شاكر لعيبي - حوار افتراضيّ مع فرويد عن الأيروتيكا في شعر المتنبي

قال فرويد: هل أعلن شاعركم الكبير المتنبي شيئاً من الأيروتيكا في شعره؟
قلت له: في متنه الشعري الرفيع الغالب، لا شيء تقريباً. أكثر أبياته وضوحاً هو الذي يشير فيه إلى: (إني على شغفي بما في خِمْرها - لأعفّ عمّا في سرابيلاتها)
خِمْرها = خمارها، السرابيلات = القمصان.

قال فرويد: كان شاعراً (فحلاً) في المديح والهجاء والرثاء وليس في الأيروتيكا؟
قلت لفرويد: أظنّ أن مثاله الأعلى المُعْلن للجمهور، كان شعر الغزل العذريّ العربيّ، أما المُضْمَر فلا نعرف عنه شيئاً، ولا نعرف شيئا أيضاً عن مغامراته النسائية، رغم أن بعض أبياته تشفّ عن عارف خبير بهذا النمط من العلاقات:
(وَمَن كُلَّما جَرَّدتَها مِن ثِيابِها = كَساها ثِياباً غَيرَها الشَـعَرُ الــوَحفُ).

قال فرويد: أرى البيت متكلّفاً قليلاً يا بُني بالنسبة لأجنبيّ مثلي. فهل كان الحُسْن والجَّمَال المطلق هاجسه الكبير؟
قلت لفرويد: نعم في غالب الظنّ. ولقد قال في موضوع الجَّمال، وهو موضوع فلسفيّ ووجوديّ، بعضاً من أجمل الأبيات والنصوص التي لا تذهب إلا نادراً نحو التجريد الكامل، كقوله
(زوّدينا من حسنِ وجهكِ ما دامَ = فحسنُ الوجوه حالٌ تحولُ)
و(ما أوجه الحضر المستحسنات به = كأوجه البدويات الرعابيب.
حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ = وفي البداوة حسن غير مجلوبِ)
مُفضِّلاً جمال البدويات على تزاويق بنات المدن، (وما كنتُ ممن يدخلُ العشقُ قلبَه - ولكنّ من يبصْر جفونك يعشقِ). وقوله في الغنج وهو فعل أيروتيكي موارب:
(وَأَرى تَدَلُّلَكِ الكَثيرَ مُحَبَّباً = وَأَرى قَليلَ تَدَلُّلٍ مَملولا)
وفي عشقه لخولة أخت سيف الدولة:
(كَأَنَّهُ زادَ حَتّى فاضَ مِن جَسَدي = فَصارَ سُقمي بِهِ في جِسمِ كِتماني)
وكان تغزُّله يقوم أحياناً على لعب مُحْكَم على المعاني والألفاظ كأنه يعوِّض بذلك عن الحرارة الأيروتيكية الواقعية
(مطاعة اللحظ في الألحاظ مالكة = لمقلتيها عظيم الملك في المقلِ).

قال فرويد: أفلا نجد شيئا أيروتيكياً أو جنسياً صريحاً في جميع أعمال المتنبيّ؟
قلت لفرويد: قليل مُضْمر محتشم مثل بيته (يَجذِبُها تَحتَ خَصرِها عَجُزٌ كَأَنَّهُ مِن فِراقِها وَجِلُ) مستعيداً نمطاً بدوياً لمثال الجمال الأنثويّ. ليس صدفة على الإطلاق أن الأيروتيكي، الجنسيّ الوحيد الباقي للمتنبي هو قصيدته الهزلية في ضبّة
(ما أنصف القوم ضبهْ = وأمّه الطرطبهْ)
وهنا بعض أبياتها الصريحة:
(رموا برأس أبيه = وباكوا الأم غلبهْ)
(فلا بمن مات فخر = ولا بمن بيكَ رغبهْ)
(وما عليك من العا = رِ أن أمك قحبهْ)
(ولم يبكها ولكن = عجانها باك ....بهْ)
(يا أطيب الناس نفسا = وألين الناس ركبهْ)
(وأرخص الناس أما = تبيع ألفا بحبهْ)
(كل الفعول سهام = لمريم وهي جعبهْ)
(على نسائك تجلو = فعولها منذ سنبهْ)
(وهن حولك ينظر = ن والأحيراح رطبهْ)
(وكل غرمول بغل = يرين يحسدن قنبهْ)
(وكنت تفخر تيها = فصرت تضرط رهبهْ).

قال فرويد: لم يترك شاعر العرب شيئاً من أدب الخلاعة ومفرداته إلا أورده في هذه القصيدة التي يبدو لي أنك قد غيّرتَ بعض مفرداتها حشمةً وتعففاً أمامي.
قلت لفرويد: أخشى أن تفضيله للعذريات وفكرة الجمال المطلق كان قناعاً ثقافيا من أقنعة الشاعر [المحترم] الكبير، وأخشى أن هذا الدرس ما زال قائماً حتى يومنا الراهن. إسقاط قصيدة ضبّة من شعره، والشك بنسبتها إليه، محاولة ذكية للإبقاء على هذا الوجهة وحدها اللائقة بشاعر كبير، حسب ثقافتنا العربية.

قال فرويد: في هذه الحالة تكون الحكمة والمعرفة مُقترِنة بنوعٍ من الإخصاء الرمزيّ.
قلتُ لفرويد: لا أدري فيما إذا كان استنتاجك الصارم هذا صحيحاً، لكني أعرف أن التجرّد من الدنيا وملاذّها وبُهرجها قد اعْتُبِرَ، عُرْفاً وليس نصّاً، من مستلزمات الزاهد والحكيم والرجل الصالح.
قال فرويد: فهل الأيروتيكا من بهرج الدنيا؟





- بأمانة عن موقع المدى

.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...