نقوس المهدي
كاتب
1
من الأدب النسوي:
شعر المرأة في مجموعة قليل ضئيل فأنت تجد الموسوعات الأدبية تزخر بأشعار الرجال في شتى المواضيع، دون أن تطلع للمرأة غير البيتين أو الثلاثة في الفصل الطويل، ولا يرجع ذلك غبن أو تقصير في جنب المرأة كما قد يتوهم فريق من الناس، بل لأن المؤلف يحرص على أن يختار لقرائه أنفس ما وقعتعلية عينيه من رائع الشعر، وبديع القول، والمرأة وأن أجادت في كثير من الأغراض فالرجل بلا شك أكثر منها إجادة، وأكمل توفيقاً، فالمؤلف إذن معذور مشكور. . .
والغزل بنوع خاص لم يظفر بنصيبه الذي يستحقه من المرأة بل كان عنصراً عزيز المنال، قد قامت دونه العوائق، وتكاثفت أمامه السدود، وذلك طبيعي للغاية إذا نظرنا إلى البيئة الشرقية التي ترعرعت فيها الفتاة العربيه، وعلمنا أن من الواجب الأكيد على الشاعرة أن تقف إزاء عواطفها القلبية صامتة مفحمة مهما اعتلج صدرها بالشوق، واستعر فؤادها بالحنين، وألا فنحن نرى من الفتيات من نظمن القلائد البديعة في مختلف أغراض الشعر ما عدا الغزل، فقد أمسكت حواء عنه، ولم تحلق بجناحها الشاعر في أجوائه الفسيحة. فهل كان ذلك عن عيّ أو قصور؟! أو أن الرقابة القاسية من الأهل قد أخرست الألسنة الشادية، وألجمت الطيور الصادحة، رغم ما نعرفه في المرأة من شعور دافق وإحساس مشبوب. . .
ونحن نعلم جيدا أن بثينة صاحبة جميل، وأميمة فاتنة ابن الدمينة، وليلى معبودة قيس، قد كن شاعرات مجيدات، فليت شعري أين ما نظمنه من الغزل الرقيق؟ مع ما يعترف به التاريخ من تفانيهن في العشق، وجنونهن في الحب، اللهم إلا أن تجد لكل واحدة مقطوعة ضئيلة لا تتناسب مع ما يتأجج في صدرها من لهيب!
وإذا كان ابن الأيك يجنح إلى الترنم في خلسة مواتية مهما نصبت حوله الشباك الوثيقة، وقامت في وجهه الموانع المتزاحمة فأن الأسفار الأدبية قد حفظت لنا جمرات مشبوبة من غزل المرأة الرائق وهي - على قلتها - تعطيك فكرة تامة عن القيمة العقلية للمرأة، وتوقفك على كثير من الانفعالات النفسية التي تكابدهاالفتاة إذا احترقت في سعير الغرام
والواقع أن المرأة لم تلج باب الغزل صريحة سافرة بل تلثمت بكل ما ملكته من براقع وخمور، فكان غزلها في الغالب تلميحاً يهديك إلى الطريق ويجعلك تسير فيه وحدك دون أن يرافقك في خطواتك، وقد تجد من يسلبها الوجد رشادها الناصح، فتنطق بما يجيش في صدرها واضحاً سافراً دون أن تتلثم بلثام واحد ولها من شعورها الدافق، وغرامها المتقد ما يبرر لها الغزل والتشبيب
وصاحبة التلميح أريبة ذكيه ترف من أين تؤكل الكتف فقد استغلت عنصر الحنين إلى الوطن أثمر استغلال، فاعتمدت عليه في التنفيث عن صدرها، والتعبير عن خوالجها، لما تعلمه من الصلة الوثيقة بينه وبين الغزل، وهي بذلك قد أخمدت الفتنة الثائرة، وأغمضت العيون المتنمرة، ثم - هي في الوقت نفسه - قد أفهمت حبيبها كل شيء. فأدرك من حنينها الذائب ما يتقد في أحشائها من شوق، وهذا في الواقع مطلب عزيز، تبذل العاشقة جهدها في تحصيله، فلم لا تصل ليه من اقرب طريق؟؟ ونحن نعلم عاشقات مدنفات قد اشتهر في الملأ شوقهن العارم، فما احتمله قريب أو صديق. بل عمد كل والد إلى فتاة فحملها إلى وطن غريب، وعقد قرانها في بلد نازح، وهنا ترسل النائية حنينها إلى مسارح الصبا وملاعب الشباب، وأنت حين تقراه لا تجده غير غزل مقنع قد أهدى إلى الحبيب الأول ففهم منه كل شئ، ولك أن تعتبر من هذا النوع قول القائلة:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا = علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا = وحب إلينا بطن نعمان واديا
فأن به ضلا ظليلا ومورداً = به نقع القلب الذي كان صاديا
فهل صحيح أن الشاعرة تقصد ماء نعمان، وظله الظليل ومورده الرائق؟! لو كان ذلك وحدة ما أحسست بهذه الحسرة المتأججة، واللهفة المشتعلة، وما اهتدت الشاعرة إلى قولها الرائع (به نقع (القلب) الذي كان صاديا!)
ونظائر هذه الأبيات لا تندرج تحت حصر، وهي تدلنا على فطنة المرأة، وذكائها اللماح، وتؤكد لنا أن الحب كالزهرة الناظرة، لابد أن يعبق أريجها في كل مكان تحل به وهل كان الحنين غير عبير فاتن ينعش الأفئدة ويهيج النفوس؟! وكثيراً ما تفر المرأة من الحنين إلى الكناية والرمز، وهي في ذلك تقتدي بالرجل فتسير وراءه خطوة خطوة، ولكن أي رجل تتبع؟؟ إنها تعمد إلى شاعر سدت أمامه المسالك، وصلصلت في كفة القيود، فتتجه معه اتجاهه، مادامت ظروفه القاسية كملابساتها العنيدة، وإذا كانت المرأة تعتقد في قرارة نفسها أن الجل أحزم منها وأعقل، فأنها تسلك طريقه مطمئنة إلى السلامة واثقة بالنجاة. . .
ولعل أصدق مثال نقدمه للقارئ، هو حميد بن ثور الهلالي فقد كان ممن برح بهم العشق فأرسل قصائده الغزلية سافرة عارية ولكن الحاكم يقف في وجهه منذراً مهدداً، فيمنعه من التغريد الساحر، وهنا يلجأ الشاعر إلى الكناية المقبولة فيتغزل في السرحة مطنباً في محاسنها الفاتنة، ولعمري لقد وفق في اختياره فالسرحة ذات منظر جذاب، وثمر شهي، ونسيم منعش مريح وكل ذلك مما يذكر العاشق المدنف بمعبودته فيتمثلها أمام عينه إذ يقول:
أيا طيب رياها ويا حسن طعمها = إذا حان من شمس النهار شروق
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة = من السرح مسدود على طريق
ومهما يكن من شيء فقد نفث الشاعر عن صبره. ولم يجعل لأحد سلطاناً عليه، ثم هو قد فتح الباب على مصراعيه لعلية بنت المهدي شقيقة الرشيد. فقد علقت غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحديا ًصارخاً، فلجأت إلى التغزل في السرحة مقتدية بحميد إذ تقول:
أيا سرحة البستان طال تشوقي = وما لي إلى ظل لديك سبيل
ثم تطلب في وصفها الساحر فتجلس على ناصية الإبداع والافتتان وذلك منها غير كثير. . .
وفي رأيي أن هذه الحيطة جميلة مقبولة تسير مع الأخلاق النبيلة مهيج واحد، وإن كان من الشاعرات السذج من تبالغ في الحذر والحيطة، فتعلن لك أنها تتقي الله عز وجل وتأتمر بأمر العفاف، ثم تعتقد أنها قد آمنت بذلك ما عسى ان يوجه إليها من ملامة أو نقد، فتصرح بما يثير حولها الشكوك، ويجعلها مضغة ملوكة في الأفواه، ودونك قول أم ضيغم البلوية
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمو = ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبتنا يقينا ساقط البرد والندى = من الليل بردا يمنة عطران
نذود بذكر الله عنا من الصبا = إذا كان قلبانا بنا يجفان
ونصدر عن أمر العفاف وربما = نقعنا غليل القلب بالرشفان
وأنا لا ادري ماذا يفيدها ذكر الله بعد أن نقعت غليل القلب بالرشفان؟ وماذا يغني العفاف بعد أن باتا في مكان قاس خلاف الحي؟، اللهم إن هذا احتراس أدى إلى افتضاح ولكن فيه رائحة الطمأنينة على كل حال. . .
ومن العاشقات من تصرح للملأ بتقوى الله عز وجل واستحياء بعض العواقب، ولكنها تعتصم بالعقل فلا تتورط فيما تورطت فيه أم ضيغم، بل تسير في سبيلها المملوء بالشوك يقظة محاذرة، تتجنب العوائق، وتتجافى عن المزالق حتى تنتهي من المسير بسلام، والتفت معي إلى عاتكة المرية إذ تقول:
وما طعم ماء أي ماء تقوله = تحدر من غر طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت = عليه رياح الصيف من كل جانب
نفى جريه الماء القذى عن متونه = فما إن به عيب يتاح لشارب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه = تقى الله واستحياء بعض العواقب
ثم صار حنى رأيك هل لاحظت عليها تورطاً وانزلاقاً كأم ضيغم أو وجدت في قولها ما تشم منها رائحة الريب الآثم، الحق أنها كانت لبقة ماهرة فيما نظمت، وأنا لا أدري لماذا تذكرني أبياتها بأبيات أخرى تتفق معها في الطريقة، وتخالفها في التفكير. ونحن لا يهمنا أن يكون الإطار من نوع مألوف بل نحرص على أن تكون الصورة جديدة والريشة بارعة كما جاء في قول ضاحية الهلالية:
وما وجد مسجون بصنعاء عضه = بساقيه من صنع القيون كبول
قليل الموالي مستهام مروع = له من بعد نومات العشى عويل
يقول له السجان أنت معذب = غداة غد أو مسلم فقتيل
بأكثر منى لوعة يوم راعني = فراق حبيب ما إليه سبيل
فأنت أن الطريقة الأولى هي الطريقة الثانية ولكن معنى عاتكة مكرر معاد أما أبيات ضاحية فذات تصوير مبتكر وأنت لا تستطيع أن ترجع بها إلى قائل متقدم، مهما أتعبت نفسك في التنقيب، ثم هي تصور لك جزع المرأة من السجون ورهبتها من القيود، وليت شعري إذا لم نلمس إحساس المرأة من شعرها العاطفي فمن اى نبغ دافق نستقيه؟ أما قوة النسج فبارزة بوضوح في كلتا المقطوعتين.
- مجلة الرسالة/العدد 746
بتاريخ: 20 - 10 - 1947
للشيخ محمد رجب البيومي
من الأدب النسوي:
شعر المرأة في مجموعة قليل ضئيل فأنت تجد الموسوعات الأدبية تزخر بأشعار الرجال في شتى المواضيع، دون أن تطلع للمرأة غير البيتين أو الثلاثة في الفصل الطويل، ولا يرجع ذلك غبن أو تقصير في جنب المرأة كما قد يتوهم فريق من الناس، بل لأن المؤلف يحرص على أن يختار لقرائه أنفس ما وقعتعلية عينيه من رائع الشعر، وبديع القول، والمرأة وأن أجادت في كثير من الأغراض فالرجل بلا شك أكثر منها إجادة، وأكمل توفيقاً، فالمؤلف إذن معذور مشكور. . .
والغزل بنوع خاص لم يظفر بنصيبه الذي يستحقه من المرأة بل كان عنصراً عزيز المنال، قد قامت دونه العوائق، وتكاثفت أمامه السدود، وذلك طبيعي للغاية إذا نظرنا إلى البيئة الشرقية التي ترعرعت فيها الفتاة العربيه، وعلمنا أن من الواجب الأكيد على الشاعرة أن تقف إزاء عواطفها القلبية صامتة مفحمة مهما اعتلج صدرها بالشوق، واستعر فؤادها بالحنين، وألا فنحن نرى من الفتيات من نظمن القلائد البديعة في مختلف أغراض الشعر ما عدا الغزل، فقد أمسكت حواء عنه، ولم تحلق بجناحها الشاعر في أجوائه الفسيحة. فهل كان ذلك عن عيّ أو قصور؟! أو أن الرقابة القاسية من الأهل قد أخرست الألسنة الشادية، وألجمت الطيور الصادحة، رغم ما نعرفه في المرأة من شعور دافق وإحساس مشبوب. . .
ونحن نعلم جيدا أن بثينة صاحبة جميل، وأميمة فاتنة ابن الدمينة، وليلى معبودة قيس، قد كن شاعرات مجيدات، فليت شعري أين ما نظمنه من الغزل الرقيق؟ مع ما يعترف به التاريخ من تفانيهن في العشق، وجنونهن في الحب، اللهم إلا أن تجد لكل واحدة مقطوعة ضئيلة لا تتناسب مع ما يتأجج في صدرها من لهيب!
وإذا كان ابن الأيك يجنح إلى الترنم في خلسة مواتية مهما نصبت حوله الشباك الوثيقة، وقامت في وجهه الموانع المتزاحمة فأن الأسفار الأدبية قد حفظت لنا جمرات مشبوبة من غزل المرأة الرائق وهي - على قلتها - تعطيك فكرة تامة عن القيمة العقلية للمرأة، وتوقفك على كثير من الانفعالات النفسية التي تكابدهاالفتاة إذا احترقت في سعير الغرام
والواقع أن المرأة لم تلج باب الغزل صريحة سافرة بل تلثمت بكل ما ملكته من براقع وخمور، فكان غزلها في الغالب تلميحاً يهديك إلى الطريق ويجعلك تسير فيه وحدك دون أن يرافقك في خطواتك، وقد تجد من يسلبها الوجد رشادها الناصح، فتنطق بما يجيش في صدرها واضحاً سافراً دون أن تتلثم بلثام واحد ولها من شعورها الدافق، وغرامها المتقد ما يبرر لها الغزل والتشبيب
وصاحبة التلميح أريبة ذكيه ترف من أين تؤكل الكتف فقد استغلت عنصر الحنين إلى الوطن أثمر استغلال، فاعتمدت عليه في التنفيث عن صدرها، والتعبير عن خوالجها، لما تعلمه من الصلة الوثيقة بينه وبين الغزل، وهي بذلك قد أخمدت الفتنة الثائرة، وأغمضت العيون المتنمرة، ثم - هي في الوقت نفسه - قد أفهمت حبيبها كل شيء. فأدرك من حنينها الذائب ما يتقد في أحشائها من شوق، وهذا في الواقع مطلب عزيز، تبذل العاشقة جهدها في تحصيله، فلم لا تصل ليه من اقرب طريق؟؟ ونحن نعلم عاشقات مدنفات قد اشتهر في الملأ شوقهن العارم، فما احتمله قريب أو صديق. بل عمد كل والد إلى فتاة فحملها إلى وطن غريب، وعقد قرانها في بلد نازح، وهنا ترسل النائية حنينها إلى مسارح الصبا وملاعب الشباب، وأنت حين تقراه لا تجده غير غزل مقنع قد أهدى إلى الحبيب الأول ففهم منه كل شئ، ولك أن تعتبر من هذا النوع قول القائلة:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا = علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا = وحب إلينا بطن نعمان واديا
فأن به ضلا ظليلا ومورداً = به نقع القلب الذي كان صاديا
فهل صحيح أن الشاعرة تقصد ماء نعمان، وظله الظليل ومورده الرائق؟! لو كان ذلك وحدة ما أحسست بهذه الحسرة المتأججة، واللهفة المشتعلة، وما اهتدت الشاعرة إلى قولها الرائع (به نقع (القلب) الذي كان صاديا!)
ونظائر هذه الأبيات لا تندرج تحت حصر، وهي تدلنا على فطنة المرأة، وذكائها اللماح، وتؤكد لنا أن الحب كالزهرة الناظرة، لابد أن يعبق أريجها في كل مكان تحل به وهل كان الحنين غير عبير فاتن ينعش الأفئدة ويهيج النفوس؟! وكثيراً ما تفر المرأة من الحنين إلى الكناية والرمز، وهي في ذلك تقتدي بالرجل فتسير وراءه خطوة خطوة، ولكن أي رجل تتبع؟؟ إنها تعمد إلى شاعر سدت أمامه المسالك، وصلصلت في كفة القيود، فتتجه معه اتجاهه، مادامت ظروفه القاسية كملابساتها العنيدة، وإذا كانت المرأة تعتقد في قرارة نفسها أن الجل أحزم منها وأعقل، فأنها تسلك طريقه مطمئنة إلى السلامة واثقة بالنجاة. . .
ولعل أصدق مثال نقدمه للقارئ، هو حميد بن ثور الهلالي فقد كان ممن برح بهم العشق فأرسل قصائده الغزلية سافرة عارية ولكن الحاكم يقف في وجهه منذراً مهدداً، فيمنعه من التغريد الساحر، وهنا يلجأ الشاعر إلى الكناية المقبولة فيتغزل في السرحة مطنباً في محاسنها الفاتنة، ولعمري لقد وفق في اختياره فالسرحة ذات منظر جذاب، وثمر شهي، ونسيم منعش مريح وكل ذلك مما يذكر العاشق المدنف بمعبودته فيتمثلها أمام عينه إذ يقول:
أيا طيب رياها ويا حسن طعمها = إذا حان من شمس النهار شروق
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة = من السرح مسدود على طريق
ومهما يكن من شيء فقد نفث الشاعر عن صبره. ولم يجعل لأحد سلطاناً عليه، ثم هو قد فتح الباب على مصراعيه لعلية بنت المهدي شقيقة الرشيد. فقد علقت غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحديا ًصارخاً، فلجأت إلى التغزل في السرحة مقتدية بحميد إذ تقول:
أيا سرحة البستان طال تشوقي = وما لي إلى ظل لديك سبيل
ثم تطلب في وصفها الساحر فتجلس على ناصية الإبداع والافتتان وذلك منها غير كثير. . .
وفي رأيي أن هذه الحيطة جميلة مقبولة تسير مع الأخلاق النبيلة مهيج واحد، وإن كان من الشاعرات السذج من تبالغ في الحذر والحيطة، فتعلن لك أنها تتقي الله عز وجل وتأتمر بأمر العفاف، ثم تعتقد أنها قد آمنت بذلك ما عسى ان يوجه إليها من ملامة أو نقد، فتصرح بما يثير حولها الشكوك، ويجعلها مضغة ملوكة في الأفواه، ودونك قول أم ضيغم البلوية
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمو = ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبتنا يقينا ساقط البرد والندى = من الليل بردا يمنة عطران
نذود بذكر الله عنا من الصبا = إذا كان قلبانا بنا يجفان
ونصدر عن أمر العفاف وربما = نقعنا غليل القلب بالرشفان
وأنا لا ادري ماذا يفيدها ذكر الله بعد أن نقعت غليل القلب بالرشفان؟ وماذا يغني العفاف بعد أن باتا في مكان قاس خلاف الحي؟، اللهم إن هذا احتراس أدى إلى افتضاح ولكن فيه رائحة الطمأنينة على كل حال. . .
ومن العاشقات من تصرح للملأ بتقوى الله عز وجل واستحياء بعض العواقب، ولكنها تعتصم بالعقل فلا تتورط فيما تورطت فيه أم ضيغم، بل تسير في سبيلها المملوء بالشوك يقظة محاذرة، تتجنب العوائق، وتتجافى عن المزالق حتى تنتهي من المسير بسلام، والتفت معي إلى عاتكة المرية إذ تقول:
وما طعم ماء أي ماء تقوله = تحدر من غر طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت = عليه رياح الصيف من كل جانب
نفى جريه الماء القذى عن متونه = فما إن به عيب يتاح لشارب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه = تقى الله واستحياء بعض العواقب
ثم صار حنى رأيك هل لاحظت عليها تورطاً وانزلاقاً كأم ضيغم أو وجدت في قولها ما تشم منها رائحة الريب الآثم، الحق أنها كانت لبقة ماهرة فيما نظمت، وأنا لا أدري لماذا تذكرني أبياتها بأبيات أخرى تتفق معها في الطريقة، وتخالفها في التفكير. ونحن لا يهمنا أن يكون الإطار من نوع مألوف بل نحرص على أن تكون الصورة جديدة والريشة بارعة كما جاء في قول ضاحية الهلالية:
وما وجد مسجون بصنعاء عضه = بساقيه من صنع القيون كبول
قليل الموالي مستهام مروع = له من بعد نومات العشى عويل
يقول له السجان أنت معذب = غداة غد أو مسلم فقتيل
بأكثر منى لوعة يوم راعني = فراق حبيب ما إليه سبيل
فأنت أن الطريقة الأولى هي الطريقة الثانية ولكن معنى عاتكة مكرر معاد أما أبيات ضاحية فذات تصوير مبتكر وأنت لا تستطيع أن ترجع بها إلى قائل متقدم، مهما أتعبت نفسك في التنقيب، ثم هي تصور لك جزع المرأة من السجون ورهبتها من القيود، وليت شعري إذا لم نلمس إحساس المرأة من شعرها العاطفي فمن اى نبغ دافق نستقيه؟ أما قوة النسج فبارزة بوضوح في كلتا المقطوعتين.
- مجلة الرسالة/العدد 746
بتاريخ: 20 - 10 - 1947
للشيخ محمد رجب البيومي