نقوس المهدي
كاتب
أنتج الفنانون المنضوون تحت لواء الحركة السوريالية أعمالاً فنية ذات طبيعة خاصة، تعبّر، في مجملها، عن سير عمل "الفكر الحقيقي" في غياب أي مراقبة يمارسها العقل، وخارج أي اهتمام جمالي، أو أخلاقي. انطلاقاً من هذا المفهوم، يصبح هدف الفن، لدى السورياليين، ليس إرضاء العين، بل تقديم خطوة جديدة في مجال المعرفة المجرّدة.
كان اندره بروتون صاحب "البيان الأول" للحركة السوريالية، في 15 تشرين الأول 1924، والعبارة الواردة أعلاه عن عمل "الفكر الحقيقي"، تلخص أهداف هذه الحركة. وجد بروتون ان في استطاعة الصور الكامنة في الوعي الباطني subconscient، إذا ما تحررت من طريق الأحلام والتحليل النفسي، أن تُستخدم لأغراض شعرية وفنية، ومن ضمن هذه الأغراض موضوع الليبيدو، الذي كان دائماً دقيقاً ومثيراً للجدال. صحيح أن السوريالية لم تعمّر طويلاً، إلا أن مثل هذه الحركة، أو الحالة الذهنية الهادفة الى تحرير المخيلة من روابط العقل والاصلاح، كانت وُجدت قبل السوريالية، وحافظت على استمرارها، ليس فقط في أعمال بعض ممثليها، بل في نتاج العديد من الفنانين المعاصرين. أما كلمة "سوريالية"، فصار استعمالها تقليداً يُحتذى لا في مجال الأدب والشعر والفن فحسب، بل في ميادين مختلفة، من أجل وصف أوضاع خارجة عن نطاق المنطق الواقعي.
بين فرويد وماسّون
أتت العقود الأولى من القرن العشرين بأفكار ونظريات حاولت أن تفسّر، من وجهة نظر علمية، بعض المسائل المتعلقة بميكانيزم الحياة الجنسية، وما يتصل بها من تفاصيل وتعقيدات، كان الحديث عنها يلفّه الغموض، لتصنيف الموضوع ضمن لائحة التابوات، الكثيرة، المفروضة من مجتمع لم يتخلَّ بعد عن لهجته المحافظة. رسمت أفكار فرويد ونظرياته، ومن بعده كارل يونغ، خطاً مختلفاً، ثورياً، في نظرتها الى الخلل الذي يمكن أن يصيب الحياة الجنسية وممارساتها، مستعينين في بعض الأحيان بالمبادئ الميثولوجية المرتبطة بإيروس وتاتانوس، اللذين يملكان القدرة على فتح باب اللذة، أو غلقه.
استخدم فرويد اسلوب التحليل النفسي في علاج مرضاه، وكان ابتكاره هذا من أهم المفاصل التي كوّنت نظريته، آخذاً في الاعتبار الذكريات المنسية، المتكدسة في جعبة اللاوعي، والمتجسدة أحلاماً وجد الأقدمون صعوبة في تفسير تشابكاتها الغامضة. "الحلم هو التجسيد الرمزي لرغبة مكبوتة"، قال فرويد، لكن بعض أفكاره تعرضت لانتقادات كثيرة، إذ اعتبر البعض ان فهمه لجغرافيا الروح البشرية غير كاف، وربما شكلت هذه التهمة سبباً لابتعاد يونغ عنه. بيد أن هذه الانتقادات لم تمنع الحركة السوريالية من تبنّي العلم الجديد الذي صنعه فرويد، والسير بالفن نحو آفاق جديدة. من هنا كان إصرار أندره ماسّون، أحد روّاد الفكر السوريالي، على التصريح، من دون مراوغة، بـ"أن ما سيبقى من السوريالية هي الإيروتيكية"، وهو الذي ترجم لوحة كوربيه الشهيرة، origine du monde، المنفذة عام 1866، التي تتجمهر حولها الخليقة، بخفر وحياء، في متحف أورسي الباريسي.
هذه اللوحة، ذات الحجم الصغير، التي قد تعجب البعض، وينفر منها البعض الآخر، كان اقتناها جاك لاكان، أحد هواة جمع الأعمال الفنية. وبسبب طابعها الإيروتيكي المباشر، طلب صاحبها من ماسّون إيجاد طريقة لتمويه اللوحة من دون إيذائها: "أود تغطية هذا العمل الذي لا قدرة لي على مشاهدته. إنه أشبه بنبيذ مسكر، يشكل إهانة لأوراق العنب". نفّذ ماسون رسماً على لوح خشبي بمقاس اللوحة، يمكن وضعه فوقها على شكل جرّار قابل للفتح عندما يود لاكان عرضها، انتقائياً، على بعض زوّاره من كبّار الكتاب والفنانين، أو سواهم. سمّى ماسّون العمل الذي نفذه على اللوح الخشبي Terre érotique، وقال انه أراد من ورائه "أن تعود الأرض أماً، والأم تصبح أرضاً"، أي بعكس الأدوار، لتكون النتيجة ولادة عالم "جنساني"، تتلاصق فيه الرمزية مع الإيروتيكية في وحدة غير قابلة للتفكك.
دالي على خشبة المسرح
قلنا إن السورياليين، وخصوصاً جماعة "أدب" (على اسم المجلة التي شارك في تأسيسها بروتون وفيليب سوبو)، اهتمت في بداياتها بالتحليل النفسي وعلم النفس الفرويدي. كان هذا العلم أثار انتباه بروتون منذ خدمته ممرضاً، خلال الحرب العالمية الاولى، في مستوصف نفساني. لكن سلفادور دالي، الذي "تسلل الى الحركة السوريالية" عام 1929، بحسب تعبير بروتون، اختار وسائل تعبيرية كان همّها الاساسي بعث الصورة الحلمية، التي تحدث عنها فرويد، عبر لجوئه الى ما سمّاه "النشاط الهذياني – النقدي"، لاعتباره ان الهذيانية حالة اضطراب عقلي تتجلى في إيهامات وهلوسات مزمنة، كهذيان العظمة والاضطهاد أو الخصاء (هذا الأخير كما الهلوسة من اختصاص دالي). استعمل الفنان الكاتالاني هذه القوة الهذيانية، مفترضاً ان الدخول في حالة كهذه لا يُعتبر هذياناً: "الفرق بيني وبين رجل مجنون انني لست مجنوناً".
هذا القول ليس بغريب على دالي، النرجسي بامتياز، وصاحب السلوك ذي الطابع المسرحي الذي ميّزه عن سواه من السورياليين. وفي حين تركزت أعمال شيريكو وماكس إرنست وماغريت على ظواهر شائعة في علم النفس، تطرّق دالي الى حالات مرضية يطغى عليها الشذوذ المتمثل في وساوس الخصاء والتفسخ والعجز الجنسي، مصحوبة بتشويهات مقصودة ومظاهر انحطاط تعكس اضطرابات مرضية. كأنه شاء، عبر إشارات كهذه، أن يعكس نتائج التحليل النفسي الفرويدي على كل ما يحيط به. من أجل ذلك استعمل أغراضاً تصعب معرفة كيفية وضعها، أو ترتيبها، كأنها ابتُكرت من أجل بعث شعور بعدم الاكتفاء، صالحة من أجل ممارسات مازوشية.
مقاربة الموضوع الإيروتيكي أكثر من واضحة في أعمال دالي، المتضمنة رموزاً وغموضاً مقصودين، وجملة من الاحاجي. في لوحة Le Grand Masturbateur 1929، يمزج الفنان، في شكل مبتكر، رأس زوجته وعشيقته الأبدية غالا، مع شخصية ذكورية ذات عضو جنسي في وضعية انتصاب رخو. عناصر اللوحة الأخرى كنبتة الـcalla تشير الى الاتصال الجنسي، يضاف الى ذلك نتوء صخري غريب، يبدو أن دالي كان استلهمه من البقعة المائية الواقعة في مركز "الجنة الأرضية" ضمن الجزء الأيسر من ثلاثية Le Jardin des délices، التي رسمها الفنان الهولندي جيروم بوش، صاحب الفانتازيا المدهشة، عام 1503. عناصر التأليف، التي جمعها بوش لتتشابه مع صخرة مقولبة أخذت شكل رأس، أظهرها دالي في هيئة أكثر تحديداً. كان دالي يستلهم تفاصيل عائدة الى فنانين آخرين، كي يكيّفها بحسب منظوره، كأن يوكل لامرأته، أو لشخصياته النسائية، دور الأنثى التي تقدّس العضو التناسلي الذكري. هذه التيمة استعادها دالي عام 1954 في لوحته الشهيرة Jeune vierge autosodomisée، الموجودة ضمن مجموعة الـplayboy، في لوس أنجليس. ويبدو ان طبيعة العمل، شبه الإباحية، تتناسب مع أذواق المجلة الشهيرة، التي نشرت صوراً لجميلات كثيرات، عاريات، من ضمنهن ممثلات وغير ممثلات، من ذوات الشهرة العالمية.
ديناميكا المخيلة
إذا كانت للإيروتيكا مكانة بارزة في الفن السوريالي، فإن السعي نحو تلبية الشعور الجنسي الفردي، في شكل لا ارادي، في العمل التشكيلي، هو نتيجة معرفة بقضايا التحليل النفسي التي شغلت السورياليين. ما كان يعتبر حالات مرضية ذات أساس إيروتيكي، تحوّل لدى السورياليين، أو لدى فئة كبيرة منهم، محوراً أساسياً في أعمالهم، كما رأينا عند دالي. لكن الفنان "المهرّج" (في المعنى الايجابي للكلمة) لم يكن وحيداً في اتباع هذا الخط، فبالتوازي معه، أو ما بعده، جعل كلٌّ من ماسّون وسيبستيانو متّى من مسألة الجنس عاملاً محركاً لديناميكا المخيّلة، بعدما وجد كلٌّ منهما أن "لحظة إندماج المتضادات كالوعي واللاوعي، الفكر والجسد، الذات والآخر، تصلح لديهما لتكوين "لحظة إبداع"، تتحرر خلالها المخيلة من قيودها.
كانت هذه الظاهرة شكّلت جزءاً من أعمال بعض السورياليين، في حين طغى تأثيرها على أعمال بعضهم الآخر. فمسألة الجنس بالنسبة الى بيليمير، على سبيل المثال، كانت مسوّغاً لعمله الفني ومنفّذاً لشخصيته. فالوله الجنسي يلفّ الأشكال التي ابتكرها، بحيث قال عنه فيلاند شميد: "ان التجربة الجنسية، بما فيها من مطلق، تصبح صمّام الحقيقة... فالفن هو ثورة موازية للجنس". هذا، في حين يصرّح هوفستاتر بأن "عمل بيليمير لا يستوجب أن يؤخذ عليه أنه لعب ذهني بعناصر إباحية، فرؤاه ولدت في الألم، وتبقى نفسها ألماً للمشاهد، وهذه الرؤى تثير مسألة إعادة تقويم ما يسمّى بالإباحية".
غرائبية الإيروتيكا وشاعريتها
في تناغم كامل مع المواقف التحليلية، المستندة الى نظريات فرويد وأتباعه، وجدت الشعرية السوريالية مبتغاها الأساسي وحججها، من أجل اتباع منظومة ايروتيكية صارت هاجساً لدى بعض الفنانين، أمثال دلفو وماغريت وماكس إرنست. فالأول عمل على حبك المحزن والمُغمّ مع ما هو جنساني، مصوّراً هياكل انسانية ثقيلة وشخصيات نسائية تشبه بعضها البعض على نحوٍ هوسي. في عمله Pygmalion، عكس الاسطورة الميثولوجية، التي كانت تناقلتها من قبله التقاليد الفنية. إذ خلافاً لعمل Gérome، المسمى Pygmalion et Galatée، المنفذ عام 1890، أصبح Pygmalion، لدى دلفو، عبارة عن تمثال تهيم به الأنثى، وتقولبه على مزاجها وبحسب رؤيتها، وكأن دلفو أراد القول إن الرجل يجب أن يتشكل بواسطة مفهوم نسائي خالد، أو عبره.
أما ماغريت، فترك صوراً حلمية، خارجة، عادة، على نطاق المعقول، اضافة الى طابعها الايحائي، الذي يشير الى هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الإيروتيكية. في عمله La Philosophie dans le boudoir 1947 استعار ماغريت العنوان في شكل متعمّد من تسمية كتاب الماركيز دو ساد، الصادر عام 1795، الذي هو عبارة عن مجموعة حوارات ترسم مبادئ التربية الجنسية لفتاة في الخامسة عشرة. وقد أراد، في لوحته، أن يشير الى القيمة الـfétichiste (أي تركيز الشهوة على شيء أو غرض معين)، للباس النسائي الذي يتماثل تماماً مع جنسانية الجسد، ليصبح المكان بذاته غرضاً للرغبة، علماً ان الـboudoir ليس سوى المقصورة الصغيرة التي ترتدي فيها المرأة ثيابها. لكن الصورة الحلمية لدى ماغريت، لا تكتسب أهمية ما لم يكن فيها شيء من الحقيقة، إذ لا تبحث أعماله في معظم الأحيان، عن إيحاءات يوفرها الحلم، بل تستقي هذه الإيحاءات من عالم الواقع.
يأخذ ماغريت الـcravate، على سبيل المثال، التي يمكن أن تمثل العضو الجنسي الذكري، بحسب التفسير الفرويدي، معتبراً ان رسم الفنان للـcravate بطريقة مثالية يعيد الشيء الى حقيقته. هكذا يصبح الحلم، بحسب ماغريت، صورة للواقع، بعد أن يتم اسقاطه في منطقة الوعي. هنا، يمكننا أن نشير الى ما قاله الكاتب الانكليزي إيفي كوتون – بيرنيت، الذي اعتبر "اننا حين نقول الأشياء، عندها فقط تتحول لتصبح حقيقة". أما الفنان، فيعي الأشياء حين يرسمها، من هنا نستنتج ان الفكرة تكون حقيقية حين يمكنها تمثيل الأشياء، بعد أن يتلقاها الوعي، لتضحي هذه الفكرة، كما اللوحة المستقاة منها، شيئاً ملموساً. على هذا الأساس تتطابق الـcravate مع الرمز الجنسي لدى ماغريت، وتصبح الصور images صوراً شخصية portraits لأفكار، وليست تشخيصاً تصويرياً لأشياء أو لأفراد.
في ما يخص ماكس إرنست، فإن عمله المسمّى La Toilette de l'épouse 1940، يمكن إعتباره كأحد الأعمال الأكثر إثارة للقلق والجدال، علاوة على الغرابة، كتقليد سوريالي يصعب الاستغناء عنه. العنصر الإيروتيكي هنا يبدو "مشوّهاً"، كأننا ننظر اليه عبر عين جيروم بوش (استلهم في بداية القرن السادس عشر، أجواء الهرطقة والتصوف في أعماله، التي ينظر اليها البعض كأول أعمال ذات طابع سوريالي في تاريخ الفن التصويري). استلهم ماكس إرنست، بدوره أعمال بوش ليضعها ضمن إطار جديد ومحدث. في لوحة إرنست المذكورة، ثمة قطّ غريب يغلب عليه الاحمرار، تظهر من فتحة في فروته عين انسانية عائدة الى الرأس ذي الحجم الكبير، قياساً الى الجسد الأنثوي الحامل له، أو الواقع تحته. هذا، اضافة الى عارية أخرى غريبة الأطوار والمظهر، ومخلوقات مشوّهة من حيث تركيبها الفيزيولوجي. هذه العناصر جميعها تحتويها لوحة "تواليت الزوجة"، التي تُشتمّ منها رائحة الكابوس أكثر من طيفية الحلم. ما الذي يقصده إرنست من وراء هذا العمل عدا الإيحاءات الجنسية؟ يصعب التكهن. هذه الحيرة التي قد تصيبنا، ليست سوى انعكاس لتقليد من تقاليد السوريالية: الغرابة، وما يتحدر منها من أحجية، تُترك مهمة تفكيكها للمشاهد – المتلقّي المذهول.
بالتوس، الفنان "الخجول"، الذي كان يتجنب الظهور في وسائل الإعلام، مما خلق حوله هالة من الألغاز، استعاد تيمة كان عالجها كلٌّ من فان هونتورست وبرناردو ستروتسي وجيوفاني لانفرانكو في القرن السابع عشر. في عمله المعنون La leçon de guitare، المنفذ عام 1934، تتمثل العلاقة الجنسية في مظهر موسيقي، لأن القيثارة، كآلة موسيقة ذات دور أساسي في المشهد، هي إحدى الاستعارات المجازية للعضو الجنسي الأنثوي، في حين أن تعبير "اللعب على القيثارة"، في اللغة العامية، يتم تداوله على اساس انه يشير الى الاستمناء الأنثوي. أما تلك المرأة التي تدرّس هذا الفن فهي، في لوحة بالتوس، تمسك تلميذتها الشابة كما يمكن أن تفعل بالآلة المرمية على الأرض، لكونها صارت بلا فائدة. على هذا النحو يمكن فهم العمل الذي نحن في صدده.
أما بيكاسو، فخاض في المسألة الإيروتيكية بحسب الطريقة التي تتناسب مع اسلوبه الخاص، المتبدل، كما هو معروف. وإذا كانت أعماله الأولى اتخذت طابعاً تمثيلياً، فهذا الأمر ينطبق على عمله المنجز عام 1906 المسمى La Toilette، الذي قال عنه ماير شابيرو: "استحضر بيكاسو الفن حين رسم مرآة تمثل قماشة و palette، والشخصية التي تحمل المرآة هي الفنان نفسه. لكن تعامل بيكاسو مع الموضوع الجنسي تبدل عام 1932، ليتخذ منحى سوريالياً، إذ عمد الى تحريف الشكل الروائي لأسطورة الـMinotaure، ليستخلص منها أحاسيس وانفعالات أكثر حدة ("المينوتور"، في الميثولوجيا الإغريقية، وحش اسطوري له جسم رجل ورأس ثور). في احدى المراحل، أفرد بيكاسو حيزاً لا بأس به من اهتمامه بهذا الموضوع، عبر تنفيذه رسوماً بالحبر الصيني، أو محفورات تمثل العلاقة بين المرأة والثور، عبر مظاهر ايروتيكية امتزجت بالعنف الجنسي الأقرب الى السادية. هذا، في حين ارتبطت الاسطورة، في منحاها الكلاسيكي التقليدي، بالرعب الذي يصيب البشر، المتوجسين من أن يفترسهم الوحش الخرافي، هذا إذا لم يفترسهم بالفعل، كما تقول الرواية.
31 آب 2013
جريدة النهار
.
كان اندره بروتون صاحب "البيان الأول" للحركة السوريالية، في 15 تشرين الأول 1924، والعبارة الواردة أعلاه عن عمل "الفكر الحقيقي"، تلخص أهداف هذه الحركة. وجد بروتون ان في استطاعة الصور الكامنة في الوعي الباطني subconscient، إذا ما تحررت من طريق الأحلام والتحليل النفسي، أن تُستخدم لأغراض شعرية وفنية، ومن ضمن هذه الأغراض موضوع الليبيدو، الذي كان دائماً دقيقاً ومثيراً للجدال. صحيح أن السوريالية لم تعمّر طويلاً، إلا أن مثل هذه الحركة، أو الحالة الذهنية الهادفة الى تحرير المخيلة من روابط العقل والاصلاح، كانت وُجدت قبل السوريالية، وحافظت على استمرارها، ليس فقط في أعمال بعض ممثليها، بل في نتاج العديد من الفنانين المعاصرين. أما كلمة "سوريالية"، فصار استعمالها تقليداً يُحتذى لا في مجال الأدب والشعر والفن فحسب، بل في ميادين مختلفة، من أجل وصف أوضاع خارجة عن نطاق المنطق الواقعي.
بين فرويد وماسّون
أتت العقود الأولى من القرن العشرين بأفكار ونظريات حاولت أن تفسّر، من وجهة نظر علمية، بعض المسائل المتعلقة بميكانيزم الحياة الجنسية، وما يتصل بها من تفاصيل وتعقيدات، كان الحديث عنها يلفّه الغموض، لتصنيف الموضوع ضمن لائحة التابوات، الكثيرة، المفروضة من مجتمع لم يتخلَّ بعد عن لهجته المحافظة. رسمت أفكار فرويد ونظرياته، ومن بعده كارل يونغ، خطاً مختلفاً، ثورياً، في نظرتها الى الخلل الذي يمكن أن يصيب الحياة الجنسية وممارساتها، مستعينين في بعض الأحيان بالمبادئ الميثولوجية المرتبطة بإيروس وتاتانوس، اللذين يملكان القدرة على فتح باب اللذة، أو غلقه.
استخدم فرويد اسلوب التحليل النفسي في علاج مرضاه، وكان ابتكاره هذا من أهم المفاصل التي كوّنت نظريته، آخذاً في الاعتبار الذكريات المنسية، المتكدسة في جعبة اللاوعي، والمتجسدة أحلاماً وجد الأقدمون صعوبة في تفسير تشابكاتها الغامضة. "الحلم هو التجسيد الرمزي لرغبة مكبوتة"، قال فرويد، لكن بعض أفكاره تعرضت لانتقادات كثيرة، إذ اعتبر البعض ان فهمه لجغرافيا الروح البشرية غير كاف، وربما شكلت هذه التهمة سبباً لابتعاد يونغ عنه. بيد أن هذه الانتقادات لم تمنع الحركة السوريالية من تبنّي العلم الجديد الذي صنعه فرويد، والسير بالفن نحو آفاق جديدة. من هنا كان إصرار أندره ماسّون، أحد روّاد الفكر السوريالي، على التصريح، من دون مراوغة، بـ"أن ما سيبقى من السوريالية هي الإيروتيكية"، وهو الذي ترجم لوحة كوربيه الشهيرة، origine du monde، المنفذة عام 1866، التي تتجمهر حولها الخليقة، بخفر وحياء، في متحف أورسي الباريسي.
هذه اللوحة، ذات الحجم الصغير، التي قد تعجب البعض، وينفر منها البعض الآخر، كان اقتناها جاك لاكان، أحد هواة جمع الأعمال الفنية. وبسبب طابعها الإيروتيكي المباشر، طلب صاحبها من ماسّون إيجاد طريقة لتمويه اللوحة من دون إيذائها: "أود تغطية هذا العمل الذي لا قدرة لي على مشاهدته. إنه أشبه بنبيذ مسكر، يشكل إهانة لأوراق العنب". نفّذ ماسون رسماً على لوح خشبي بمقاس اللوحة، يمكن وضعه فوقها على شكل جرّار قابل للفتح عندما يود لاكان عرضها، انتقائياً، على بعض زوّاره من كبّار الكتاب والفنانين، أو سواهم. سمّى ماسّون العمل الذي نفذه على اللوح الخشبي Terre érotique، وقال انه أراد من ورائه "أن تعود الأرض أماً، والأم تصبح أرضاً"، أي بعكس الأدوار، لتكون النتيجة ولادة عالم "جنساني"، تتلاصق فيه الرمزية مع الإيروتيكية في وحدة غير قابلة للتفكك.
دالي على خشبة المسرح
قلنا إن السورياليين، وخصوصاً جماعة "أدب" (على اسم المجلة التي شارك في تأسيسها بروتون وفيليب سوبو)، اهتمت في بداياتها بالتحليل النفسي وعلم النفس الفرويدي. كان هذا العلم أثار انتباه بروتون منذ خدمته ممرضاً، خلال الحرب العالمية الاولى، في مستوصف نفساني. لكن سلفادور دالي، الذي "تسلل الى الحركة السوريالية" عام 1929، بحسب تعبير بروتون، اختار وسائل تعبيرية كان همّها الاساسي بعث الصورة الحلمية، التي تحدث عنها فرويد، عبر لجوئه الى ما سمّاه "النشاط الهذياني – النقدي"، لاعتباره ان الهذيانية حالة اضطراب عقلي تتجلى في إيهامات وهلوسات مزمنة، كهذيان العظمة والاضطهاد أو الخصاء (هذا الأخير كما الهلوسة من اختصاص دالي). استعمل الفنان الكاتالاني هذه القوة الهذيانية، مفترضاً ان الدخول في حالة كهذه لا يُعتبر هذياناً: "الفرق بيني وبين رجل مجنون انني لست مجنوناً".
هذا القول ليس بغريب على دالي، النرجسي بامتياز، وصاحب السلوك ذي الطابع المسرحي الذي ميّزه عن سواه من السورياليين. وفي حين تركزت أعمال شيريكو وماكس إرنست وماغريت على ظواهر شائعة في علم النفس، تطرّق دالي الى حالات مرضية يطغى عليها الشذوذ المتمثل في وساوس الخصاء والتفسخ والعجز الجنسي، مصحوبة بتشويهات مقصودة ومظاهر انحطاط تعكس اضطرابات مرضية. كأنه شاء، عبر إشارات كهذه، أن يعكس نتائج التحليل النفسي الفرويدي على كل ما يحيط به. من أجل ذلك استعمل أغراضاً تصعب معرفة كيفية وضعها، أو ترتيبها، كأنها ابتُكرت من أجل بعث شعور بعدم الاكتفاء، صالحة من أجل ممارسات مازوشية.
مقاربة الموضوع الإيروتيكي أكثر من واضحة في أعمال دالي، المتضمنة رموزاً وغموضاً مقصودين، وجملة من الاحاجي. في لوحة Le Grand Masturbateur 1929، يمزج الفنان، في شكل مبتكر، رأس زوجته وعشيقته الأبدية غالا، مع شخصية ذكورية ذات عضو جنسي في وضعية انتصاب رخو. عناصر اللوحة الأخرى كنبتة الـcalla تشير الى الاتصال الجنسي، يضاف الى ذلك نتوء صخري غريب، يبدو أن دالي كان استلهمه من البقعة المائية الواقعة في مركز "الجنة الأرضية" ضمن الجزء الأيسر من ثلاثية Le Jardin des délices، التي رسمها الفنان الهولندي جيروم بوش، صاحب الفانتازيا المدهشة، عام 1503. عناصر التأليف، التي جمعها بوش لتتشابه مع صخرة مقولبة أخذت شكل رأس، أظهرها دالي في هيئة أكثر تحديداً. كان دالي يستلهم تفاصيل عائدة الى فنانين آخرين، كي يكيّفها بحسب منظوره، كأن يوكل لامرأته، أو لشخصياته النسائية، دور الأنثى التي تقدّس العضو التناسلي الذكري. هذه التيمة استعادها دالي عام 1954 في لوحته الشهيرة Jeune vierge autosodomisée، الموجودة ضمن مجموعة الـplayboy، في لوس أنجليس. ويبدو ان طبيعة العمل، شبه الإباحية، تتناسب مع أذواق المجلة الشهيرة، التي نشرت صوراً لجميلات كثيرات، عاريات، من ضمنهن ممثلات وغير ممثلات، من ذوات الشهرة العالمية.
ديناميكا المخيلة
إذا كانت للإيروتيكا مكانة بارزة في الفن السوريالي، فإن السعي نحو تلبية الشعور الجنسي الفردي، في شكل لا ارادي، في العمل التشكيلي، هو نتيجة معرفة بقضايا التحليل النفسي التي شغلت السورياليين. ما كان يعتبر حالات مرضية ذات أساس إيروتيكي، تحوّل لدى السورياليين، أو لدى فئة كبيرة منهم، محوراً أساسياً في أعمالهم، كما رأينا عند دالي. لكن الفنان "المهرّج" (في المعنى الايجابي للكلمة) لم يكن وحيداً في اتباع هذا الخط، فبالتوازي معه، أو ما بعده، جعل كلٌّ من ماسّون وسيبستيانو متّى من مسألة الجنس عاملاً محركاً لديناميكا المخيّلة، بعدما وجد كلٌّ منهما أن "لحظة إندماج المتضادات كالوعي واللاوعي، الفكر والجسد، الذات والآخر، تصلح لديهما لتكوين "لحظة إبداع"، تتحرر خلالها المخيلة من قيودها.
كانت هذه الظاهرة شكّلت جزءاً من أعمال بعض السورياليين، في حين طغى تأثيرها على أعمال بعضهم الآخر. فمسألة الجنس بالنسبة الى بيليمير، على سبيل المثال، كانت مسوّغاً لعمله الفني ومنفّذاً لشخصيته. فالوله الجنسي يلفّ الأشكال التي ابتكرها، بحيث قال عنه فيلاند شميد: "ان التجربة الجنسية، بما فيها من مطلق، تصبح صمّام الحقيقة... فالفن هو ثورة موازية للجنس". هذا، في حين يصرّح هوفستاتر بأن "عمل بيليمير لا يستوجب أن يؤخذ عليه أنه لعب ذهني بعناصر إباحية، فرؤاه ولدت في الألم، وتبقى نفسها ألماً للمشاهد، وهذه الرؤى تثير مسألة إعادة تقويم ما يسمّى بالإباحية".
غرائبية الإيروتيكا وشاعريتها
في تناغم كامل مع المواقف التحليلية، المستندة الى نظريات فرويد وأتباعه، وجدت الشعرية السوريالية مبتغاها الأساسي وحججها، من أجل اتباع منظومة ايروتيكية صارت هاجساً لدى بعض الفنانين، أمثال دلفو وماغريت وماكس إرنست. فالأول عمل على حبك المحزن والمُغمّ مع ما هو جنساني، مصوّراً هياكل انسانية ثقيلة وشخصيات نسائية تشبه بعضها البعض على نحوٍ هوسي. في عمله Pygmalion، عكس الاسطورة الميثولوجية، التي كانت تناقلتها من قبله التقاليد الفنية. إذ خلافاً لعمل Gérome، المسمى Pygmalion et Galatée، المنفذ عام 1890، أصبح Pygmalion، لدى دلفو، عبارة عن تمثال تهيم به الأنثى، وتقولبه على مزاجها وبحسب رؤيتها، وكأن دلفو أراد القول إن الرجل يجب أن يتشكل بواسطة مفهوم نسائي خالد، أو عبره.
أما ماغريت، فترك صوراً حلمية، خارجة، عادة، على نطاق المعقول، اضافة الى طابعها الايحائي، الذي يشير الى هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الإيروتيكية. في عمله La Philosophie dans le boudoir 1947 استعار ماغريت العنوان في شكل متعمّد من تسمية كتاب الماركيز دو ساد، الصادر عام 1795، الذي هو عبارة عن مجموعة حوارات ترسم مبادئ التربية الجنسية لفتاة في الخامسة عشرة. وقد أراد، في لوحته، أن يشير الى القيمة الـfétichiste (أي تركيز الشهوة على شيء أو غرض معين)، للباس النسائي الذي يتماثل تماماً مع جنسانية الجسد، ليصبح المكان بذاته غرضاً للرغبة، علماً ان الـboudoir ليس سوى المقصورة الصغيرة التي ترتدي فيها المرأة ثيابها. لكن الصورة الحلمية لدى ماغريت، لا تكتسب أهمية ما لم يكن فيها شيء من الحقيقة، إذ لا تبحث أعماله في معظم الأحيان، عن إيحاءات يوفرها الحلم، بل تستقي هذه الإيحاءات من عالم الواقع.
يأخذ ماغريت الـcravate، على سبيل المثال، التي يمكن أن تمثل العضو الجنسي الذكري، بحسب التفسير الفرويدي، معتبراً ان رسم الفنان للـcravate بطريقة مثالية يعيد الشيء الى حقيقته. هكذا يصبح الحلم، بحسب ماغريت، صورة للواقع، بعد أن يتم اسقاطه في منطقة الوعي. هنا، يمكننا أن نشير الى ما قاله الكاتب الانكليزي إيفي كوتون – بيرنيت، الذي اعتبر "اننا حين نقول الأشياء، عندها فقط تتحول لتصبح حقيقة". أما الفنان، فيعي الأشياء حين يرسمها، من هنا نستنتج ان الفكرة تكون حقيقية حين يمكنها تمثيل الأشياء، بعد أن يتلقاها الوعي، لتضحي هذه الفكرة، كما اللوحة المستقاة منها، شيئاً ملموساً. على هذا الأساس تتطابق الـcravate مع الرمز الجنسي لدى ماغريت، وتصبح الصور images صوراً شخصية portraits لأفكار، وليست تشخيصاً تصويرياً لأشياء أو لأفراد.
في ما يخص ماكس إرنست، فإن عمله المسمّى La Toilette de l'épouse 1940، يمكن إعتباره كأحد الأعمال الأكثر إثارة للقلق والجدال، علاوة على الغرابة، كتقليد سوريالي يصعب الاستغناء عنه. العنصر الإيروتيكي هنا يبدو "مشوّهاً"، كأننا ننظر اليه عبر عين جيروم بوش (استلهم في بداية القرن السادس عشر، أجواء الهرطقة والتصوف في أعماله، التي ينظر اليها البعض كأول أعمال ذات طابع سوريالي في تاريخ الفن التصويري). استلهم ماكس إرنست، بدوره أعمال بوش ليضعها ضمن إطار جديد ومحدث. في لوحة إرنست المذكورة، ثمة قطّ غريب يغلب عليه الاحمرار، تظهر من فتحة في فروته عين انسانية عائدة الى الرأس ذي الحجم الكبير، قياساً الى الجسد الأنثوي الحامل له، أو الواقع تحته. هذا، اضافة الى عارية أخرى غريبة الأطوار والمظهر، ومخلوقات مشوّهة من حيث تركيبها الفيزيولوجي. هذه العناصر جميعها تحتويها لوحة "تواليت الزوجة"، التي تُشتمّ منها رائحة الكابوس أكثر من طيفية الحلم. ما الذي يقصده إرنست من وراء هذا العمل عدا الإيحاءات الجنسية؟ يصعب التكهن. هذه الحيرة التي قد تصيبنا، ليست سوى انعكاس لتقليد من تقاليد السوريالية: الغرابة، وما يتحدر منها من أحجية، تُترك مهمة تفكيكها للمشاهد – المتلقّي المذهول.
بالتوس، الفنان "الخجول"، الذي كان يتجنب الظهور في وسائل الإعلام، مما خلق حوله هالة من الألغاز، استعاد تيمة كان عالجها كلٌّ من فان هونتورست وبرناردو ستروتسي وجيوفاني لانفرانكو في القرن السابع عشر. في عمله المعنون La leçon de guitare، المنفذ عام 1934، تتمثل العلاقة الجنسية في مظهر موسيقي، لأن القيثارة، كآلة موسيقة ذات دور أساسي في المشهد، هي إحدى الاستعارات المجازية للعضو الجنسي الأنثوي، في حين أن تعبير "اللعب على القيثارة"، في اللغة العامية، يتم تداوله على اساس انه يشير الى الاستمناء الأنثوي. أما تلك المرأة التي تدرّس هذا الفن فهي، في لوحة بالتوس، تمسك تلميذتها الشابة كما يمكن أن تفعل بالآلة المرمية على الأرض، لكونها صارت بلا فائدة. على هذا النحو يمكن فهم العمل الذي نحن في صدده.
أما بيكاسو، فخاض في المسألة الإيروتيكية بحسب الطريقة التي تتناسب مع اسلوبه الخاص، المتبدل، كما هو معروف. وإذا كانت أعماله الأولى اتخذت طابعاً تمثيلياً، فهذا الأمر ينطبق على عمله المنجز عام 1906 المسمى La Toilette، الذي قال عنه ماير شابيرو: "استحضر بيكاسو الفن حين رسم مرآة تمثل قماشة و palette، والشخصية التي تحمل المرآة هي الفنان نفسه. لكن تعامل بيكاسو مع الموضوع الجنسي تبدل عام 1932، ليتخذ منحى سوريالياً، إذ عمد الى تحريف الشكل الروائي لأسطورة الـMinotaure، ليستخلص منها أحاسيس وانفعالات أكثر حدة ("المينوتور"، في الميثولوجيا الإغريقية، وحش اسطوري له جسم رجل ورأس ثور). في احدى المراحل، أفرد بيكاسو حيزاً لا بأس به من اهتمامه بهذا الموضوع، عبر تنفيذه رسوماً بالحبر الصيني، أو محفورات تمثل العلاقة بين المرأة والثور، عبر مظاهر ايروتيكية امتزجت بالعنف الجنسي الأقرب الى السادية. هذا، في حين ارتبطت الاسطورة، في منحاها الكلاسيكي التقليدي، بالرعب الذي يصيب البشر، المتوجسين من أن يفترسهم الوحش الخرافي، هذا إذا لم يفترسهم بالفعل، كما تقول الرواية.
31 آب 2013
جريدة النهار
.