن نساء المنكر!
تحاول الروائية تعرية أكبر مؤسّسة فقهية تتحكّم بحياة السعوديات والسعوديين من خلال تعرية عوالم الهيئة الداخلية وطريقة قيامها باعتقال "المشبوهات والمنحلاّت "(وفق وصف الهيئة ) حيث يغدو الحبّ جريمة والمكالمة التلفونية زنا ومحادثة رجل جريمة تستدعي الرجم ودائما عقوبة المرأة غير عقوبة الرجل رغم أنّ الشريعة التي يتحدّثون باسمها لا تفرق بين "الزاني " والزانية "، ولكنّ العقول المريضة المشبعة بشهوة الذكورة العمياء لا تستطيع تحمّل حتى ما قالته الشريعة.
تبدأ أحداث الرواية بحالة حبّ بين البطلة سارة (متزوّجة على الورق ويرفض زوجها أن يطلقها ) التي تسكن المملكة الوهابية ورئيف الذي يسكن لندن (كان سابقا حبّيبا لصديقتها أسيل)، تتطوّر علاقة الحبّ إلى درجة يستحيل معها الفراق والبعد، فتسافر البطلة إليه في لندن وهناك يعيشان أسبوعا من الغرام المفتوح على كلّ أنواع المتعة والشبق، بعيدا عن عيون الهيئة وجنونها وهوسها في ملاحقة العشاق (أما في حرارة قلبينا فلم يكن من حلّ، إلا أن تتشابك أصابعنا كأنها تعلن بداية أن نكون، أن نصهر شتاء لندن، أن نمضي في مقاومة قسوة "الشرطة الدينية" التي تنتظرنا في الرياض وغلظة المجتمع ونعته للعاشق بالفاسق، أما العاشقة فهي بلا شكّ مومس تستحق الرجم). بعد ذلك تعود البطلة إلى المملكة / السجن، لتعيش فراقا قاتلا للروح والجسد مع اتصالات هاتفية متفرقة لا تشبع جسدا أدمن متعته ولا روحا توحدّت مع من تحبّ، وتبقى الأمور هكذا إلى أن يأتيها اتصال من رئيف يخبرها بأنه في الوطن، فتكاد لا تصدق من الفرحة فتطلب لقاءه، ولكنّه يحذرها أنهما في المملكة وليسا في لندن، ولكنها تصرّ بكلّ جنون الحبّ وجموحه، فيرضخ لطلبها ويلتقيان في أحد المطاعم كأيّ زوجين على غداء ولكنّ الأعين المتربّصة والوجوه الكالحة المبثوثة في كلّ مكان عن طريق الجواسيس الذين درّبتهم الهيئة وزرعتهم على هيئة عمّال مطاعم يستطيعون اكتشاف الأزواج من غيرهم وذلك لأنّ الأزواج لا يحدّقون في عيون بعضهم البعض بوله وشوق في المطعم، وهذا ما فضحهما الأمر الذي استدعى حضور رجال الهيئة المرعبين بذقونهم الذكورية الهشّة وأصواتهم الناشزة وعقولهم المشككة بكل شيء، التي تقسم الناس إلى زناة وصالحين، فيتمّ اعتقالهما. وتبدأ رحلتها في أروقة هيئة الأمر بالمعروف التي تتعامل معها منذ اللحظة الأولى كعاهرة ومنكر حيث يستقبلها الشيوخ كمدنّس ينبغي لفظه والتبرؤ منه موجّهين لها الكلام البذيء ( استري نفسك الله يلعنك ويلعن أمثالك يا حريم السوء) يا داشرة يا منحلّة .. وغيرها من المفردات التي يتلفظ بها حرّاس الأخلاق الذين هم بحاجة إلى أخلاق باعوها وتستروا تحت حجاب الشريعة التي تخفي عوراتهم الأخلاقية وعطب أرواحهم وعقولهم المريضة، وعندما يطلب منها الشيخ التوقيع على أوراق تعترف فيها بأنها زانية وفاجرة مقابل خروجها تقرّر المقاومة وترفض ما يحاولون إلباسها إياه ( على ماذا أوقّع ؟ وعلى أيّ شيء أدوّن اعترافاتي بجرائم لم أرتكبها، سلسلة طويلة من التهم منها ما سمعت عنه في مجتمعي، ومنها ما لم أسمع عنه ولا حتى في الأفلام العربية القديمة. ما يحصل في هذه الساعة هو جريمة بحقّ الإنسانية وبحقّ وطني وبحقّ الدّين الإسلامي الذي يتصرّفون باسمه، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق كرامتهم.)
تصرخ في وجهه قائلة:
-" لن أوقّع، لن أوقع يا شيخ، لن أوقّع يا حامي الإسلام " فيقوم الشيخ بضربها بالعصا وبيديه لتجرّئها على رفض سلطته الذكورية وهيبته، ثم يتمّ تحويلها للقضاء الذي يحكم بجلدها وسجنها ثلاث سنوات.
في السجن تتعرف على عوالم النساء اللواتي زجّت بهنّ الهيئة بتهمة الحبّ!
نورة التي تخون زوجها وتعترف علانية بذلك صارخة ( نعم كنت أخونه وبكلّ قواي العقلية سأخونه! لأنّه رجل لا يستحقّ بكلّ بساطة إلا الخيانة) وذلك لأنّه يرفض أن يطلّقها، وخولة العاشقة التي أحبّت عامرا ومارست معه فعل الهوى فقادها رجال الهيئة إلى السجن بتهمة الدعارة وحكم عليها أربع سنوات سجن وسبعمائة جلدة، علماً أنّ القرآن أمر بمائة جلدة، فكيف تضاعف العدد؟ ومن قام مقام الله وضاعفه؟
وهناك سميرة التي قتلت زوجها بعد أن قتل الحياة في داخلها وصخّر قلبها. هذه النماذج تعكس وضع المرأة السعودية ومعاناتها ومقاومتها السلطات الكابحة لعواطفها عبر القتل والخيانة حيث يغدو التدمير والتدمير المضاد لعبة ذكورية / أنثوية مدمرة لكلا الطرفين.
بعد خروجها من السجن تكتشف زيف العالم الخارجيّ ونفاقه ونعرف أنّ حبيبها لم يقف بجانبها ولم يسأل عنها فقد قضى بسببها "أتعس الأوقات" حيث أصيب والده بجلطة بعد دخوله السجن، وهكذا تجد نفسها كأيّ سجين صاحبّ سوابق وصاحبّ سجلّ أسود فتمتنع كلّ الدوائر عن توظيفه وتشغيله، الأمر الذي يجعلها تقرر العمل صبّابة قهوة في الأعراس، وهكذا تتّصل بها المشرفة لتخبرها بأنّ لديها غدا عرسا وهو يوم عملها الأوّل وعندما تذهب لتصبّ القوة للعريس تفاجأ بأنّ العريس هو رئيف حبيبها الذي يرحل منها للأبد.
لعلّ أهمّ ما في الرواية إضافة لفضح الهيئة وممارساتها، هو تعريتها تلك التناقضات الصارخة التي تعيشها المرأة السعودية والمجتمع السعوديّ ومن هذه التناقضات:
1- مؤسسة الزواج ضدّ الحبّ: في الوقت الذي يجب أن تكون فيه مؤسّسة الزواج مؤسّسة ضامنة لحقوق الطرفين وطريقا شرعيا لممارسة الحبّ في مجتمع مغلق، نجد أن هذه المؤسسة تحوّلت إلى سلطة قمع جديدة يعيش الأزواج داخلها تعاسة منقطعة النظير ويمارسون خارجها نفاقا اجتماعيا رهيبا بأنهم سعداء، الأمر الذي يؤدّي إلى خلق مجتمع غير متّزن وقلق ومضطرب. تقول الرواية: الحبّ الذي مارسته مع رئيف ليلة كاملة كان أقوى وأكبر من عشرة زوجين لربع قرن في بيت متهالك العواطف مترامي الإحساس بالآخر. هذه بيوتنا لا يعيش فيها الأزواج إلا مع وقف التنفيذ وعندما يخرجون إلى الناس يجدون أنفسهم أبدع فناً وإتقانا لأدوارهم في إقناع الآخرين بأنهم سعداء وهم في الحقيقة لم يتقنوا في حياتهم إلا ممارسة التعاسة)
2- اندحار مفهوم القيم وتراجعها :
تشكل القيم (رغم تبدلّها بين مجتمع وآخر) معيار ضبط اجتماعي، ولكن هنا نجد أنّ معيار القيم مختّل ومضطرب، لأنّ السلطة القائمة تعمل على خلخلته عبر تسويق قيم بائدة كي يسهل لها السيطرة على مجتمعاتها وإبقاؤها رهينة الخوف، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق نماذج اجتماعية تحمل قيما مخالفة لأبسط حدود الإنسانية عبر تفاخرها بالقتل والجريمة لأنها لم تتلوّث بالحبّ! وهذا ما تسلّط الرواية الضوء عليه بذكاء موارب، حيث تقول:( في هذا المكان سمعت إحداهن تفاخر بأنها في السجن لأنها قاتلة لكنها لم تلّوث شرفها. حتى الأخصائية أوضحت لي هذا الأمر وبيّنت أنّ القاتلات وحدهن من يقف أهاليهن إلى جانبهن. دخول المرأة السجن بتهمة أخلاقية يعني أنها باتت منبوذة مدى الحياة، وهذا ما يدفعها إلى امتهان الدعارة إذ لا خيار للمرأة الموصومة، فإن كانت موظفة فقدت وظيفتها وإن كانت أمّا فقدت أمومتها وأهلها).
3- الحجاب المنافق: يشكل الحجاب (كزي ومعتقد) أكثر الأمور تأثيرا على المرأة خاصة، كونه حجابا للعقل قبل أن يكون حجابا للرأس، ولكن هنا نجد أنّ المرأة تحتجب فقط عمّن يطالبها بارتداء الحجاب الأمر الذي يعكس عدم قناعة المرأة بحجابها إنما تلبسه إرضاء لزوج وخوفا من لسان مجتمع لا يرحم، الأمر الذي يجعل الحجاب قمعا إضافيا يمارس على المرأة، فقط لأنها امرأة!
حيث تقول:(داخل هذا النقاب تعيش النساء السعوديات كل المتناقضات، حتى أن كثيرات منهن يعتقدن أنّ الرجل السعودي هو "الذكر" الوحيد من بين رجال العالم الذي يجب أن تحتجب عنه ولست أنسى مشهدا لسيدة كانت تقف أمام السائق بلا أيّ حجاب وعندما مرّ شقيق زوجها رفعت ورقة تحملها بيدها لتواري بها وجهها عنه، وهي أيضا ضحية لمقولة "الحمو للموت")
4- التشابه بين الإسلاميين والليبراليين في طريقة نظرهم للمرأة:
من المفترض أن يتميز الخطاب الليبراليّ عن الخطاب الإسلاميّ في طريقة تعامله مع المرأة، ولكن هنا نجد أنّ الطرفين يتعاملان معها ببنية واحدة رغم اختلاف الطريقة فالأول يحجبها عن شهوة الرجال والثاني يعرّيها كي تفتن الرجال، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف أنها جسد للعري أو الحجب( ولعلّ الفارق الوحيد بينهم الذي يجعل الليبراليين أجمل صورة في عيوننا أنهم لا يملكون سلطة في البلد تجعلهم يبطشون كما هو حال المتأسلمين. هناك كثير من الأوصاف تجمع بين الصنفين في ما يخص المرأة بالذات فكلاهما يراها وعاء للمتعة. الصنف الأول يغطّيها بكل ما أوتي من أردية حتى يؤجج هذا الوعاء غرائز الرجال والثاني يريد أن يكشفها أمام الكل ليري الآخرين حجم فحولته ووعاء شهوته . الأول يرى أنها ملك له وحده من حقه ابتزازها ومن حقه قمعها ومن حقه إقصاؤها حتى لا يتطاير الشر، والثاني يرى أنها ملكه أيضا ومن حقه قمعها ومن حقه إقصاؤها كذلك. ولكنهما يختلفان من حيث التطبيق فكل يطبق رؤاه من زاويته )
تعمل الروائية أيضا على تسليط الضوء – ولو بطريقة غير مباشرة- على مدى معاناة النساء القادمات من المناطق الشرقية المنتميات إلى المذهب الشيعيّ الذي لا تعترف به السلطات السعودية مبقية المناطق الشرقية دون جامعات ودون خدمات. وكذلك معاناة العمال الوافدين للعمل من أجل تأمين لقمة العيش حيث تجبرهم الهيئة على العمل كوشاة وإلا كان الطرد نصيبهم.
لعل أهم ما في الرواية هو صرخة الأنثى السعودية واحتجاجها على إجراءات القمع بحقها وحق الرجل أيضا، مقدّمة بذلك صورة مشرقة عن أنثى لا ترضخ ولا تستكين مسجّلة بذلك أولى بذور الحرية التي تغرس في تربة قاحلة ولكنها بالمثابرة والجهد ستنتش وتورق وتزهر حريةً تفكك آليات القمع الممنهج ولو بعد حين.
الرواية : نساء المنكر
الكاتبة : سمر المقرن
الناشر : دار الساقي - طبعة ثانية 2008
ردّا على تلك النظرة التي تروّجها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتعاون مع السلطة السعودية تأتي الرواية السعودية لتقدّم نظرة مغايرة عن المرأة السعودية التي ترفض ما تحاول السلطات الذكورية إلصاقه بها، فتحتج على مصادرة صوتها وتسليعها وتغييبها فتكتب بوحها وحبّها وشوقها غير عابئة بلصوص الجسد ومعهرّي الروح، معبّدة بذلك الطريق للأخريات كي ينتفضن ويخرجن من ليل أسرهن الطويل باتجاه منابع الشمس والحرية.
هذا ما تحاوله الروائية سمر المقرن في روايتها "نساء المنكر" حيث يشي العنوان بجرأتها، من خلال اختيارها اسما تطلقه هيئة الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر على النساء اللواتي تمسك بهنّ الهيئة في حالة حبّ، وكأنّ الروائية تصرخ وتتحدّى قائلة: إذا كان الحبّ منكرا فلنكن نساء المنكر!
تحاول الروائية تعرية أكبر مؤسّسة فقهية تتحكّم بحياة السعوديات والسعوديين من خلال تعرية عوالم الهيئة الداخلية وطريقة قيامها باعتقال "المشبوهات والمنحلاّت "(وفق وصف الهيئة ) حيث يغدو الحبّ جريمة والمكالمة التلفونية زنا ومحادثة رجل جريمة تستدعي الرجم ودائما عقوبة المرأة غير عقوبة الرجل رغم أنّ الشريعة التي يتحدّثون باسمها لا تفرق بين "الزاني " والزانية "، ولكنّ العقول المريضة المشبعة بشهوة الذكورة العمياء لا تستطيع تحمّل حتى ما قالته الشريعة.
تبدأ أحداث الرواية بحالة حبّ بين البطلة سارة (متزوّجة على الورق ويرفض زوجها أن يطلقها ) التي تسكن المملكة الوهابية ورئيف الذي يسكن لندن (كان سابقا حبّيبا لصديقتها أسيل)، تتطوّر علاقة الحبّ إلى درجة يستحيل معها الفراق والبعد، فتسافر البطلة إليه في لندن وهناك يعيشان أسبوعا من الغرام المفتوح على كلّ أنواع المتعة والشبق، بعيدا عن عيون الهيئة وجنونها وهوسها في ملاحقة العشاق (أما في حرارة قلبينا فلم يكن من حلّ، إلا أن تتشابك أصابعنا كأنها تعلن بداية أن نكون، أن نصهر شتاء لندن، أن نمضي في مقاومة قسوة "الشرطة الدينية" التي تنتظرنا في الرياض وغلظة المجتمع ونعته للعاشق بالفاسق، أما العاشقة فهي بلا شكّ مومس تستحق الرجم). بعد ذلك تعود البطلة إلى المملكة / السجن، لتعيش فراقا قاتلا للروح والجسد مع اتصالات هاتفية متفرقة لا تشبع جسدا أدمن متعته ولا روحا توحدّت مع من تحبّ، وتبقى الأمور هكذا إلى أن يأتيها اتصال من رئيف يخبرها بأنه في الوطن، فتكاد لا تصدق من الفرحة فتطلب لقاءه، ولكنّه يحذرها أنهما في المملكة وليسا في لندن، ولكنها تصرّ بكلّ جنون الحبّ وجموحه، فيرضخ لطلبها ويلتقيان في أحد المطاعم كأيّ زوجين على غداء ولكنّ الأعين المتربّصة والوجوه الكالحة المبثوثة في كلّ مكان عن طريق الجواسيس الذين درّبتهم الهيئة وزرعتهم على هيئة عمّال مطاعم يستطيعون اكتشاف الأزواج من غيرهم وذلك لأنّ الأزواج لا يحدّقون في عيون بعضهم البعض بوله وشوق في المطعم، وهذا ما فضحهما الأمر الذي استدعى حضور رجال الهيئة المرعبين بذقونهم الذكورية الهشّة وأصواتهم الناشزة وعقولهم المشككة بكل شيء، التي تقسم الناس إلى زناة وصالحين، فيتمّ اعتقالهما. وتبدأ رحلتها في أروقة هيئة الأمر بالمعروف التي تتعامل معها منذ اللحظة الأولى كعاهرة ومنكر حيث يستقبلها الشيوخ كمدنّس ينبغي لفظه والتبرؤ منه موجّهين لها الكلام البذيء ( استري نفسك الله يلعنك ويلعن أمثالك يا حريم السوء) يا داشرة يا منحلّة .. وغيرها من المفردات التي يتلفظ بها حرّاس الأخلاق الذين هم بحاجة إلى أخلاق باعوها وتستروا تحت حجاب الشريعة التي تخفي عوراتهم الأخلاقية وعطب أرواحهم وعقولهم المريضة، وعندما يطلب منها الشيخ التوقيع على أوراق تعترف فيها بأنها زانية وفاجرة مقابل خروجها تقرّر المقاومة وترفض ما يحاولون إلباسها إياه ( على ماذا أوقّع ؟ وعلى أيّ شيء أدوّن اعترافاتي بجرائم لم أرتكبها، سلسلة طويلة من التهم منها ما سمعت عنه في مجتمعي، ومنها ما لم أسمع عنه ولا حتى في الأفلام العربية القديمة. ما يحصل في هذه الساعة هو جريمة بحقّ الإنسانية وبحقّ وطني وبحقّ الدّين الإسلامي الذي يتصرّفون باسمه، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق كرامتهم.)
تصرخ في وجهه قائلة:
-" لن أوقّع، لن أوقع يا شيخ، لن أوقّع يا حامي الإسلام " فيقوم الشيخ بضربها بالعصا وبيديه لتجرّئها على رفض سلطته الذكورية وهيبته، ثم يتمّ تحويلها للقضاء الذي يحكم بجلدها وسجنها ثلاث سنوات.
في السجن تتعرف على عوالم النساء اللواتي زجّت بهنّ الهيئة بتهمة الحبّ!
نورة التي تخون زوجها وتعترف علانية بذلك صارخة ( نعم كنت أخونه وبكلّ قواي العقلية سأخونه! لأنّه رجل لا يستحقّ بكلّ بساطة إلا الخيانة) وذلك لأنّه يرفض أن يطلّقها، وخولة العاشقة التي أحبّت عامرا ومارست معه فعل الهوى فقادها رجال الهيئة إلى السجن بتهمة الدعارة وحكم عليها أربع سنوات سجن وسبعمائة جلدة، علماً أنّ القرآن أمر بمائة جلدة، فكيف تضاعف العدد؟ ومن قام مقام الله وضاعفه؟
وهناك سميرة التي قتلت زوجها بعد أن قتل الحياة في داخلها وصخّر قلبها. هذه النماذج تعكس وضع المرأة السعودية ومعاناتها ومقاومتها السلطات الكابحة لعواطفها عبر القتل والخيانة حيث يغدو التدمير والتدمير المضاد لعبة ذكورية / أنثوية مدمرة لكلا الطرفين.
بعد خروجها من السجن تكتشف زيف العالم الخارجيّ ونفاقه ونعرف أنّ حبيبها لم يقف بجانبها ولم يسأل عنها فقد قضى بسببها "أتعس الأوقات" حيث أصيب والده بجلطة بعد دخوله السجن، وهكذا تجد نفسها كأيّ سجين صاحبّ سوابق وصاحبّ سجلّ أسود فتمتنع كلّ الدوائر عن توظيفه وتشغيله، الأمر الذي يجعلها تقرر العمل صبّابة قهوة في الأعراس، وهكذا تتّصل بها المشرفة لتخبرها بأنّ لديها غدا عرسا وهو يوم عملها الأوّل وعندما تذهب لتصبّ القوة للعريس تفاجأ بأنّ العريس هو رئيف حبيبها الذي يرحل منها للأبد.
لعلّ أهمّ ما في الرواية إضافة لفضح الهيئة وممارساتها، هو تعريتها تلك التناقضات الصارخة التي تعيشها المرأة السعودية والمجتمع السعوديّ ومن هذه التناقضات:
1- مؤسسة الزواج ضدّ الحبّ: في الوقت الذي يجب أن تكون فيه مؤسّسة الزواج مؤسّسة ضامنة لحقوق الطرفين وطريقا شرعيا لممارسة الحبّ في مجتمع مغلق، نجد أن هذه المؤسسة تحوّلت إلى سلطة قمع جديدة يعيش الأزواج داخلها تعاسة منقطعة النظير ويمارسون خارجها نفاقا اجتماعيا رهيبا بأنهم سعداء، الأمر الذي يؤدّي إلى خلق مجتمع غير متّزن وقلق ومضطرب. تقول الرواية: الحبّ الذي مارسته مع رئيف ليلة كاملة كان أقوى وأكبر من عشرة زوجين لربع قرن في بيت متهالك العواطف مترامي الإحساس بالآخر. هذه بيوتنا لا يعيش فيها الأزواج إلا مع وقف التنفيذ وعندما يخرجون إلى الناس يجدون أنفسهم أبدع فناً وإتقانا لأدوارهم في إقناع الآخرين بأنهم سعداء وهم في الحقيقة لم يتقنوا في حياتهم إلا ممارسة التعاسة)
2- اندحار مفهوم القيم وتراجعها :
تشكل القيم (رغم تبدلّها بين مجتمع وآخر) معيار ضبط اجتماعي، ولكن هنا نجد أنّ معيار القيم مختّل ومضطرب، لأنّ السلطة القائمة تعمل على خلخلته عبر تسويق قيم بائدة كي يسهل لها السيطرة على مجتمعاتها وإبقاؤها رهينة الخوف، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق نماذج اجتماعية تحمل قيما مخالفة لأبسط حدود الإنسانية عبر تفاخرها بالقتل والجريمة لأنها لم تتلوّث بالحبّ! وهذا ما تسلّط الرواية الضوء عليه بذكاء موارب، حيث تقول:( في هذا المكان سمعت إحداهن تفاخر بأنها في السجن لأنها قاتلة لكنها لم تلّوث شرفها. حتى الأخصائية أوضحت لي هذا الأمر وبيّنت أنّ القاتلات وحدهن من يقف أهاليهن إلى جانبهن. دخول المرأة السجن بتهمة أخلاقية يعني أنها باتت منبوذة مدى الحياة، وهذا ما يدفعها إلى امتهان الدعارة إذ لا خيار للمرأة الموصومة، فإن كانت موظفة فقدت وظيفتها وإن كانت أمّا فقدت أمومتها وأهلها).
3- الحجاب المنافق: يشكل الحجاب (كزي ومعتقد) أكثر الأمور تأثيرا على المرأة خاصة، كونه حجابا للعقل قبل أن يكون حجابا للرأس، ولكن هنا نجد أنّ المرأة تحتجب فقط عمّن يطالبها بارتداء الحجاب الأمر الذي يعكس عدم قناعة المرأة بحجابها إنما تلبسه إرضاء لزوج وخوفا من لسان مجتمع لا يرحم، الأمر الذي يجعل الحجاب قمعا إضافيا يمارس على المرأة، فقط لأنها امرأة!
حيث تقول:(داخل هذا النقاب تعيش النساء السعوديات كل المتناقضات، حتى أن كثيرات منهن يعتقدن أنّ الرجل السعودي هو "الذكر" الوحيد من بين رجال العالم الذي يجب أن تحتجب عنه ولست أنسى مشهدا لسيدة كانت تقف أمام السائق بلا أيّ حجاب وعندما مرّ شقيق زوجها رفعت ورقة تحملها بيدها لتواري بها وجهها عنه، وهي أيضا ضحية لمقولة "الحمو للموت")
4- التشابه بين الإسلاميين والليبراليين في طريقة نظرهم للمرأة:
من المفترض أن يتميز الخطاب الليبراليّ عن الخطاب الإسلاميّ في طريقة تعامله مع المرأة، ولكن هنا نجد أنّ الطرفين يتعاملان معها ببنية واحدة رغم اختلاف الطريقة فالأول يحجبها عن شهوة الرجال والثاني يعرّيها كي تفتن الرجال، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف أنها جسد للعري أو الحجب( ولعلّ الفارق الوحيد بينهم الذي يجعل الليبراليين أجمل صورة في عيوننا أنهم لا يملكون سلطة في البلد تجعلهم يبطشون كما هو حال المتأسلمين. هناك كثير من الأوصاف تجمع بين الصنفين في ما يخص المرأة بالذات فكلاهما يراها وعاء للمتعة. الصنف الأول يغطّيها بكل ما أوتي من أردية حتى يؤجج هذا الوعاء غرائز الرجال والثاني يريد أن يكشفها أمام الكل ليري الآخرين حجم فحولته ووعاء شهوته . الأول يرى أنها ملك له وحده من حقه ابتزازها ومن حقه قمعها ومن حقه إقصاؤها حتى لا يتطاير الشر، والثاني يرى أنها ملكه أيضا ومن حقه قمعها ومن حقه إقصاؤها كذلك. ولكنهما يختلفان من حيث التطبيق فكل يطبق رؤاه من زاويته )
تعمل الروائية أيضا على تسليط الضوء – ولو بطريقة غير مباشرة- على مدى معاناة النساء القادمات من المناطق الشرقية المنتميات إلى المذهب الشيعيّ الذي لا تعترف به السلطات السعودية مبقية المناطق الشرقية دون جامعات ودون خدمات. وكذلك معاناة العمال الوافدين للعمل من أجل تأمين لقمة العيش حيث تجبرهم الهيئة على العمل كوشاة وإلا كان الطرد نصيبهم.
لعل أهم ما في الرواية هو صرخة الأنثى السعودية واحتجاجها على إجراءات القمع بحقها وحق الرجل أيضا، مقدّمة بذلك صورة مشرقة عن أنثى لا ترضخ ولا تستكين مسجّلة بذلك أولى بذور الحرية التي تغرس في تربة قاحلة ولكنها بالمثابرة والجهد ستنتش وتورق وتزهر حريةً تفكك آليات القمع الممنهج ولو بعد حين.
الرواية : نساء المنكر
الكاتبة : سمر المقرن
الناشر : دار الساقي - طبعة ثانية 2008