نقوس المهدي
كاتب
احتل الشَّعر مكانة كبيرة من نفوس العرب، وليس أدل من ذلك أنهم أولعوا به، ولهجوا بذكره، وحثوا على تكريمه، وكلفوا بالعناية به وبترجيله وتضفيره، واتخاذ الذوائب والغدائر منه، يستوي في ذلك الرجال والنساء. كما اعتبروا تمام الحسن وكماله في الشعر، ومن أقوالهم المأثورة في ذلك: (من كان له شعر فليكرمه). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعث وحذر منه، والشعث: مصدر الأشعث للمغبر الرأس المنتف الشعر الذي لم يدهن، وتشعث الشعر: تلبده وتغبره، يقال: تشعث: إذا تلبد شعره واغبر، وحث صلى الله عليه وسلم على الإدهان وإصلاح شعر الرأس واللحية، والأخذ منهما وتسويتهما وترجيلهما، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والشعث حتى لو لم يجد أحدكم إلا زيتونة فليعصرها وليدهن بها».
ونعى عليه الصلاة والسلام على عائشة أنها لا تأخذ كامل زينتها حيث يقول لها: «مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء؟ قالت يا رسول الله أولسنا من العرب؟ قال: بلى، وربما أنسيت العرب الكلمة، فيعلمنيها جبريل» (الشعثاء: التي لا تدهن، المرهاء: التي لا تكتحل، السلتاء: التي لا تختضب).
وقالت العرب: (الشعر الحسن أحد الوجهين).
ومن وصايا العرب: «إذا تزوج أحدكم فليسأل عن شعرها، فإن الشعر أحد الوجهين، وينبغي أن تعلم أن أحسن الشعر وأجمله ما كان أسود كثاً وارداً طويلاً مرسلاً مغدوداً ناعماً».
الأسود الحالك كالليل
وشعر المرأة العربي الذي أحبه الشعراء، هو الأسود الحالك كالليل، الطويل، فطول شعر المرأة وشدة اسوداده من عناصر الجمال في المرأة العربية.
يقول امرؤ القيس:
غدائرها مستشذرات إلى العلا = تضل العقاص في مثنى ومرسل
(الغديرة: الخصلة من الشعر، مستشذرة: مفتولة، العقصة (بالكسر): العقدة في الشعر، المثنى: الشعر المطوي بعضه على بعض، المرسل: الشعر المنسدل).
وقال أيضاً:
وفرع يزين المتن أسود فاحما = أثيث كقنو النخلة المتعثكل
(الفرع: الشعر، المتن: الظهر، أثيث: كثيف، القنو: العذق الجاف الذي جرد من تمره، المتعثكل: الذي يبرز منه أشياء كأنها تتحرك في الهواء).
ولم يمل العرب الجاهليون إلى الشعر الناعم المستقيم، بل إلى السبط المتموج. وربما كانت المرأة العربية ترسل بعض الغدائر في مقدمة رأسها حتى قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
............
وقروناً سابقاً أطرافها
وقد استحسن امرؤ القيس كثافة هذه القرون حتى شبه بها شعر فرسه حيث قال:
............
لها غدر كقرون النساء
(غدائر: ضفائر).
والمرأة البيضاء سوداء الشعر هي المثال الأعلى للجمال، حيث يلتقي فيها النهار بوضوحه وبياضه والليل بحلكته وسواده، البشرة البيضاء ناصعة البياض، والشعر الأسود الفاحم المنسدل. ففي تلاقي هذين اللونين المتضادين وتآلفهما وتجاورهما أحب صورة إلى العربي. فليس أخلب للب من أن ينسدل الشعر الأسود الفاحم الطويل على الجسم الأبيض الغض البض فيحجب بعضه، وينصع بياض ما لم يستره ويحجبه ويلفه بغلالته، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء.
يقول دوقلة المنبجي:
بيضاء قد لبس الأديم بهاء = الحسن، فهو لجلدها جلد
ويزين فوديها إذا حسرت = ضافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض = والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا = والضد يظهر حسنه الضد
(الأديم: الجلد، الفودان: جانبا الرأس مما يلي الأذن، جعد: متجمع كثيف, والمقصود به الشعر).
ويقول الشاعر:
بيضاء تسحب من قيام شعرها = وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع = وكأنه ليل عليها مظلم
وهذا الشعر الوحف قد تغزر ذوائبه وتكثف غدائره حتى يواري صاحبته ومحبها حسبما صور ذلك الشاعر بقوله:
نشرت علي ذوائب من شعرها = حذر الكواشح والعدو المحنق
فكأنني وكأنها وكأنه = صبحان باتا تحت ليل مطبق
وتشبيه الشعر بالليل وتمثيله به قديم قدم الشعر العربي، ومازال جارياً على ألسنة الشعراء حتى عصرنا الحاضر, مثل قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
............
ودخلت في ليلين فرعك والدجى = وقد استقاه من قول ابن المنذر:
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى = وشمسين من خمر وخد حبيب
وفي هذا المعنى يقول صفي الدين الحلي:
قمر هدى أهل الضلال بوجهه = وأضل بالفرع الأثيث من اهتدى
(الفرع الأثيث: الشعر الكثيف).
ويقول المتنبي:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها = في ليلة.. فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر الزمان بوجهها = فأتاني القمرين في وقت معا
وقال الشاعر:
بغرتها البيضاء أنارت فأشرقت = بضوء جبين مزهر وعجيب
بشعر حكى الليل البهيم سواده = وفرق أراد الفجر منه هروب
وقد استحسن العرب في المرأة طول الشعر، فكانت المرأة العربية تعنى بشعرها وتضفره ثلاث ضفائر تسمى- غدائر أو ذوائب- كثيراً ما يطول حتى يبلغ موطئ قدميها كما قال الشاعر:
دعت خلاخيلها ذوائبها = فجئن من فرقها إلى القدم
وقيل: من تزوج امرأة فليتحسن من شعرها، فإن الشعر الحسن أحد الوجهين. قال الشاعر:
بدت ثريا قرطها وشعرها = متصل بكعبها كما ترى
يا عجباً لشعرها لما ابتدا = من الثريا فانتهى إلى الثرى
ويكمن جمال الشعر لدى المرأة في شدة سواده وطوله وكثافته وتداخله. وقد أكثر الشعراء من تشبيه سواد الشعر بظلمة الليل الحالكة، ونجد صدى ذلك لدى البحتري، إذ يقول:
قمر من الأقمار وسط دجنة = يمشي به غصن من الأغصان
ويرى أبوتمام جمال الشعر متمثلاً بالطول والتداخل أيضاً:
من كل رعبوبة تردى = بثوب فينانها الأثيث
(الرعبوب: الغضة الطويلة الناعمة، تردى: تلبس، فينانها: شعرها الطويل، الأثيث: الكثير المتلف).
وفي موضع آخر يرى أبوتمام جمال الشعر متمثلاً بالسواد والتداخل أيضاً:
ومن فاحم جعد، ومن كفل نهد = ومن قمر سعد ومن نائل ثمد
(الكفل: العجز، النهد: المرتفع، النائل: العطاء، الثمد: القليل).
ويرى ابن الرومي أن جمال شعر المرأة يكمن في كونه شديد السواد شديد التداخل، يكاد لشدة سواده يحجب نور وجهها الوضاء:
يجاذبها عند النهوض وينثني = بأعطافها فرع سخام جثاجث
كأن صباحاً واضحاً في قناعها = أناخ عليه جنح ليل مغالث
(الأعطاف: الجوانب، سخام: أسود، جثاجث: كثيف، مغالث: ممزوج).
ويلح المتنبي على تأكيد صفتي الكثافة والتداخل بوصفهما عنصرين أساسين في جمال الشعر، يقول:
ومَن كلما جردتها من ثيابها = كساها ثياباً غيرها الشعر الوحف
(الوحف: الكثير الملتف).
فهذه المرأة تستطيع بشعرها الكثيف الملتف أن تغطي جسدها إذا ما عري من الثياب.
وقد يجمع الشعراء بين صفات الشعر الجمالية جميعها (الطول - التداخل - السواد - الكثافة), وهذا ما نجده لدى كل من ابن الرومي والمتنبي, على سبيل المثال لا الحصر, يقول ابن الرومي:
أسبلت من ذراه جعداً أثيثا = جائزاً حد متنها الرجراج
جارياً فوق متنها جرية الما = ء وإن كان حالك الأمواج
ويؤكد المتنبي هذه الصفات الجمالية للشعر، مضيفاً إليها عنصراً آخر لا يقل جمالاً, وهو امتزاج الشعر بالعطر مما يجعل رائحته زكية فواحة:
ذات فرع كأنما ضرب العنـ = ـبر فيه بماء ورد وعود
حالك كالغداف جثل دجوجي = أثيث جعد بلا تجعيد
(الغداف: الغراب الأسود، جثل: كثير ملتف).
وفي البيت إشارة لطيفة إلى كمون الجمال في الشعر جبلة أو خلقة، فهو خلق جعداً أصلاً، من دون أن تمتد إليه يد لتجمله أو تحسنه. ولعل أبا الطيب كان متفرداً في هذه الصورة التي تمزج الشعر بالعطر.
وللمتنبي أيضاً:
لبسن الوشي لا متجملات = ولكن لكي يصن به الجمالا
وضفرت الغدائر لا لحسن = ولكن خفن في الشعر الضلالا
وقال يوسف بن هارون:
وليلة لمة تبقى العيون الـ = ـروامق من دجاها في ضلال
وكنت عن الليالي غير راض = بحال إذا جنت تغيير حالي
فلما أن رأيت الليل شبهاً = للمته رضيت عن الليالي
وقال أيضاً:
وجدتك دهراً ثانياً شعرك الدجى = ووجهك إصباح وهجرك كالصرف
فإن أبغِ صبحاً كان خدك مصبحي = وأن أبغِ ليلاً بت في شعرك الوحف
وقال عبادة:
كلما مست في الرداء توارت = بقناع غزالة الأبراج
أو تمشت بحاسر الرأس أو في = ملك للملاح من غير تاج
وكأن التفاف شعرك جعداً = فوق وجه يضيء ضوء السراج
طبق مكفأ من التبر محضاً = تحته للعيون لعبة عاج
وقال علي بن أبي الحسين:
أرى صباحاً منيراً فوق جبهته = ليل كأن دجاه حالك السبج
وروضة طلعت فيها لأعيننا = ورد تفتح بين السوسن الأرج
الشعر الأشقر
الشقراوات الرائعات الساحرات لم تعرفهن أرض العرب قديماً إلا فيما ندر، فلم نعتدهن في ظباء معد، ولا عهدناهن من أخوات ليلى وعفراء. لذا قال الشاعر بدوى الجبل في شقراء:
شقراء يالون حسن = محبب مستبد
ويا جمالاً غريباً = على ظباء معد
لا وسم ليلاي فيه = ولا ملامح هند
ولا اسمرار الغريرا = ت بالعقيق ونجد
ثم يقول الشاعر واصفاً لون شقرتها التي تتمنى الشمس أن لو تستعيرها خداً وبرداً وشعراً متوهجاً هائماً في تيه ودلال:
شقراء تحلم شمس الـ = ضحى بخدي وبردي
رفت خصيلات شعري = بأشقر النور جعد
سكران تيه ودل = مخمور وهج وقد
أما أول معرفة العرب بالشقراوات فكان بالأندلس مما جعل شعراء الأندلس يكثرون في وصف الشقراء, ونعت لون شعرها بأنه مقطوع من لون الغسق.
يقول سليمان بن بطال المتلمس الفقيه في شقراء:
وشادنين ألما بي على مقلة = تنازعا الحسن في غايات مستبق
كأن لمة ذا من نرجس خلقت = على بهار وذا مسك على ورق
وحكما الصب في التفضيل بينهما = ولم يخافا عليه رشوة الحدق
فقام يدلي إليه الريم حجته = مبيناً بلسان منه منطلق
فقال وجهي بدر يستضاء به = ولون شعري مقطوع من الغسق
وكحل عيني سحر للنهى وكذا = ك الكحل أحسن ما يعزى إلى الحدق
فقال صاحبه أحسنت وصفك لكن = فاستمع لمقال فيه متفق
أنا على أفقي شمس النهار ولم = تغرب وشقرة شعري شقرة الشفق
والشمس لولا سناها لم يكن شفق = يبدو إذا ما ألم الليل بالأفق
فضل ما عبت في عيني من زرق = إن الأسنة قد تعزى إلى الزرق
قضيت للمة الشقراء حين حكت = لوني كذا حبه يقضي على خلقي
فقام ذو اللمة السوداء ترشقني = سهام أجفانه من كثرة الحنق
وقال جرت فقلت الجور منك على = قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق
فقلت عفوك إذ أصبحت متماً = فقال دونك هذا الحبل فاختنق
وقال يوسف بن هارون:
ومحير اللحظات تحسبه لحيـ = ـرتهن من سنة المنام منبها
وبياضه في شقرة فتقارنا = حسناً بلا ضد فكانا أشبها
كسلاسل الذهب المورس فوق وجـ = ـه من لجين بالملاحة قد زها
وكذا الصباح بياضه في شقرة = فكأنه بهما غدا متشبها
وإذا بدا التوريد في وجناته = فكأنه صرف المدامة في المها
والشقراء يزداد حسنها إذا كان ذات ملامح شرقية: يقول على محمود طه:
ذهبي الشعر شرقي السمات
............
ويقول الشاعر الشعبي:
أشقر وشعرو ذهب = وفي حبو شفت العجب
وقد تغنى الشعراء ببعض خصائص شعر المرأة العربية وصوره التي تصاحب طريقة المرأة في كيفية تصفيفها لهذا الشعر، من ذلك:
عقارب الأصداغ: الصدغ: خصلة من الشعر ترسل بين العين والأذن، وهما صدغان، وقد أخذ الصدغ بألباب الشعراء وذهب بهم كل مذهب، فتدلهوا به، ولهجوا بذكره، وفتنوا كل الافتنان في نعمته ووصفه، فنعتوه بقولهم: صدغ معقرب كما سموه عقارب الأصداغ، وأتوا في وصفه بكل معنى رائق حسن بديع، فهذا الصاحب بن عباد يكتب مقارناً بين عقارب قاشان المعروفة بالخبث وعقارب الأصداغ, ومساوياً بين ما يقاسيه من خوف لدغ عقارب قاشان، وما يكابده شيخه من عقارب الأصداغ: (كتبت من قاشان وقد قاسيت من خوف عقاربها ما يقاسيه شيخنا من عقارب الأصداغ).
وقال آخر:
قالوا حبيبك ملسوع فقلت لهم = من عقرب الصدغ أم من حية الشعر
قالوا بلى من أفاعي الأرض فقلت لهم = وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ولجمال الدين بن أفلح:
وقالوا يصير الشعر في الماء حية = إذا الشمس حاذته فما خاته صدقا
فلما التوى صدغاه في ماء وجهه = وقد لسعا قلبي تيقنته صدقا
وفي ذلك تلميح لما زعموه من أن شعر المرأة بطوله إذا طرح في ماء البحر بحيث لا يخرج منه صار حية مائية.
ومن محاسن شعر أبي حامد الغزالي قوله:
حلت عقارب صدغه من خده = قمراً يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها = فمن العجائب كيف حلت فيه
- الطرة: وهي قطع الجارية من جملة شعرها جزءاً في مقدمة ناصيتها كالعلم. وطررت الجارية تطريراً: إذا اتخذت لنفسها طرة، قال الأعشى:
غراء فرعاء مصقول عوارضها = تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
وروى الأصمعي، قلت لأعرابية: (ما الغراء؟ قالت التي بين عينيها بلج، وفي جبينها اتساع يتباعد معه قصتها عن حاجبيها، فيكون بينهما نفنف - أي: فرجة- وهذه القصة التي وصفتها الأعرابية هي الطرة، ومن كلام الحريري في إحدى مقاماته: (لا والذي زين الجباة بالطرر والعيون بالحور).
وقال على بن الحسن:
فأبديت وجهاً تحت ترجيل لمة = فكان كبدر تحت ليل مرجل
ومثله بالبدر أيضاً حقيقةً = بغالية صرف أدق ممثل
عذاران خطا فوق وجهك زينةً = عليه وحباً للعذار المعجل
وقد طر منها شارب فوق مبتسم = كغصن عقيق باللآلي مكلل
والعرب تشبه السينات بالطرر. قال التهامي:
وفي كتابك فاعذر من تهيم به = من المحاسن ما في أجمل الصور
الطرس كالخد والنونات دائرة = مثل الحواجب والسينات كالطرر
هكذا رأينا كيف صور الشعر العربي جمال شعر المرأة العربية خاصة التي تعنى بشعرها المغدودن الناعم الأسود الفاحم الكث الوارد, وتهتم بتطييبه ودهنه وتسريحه وتمشيطه وتنسيقه وضفره وإرسال ذوائبه وغدائره حتى يغدو زينة للناظرين وفتنة للمتوسمين.
وفي الختام: أورد ما قاله الشاعر العربي في ما ابتدعته النساء وما استحدثنه من حلق شعورهن:
وأبصرتها في ربرب من لداتها = بصالون حلاق لهن زحام
إذا انفتلت بين المرايا لحاجة = شهدت نفور الظبي حين يرام
وأبصرت أما وجهها فمؤنث = كعهدي وأما رأسها فغلام
فقلت -وما أدري رهافة- سمعها = على الحسن بعد العقربين سلام
*عن المجلة العربية
ونعى عليه الصلاة والسلام على عائشة أنها لا تأخذ كامل زينتها حيث يقول لها: «مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء؟ قالت يا رسول الله أولسنا من العرب؟ قال: بلى، وربما أنسيت العرب الكلمة، فيعلمنيها جبريل» (الشعثاء: التي لا تدهن، المرهاء: التي لا تكتحل، السلتاء: التي لا تختضب).
وقالت العرب: (الشعر الحسن أحد الوجهين).
ومن وصايا العرب: «إذا تزوج أحدكم فليسأل عن شعرها، فإن الشعر أحد الوجهين، وينبغي أن تعلم أن أحسن الشعر وأجمله ما كان أسود كثاً وارداً طويلاً مرسلاً مغدوداً ناعماً».
الأسود الحالك كالليل
وشعر المرأة العربي الذي أحبه الشعراء، هو الأسود الحالك كالليل، الطويل، فطول شعر المرأة وشدة اسوداده من عناصر الجمال في المرأة العربية.
يقول امرؤ القيس:
غدائرها مستشذرات إلى العلا = تضل العقاص في مثنى ومرسل
(الغديرة: الخصلة من الشعر، مستشذرة: مفتولة، العقصة (بالكسر): العقدة في الشعر، المثنى: الشعر المطوي بعضه على بعض، المرسل: الشعر المنسدل).
وقال أيضاً:
وفرع يزين المتن أسود فاحما = أثيث كقنو النخلة المتعثكل
(الفرع: الشعر، المتن: الظهر، أثيث: كثيف، القنو: العذق الجاف الذي جرد من تمره، المتعثكل: الذي يبرز منه أشياء كأنها تتحرك في الهواء).
ولم يمل العرب الجاهليون إلى الشعر الناعم المستقيم، بل إلى السبط المتموج. وربما كانت المرأة العربية ترسل بعض الغدائر في مقدمة رأسها حتى قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
............
وقروناً سابقاً أطرافها
وقد استحسن امرؤ القيس كثافة هذه القرون حتى شبه بها شعر فرسه حيث قال:
............
لها غدر كقرون النساء
(غدائر: ضفائر).
والمرأة البيضاء سوداء الشعر هي المثال الأعلى للجمال، حيث يلتقي فيها النهار بوضوحه وبياضه والليل بحلكته وسواده، البشرة البيضاء ناصعة البياض، والشعر الأسود الفاحم المنسدل. ففي تلاقي هذين اللونين المتضادين وتآلفهما وتجاورهما أحب صورة إلى العربي. فليس أخلب للب من أن ينسدل الشعر الأسود الفاحم الطويل على الجسم الأبيض الغض البض فيحجب بعضه، وينصع بياض ما لم يستره ويحجبه ويلفه بغلالته، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء.
يقول دوقلة المنبجي:
بيضاء قد لبس الأديم بهاء = الحسن، فهو لجلدها جلد
ويزين فوديها إذا حسرت = ضافي الغدائر فاحم جعد
فالوجه مثل الصبح مبيض = والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا = والضد يظهر حسنه الضد
(الأديم: الجلد، الفودان: جانبا الرأس مما يلي الأذن، جعد: متجمع كثيف, والمقصود به الشعر).
ويقول الشاعر:
بيضاء تسحب من قيام شعرها = وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع = وكأنه ليل عليها مظلم
وهذا الشعر الوحف قد تغزر ذوائبه وتكثف غدائره حتى يواري صاحبته ومحبها حسبما صور ذلك الشاعر بقوله:
نشرت علي ذوائب من شعرها = حذر الكواشح والعدو المحنق
فكأنني وكأنها وكأنه = صبحان باتا تحت ليل مطبق
وتشبيه الشعر بالليل وتمثيله به قديم قدم الشعر العربي، ومازال جارياً على ألسنة الشعراء حتى عصرنا الحاضر, مثل قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
............
ودخلت في ليلين فرعك والدجى = وقد استقاه من قول ابن المنذر:
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى = وشمسين من خمر وخد حبيب
وفي هذا المعنى يقول صفي الدين الحلي:
قمر هدى أهل الضلال بوجهه = وأضل بالفرع الأثيث من اهتدى
(الفرع الأثيث: الشعر الكثيف).
ويقول المتنبي:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها = في ليلة.. فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر الزمان بوجهها = فأتاني القمرين في وقت معا
وقال الشاعر:
بغرتها البيضاء أنارت فأشرقت = بضوء جبين مزهر وعجيب
بشعر حكى الليل البهيم سواده = وفرق أراد الفجر منه هروب
وقد استحسن العرب في المرأة طول الشعر، فكانت المرأة العربية تعنى بشعرها وتضفره ثلاث ضفائر تسمى- غدائر أو ذوائب- كثيراً ما يطول حتى يبلغ موطئ قدميها كما قال الشاعر:
دعت خلاخيلها ذوائبها = فجئن من فرقها إلى القدم
وقيل: من تزوج امرأة فليتحسن من شعرها، فإن الشعر الحسن أحد الوجهين. قال الشاعر:
بدت ثريا قرطها وشعرها = متصل بكعبها كما ترى
يا عجباً لشعرها لما ابتدا = من الثريا فانتهى إلى الثرى
ويكمن جمال الشعر لدى المرأة في شدة سواده وطوله وكثافته وتداخله. وقد أكثر الشعراء من تشبيه سواد الشعر بظلمة الليل الحالكة، ونجد صدى ذلك لدى البحتري، إذ يقول:
قمر من الأقمار وسط دجنة = يمشي به غصن من الأغصان
ويرى أبوتمام جمال الشعر متمثلاً بالطول والتداخل أيضاً:
من كل رعبوبة تردى = بثوب فينانها الأثيث
(الرعبوب: الغضة الطويلة الناعمة، تردى: تلبس، فينانها: شعرها الطويل، الأثيث: الكثير المتلف).
وفي موضع آخر يرى أبوتمام جمال الشعر متمثلاً بالسواد والتداخل أيضاً:
ومن فاحم جعد، ومن كفل نهد = ومن قمر سعد ومن نائل ثمد
(الكفل: العجز، النهد: المرتفع، النائل: العطاء، الثمد: القليل).
ويرى ابن الرومي أن جمال شعر المرأة يكمن في كونه شديد السواد شديد التداخل، يكاد لشدة سواده يحجب نور وجهها الوضاء:
يجاذبها عند النهوض وينثني = بأعطافها فرع سخام جثاجث
كأن صباحاً واضحاً في قناعها = أناخ عليه جنح ليل مغالث
(الأعطاف: الجوانب، سخام: أسود، جثاجث: كثيف، مغالث: ممزوج).
ويلح المتنبي على تأكيد صفتي الكثافة والتداخل بوصفهما عنصرين أساسين في جمال الشعر، يقول:
ومَن كلما جردتها من ثيابها = كساها ثياباً غيرها الشعر الوحف
(الوحف: الكثير الملتف).
فهذه المرأة تستطيع بشعرها الكثيف الملتف أن تغطي جسدها إذا ما عري من الثياب.
وقد يجمع الشعراء بين صفات الشعر الجمالية جميعها (الطول - التداخل - السواد - الكثافة), وهذا ما نجده لدى كل من ابن الرومي والمتنبي, على سبيل المثال لا الحصر, يقول ابن الرومي:
أسبلت من ذراه جعداً أثيثا = جائزاً حد متنها الرجراج
جارياً فوق متنها جرية الما = ء وإن كان حالك الأمواج
ويؤكد المتنبي هذه الصفات الجمالية للشعر، مضيفاً إليها عنصراً آخر لا يقل جمالاً, وهو امتزاج الشعر بالعطر مما يجعل رائحته زكية فواحة:
ذات فرع كأنما ضرب العنـ = ـبر فيه بماء ورد وعود
حالك كالغداف جثل دجوجي = أثيث جعد بلا تجعيد
(الغداف: الغراب الأسود، جثل: كثير ملتف).
وفي البيت إشارة لطيفة إلى كمون الجمال في الشعر جبلة أو خلقة، فهو خلق جعداً أصلاً، من دون أن تمتد إليه يد لتجمله أو تحسنه. ولعل أبا الطيب كان متفرداً في هذه الصورة التي تمزج الشعر بالعطر.
وللمتنبي أيضاً:
لبسن الوشي لا متجملات = ولكن لكي يصن به الجمالا
وضفرت الغدائر لا لحسن = ولكن خفن في الشعر الضلالا
وقال يوسف بن هارون:
وليلة لمة تبقى العيون الـ = ـروامق من دجاها في ضلال
وكنت عن الليالي غير راض = بحال إذا جنت تغيير حالي
فلما أن رأيت الليل شبهاً = للمته رضيت عن الليالي
وقال أيضاً:
وجدتك دهراً ثانياً شعرك الدجى = ووجهك إصباح وهجرك كالصرف
فإن أبغِ صبحاً كان خدك مصبحي = وأن أبغِ ليلاً بت في شعرك الوحف
وقال عبادة:
كلما مست في الرداء توارت = بقناع غزالة الأبراج
أو تمشت بحاسر الرأس أو في = ملك للملاح من غير تاج
وكأن التفاف شعرك جعداً = فوق وجه يضيء ضوء السراج
طبق مكفأ من التبر محضاً = تحته للعيون لعبة عاج
وقال علي بن أبي الحسين:
أرى صباحاً منيراً فوق جبهته = ليل كأن دجاه حالك السبج
وروضة طلعت فيها لأعيننا = ورد تفتح بين السوسن الأرج
الشعر الأشقر
الشقراوات الرائعات الساحرات لم تعرفهن أرض العرب قديماً إلا فيما ندر، فلم نعتدهن في ظباء معد، ولا عهدناهن من أخوات ليلى وعفراء. لذا قال الشاعر بدوى الجبل في شقراء:
شقراء يالون حسن = محبب مستبد
ويا جمالاً غريباً = على ظباء معد
لا وسم ليلاي فيه = ولا ملامح هند
ولا اسمرار الغريرا = ت بالعقيق ونجد
ثم يقول الشاعر واصفاً لون شقرتها التي تتمنى الشمس أن لو تستعيرها خداً وبرداً وشعراً متوهجاً هائماً في تيه ودلال:
شقراء تحلم شمس الـ = ضحى بخدي وبردي
رفت خصيلات شعري = بأشقر النور جعد
سكران تيه ودل = مخمور وهج وقد
أما أول معرفة العرب بالشقراوات فكان بالأندلس مما جعل شعراء الأندلس يكثرون في وصف الشقراء, ونعت لون شعرها بأنه مقطوع من لون الغسق.
يقول سليمان بن بطال المتلمس الفقيه في شقراء:
وشادنين ألما بي على مقلة = تنازعا الحسن في غايات مستبق
كأن لمة ذا من نرجس خلقت = على بهار وذا مسك على ورق
وحكما الصب في التفضيل بينهما = ولم يخافا عليه رشوة الحدق
فقام يدلي إليه الريم حجته = مبيناً بلسان منه منطلق
فقال وجهي بدر يستضاء به = ولون شعري مقطوع من الغسق
وكحل عيني سحر للنهى وكذا = ك الكحل أحسن ما يعزى إلى الحدق
فقال صاحبه أحسنت وصفك لكن = فاستمع لمقال فيه متفق
أنا على أفقي شمس النهار ولم = تغرب وشقرة شعري شقرة الشفق
والشمس لولا سناها لم يكن شفق = يبدو إذا ما ألم الليل بالأفق
فضل ما عبت في عيني من زرق = إن الأسنة قد تعزى إلى الزرق
قضيت للمة الشقراء حين حكت = لوني كذا حبه يقضي على خلقي
فقام ذو اللمة السوداء ترشقني = سهام أجفانه من كثرة الحنق
وقال جرت فقلت الجور منك على = قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق
فقلت عفوك إذ أصبحت متماً = فقال دونك هذا الحبل فاختنق
وقال يوسف بن هارون:
ومحير اللحظات تحسبه لحيـ = ـرتهن من سنة المنام منبها
وبياضه في شقرة فتقارنا = حسناً بلا ضد فكانا أشبها
كسلاسل الذهب المورس فوق وجـ = ـه من لجين بالملاحة قد زها
وكذا الصباح بياضه في شقرة = فكأنه بهما غدا متشبها
وإذا بدا التوريد في وجناته = فكأنه صرف المدامة في المها
والشقراء يزداد حسنها إذا كان ذات ملامح شرقية: يقول على محمود طه:
ذهبي الشعر شرقي السمات
............
ويقول الشاعر الشعبي:
أشقر وشعرو ذهب = وفي حبو شفت العجب
وقد تغنى الشعراء ببعض خصائص شعر المرأة العربية وصوره التي تصاحب طريقة المرأة في كيفية تصفيفها لهذا الشعر، من ذلك:
عقارب الأصداغ: الصدغ: خصلة من الشعر ترسل بين العين والأذن، وهما صدغان، وقد أخذ الصدغ بألباب الشعراء وذهب بهم كل مذهب، فتدلهوا به، ولهجوا بذكره، وفتنوا كل الافتنان في نعمته ووصفه، فنعتوه بقولهم: صدغ معقرب كما سموه عقارب الأصداغ، وأتوا في وصفه بكل معنى رائق حسن بديع، فهذا الصاحب بن عباد يكتب مقارناً بين عقارب قاشان المعروفة بالخبث وعقارب الأصداغ, ومساوياً بين ما يقاسيه من خوف لدغ عقارب قاشان، وما يكابده شيخه من عقارب الأصداغ: (كتبت من قاشان وقد قاسيت من خوف عقاربها ما يقاسيه شيخنا من عقارب الأصداغ).
وقال آخر:
قالوا حبيبك ملسوع فقلت لهم = من عقرب الصدغ أم من حية الشعر
قالوا بلى من أفاعي الأرض فقلت لهم = وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ولجمال الدين بن أفلح:
وقالوا يصير الشعر في الماء حية = إذا الشمس حاذته فما خاته صدقا
فلما التوى صدغاه في ماء وجهه = وقد لسعا قلبي تيقنته صدقا
وفي ذلك تلميح لما زعموه من أن شعر المرأة بطوله إذا طرح في ماء البحر بحيث لا يخرج منه صار حية مائية.
ومن محاسن شعر أبي حامد الغزالي قوله:
حلت عقارب صدغه من خده = قمراً يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها = فمن العجائب كيف حلت فيه
- الطرة: وهي قطع الجارية من جملة شعرها جزءاً في مقدمة ناصيتها كالعلم. وطررت الجارية تطريراً: إذا اتخذت لنفسها طرة، قال الأعشى:
غراء فرعاء مصقول عوارضها = تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
وروى الأصمعي، قلت لأعرابية: (ما الغراء؟ قالت التي بين عينيها بلج، وفي جبينها اتساع يتباعد معه قصتها عن حاجبيها، فيكون بينهما نفنف - أي: فرجة- وهذه القصة التي وصفتها الأعرابية هي الطرة، ومن كلام الحريري في إحدى مقاماته: (لا والذي زين الجباة بالطرر والعيون بالحور).
وقال على بن الحسن:
فأبديت وجهاً تحت ترجيل لمة = فكان كبدر تحت ليل مرجل
ومثله بالبدر أيضاً حقيقةً = بغالية صرف أدق ممثل
عذاران خطا فوق وجهك زينةً = عليه وحباً للعذار المعجل
وقد طر منها شارب فوق مبتسم = كغصن عقيق باللآلي مكلل
والعرب تشبه السينات بالطرر. قال التهامي:
وفي كتابك فاعذر من تهيم به = من المحاسن ما في أجمل الصور
الطرس كالخد والنونات دائرة = مثل الحواجب والسينات كالطرر
هكذا رأينا كيف صور الشعر العربي جمال شعر المرأة العربية خاصة التي تعنى بشعرها المغدودن الناعم الأسود الفاحم الكث الوارد, وتهتم بتطييبه ودهنه وتسريحه وتمشيطه وتنسيقه وضفره وإرسال ذوائبه وغدائره حتى يغدو زينة للناظرين وفتنة للمتوسمين.
وفي الختام: أورد ما قاله الشاعر العربي في ما ابتدعته النساء وما استحدثنه من حلق شعورهن:
وأبصرتها في ربرب من لداتها = بصالون حلاق لهن زحام
إذا انفتلت بين المرايا لحاجة = شهدت نفور الظبي حين يرام
وأبصرت أما وجهها فمؤنث = كعهدي وأما رأسها فغلام
فقلت -وما أدري رهافة- سمعها = على الحسن بعد العقربين سلام
*عن المجلة العربية