نقوس المهدي
كاتب
مارس ابن عربي أقصى مهارته في لعبة الإغماض بصدد "معصية" ملتبسة بحق امرأة "قام" بها في فاس، امرأة لم يشأ أن يسميها ولا أن يصف مضمون معصيته إزاءها: هل هي فقط معصية "مد العينين إلى زوجة الغير"، أم هي تسريح النظر إليها في صورة إعمال للفكر فيها للغوص في ذاتها وتقليب أوجه وجودها؟ هل كان "مد العينين" مجرد رمق خاطف للمرأة الممنوعة، أم هو توغل فيها للغوص في حقيقتها، أم أن الأمر، بالأحرى، يتجاوز معصية الرؤية إلى ما عداها؟ وبارتباط مع تمييزه بين الرؤيتين: الحسية الحيوانية، والعقلية الروحية لأزواج الغير، نتساءل هل يتعلق الأمر فقط بمنع الرؤية الأولى وإباحة الثانية، أم بمنع ما بعد الرؤية، أي باستخراج لا شعور الإنسان إلى ضوء الوعي. هذا علاوة على أننا لا نستطيع أن نجزم فيما إذا كانت معصية "مد العينين" إلى الممنوعات من نساء الغير قد تمت فعلا في عالم الدنيا، في فاس الواقعية، أم في فاس البرزخية، فاس الأخرى.
نشير إلى أن الكلام عن مقام "الرؤية الممنوعة" ورد في سياق النظر في منزلة القطب الذي مدار هذا النوع من "الرؤية- المعصية"، الذي كان رائده الآية القرآنية التي وردت بدايتها متطابقة في سورتين : ﴿ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا، منهم زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه، ورزق ربِّك خيرٌ وأبقى﴾ (طه 130)[1].
لم يلتزم ابن عربي بسياق النص، وإنما اكتفى باستلهامه ليقوم بتنظير وتعميم مسألة "الرؤية الممنوعة" لما في مسئولية الآخر لتصبح مسألة رؤية المرأة بصفة عامة. وقد اغتنم فرصة الكلام عن هذا المقام للاعتراف بأنه هو نفسه ذاق هذه التجربة-المعصية، وكأنه يلمح بذلك أن له شيئا من القطبية، مما يطرح مسألة إعادة تعريف القطب. ومنذ البداية يطرح موضوعه هذا في جو من التقابل بين مَن يتعامل مع "المرأة -الزهرة" من حيث هو موضوع للمتعة، ومَن يتعامل معها من حيث هي ذات تتمتع بأبعاد روحية وعقلية متعدد.
ومهما بلغت درجة غموض وسلبية هذه التجربة، فإنها ترتفع إلى درجة المقام، مقام "المعصية المحمودة" لدى أهل الشهود، المذمومة لدى العموم. وفي سبيل مزيد من التمويه على طبيعة هذه المسألة، عمد الشيخ الأكبر على تغليف هذه "المعصية-اللا معصية" بجملة من المبادئ "المقنعة" من الزاوية الدينية والصوفية. (1) من بين هذه المبادئ الحكم الشرعي الذي يورده شعراً في الفتوحات المكية، وهو تعدد الزوجات، أي الحق في تعدد الرؤية للمرأة، وذلك بالاستناد إلى مبدأ إلى علاقة الكل بالجزء:
كل شخص زوجه من نفسه ولهذا زوجه من جنسه
فهو كل وهي جـزء، فـلذا كثرت أزواجه من نفسه (الفتوحات المكية، 4: 124)
(2) يضيف إلى هذا المبدأ الشرعي، الذي ألبسه حلة ميتافيزيقية، مبدأ ثانيا يتصل بقدرة » "أهل الشهود" على مشاهدة المقدور قبل وقوعه في الوجود « (نفسه، 4: 125). وتسمح هذه القدرة لهؤلاء المختارين من الناس أن يفعلوا "المقدور" الممنوع لا عن غفلة أو تأويل كما هو الحال بالنسبة لعموم الناس، ولكن عن بصيرة وحضور. (3) ويشير ابن عربي إلى سمة أخرى لمعصية "مد النظر"، وهي جمعها بين » حب الطبع وكراهة الإيمان «(4: 125)، لأن الطبع يميل تلقائيا إلى فعل المعصية، بينما الإيمان يميل إلى كراهيتها، فينتصر ابن عربي لحب الطبع ضمنا لا تصريحا ما دام يسمح به لقطب "مد العينين" ؛ (4) ويستنبط ابن عربي مبدأ رابعا من قصة الخضر مع النبي موسى بشأن قتل النفس، ينص على عدم قابلية الحق للتحديد عندما يتعلق الأمر بمستويين متقابلين للنظر إلى نفس الفعل الشرير، النظر العقلي الأخلاقي والنظر العرفاني الذي يوجد فوق الخير والشر؛ وهذا معناه أن الحق يمكن أن يكون في جانب المتصارعين حوله معا، ولكن من جهتين مختلفتين. وهذا ما يبرر اختلاف حكم المعصية بين المؤمن العادي و"صاحب الشاهد"، فنفس العمل قد يكون معصية في حق الأول، وليس معصية في حق الثاني، » فكل واحد له وجه في الحق ومستند « (ن.ص.). إن إنكار وجود حق عام مشترك بين أهل الشهود وأهل الإيمان، ومن ثم الشك في تقسيم الأحكام العقلية إلى صواب وخطأ، يؤسس لحق "صاحب الأمر" أن "تمتد عينه" إلى غير حقه. كانت غاية إن ابن عربي إذن من غموضه الجميل بصدد هذه النازلة أن يبرئ ساحة أصحاب الشهود، حيث تتحول لديهم المعصية المذمومة (في نظر العموم)، إلى معصية محمودة، لأن لأهل الشهود محكاً للحق والخير "لا يستطيعه الآخرون". بهذا النحو تصبح معصية "مد العينين" إلى غير المباح، مقاما عرفانيا راقيا لم يذقه ابن عربي لحد وقته إلا في مدينة فاس.
***
وبالرغم من الطابع السلبي لهذه المناسبة، فقد استثمرها لينوّه من جديد بالنساء ويبرز ميزاتهن المتعددة ؛ فهنّ، بالإضافة إلى كونهن زهرة الحياة الدنيا، حيث يحصل بهنّ النعيم حيث كن، فقد اعتبرهنّ » فتنةً يستخرج الحق بهنّ ما خَفِي عنا فينا مما هو به عالم، ولا نعلمه من نفوسنا « (ن.ص.). وهذا ما أضفى على النساء سرّاً وجوديا وروحيا غامضا، بحكم ارتباطهن بثلاث أمور عزيزة على الإنسان: النعيم ، والفتنة، وبخفاء ذاتنا عنا أو » بما خفي عنا فينا « ؛ فيكون نعيمهن أداة لافتتان الرجل بهنّ إلى درجة تجعله ينفتح عن سره الخفي عنه أمام نفسه، فتصبح المرأة وكأنها كوجيتو الرجل (أنا أفتتن بالمرأة، فأنا موجود)، أو هي التي تُجلِّي سره من حيث هو ذات غير مرئية: فغير المرئي من الرجل لا يظهر إلا في مرآة المرأة. هكذا تكون المرأة سرّ الرجل، لا بمعنى الثقب الأسود الذي يبتلع سره، بل بمعنى الفتنة التي تضيء ذاته المحتجبة فيه.
ولا نستغرب من ذلك، لأن اللغة نفسها تشهد للمرأة بهذه القدرة على كشف السر: فالرؤية والمرآة والمرأة، وحتى الرؤيا، من أرومة واحدة. هكذا تمتزج في هذا المقام الرؤية بالرائي والمرئي وحتى مجال الرؤية، بسبب رجوع الرؤية إلى الذات، لذلك وصف ابن عربي "صاحب هذا الأمر" بأنه » يعلم كيفية إدراك الرائي المرئي، وما هي الرؤية، ولماذا ترجع « (ن. ص.). فإذا فهمنا من السر فهم الصوفية إياه، أي بوصفه كمالاً يمنحه الله للمختارين من عباده، فستكون المرأة أداة استخراج هذا الكمال من القوة إلى الفعل، أي أداة استكمال رجولية الرجل. وبهذا النحو من القراءة، تكون المرأة صورة للرجل، أي أن هذا الأخيرة مادة وقوة عدمية تشكلها الصورة "المرئية" كيفما شاءت وفي الاتجاه الذي شاءت، إنها هي التي تُخرِج كنزَه المخفي إلى الوجود[2].
العلاقة بين المرأة والرؤية إذن علاقة ذاتية، لكن لا الرؤية الحسية الحيوانية، بل الرؤية الروحية والعقلية. ففي نظر ابن عربي مَن ينظر إلى المرأة كامرأة وحسب، وليس كزهرة تعبق بالرائحة وتدل على الثمرة في أعماقها، لا يستحق نعت الإنسانية ؛ مَن ينظر إلى المرأة باعتبارها موضوع مُتعة حيوانية وحسب، لن يظفر بشرف الإنسانية، بل إنه جرّاء ذلك ينزل إلى درجة ما دون الحيوان، لأن هذا الأخير يميل ميلا طبيعيا إلى مَن ينتسب إلى فصله النوعي الذي يميزه عن غيره، بينما الذي لا ينظر إلى المرأة ككائن عقلي، وإنما كموضوع متعة فقط، هو كمَن يميل إليها باعتبارها لا تنتمي إلى فصله النوعي، أي الإنساني، فينالها » بحيوانيته، [لا] بروحه وعقله « (ن. ص.). هكذا تصبح إنسانية الرجل متناسبة مع طبيعة رؤيته للمرأة، فتصبح جهة رؤيته لها معيارا لانتمائه إلى مرتبة الإنسان، أو انحطاطه عنها. من أجل هذا، على الرجل أن لا تكون رؤيته "للمرأة-الزهرة" رؤية بسيطة غفلة، بل رؤية محيطة» بعلم المرئي في المرآة «، وهو "العلم" الذي يتقنه "صاحب هذا الذكر أو الهجير"[3]، وهو القطب الذي عليه مدار معصية "مد العينين"، أي الذي يستمد علمه من قوله تعالى ﴿لا تَمدّن عينيك﴾، هذا العلم الذي يمكّن صاحبه من أن» يعْلم كيفية إدراك الرائي المرئي، وما هي الرؤية، ولماذا ترجع «.
أما ربط المرأة بالرائحة، فهو تلميح إلى علاقتها بالنفَس الرحماني، الذي بسريانه في الأسماء والأعيان الثابتة، تتحول إلى موجودات طبيعية حية. فإذا نقلنا التمثيل إلى الإنسان، فإنه سيسمح لنا بالقول بأن نفَس المرأة وطيبها هو الذي يحوّل الرجل إلى إنسان. وأخيراً، فإن تشبيه المرأة بالثمرة الكامنة، إشارة إلى الماهية التي تنتظر مَن يصقلها، مَن يسوقها إلى الفعل. لم أقصد بذلك أن الرجل هو الذي يخرج ماهية المرأة إلى الفعل، بل قصدت بذلك أن المرأة هي السواقة للماهية المشتركة بينهما إلى الفعل، ماهية الإنسانية. فتكون المرأة بهذين الاعتبارين قد جمعت بين الوجود الثبوتي (الماهية)، والوجود الفعال (النّفَس الطيّب). هكذا تبدو المرأة موضوع التأويل وذاته في آن واحد ؛ فهي التي تفجر فعل التأويل في الرجل، مما يدل على أن وجود الإنسان هو تأويل في تأويل، رؤية في رؤية، أي ذلك التأويل وتلك الرؤية المضروبة في نفسها، وبالتالي المنتجة لآفاق دلالية لامتناهية.
***
ولا يمكن أن يجري الكلام عن المرأة دون الإشارة إلى التقلب، الذي يعود بأصله إلى القلب، جوهر علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الإنسان بالوجود. وبالفعل، كان السياق العام لهذه النازلة، نازلة "الرؤية المحرّمة،" هو الفصل السادس من الفتوحات المكية (الجزء 4 من طبعة بيروت)، الذي خصصه للكلام عن "هجيرات الأقطاب المحمديين ومقاماتهم". لقد خصص ابن عربي لكل قطب من هؤلاء الأقطاب مقاما محددا، من بين هذه المقامات مقام "الرؤية المحرّمة". لكن الأمر الجديد في كلامه عن هؤلاء الأقطاب، الذين يناظرون بعددهم عدد أبراج السماء الإثني عشر » الذين يكون عليهم مدار هذه الأمة! «، هو سعيه إلى تنويع معنى القطب أو القطبية لفتح الباب أمام كل واصل أن يذوق مقامها. وبالفعل، لم يعد معنى القطب منحصرا في المفرد الذي يكون عليه مدار الزمان الذي يوجد فيه، والذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً، بل صار معناه متعددا في اتجاهين، اتجاه أفقي هو تعددهم بتعدد الأمكنة والمقامات والأحوال، واتجاه عمودي وهو انتقال الواحد منهم من مقام قطب إلى آخر. هكذا أضحى مآل القطبية شبيها بمآل الوجود الذي تعدد على عشر مقولات على يد أرسطو، بعد أن كان واحدا غير قابل للانقسام عند بارمنيد. لقد أضحى الأقطاب متعددين بتعدد الأمور في نفس الزمان: » فكل شيء يدور عليه أمر ما من الأمور، فذلك الشيء قطب ذلك الأمر « (الفتوحات 4: 75)، وبالتالي » فلأصحاب المقامات والأحوال لا بد، في كل صنف صنف من أربابها، من قطب يدور عليه ذلك المقام« (ن. ص.)، فيكون للزهاد قطب، وللمتوكلين قطب، وللمحبّين قطب يكون المدار عليه في الحب أو في التوكل أو في الزهد بين أهل زمانه ؛ كما صار القطب متعددا بتعدد الأمكنة، فهناك » أقطاب القرى والجهات والأقاليم وشيوخ الجماعات « (4. 76). والسبب في اختلاف هؤلاء الأقطاب في نسبتهم إلى منزلة أو مقام أو حال أو مكان معين، يعود إلى رائدهم من السور والآيات القرآنية.
ولكن الأهم بالنسبة لكلامنا في هذا الصدد ليس تعدد القطب في إثنا عشر معنى أو مقاما، وإنما هو قدرة هؤلاء الأقطاب "المحمديين"، دون غيرهم من الأقطاب "العيسويين" (نسبة إلى عيسى) و"الموسويين" (نسبة إلى موسى)، على التقلب في كل المقامات والأحوال، فلا يختصون بمقام أو صورة معينة يلبثون فيها مدة حياتهم[4]، » فالقطب المحمدي، أو المفرد، هو الذي يتقلب مع الأنفاس علما، كما يتقلب معها حالا « (4. 77). واضح أن غرض ابن عربي من تنويع وتقليب معاني القطب هو فتح الباب أمام جمهور المتصوفة أولا ليذوقوا مقام القطب، وثانيا ليتقلبوا في مقاماته. نعم، إن القانون الأكبر لنظرية الوجود الأكبرية هو التقلب، فلا شيء لابث على جميع المستويات الوجودية والوحدوية، والإنسان بالخصوص من أعظم المتقلبين في كل آن وحين، لكن معظمهم غافلون عن تقلبهم، والقلة منهم هم الذين يكونون على بصيرة به، ولذلك كانت منازل الرجال » على قدر عِلمهم فيما يتقلبون فيه وعليه « (ن. ص.). هكذا يكون الوعي بالصيرورة، لا بالتفكير ولا بالوجود، هو ما يميز "العارف". فأنا على بصيرة بتقلبي على إيقاع الأنفاس، إذن أنا واصل.
إن فعل تنويع معاني القطب المحمدي، وفعل تخويله القدرة على التقلب بين الأنفاس والمقامات والأحوال والمنازل، يجعلاننا نفهم معنى الاعترافات المتواترة لابن عربي بتذوقه لعديد من مقامات هؤلاء الأقطاب، مما يعني أن القطبية بكل مقاماتها لم تعد حكرا عليهم، بل صارت مفتوحة أمام كل من يتخذ الذوق والشم طريقا له للتواصل مع الوجود، إما في مدد من الزمان أو على صعيد واحد.
***
ونعود إلى المرأة-الزَّهرة التي جعلت "صاحب هذا الأمر" يتصف بأمور ثلاثة هي أنه » من أهل الأنفاس، والشهود، والأدلة « (4: 125)، وذك لكون "المرأة الزهرة" تتصف بثلاث صفات قدرات، هي كونها "معطية الرائحة" و"متنزَّها للبصر"، و"دليلة على الثمرة". هكذا جمع قطب هذه المنزلة القدرة على تذوق ثلاثة مقامات دفعة واحدة، انعكست عليه من طبيعة المرأة: الإدراك بالقلب والبصيرة والعقل، أو الإدراك بالأنفاس والشهود والأدلة. ولعل هذا الجمع آت من كون المرأة الزهرة هي عبارة عن كل، ولا يمكن إدراكها في كليتها وكمالها بفعل دون آخر، بل لا بد من اجتماع الأفعال الثلاثة » فإذا لم يدرك صاحب هذه الزهرة رائحتها ولا شهدها زهرة، ولا علم دلالتها التي سبقت له على الخصوص، وإنما شهدها امرأة، وزوجت به، وتنَعّم بها، ونال منها ما نال بحيوانيته لا بروحه وعقله، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان، بل الحيوان خير منه « (ن.ص.).
إن ابن عربي ليس فقط صاحب فتوحات وحكم، بل هو أيضا صاحب فتحات يقوم بها في جدار الحجب المسدلة لكي يتسرب منها نور التأويل، تأويل الوجود من حيث هو وحدة للإنساني بالإلهي.
هوامـش:
[1] . الآية الثانية ترد في سورة الحجر 87: ﴿لا تَمُدّن عينَيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم، ولا تحزَن عليهم واخفِض جناحَك للمؤمنين﴾
[2] . نشير بالمناسبة إلى أن الفلسفة الإسلامية، على عكس هذه القراءة، كانت تعتبر المرأة بصفة عامة مادة بالنسبة للرجل، الذي يلعب دور الصورة.
[3] . يعرّف ابن عربي الهجير بقوله : » اعلم أن الهجير هو الذي يلازمه العبد من الذكر كان الذكر ما كان «، (4: 88)، لهذا نراه يسمي صاحب هذا الأمر بأنه صاحب الذكر وصاحب الهجير في آن واحد.
[4] . » فما يتميز المحمدي إلا بأنه لا مقام له بتعين، فمقامه أن لا مقام. ومعنى ذلك ... أن الإنسان قد تغلب عليه حالته، فلا يُعرَف إلا بها، فينسَب إليها ويتعين بها ؛ والمحمدي نسبة المقامات إليه نسبة الأسماء إلى الله، فلا يتعين في مقام يُنسَب إليه، بل هو في كل نفَس وفي كل زمان وفي كل حال بصورة ما يقتضيه ذلك النفَس، أو الزمان، أو الحال، فلا يستمر تقيده... « (ن. ص.).
.
نشير إلى أن الكلام عن مقام "الرؤية الممنوعة" ورد في سياق النظر في منزلة القطب الذي مدار هذا النوع من "الرؤية- المعصية"، الذي كان رائده الآية القرآنية التي وردت بدايتها متطابقة في سورتين : ﴿ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا، منهم زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه، ورزق ربِّك خيرٌ وأبقى﴾ (طه 130)[1].
لم يلتزم ابن عربي بسياق النص، وإنما اكتفى باستلهامه ليقوم بتنظير وتعميم مسألة "الرؤية الممنوعة" لما في مسئولية الآخر لتصبح مسألة رؤية المرأة بصفة عامة. وقد اغتنم فرصة الكلام عن هذا المقام للاعتراف بأنه هو نفسه ذاق هذه التجربة-المعصية، وكأنه يلمح بذلك أن له شيئا من القطبية، مما يطرح مسألة إعادة تعريف القطب. ومنذ البداية يطرح موضوعه هذا في جو من التقابل بين مَن يتعامل مع "المرأة -الزهرة" من حيث هو موضوع للمتعة، ومَن يتعامل معها من حيث هي ذات تتمتع بأبعاد روحية وعقلية متعدد.
ومهما بلغت درجة غموض وسلبية هذه التجربة، فإنها ترتفع إلى درجة المقام، مقام "المعصية المحمودة" لدى أهل الشهود، المذمومة لدى العموم. وفي سبيل مزيد من التمويه على طبيعة هذه المسألة، عمد الشيخ الأكبر على تغليف هذه "المعصية-اللا معصية" بجملة من المبادئ "المقنعة" من الزاوية الدينية والصوفية. (1) من بين هذه المبادئ الحكم الشرعي الذي يورده شعراً في الفتوحات المكية، وهو تعدد الزوجات، أي الحق في تعدد الرؤية للمرأة، وذلك بالاستناد إلى مبدأ إلى علاقة الكل بالجزء:
كل شخص زوجه من نفسه ولهذا زوجه من جنسه
فهو كل وهي جـزء، فـلذا كثرت أزواجه من نفسه (الفتوحات المكية، 4: 124)
(2) يضيف إلى هذا المبدأ الشرعي، الذي ألبسه حلة ميتافيزيقية، مبدأ ثانيا يتصل بقدرة » "أهل الشهود" على مشاهدة المقدور قبل وقوعه في الوجود « (نفسه، 4: 125). وتسمح هذه القدرة لهؤلاء المختارين من الناس أن يفعلوا "المقدور" الممنوع لا عن غفلة أو تأويل كما هو الحال بالنسبة لعموم الناس، ولكن عن بصيرة وحضور. (3) ويشير ابن عربي إلى سمة أخرى لمعصية "مد النظر"، وهي جمعها بين » حب الطبع وكراهة الإيمان «(4: 125)، لأن الطبع يميل تلقائيا إلى فعل المعصية، بينما الإيمان يميل إلى كراهيتها، فينتصر ابن عربي لحب الطبع ضمنا لا تصريحا ما دام يسمح به لقطب "مد العينين" ؛ (4) ويستنبط ابن عربي مبدأ رابعا من قصة الخضر مع النبي موسى بشأن قتل النفس، ينص على عدم قابلية الحق للتحديد عندما يتعلق الأمر بمستويين متقابلين للنظر إلى نفس الفعل الشرير، النظر العقلي الأخلاقي والنظر العرفاني الذي يوجد فوق الخير والشر؛ وهذا معناه أن الحق يمكن أن يكون في جانب المتصارعين حوله معا، ولكن من جهتين مختلفتين. وهذا ما يبرر اختلاف حكم المعصية بين المؤمن العادي و"صاحب الشاهد"، فنفس العمل قد يكون معصية في حق الأول، وليس معصية في حق الثاني، » فكل واحد له وجه في الحق ومستند « (ن.ص.). إن إنكار وجود حق عام مشترك بين أهل الشهود وأهل الإيمان، ومن ثم الشك في تقسيم الأحكام العقلية إلى صواب وخطأ، يؤسس لحق "صاحب الأمر" أن "تمتد عينه" إلى غير حقه. كانت غاية إن ابن عربي إذن من غموضه الجميل بصدد هذه النازلة أن يبرئ ساحة أصحاب الشهود، حيث تتحول لديهم المعصية المذمومة (في نظر العموم)، إلى معصية محمودة، لأن لأهل الشهود محكاً للحق والخير "لا يستطيعه الآخرون". بهذا النحو تصبح معصية "مد العينين" إلى غير المباح، مقاما عرفانيا راقيا لم يذقه ابن عربي لحد وقته إلا في مدينة فاس.
***
وبالرغم من الطابع السلبي لهذه المناسبة، فقد استثمرها لينوّه من جديد بالنساء ويبرز ميزاتهن المتعددة ؛ فهنّ، بالإضافة إلى كونهن زهرة الحياة الدنيا، حيث يحصل بهنّ النعيم حيث كن، فقد اعتبرهنّ » فتنةً يستخرج الحق بهنّ ما خَفِي عنا فينا مما هو به عالم، ولا نعلمه من نفوسنا « (ن.ص.). وهذا ما أضفى على النساء سرّاً وجوديا وروحيا غامضا، بحكم ارتباطهن بثلاث أمور عزيزة على الإنسان: النعيم ، والفتنة، وبخفاء ذاتنا عنا أو » بما خفي عنا فينا « ؛ فيكون نعيمهن أداة لافتتان الرجل بهنّ إلى درجة تجعله ينفتح عن سره الخفي عنه أمام نفسه، فتصبح المرأة وكأنها كوجيتو الرجل (أنا أفتتن بالمرأة، فأنا موجود)، أو هي التي تُجلِّي سره من حيث هو ذات غير مرئية: فغير المرئي من الرجل لا يظهر إلا في مرآة المرأة. هكذا تكون المرأة سرّ الرجل، لا بمعنى الثقب الأسود الذي يبتلع سره، بل بمعنى الفتنة التي تضيء ذاته المحتجبة فيه.
ولا نستغرب من ذلك، لأن اللغة نفسها تشهد للمرأة بهذه القدرة على كشف السر: فالرؤية والمرآة والمرأة، وحتى الرؤيا، من أرومة واحدة. هكذا تمتزج في هذا المقام الرؤية بالرائي والمرئي وحتى مجال الرؤية، بسبب رجوع الرؤية إلى الذات، لذلك وصف ابن عربي "صاحب هذا الأمر" بأنه » يعلم كيفية إدراك الرائي المرئي، وما هي الرؤية، ولماذا ترجع « (ن. ص.). فإذا فهمنا من السر فهم الصوفية إياه، أي بوصفه كمالاً يمنحه الله للمختارين من عباده، فستكون المرأة أداة استخراج هذا الكمال من القوة إلى الفعل، أي أداة استكمال رجولية الرجل. وبهذا النحو من القراءة، تكون المرأة صورة للرجل، أي أن هذا الأخيرة مادة وقوة عدمية تشكلها الصورة "المرئية" كيفما شاءت وفي الاتجاه الذي شاءت، إنها هي التي تُخرِج كنزَه المخفي إلى الوجود[2].
العلاقة بين المرأة والرؤية إذن علاقة ذاتية، لكن لا الرؤية الحسية الحيوانية، بل الرؤية الروحية والعقلية. ففي نظر ابن عربي مَن ينظر إلى المرأة كامرأة وحسب، وليس كزهرة تعبق بالرائحة وتدل على الثمرة في أعماقها، لا يستحق نعت الإنسانية ؛ مَن ينظر إلى المرأة باعتبارها موضوع مُتعة حيوانية وحسب، لن يظفر بشرف الإنسانية، بل إنه جرّاء ذلك ينزل إلى درجة ما دون الحيوان، لأن هذا الأخير يميل ميلا طبيعيا إلى مَن ينتسب إلى فصله النوعي الذي يميزه عن غيره، بينما الذي لا ينظر إلى المرأة ككائن عقلي، وإنما كموضوع متعة فقط، هو كمَن يميل إليها باعتبارها لا تنتمي إلى فصله النوعي، أي الإنساني، فينالها » بحيوانيته، [لا] بروحه وعقله « (ن. ص.). هكذا تصبح إنسانية الرجل متناسبة مع طبيعة رؤيته للمرأة، فتصبح جهة رؤيته لها معيارا لانتمائه إلى مرتبة الإنسان، أو انحطاطه عنها. من أجل هذا، على الرجل أن لا تكون رؤيته "للمرأة-الزهرة" رؤية بسيطة غفلة، بل رؤية محيطة» بعلم المرئي في المرآة «، وهو "العلم" الذي يتقنه "صاحب هذا الذكر أو الهجير"[3]، وهو القطب الذي عليه مدار معصية "مد العينين"، أي الذي يستمد علمه من قوله تعالى ﴿لا تَمدّن عينيك﴾، هذا العلم الذي يمكّن صاحبه من أن» يعْلم كيفية إدراك الرائي المرئي، وما هي الرؤية، ولماذا ترجع «.
أما ربط المرأة بالرائحة، فهو تلميح إلى علاقتها بالنفَس الرحماني، الذي بسريانه في الأسماء والأعيان الثابتة، تتحول إلى موجودات طبيعية حية. فإذا نقلنا التمثيل إلى الإنسان، فإنه سيسمح لنا بالقول بأن نفَس المرأة وطيبها هو الذي يحوّل الرجل إلى إنسان. وأخيراً، فإن تشبيه المرأة بالثمرة الكامنة، إشارة إلى الماهية التي تنتظر مَن يصقلها، مَن يسوقها إلى الفعل. لم أقصد بذلك أن الرجل هو الذي يخرج ماهية المرأة إلى الفعل، بل قصدت بذلك أن المرأة هي السواقة للماهية المشتركة بينهما إلى الفعل، ماهية الإنسانية. فتكون المرأة بهذين الاعتبارين قد جمعت بين الوجود الثبوتي (الماهية)، والوجود الفعال (النّفَس الطيّب). هكذا تبدو المرأة موضوع التأويل وذاته في آن واحد ؛ فهي التي تفجر فعل التأويل في الرجل، مما يدل على أن وجود الإنسان هو تأويل في تأويل، رؤية في رؤية، أي ذلك التأويل وتلك الرؤية المضروبة في نفسها، وبالتالي المنتجة لآفاق دلالية لامتناهية.
***
ولا يمكن أن يجري الكلام عن المرأة دون الإشارة إلى التقلب، الذي يعود بأصله إلى القلب، جوهر علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الإنسان بالوجود. وبالفعل، كان السياق العام لهذه النازلة، نازلة "الرؤية المحرّمة،" هو الفصل السادس من الفتوحات المكية (الجزء 4 من طبعة بيروت)، الذي خصصه للكلام عن "هجيرات الأقطاب المحمديين ومقاماتهم". لقد خصص ابن عربي لكل قطب من هؤلاء الأقطاب مقاما محددا، من بين هذه المقامات مقام "الرؤية المحرّمة". لكن الأمر الجديد في كلامه عن هؤلاء الأقطاب، الذين يناظرون بعددهم عدد أبراج السماء الإثني عشر » الذين يكون عليهم مدار هذه الأمة! «، هو سعيه إلى تنويع معنى القطب أو القطبية لفتح الباب أمام كل واصل أن يذوق مقامها. وبالفعل، لم يعد معنى القطب منحصرا في المفرد الذي يكون عليه مدار الزمان الذي يوجد فيه، والذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً، بل صار معناه متعددا في اتجاهين، اتجاه أفقي هو تعددهم بتعدد الأمكنة والمقامات والأحوال، واتجاه عمودي وهو انتقال الواحد منهم من مقام قطب إلى آخر. هكذا أضحى مآل القطبية شبيها بمآل الوجود الذي تعدد على عشر مقولات على يد أرسطو، بعد أن كان واحدا غير قابل للانقسام عند بارمنيد. لقد أضحى الأقطاب متعددين بتعدد الأمور في نفس الزمان: » فكل شيء يدور عليه أمر ما من الأمور، فذلك الشيء قطب ذلك الأمر « (الفتوحات 4: 75)، وبالتالي » فلأصحاب المقامات والأحوال لا بد، في كل صنف صنف من أربابها، من قطب يدور عليه ذلك المقام« (ن. ص.)، فيكون للزهاد قطب، وللمتوكلين قطب، وللمحبّين قطب يكون المدار عليه في الحب أو في التوكل أو في الزهد بين أهل زمانه ؛ كما صار القطب متعددا بتعدد الأمكنة، فهناك » أقطاب القرى والجهات والأقاليم وشيوخ الجماعات « (4. 76). والسبب في اختلاف هؤلاء الأقطاب في نسبتهم إلى منزلة أو مقام أو حال أو مكان معين، يعود إلى رائدهم من السور والآيات القرآنية.
ولكن الأهم بالنسبة لكلامنا في هذا الصدد ليس تعدد القطب في إثنا عشر معنى أو مقاما، وإنما هو قدرة هؤلاء الأقطاب "المحمديين"، دون غيرهم من الأقطاب "العيسويين" (نسبة إلى عيسى) و"الموسويين" (نسبة إلى موسى)، على التقلب في كل المقامات والأحوال، فلا يختصون بمقام أو صورة معينة يلبثون فيها مدة حياتهم[4]، » فالقطب المحمدي، أو المفرد، هو الذي يتقلب مع الأنفاس علما، كما يتقلب معها حالا « (4. 77). واضح أن غرض ابن عربي من تنويع وتقليب معاني القطب هو فتح الباب أمام جمهور المتصوفة أولا ليذوقوا مقام القطب، وثانيا ليتقلبوا في مقاماته. نعم، إن القانون الأكبر لنظرية الوجود الأكبرية هو التقلب، فلا شيء لابث على جميع المستويات الوجودية والوحدوية، والإنسان بالخصوص من أعظم المتقلبين في كل آن وحين، لكن معظمهم غافلون عن تقلبهم، والقلة منهم هم الذين يكونون على بصيرة به، ولذلك كانت منازل الرجال » على قدر عِلمهم فيما يتقلبون فيه وعليه « (ن. ص.). هكذا يكون الوعي بالصيرورة، لا بالتفكير ولا بالوجود، هو ما يميز "العارف". فأنا على بصيرة بتقلبي على إيقاع الأنفاس، إذن أنا واصل.
إن فعل تنويع معاني القطب المحمدي، وفعل تخويله القدرة على التقلب بين الأنفاس والمقامات والأحوال والمنازل، يجعلاننا نفهم معنى الاعترافات المتواترة لابن عربي بتذوقه لعديد من مقامات هؤلاء الأقطاب، مما يعني أن القطبية بكل مقاماتها لم تعد حكرا عليهم، بل صارت مفتوحة أمام كل من يتخذ الذوق والشم طريقا له للتواصل مع الوجود، إما في مدد من الزمان أو على صعيد واحد.
***
ونعود إلى المرأة-الزَّهرة التي جعلت "صاحب هذا الأمر" يتصف بأمور ثلاثة هي أنه » من أهل الأنفاس، والشهود، والأدلة « (4: 125)، وذك لكون "المرأة الزهرة" تتصف بثلاث صفات قدرات، هي كونها "معطية الرائحة" و"متنزَّها للبصر"، و"دليلة على الثمرة". هكذا جمع قطب هذه المنزلة القدرة على تذوق ثلاثة مقامات دفعة واحدة، انعكست عليه من طبيعة المرأة: الإدراك بالقلب والبصيرة والعقل، أو الإدراك بالأنفاس والشهود والأدلة. ولعل هذا الجمع آت من كون المرأة الزهرة هي عبارة عن كل، ولا يمكن إدراكها في كليتها وكمالها بفعل دون آخر، بل لا بد من اجتماع الأفعال الثلاثة » فإذا لم يدرك صاحب هذه الزهرة رائحتها ولا شهدها زهرة، ولا علم دلالتها التي سبقت له على الخصوص، وإنما شهدها امرأة، وزوجت به، وتنَعّم بها، ونال منها ما نال بحيوانيته لا بروحه وعقله، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان، بل الحيوان خير منه « (ن.ص.).
إن ابن عربي ليس فقط صاحب فتوحات وحكم، بل هو أيضا صاحب فتحات يقوم بها في جدار الحجب المسدلة لكي يتسرب منها نور التأويل، تأويل الوجود من حيث هو وحدة للإنساني بالإلهي.
هوامـش:
[1] . الآية الثانية ترد في سورة الحجر 87: ﴿لا تَمُدّن عينَيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم، ولا تحزَن عليهم واخفِض جناحَك للمؤمنين﴾
[2] . نشير بالمناسبة إلى أن الفلسفة الإسلامية، على عكس هذه القراءة، كانت تعتبر المرأة بصفة عامة مادة بالنسبة للرجل، الذي يلعب دور الصورة.
[3] . يعرّف ابن عربي الهجير بقوله : » اعلم أن الهجير هو الذي يلازمه العبد من الذكر كان الذكر ما كان «، (4: 88)، لهذا نراه يسمي صاحب هذا الأمر بأنه صاحب الذكر وصاحب الهجير في آن واحد.
[4] . » فما يتميز المحمدي إلا بأنه لا مقام له بتعين، فمقامه أن لا مقام. ومعنى ذلك ... أن الإنسان قد تغلب عليه حالته، فلا يُعرَف إلا بها، فينسَب إليها ويتعين بها ؛ والمحمدي نسبة المقامات إليه نسبة الأسماء إلى الله، فلا يتعين في مقام يُنسَب إليه، بل هو في كل نفَس وفي كل زمان وفي كل حال بصورة ما يقتضيه ذلك النفَس، أو الزمان، أو الحال، فلا يستمر تقيده... « (ن. ص.).
.
صورة مفقودة