محمد رتيبي - تأملات في الحب والحب العذري

من الصعب دراسة الحب نظرا لعدة مشاكل ترتبط بطبيعة الموضوع المدروس . لذلك ليس من الغريب في شيء أن الفلاسفة تأملوا منذ أقدم العصور هذا الموضوع محاولين كشف حقيقته وأصله . ومنهم من عالجه ابتداء بالحب الجنسي ، وآخرون انطلقوا من الحب الصوفي الذي اعتبروه مصدرا لكمال الطبيعة البشرية. ولكن ما نريد الإشارة إليه هو أن الحب الصوفي لا يعنينا هنا كما أنه ليس حب البحث عن الحقيقة . بل إن الحب الذي نقصده هنا إنما هو مجموعة من الانفعالات والأهواء التي تهز النفس هزا .
الحب الذي نحن إزاءه إذا إنما هو الحاجة التي يحس بها الإنسان ، وبعبارة أخرى تلك الرغبة التي تجعل المرء يحس بنوع من الحاجة إلى المحبوب . بغية تحقيق الإشباع ، وبالتالي الرضا ولعل الدكتور صادق جلال العظم من أكبر المفكرين الذين قاربوا هذا الموضوع . صادق جلال العظم ، هو مفكر عربي عمل أستاذا للفلسفة . عرف مفكرنا بكتاباته الثورية ، إذ حمل على عاتقه نسف الخرافة من داخل المجتمع العربي قصد تأسيس مجتمع العلم والتنوير . ألف العظم كثيرا من الكتابات الخصبة ، لعل أبرزها كتاب " نقد الفكر الديني " ، الكتاب الذي أثار حفيظة الأصوليين وأعداء حرية الفكر ، حيث أبان عن الدور الذي يلعبه الدين في خدمة الرجعية العربية ، مما عرضه لمحاكمة انتهت بسجنه أسبوعا لكي يتم الإفراج عنه . ولم يتوقف مفكرنا عند هذا الأمر ، بل واصل خط التنوير ، من خلال كتب أخرى ك"ذهنية التحريم سلمان رشدي وحقيقة الأدب " حيث بين في هذا الكتاب أزمة المثقف العربي ، والتي أرجعها إلى كون كثير من المثقفين لا يترددون في إصدار أحكام باطلة دون قراءة متمعنة وصادقة لمنتوج أدبي معين، وقد تأكد هذا الأمر من خلال حكمهم على سلمان رشدي . والواقع أن "الآيات الشيطانية" إنما هي عمل فريد كان قصد مؤلفه تشخيص المرض المزمن للعقلية العربية ، وبعبارة أخرى كان الغرض منه نسف العقلية الرجعية التي تتخذ من الدين سلاحا " "نظريا" لكبح الفكر العلمي وبالتالي كل تغيير ثوري. ولكي يكمل العظم مشروعه التنويري هذا ، ألف كتابا آخر هو " ما بعد ذهنية التحريم " . فبعد أن نسف العقل الرجعي بهذه الكتب ضرب ضربته الكبرى من خلال كتاب " في الحب والحب العذري " والذي حمل فيه على الحب العذري الذي يصور نفسه لنا طاهرا عفيفا ، كما لو أنه جوهرة نقية نزلت من السماء .ومثل جميع الكتب الثورية سيثير هذا الكتاب موجه عارمة من الاحتجاجات والتي اتهمت المؤلف بأنه يدعو إلى شيوعية الجنس ، وإلى الانحلال الأخلاقي . غير أننا ، ومن خلال دراستنا ، سنثبت للقارئ الكريم تهافت هذا الحكم ، وافتقاره إلى العلمية . كما سنثبت بالتحليل النقدي لأطروحة الكاتب أن" في الحب والحب العذري " إنما هو مقاربة جدية وعلمية لحقيقة الحب . غير أننا سنستعين بموقف جان جاك روسو كيما نغني بحثنا هذا .


1 : مفارقة الحب
يعتبر صادق جلال العظم ، أن الحب كغيره من العواطف الإنسانية يتصف ببعدين أساسيين ، هما الامتداد في الزمان ، بمعنى دوام الحالة العاطفية واستمرارها مدة زمنية معينة . والاشتداد وهذا إن دل على شيء إنما يدل على حدة الحالة العاطفية .
إن الصفة الأولى لا تطرأ عليها تغيرات نوعية ، اللهم في حالات نادرة ، كأن تتحول صداقتي بفتاة معينة إلى حب في حين أن الاشتداد يتغير بكيفية مستمرة ، كأن أكون أحب ليلى في لحظة معينة ، وتزيد حدة حبي لها. فعادة ما نعبر عنها إذ نقول " إن حبي لليلى يزداد كأنما هو نار ملتهبة " أو قولي " لقد مللت من ليلى " على هذا ، فالاشتداد يخضع للتطور إما صعودا أو هبوطا .لذلك يذهب العظم إلى أن " الحب كغيره من المشاعر الإنسانية يمتد ويشتد وفقا لظروف وأوضاع وبواعث معينة "
على أن صادق جلال العظم يميز بين نوعين من العلاقات العاطفية ، لكل واحدة منهما سمات معينة ، فالعلاقة الزوجية ليست كالعلاقة القصيرة ، ذلك أنه إذا كان الإنسان قبل الزواج ينفعل بحدة ، ويتغزل بمحبوبته قصد تملكها ، والذوبان فيها . فإن هذه العلاقة تفقد بريقها إن صح تعبيري تدريجيا . حتى أن المحبوب لا يصبح قادرا على تحريك نفس الحبيب . وعلى النقيض من ذلك ، نجد أن العلاقة العاطفية القصيرة تتمتع بقوة وانفعال حاد ، قد يصل إلى درجة الشغف .
يذهب صادق جلال العظم ، إلى أن عاطفة الحب هذه ، إنما تتأثر أيما تأثر بالظروف الاجتماعية ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الحب بمعناه العذري مصطنع ، أي إنه نتيجة لثقافة معينة . ثم إن المجتمع هو الذي يضع فكرة الامتداد كمثال ينبغي على المتحابين أن يسترشدان به . حتى يستطيعا تحقيق "الحياة الفاضلة" ، وحتى يكونا أسوة " حسنة لخلفهم " . لذلك نجد حسب العظم أن الزواج إنما هو خير تجسيد لصفة الامتداد في حين أن المغامرات الغرامية القصيرة هي التي تجسد الاشتداد . والنوع الثاني من العلاقات هو الذي تطلبة الفئة الكبرى من المجتمع ، لأنه هو الوحيدة القادر على كسر الروتين اليومي " من منا لم تتق نفسه يوما لتحقيق تجربة حب عارمة تضعه ولو لسويعات قليلة في ذروة من مشاعر الحب ، يحس فيها أنه انتقل من عالم إلى عالم ، فأصبح وقد تخطى الخير والشر ، والكفر والإيمان ، والمأساة والملهاة في حياة الإنسان ، تاركا خلفه مشاكله وهمومه كافة ومشاغلة وأفراحه العادية وأتراحه اليومية . من منا لا يفتدي هذه التجربة الممتلئة بالحرارة والحياة بجزء كبير من ساعات عمره الرتيبة الرصينة المتكررة الباردة "
نخلص إلى نتيجة منطقية تلزم بالضرورة عن كل ما قلناه ، وهي أن هناك تناقضا بين الامتداد والأشتداد ، على أن الذي يطلب الزواج لا يمكن أن يجمع بين هذا وذاك ، وهنا تظهر عبقرية المؤلف ، حيث يكشف عن الطبيعة المتناقضة التي يتوقف عليها مفهوم الحب . جميل أن يكون المرء فاضلا إذ يؤسس أسرة ومستقرا غير إن مثل هذا الشخص لن يحقق الخلاص ( والخلاص هنا بمناه الإنساني وليس اللاهوتي ) لأنه سيكون مضطرا لأن يضحي بشدة الحب وبتلك الرغبة الجامحة ، وتلك اللذة العارمة التي تجعل الجنسين كما لو أنهما صهارة حرارية من شدة النشوة .
ألا إن الحب يقوم على أشياء متناقضة ، وهذه لعمري هي الطامة الكبرى ، فأن تقبل بالخاصية الأولى خاصية الامتداد والتي أسميها الديمومة يجب بالضرورة أن تضحي بالصفة الثانية مما يجعلك تفقد كل طعم للحياة . إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنها مغامرة أو بلغة فولتير " تسلية " والإنسان في خياره بين هذا وذاك إنما يجلب الشقاء على نفسه . وهاته الوضعية هي التي أسماها مفكرنا بالمفارقة الكبرى أو " مفارقة الحب "
إن طبيعة الحب المتناقضة حسب العظم ، هي ما جعلت إبن حزم الأندلسي يذهب إلى وجود صراع بين العقل والنفس ، فإذا كان الأول ينشد تحقيق الحب رغبة في مرضاة الله، فإن النوع الثاني ينشد تحقيق اللذة العارمة ، مما يعني عند ابن حزم إتباع الهلاك والأهواء . وبعبارة أخرى إذا غلب العقل استنار الإنسان ، وإذا غلبت الشهوة والتي يرمز لها بالعشق ، إذا غلبت ضاع الإنسان وعميت بصيرته ، فكأنما هو رجل في ظلام حالك لا يعرف لحاله مستقرا .
يعترض صادق جلال العظم ، على هذا التصور مثلما يعترض على إبن القيم الجوزية ، معتبرا ، أن التمسك بتوصيات هؤلاء سيجعل الإنسان فقيرا على مستوى غرامياته ، وبالتالي العيش في بؤس عاطفي . وفق هذا الفهم ينتقد العظم الحب بمعناه العذري ، على اعتبار أنه حالة غريبة وربما مرضية إذا ما أخضعناها لمحك التحليل النفسي.
وفي دفاعه عن الفهم الثاني للحب ، أي الحب بمعناه المشتد ، يستعير المؤلف بشخصية من شخصيات موليير وهي شخصية "دنجوان " هذا الشخص الذي يقبل على تحقيق رغباته بكيفية تلقائية ، لأنه في نهاية المطاف إنما ينشد اللذة والنشوة .
ما يريد صادق التأكيد عليه هو كون الحب الذي يتخذ صفة الزواج مصطنع ، بمعنى نتاج لمجموعة من القيم التي فرضها المجتمع . وبإمكاننا أن نقول مع ياسين بو علي أن الحب ليس إلا قيدا من القيود التي فرضتها البرجوازية على الممارسة الجنسية ، فالبرجوازي " يدعي تقديس الأسرة والحياة الزوجية المستقرة "
وفق نفس المنظور نجد صادق ينتصر للشخصية الدنجوانية بما هي الشخصية التي تسعى للحفاظ على الحب في حدته وانفعاله ، لأن الحب بمعناه العفيف يتعرض للتكرار والرتابة والملل . ثم إن الإنسان البدائي لم يعرف قط طعم الحب بمعناه القدسي، لأن البوصلة التي كانت توجهه إنما حاجته الفيزيائية . يقول روسو "
" Le Morale de l’ amour est un sentiment factice ne de l’usage de la société , et célébré par les femmes avec beaucoup et de soin pour établir leur empire , et rendre dominant le sexe qui devrait obiér . ce sentiment étant fondé sur certaines notion du mérite ou de la beauté qu’un sauvage n’est point en état d’avoir et sur des comparaison qu’il n est point en état se faire , doit être presque nul pour lui "

"البعد الأخلاقي للحب ، شعور مصطنع متأت من عادات المجتمع ، إذ تحتفي به النساء بكل مهارة وحذق من أجل توطيد سلطانهن . وجعل الجنس الملزم بالطاعة جنسا مسيطرا . وإذ إن هذا الشعور يتأسس على معان معينة مثل المزايا والجمال مما لم يكن المتوحش في وضع من يستطيع تمثله قط ، وجب أن يكون هذا الشعور معدوما لدية أو يكاد "
هكذا نجد تقاربا بين موقف صادق وموقف روسو ، كلاهما يؤكد على اصطناع الحب ، بل والأخطر من ذلك كلاهما يعتبر الحب مصدرا لشقاء الإنسان . فلا يمكن إذن حسب هذه المواقف إيجاد أصل طبيعي للحب .
يشبه صادق العشق بالحرب ، فالعاشق يستعمل كل إمكانياته من أجل كسب رضى الحبيب ، وهو في ذلك كما لو أنه ملزم باختراق دفاع حبيبته ،مستعملا كل التشبيهات التي من شأنها اختراق العقبات التي تضعها المعشوقة . فالدنجوان يستعمل كل الوسائل لأسر حبيبته كما يصير هو نفسه أسيرا لها .

2 : الحب العذري
في الفصل الثاني من كتاب " في الحب والحب العذري " ينتقل صادق جلال العظم لدراسة الحب في بعده الطاهر ، أي الحب كما تجسد في بعض القصص الغرامية ( قيس وليلى ، ، جميل وبثينة ) محاولا كشف أصله وحقيقته .كل هذا يجعلنا إزاء مجموعة من الأسئلة من قبيل : ما هو أصل الحب العذري ؟ كيف ظهر ؟ ما حقيقته ؟
الاهتمام بالحب العذري ، اهتمام قديم . عمل رواد الفكر العربي منذ زمن بعيد على محاولة كشف أصله وحقيقته . يعود الحب العذري إلى قبيلة بني عذر والتي عرفت بنوع خاص من الحب . ارتبط هذا النوع بالعفة والطهارة والوفاء والسمو مما جعله يمدح من قبيل مجموعة من الشعراء . زد على هذا فهذا النوع من الحب يتميز بالمعاناة والمأساة .
يقول قيس ابن الملوح :
يا ليتني يا ليلى كنت رداءك أطوق الجسد المخمور باللين
يا ليلتني يا ليلى كنت لسانك أمتص ما تشتهي نفسك وتغريني
أنا الفقير إليك فإن رضيت أحيا وإلا فنار الحب تفنيني
قالوا انتحر فلعل الموت يخمد ما يثور بك من نار البراكين
فقلت في الموت فصل الروح عن الجسد وليلى الروح وهذا الأمر يؤذيني
قالوا لعل أغاريد الطيور بها تخفيف ما فيك من آهات مفتون
فقلت إن لم تكن ليلى مغردة فلتخرس الطيور من فوق الأفانيني

يمكن تعريف الحب العذري على أنه ظاهرة روحية محضة ، ظاهرة يتعلق فيها الحبيب بعشيقته أو العشيقة بحبيبها . بحيث تجعله قدوة لها ومثالا أعلى في عينيها . الشيء الذي يجلب لها متعة روحية ، إنه مأساة تدور بين عشيقين تسيطر على حبهما العفة والإخلاص والتوحيد والحرمان والطهارة
يتحقق هذا النوع من الحب ، بانتصار النفس والروح على رغبات الجسد "الخسيسة" وبعبارة أخرى إنه نوع من المثالية الأخلاقية يتحلى بها العاشق العذري بحيث يصير هدفه الأسمى "الحصول على الرابط المقدس بينه وبين حبيبته "
وقد جلب لنا التراث بعضا من هذه القصص ، حيث إن جميل راح يتغزل ويمدح بثينة . كان جميل يحب بثينة ويتمنى الرباط المقدس بها . لم يخطبها ، بل أخذ يمدحها ويتغزل بمفاتنها حتى اندلع خبرهما ، ولم يعد بالإمكان أن يلتقيا إلا خلسة وفي النهاية تزوجت بثينة من غير حبيبها .
يلاحظ صادق جلال العظم أن قصة جميل وبتينة تلتقي مع شخصية الدنجوان ، حيث إن جميل وبتينة يرفضان الزواج ، فهما يعلمان علم اليقين أن زواجهما سيأتي على حساب توهج حبهما . كما أن التشابه بين قصتهما هذه وبين شخصية الدنجوان إنما تتجلى في رفضهما لمؤسسة الزواج ، وبعبارة أخرى رفضهما لكل التقاليد والأعراف التي من شأنها الإجهاز على حبهما بما في ذلك الزواج نفسه .
بيد أن العاشق العذري وإن كان يلتقي مع الدنجوان في رفضه للزواج ، فإنه يختلف عنه في أنه يركز على محبوبة واحدة ، يركز عليها جميع طاقته ، في الوقت الذي ينتقل فيه "الدنجوان" من واحدة إلى أخرى . وعلى الرغم من اختلافهما إلا أنهما يعلمان علم اليقين أن المرء ما أن يحقق إشباعه الجنسي مع محبوبته حتى يتناقص حبه لها عشرات المرات . وهذا ما يفسر كيف أن العاشق العذري لا يتردد في اصطناع جميع أنواع العراقيل حتى لا يصل إلى إشباع شهوته . مما يهيج حبه أكثر وقد يؤدي إلى الجنون أو الهيام . حيث تكون نار العشق قد سيطرت على عقله وغمرت جسده بل ويصل به الأمر إلى وضع حبيبته في مستوى الموجودات المقدسة .
يقول جميل في حق حبيبته بثينة :
علُقتُ الهوى منها وليدا فلم يزل إلى اليوم ينمي حبها ويزيدُ
العاشق العذري حسب ما ذهب إليه صادق في كتابه السابق ، يجعل نفسه تعيش نوعا من التعاسة العاطفية ، على اعتبار أنها جزء من تجربته الغرامية .وبعبارة أخرى يفضل العاشق العذري ( والعاشقة العذرية من طبيعة الحال ) أن يلتهب في نار محبوبته على أن يحقق معها رغبته الجنسية .
على أن العاشقين العذريين ، إنما يريدان في حقيقة الأمر البعد أكثر مما يريدان الوصال ، ويرغبان في الفراق أكثر مما يرغبان في العناق . فضلا عن ذلك يمكن أن نقول إن العاشق يعاني من مرض نفسي ، حيث أنه يجد لذة في شقائه ومعاناته ، وهذه هي المفارقة الكبرى ، حيث تصير اللذة والمعاناة أمران متلازمان . فالعاشق العذري ( أو العاشقة العذرية) يعاني من السادوماسوشية ، بمعنى أنه يتلذذ من جهة بتعذيب نفسه ، ومن جهة أخرى بتعذيب محبوبته .
إن هذا هو ما يجعل العاشق العذري يعيش تجربة غرامية مشتدة ، بمعنى ذات انفعال خالص .

3 : نقد طهارة الحب العذري
ينتقد صادق جلال العظم الصورة الشائعة عن الحب العذري ، أي تلك الصورة التي ترسمه لنا عفيفا طاهرا ، كما لو أنه جوهرة نزلت من السماء . فصادق يؤكد أن " الحب العذري شهواني في أصله ، ونرجسي في موضوعه ... إنه نرجسي لأن اهتمام العاشق وهيامه ينصبان في الواقع على ذاته ومشاعره وأحاسيسه وخياله لا على شخص حبيبته...أي أن هذا العاشق النرجسي عاجز عن التخلص من خيالاته وأفكاره وعواطفه الشخصية كموضوع لعشقه "
فضلا عن ذلك ، فالعاشق العذري لا يعمل كما يعتقد الكثير على إبعاد رغبته ،بل نجده على النقيض من ذلك يعمل على إثارة هذه الرغبة ، من خلال منع الاتصال الجنسي مع حبيبته كلما سمحت له الفرصة ، فهو إذن يختار البعد من أجل ضمان ولعه وشغفه ، ليس بمحبوبته ، لأن هذه الأخيرة كما يذهب العظم ، لا تشكل له موضوعا مباشرا ، بل يفتن بانفعالاتها . لذلك يقترح العظم ، ولو بشكل ضمني تغيير الصورة التي نحملها عن العشاق العذريين ، والتي تصوره طاهرا عفيفا .
إن العاشق العذري كمن يزرع الأرض دون حرثها والإستفادة منها ، وكمثال على ذلك ، قد أحب "هدى" مثلا فأعبر لها عن إعجابي وحبي لكي أُشعل عاطفتها ، أدغدغها وأداعبها وأجعلها ترغب في إشباع رغبتها معي لكن سرعان ما أحرمها كلما شعرت أنها على وشك الظفر بي . هكذا أكون قد وضحت مقاصد المؤلف . حتى لا يعتقد معتقد أن الحب العذري منزه . إنه حالة غير عادية . لذلك ينتقد العظم المفكرين الذين يذهبون إلى أن الحب العذري يحقق سعادة روحية مؤكدا أنه على النقيض من ذلك يجلب المعاناة وهو لا يعرف لحاله خلاصا .
يمكن من كل ما شبق القول إن الحب العذري ليس طاهرا مقدسا كما يظهر للوهلة الأولى ، بل حالة غير عادية ، حالة يفضل فيها العاشق المعاناة على أن يطأ حبيبته. لا ينتقص جلال صادق العظم من العشاق العذريين أو حول ما كتب عنهم ، لأن مثل هذا الفهم إنما ينتج عن سوء استيعاب مقاصد المؤلف الحقيقية . بل إن العشاق العذريين هم شخصيات فريدة لها من الخصائص ما يجعلها محل إعجاب .
4 : العاشق الدونكيشوتي
إن العاشق الدونكيشوتي هو ذلك الشخص الذي لا يحب فتاة بعينها ، فكل فتاة هي موضوع حب بالنسبة له ، وبعبارة أخرى لا يكون حبه نابعا من عاطفته ، بل من أفكار مفروضة عنه . فضلا عن ذلك ، فالعاشق الدونكيشوتي عاجز عن التمييز بين الحب والرغبة الجنسية . وينتشر الدونكيشوتيون على ما يقول صادق جلال العظم ، في المجتمعات التي يسود فيها الكبت ، كالمجتمعات العربية . القائمة على ذهنية التحريم
العشاق الدونكيشوتيون لا يحبون فتاة بعينها ، بل تراهم " مستعدون للتعلق بالفتاة الرشيقة التي ألقت عليهم التحية من دون قصد أو أن يهيموا بالطالبة الرياضية في الجامعة، أو أن يولعوا بتلك الفتاة التي راقصتهم مرة أو مرتين في إحدى الحفلات . إنهم عاجزون، في الحقيقة ، عن التمييز بين الحب الذي يصر بطبيعته على الاختيار والانتقاء ، وبين شهوتهم المكبوتة التي لا تطلب سوى الإشباع فحسب "

5 : تحليل خواطر المؤلف

بداية يجب أن نشير لمسألة هامة ، كان ياسين بو علي قد طرحها في كتابه " الثالوث المحرم ". إنها مسألة التكفير التي يتعرض لها كل من يحاول الخوض في مواضيع الجنس والدين والصراع الطبقي .
على أن أهم ما يميز مجتمعاتنا العربية هو الكبت على كافة المستويات ، الكبت السياسي والذي يتمثل في عدم الجرأة على نقد الأنظمة المتسلطة ، ثم الكبث " الديني ويتجلى أساسا في عدم القدرة على التشكيك في الأمور اللاهوتية وأخيرا الكبث السياسي والذي يتجلى أساسا في تحريم الخوض في أمور الجنس والعلاقات الغرامية مما يعني أننا لا نزال نتخبط في براثن العصور الوسطى . فإذا كانت العقلية القروسيطة تسلم بالجاهز وترفض البحث عن الحقيقة ، وبعبارة أخرى إذا كانت الأنوار تعني التخلص حسب كنط من كل رقابة أو وساطة ، فإن هذه الوساطة لا تزال تفرض نفسها علينا وبقوة . لاسيما في الأمور الدينية والتي يعتبر الخوض فيها كفرا أو زندقة . ولن أتحدث عن الويلات التي يعاني منها المفكرون الأحرار في عالمنا العربي ، فهناك الكثير من النماذج مثل طه حسين ونجيب محفوظ وسلمان رشدي وهادي علوي وحسن حنفي.
إن التخلص من عقلية القرون الوسطى يعني أساسا عند صادق الاعتراف بالنوازع الفردية ، وإشباعها بكيفية ملائمة مما يعني انتصارا لشريعة الاشتداد على شريعة الإمتداد الكلاسيكية والتي تسلطت على رغبات الفرد زمنا طويلا .
يضيف المؤلف أن أهم ما ميز العصور الوسطى هو احتقار الجسد، على اعتبار أنه مصدر الرذيلة ، والحق أن هذا هو ما نجده في الأساطير الشرقية القديمة . حيث نجد أن معظم مشاكل الإنسان ومعاناته في هذا العالم ، إنما ترجع لاتباعه شهوات الجسد . لذلك يعتبر صادق جلال العظم أن التنوير في عالمنا العربي لا يمكن أن يكون إلا ثمرة لتقويض هذه العقلية التي تتسلط على رغبات الإنسان .
على هذا، قلنا مرارا وتكرارا ، أننا في عالمنا العربي أقرب إلى عصر سبينوزا منه إلى عصر نيتشه أو دولوز . لأن المعركة في مجتمعنا إنما هي بين النور الذي يمثله المفكرون الأحرار وبين الظلام الذي يمثله " حماة التقليد " والذين يعتبر شغلهم الشاغل الحفاظ على "علاقات الإنتاج" القائمة على الاستغلال والخضوع . "فحماة التقليد" إلى جانب الأنظمة المستبدة في عالمنا العربي، من المشرق إلى المغرب، يشكلون شرطة الفكر التي تتحول إلى وحوش سفاحة ما أن تعلم بوجود نظرية من شأنها نسف تصديقها الساذج . وقد تأكد هذا الأمر بصدور " نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم " و"في الشعر الجاهلي لطه حسين " و" الإسلام وأصول الحكم لعي عبد الرازق " ثم " أولاد حارتنا لنجيب محفوظ" .
لسنا في حاجة إلى " كلاب حراسة" بلغة بيير بورديو ، بل إلى مثقفين عضويين يكون همهم تحرير مجتعمنا العربي والدفع به نحو التقدم والازدهار ، حتى نثبت للغرب أننا قادرون على حل مشاكلنا . وأن المسألة تتوقف على مثقفينا الذين لطالما تحملوا المسؤولية وسوف يتحملونها من أجل جيل ينعم بالحرية والعدالة الاجتماعية ، من أجل مجتمع المساواة الحقيقية القائمة على استقلال الفرد وليس على التبعية . يجب على المثقف الحقيقي التمرد على " الرسمي " أولم يقل نيتشه إن الفيلسوف الحقيقي هو ذلك الذي يسير على حافة المجتمع؟ . إذن فلماذا هذا البرج العاجي الذي يتأمل منه مفكرونا ، أين نحن من وفوكو ودريدا؟ ، بل وأين نحن من سارتر الذي كان ينزل مع الطلاب إلى الشارع؟ . بالفعل هذا هو المثقف الذي ينبغي أن نتخذه أسوة لنا .
لسنا في حاجة إلى مفكرين انتهازيين ، عوض أن يطرحوا السؤال المسؤول ، تجدهم يلفون "بلغة لينين" كما يلف الهر على الطبق ، لا يطرحون المشكل بطريقة واضحة ، لأنهم يفتقرون إلى الجرأة ، بل تراهم يلجأون إلى مجموعة من السفسطات بغية التستر على الحقيقة ، الحقيقة التي ستنكشف لا محالة بفعل تطور المنهاج النقدية الحديثة خاصة النقد التاريخي .
وفي الأخير مهما طال الليل لابد من طلوع الفجر ، ومهما طغى الاستبداد ، لابد من نسيم الحرية . آنذاك سوف ينصف التاريخ المفكرين الحقيقيين ، من أمثال صادق جلال العظم ، وسلمان رشدي ، ونجيب محفوظ وعلي عبد الرازق ، وسوف نذكرهم مثلما تذكر أوربا سبينوزا وروسو وفولتير وماركس ....


ملحوظة هامة : كان بإمكاني أن أعتمد في مقالي هذا على مجموعة من الكتب الأخرى لصادق جلال العظم ، مثل " ذهنية التحريم " و " ما بعد ذهنية التحريم " إلا أن الوقت لم يستعفني ، ثم إن الإعتماد على هذه الكتب سيضطرني إلى الكشف عن ما بينها من تقاطعات ، وخيوط ناظمة مما يعني تحول عملي هذا إلا كتاب . ولكن رغبة مني في أن أكون واضحا جليا مع القارئ كما قال أستاذي طه حسن . قررت الاختصار قدر المستطاع ، علما أنني لم أعطي الموضوع حق قدره .


المصادر والمراجع :

صادق جلال العظم ، في الحب والحب العذري ، دار المدى للطباعة والنشر ، الطبعة الخامسة2002 .

Jean jacques rousseau , discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes une édition électroniques .

بوعلي ياسين ، الثالوث المحرم ، دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي ، الطبعة الثانية ، دار الطليعة ، بيروت ( بدون طبعة ) .




.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...