منقول - طوق الحمامة -أصول الحب

لم يكن علم النفس يوماً وليد النهضة الأوربية كما يقال، ولم يكن على الإطلاق أحد إفرازات الحضارة الغربية، ولكن شاء الكثير من الباحثين في علم النفس أن يتركوا أو يتناسوا التاريخ والغور في معالم النفس البشرية ولربما مالوا كل الميل ولا نقول بانحيازهم كل الانحياز إلى ما كتب حديثاً وتسهلت طباعته وتيسر نشره، ولم تكن تهمهم تلك الجذور النفسية الموجودة في خضم الفكر القرآني والحضارة الإسلامية والتي تأصلت لتبني الإنسان الذي يستطيع معالجة أعتى وأشد أمراض الكهولة والشيخوخة وسن اليأس النفسية وبدوافع ذاتية دونما استخدام للحبوب المهدئة أو استسلام للعقاقير المحرّمة على الرغم من أنها قد تزرع السرور والحبور في النفس لفترات قصيرة. كما لم يكن يهمهم الرجوع إلى الجذور القرآنية التي تمثل أساس علم النفس الإسلامي منذ أيام النزول الأولى.
والحقيقة إن تراجع علم النفس القرآني في كتابات وتفاسير الأولين لم يكن متأتياً من قصور في علم النفس ذاته أو علاجه بل كان لقصور في أقلام المفسرين وباعهم الذي غالباً ما يقتصر على الفهم اللغوي والسرد التاريخي للعلوم القرآنية من دون تحليل.
إن التاريخ ليشهد أن الأطباء والمفكرين المسلمين كانوا أول من استحدث مفهوم الامراض العقلية وأبعدوها عن معتقدات الأرواح الشريرة وتناولها بالعلاج الانساني بينما كان العالم الاوربي المسيحي لا يزال يحرق المسحورين وينبذ المجانين .
إنها محاولة لا ثبات حقيقة هامة ، ألا وهي أنه لو اتبعت تعاليم الله عز وجل وقيم الدين الإسلامي الحنيف بروح صادقة فأنها تخلق أفرادا لا يعانون على الإطلاق من الصراعات ، والإحساس بالذنب بل أفرادا يتمتعون باستقرار عاطفي ويكونون مجتمعا صحيا مستقرا .إن الأمراض النفسية وأمراض العقل ( عضوية وعاطفية ) ذكرت فى القرآن والحديث منذ زمن بعيد وجاء ذكر الامراض خاصة فى آيات من القرآن الكريم وان الإسلام يعترف السلوكيات المتعلقة بمثل هذه الامراض المسئولية المحدودة لم أصيبوا بها .
فى الأعوام الالف الماضية أهمل المسلمون هذا المجال وساروا فى تقليد أعمي لمفاهيم الغرب ان علم الطب النفسي فى الغرب لا يزيد عمره ن مائتي عام فقط فان جميع ماكتب عن الصحة النفسية والامراض العقلية فى أوربا قبل عصر النهضة مملوء بالأرواح الشريرة ، ولا شئ غير هذه المعتقدات .
إن كثيرا من الدارسين قاموا بدراسات واكتشافات فيما قدم هؤلاء المسلمون ، أي الطب الحديث والعلم والفن والأدب والحضارة والثقافة … الخ .
إن الدين الإسلامي وتعاليم نبيه صلوات الله عليه لتظهر لنا بوضوح الاتجاه الصحيح للدراسة والبحث فى مجال السلوك البشري للأفراد والجماعات ان قصص القرآن تعطي أمثلة ونماذج للسلوك المنحرف والسلوك السوي الذى يجب ان يجتذبه المسلم .
ولقد تشكّل علم النفس في التراث الإسلامي كما تشكلّت معارف المسلمين أي بموجهات الوحي، وإذا كان بالإمكان اعتبار القرآن الكريم بصفة خاصة قاعدة لكافة العلوم الإنسانية في التراث الإسلامي، فإن علم النفس كان نتاجاً لجهد بشري تبلورت من خلاله موضوعات ومناهج وقيم بحثية وأطر نظرية ميزت هذا المجال المعرفي عما سواه من المعارف الإسلامية الشرعية، وقد يشكك البعض في وجود علم النفس أصلاً في التراث الإسلامي بسبب أنه لم يكن حينئذ علماً مستقلاً قائماً بذاته، يجتمع حوله المتخصصون، والحق يقال: إن علم النفس في التراث الإسلامي لم يكن صنعة يجتمع عليها فئة من الدارسين كما كان النحو صنعة تجمع النحويين والشعر صنعة تجمع الشعراء، ولكن ذلك ليس حجة للتدليل على عدم وجود علم النفس في التراث الإسلامي لأن هذا ينطبق على علم النفس في أي مرحلة تاريخية، وهذه حقيقة لم تكن أكثر وضوحاً وجلاء عما هي عليه اليوم، فقد اتجه إلى علم النفس المعاصر علماء من تخصصات متفرقة قد لا يجمع بينها جامع سوى شمولية المعرفة، ويواجه علم النفس المعاصر أزمة هوية بنفس المستوى الذي واجهها به علم النفس في التراث الإسلامي ومع ذلك يتمتع بنوع من التماسك الداخلي يمنع تفككه إلى علوم نفسية متعددة.
تجدر الإشارة إلى أن علم النفس في التراث الإسلامي هو في المقام الأول علم نفس وليس أي شيء آخر، ليس فقط من جهة موضوعاته والتي شملت بيولوجيا السلوك والوظائف الذهنية، والنمو والدوافع، والشخصية والصحة النفسية وسيكولوجيا الاجتماع، بل إضافة لذلك هو علم نفس من حيث مناهجه إذ استخدم علماء التراث المناهج التي تسمى معاصرة في هذا العلم كالاستبطان، والملاحظة،ودراسة الحالة، والمنهج التجريبي الذي استكمل لدى بعضهم كافة عناصره التي نعرفها اليوم من فرضيات وتحكم ورصد النتائج وتفسيرها، وفي الحقيقة لا يمكن أن ننكر أن الدراسات النفسية في التراث الإسلامي لم تكن مجموعة في مجال معرفي واحد كما هو معروف اليوم باسم (السيكولوجيا) إلا أن هذا العلم توزع بين المؤلفات التراثية المعنية بأسس السلوك البيولوجية والكتب الفلسفية، والفيزيائية والرياضية أو ما يعرف اليوم بـ (الجوهرية فإن كان علم النفس في التراث الإسلامي موازياً لعلم النفس المعاصر من حيث المبادئ والمناهج والموضوعات، فقد ظل يحتفظ مع ذلك ببعض خصوصياته، والعلم لا شك ناقل لبعض خصائص بيئته التي نشأ فيها، وحامل لقيم الأجيال التي أنتجته، وما زالت جامعتنا ومؤسساتنا التعليمية تعلم الأجيال علم النفس المعاصر بصبغته الغربية مع تغييب شبه كامل لكل تراثنا الذي يشبهنا إلى حد كبير ،على الأقل أكثر مما يقدمه لنا العلم الوافد من الغرب ولعل ذلك واحد من أسباب فشل علم النفس وتطبيقاته العملية في العالم العربي، ولعله سؤال يبقى برسم المتخصصين.السيكوفيزياء)، إضافة إلى مؤلفات المتصوفة وكتب اللغة وفقهها وغيرها، وقد عالج علماء التراث الظاهرات النفسية كل من زاوية اهتمامه العلمي، ولكنهم بدون استثناء عالجوها على وعي تام بأنها وظائف وعمليات وعلاقات في النفس الإنسانية، وقد يصادف أن يجمع العالم التراثي في النفس غير صفة، فتتسع معالجاته للقضايا النفسية بقدر تنوع اهتماماته، فمنهم من عالج الإحساس والإدراك، والتعلم وبيولوجيا السلوك في سفر واحد مثل ابن سينا، ومنهم من جمع إلى كل ذلك (النمو) مثل ابن طفيل، ومنهم من اهتم بالإدراك والتعلم، والدافعية والوظائف الوجدانية مثل الغزالي، مثل بالبصريات كابن الهيثم.
كيف أدرك أئمة المسلمين ظاهرة الحب؟
أ – نظرة الإمام محمد بن داود الظاهري:
ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه الداء والدواء: “وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور”.
وقال نفطويه: “دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، وآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فقد منعي منها ما حدثني أبي حدثنا أبو سويد بن سعيد حدثنا مسهر عن أبي يحيى القتاب عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: “من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة
جـ – موقف الإمام ابن الجوزي من الحب:
يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه “ذم الهوى”: “اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم؟ فقال قوم هو ممدوح؛ لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ورِقَّة عند جامد الطبع حبيسة، ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه. فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط عاد سُمًّا قاتلاً. وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأثر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.
قلت وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا ينعم ولا يدعم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة؛ فيملك العقل، ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء. وأما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبًا في حقهم.
وقد روى أبو عبد الله المرزباني أن أبا نوفل سُئل عن خلوِّ أحد من العشق؛ فقال: نعم، الجلف الجافي الذي ليس فيه فضل، وليس عنده فهم. وأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز، ورقة أهل العراق فهيهات.
قال اليمان بن عمرو مولى ذي الرياستين: كان ذو الرياستين يبعثني، وبعث أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، وكان يقول لنا تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم. فكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذا الرياستين، واعترض ما حفظناه فيخبرونه. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا؛ فإن العشق يطلق اللسان العي، ويفتح حيلة البليد والمختل، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطبيب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشرف الهمة، وإياكم والحرام. فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك؛ فهبناه أن نخبره؛ فعزم علينا؛ فقلنا إنه أمرنا بكذا وكذا، قال صدق الله أخذ هذه؟ فقلنا لا.
وأما القسم الثاني من العشق فمذموم لا شك فيه. وبيان ذلك أن الشيء إنما يُعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفائدته في العشق للنفس الناطقة، وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية؛ لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها.
د – موقف الإمام ابن القيم من الحب:
يقول الإمام ابن القيم في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “اختلف الناس في العشق: هل هو اختياري أو اضطراري خارج عن مقدور البشر؟ وفصل النزاع بين الفريقين أن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف (أي أن الأسباب الأولى للعشق اختيارية). فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أُتي بالأسباب كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره (أي أن النتيجة المترتبة على هذه الأسباب من وقوع المحبة غير اختيارية). ولهذا؛ إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه (أي أنه لو كانت الأسباب الأولى للعشق مباحة فإن وقع العشق بعد ذلك لا يُلام عليه صاحبه) كمن كان يعشق امرأته أو جاريته. ويُقاس على نفس الأمر من خطب امرأة أو أراد خطبتها ونظر منها ما يشجعه على خطبتها كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يُلام على ذلك كما في قصة بريرة ومغيث. وكذلك إذا نظر نظرة فاجأته (أي النظرة الأولى) ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره. ومن الواضح أن عليه مدافعته وصرفه عن قلبه بضده، فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه”.
ويقول في موضع آخر: “العشق لا يُحمد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه؛ فإن الإرادة تابعة لمرادها، والحب تابع للمحبوب. فمتى كان المحبوب مما يُحبُّ لذاته، أو وسيلة توصله إلى ما يُحبُّ لذاته، لم تذم المبالغة في محبته، بل وتُحمد. وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته.
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه. وذلك أنواع أحدها محبة القرآن، وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى، وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر وسائر مكارم الأخلاق.
بقيت هاهنا أوصاف قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق؛ كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره، فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو، فهذا نوع من الابتلاء؛ إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين، وإن سخط وجزع فاته معشوقه كما فاته ثوابه. وإن قابل هذا البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر.
ترجمة ابن حزم
اسمه ونسبه:
هو: الإمامُ الأوحدُ، البحرُ، ذو الفنون والمعارف، الفقيهُ الحافظُ، المتكلِّمُ الأديبُ، الوزيرُ الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيف؛ أبو محمَّدٍ عليُّ بنُ أحمدَ بنِ سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد، الفارسيُّ الأصل، ثمَّ الأندلسيُّ القرطبيُّ اليزيديُّ؛ مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي ـ رضي الله عنه ـ المعروف بيزيد الخير، نائب أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ على دمشقَ. فكان جده يزيد؛ مولىً للأمير يزيد أخي معاوية، وكان جدُّه خلف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالدَّاخل.
مولـده:
قال القاضي صاعد بن أحمد التَّغْلبيُّ (462هـ): كتبَ إليَّ ابنُ حزمٍ ـ بخطِّه ـ يقول: ولدتُ بقرطبةَ، في الجانب الشَّرقي، في رَبَضِ منية المغيرة، قبل طلوع الشَّمس، وبعد سلام الإمام من صلاة الصُّبح، ءاخر ليلة الأربعاء، ءاخر يومٍ من شهر رمضانَ المعظَّم ـ وهو اليوم السابع من نُوَنْيِر سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، بطالع العقرب.
شيوخه:
وسمع في سنة أربع مئة وبعدها؛ من طائفةٍ، منهم:
1- يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود؛ عُرِفَ بابن وَجْه الجنَّة (304-402هـ)؛ صاحب قاسم بن أصبغ (340هـ)، فهو أعلى شيخٍ عنده.
2- ومن أبي عمر أحمد بن محمد بن أحمد الأمويِّ القرطبيِّ، ابن الجسور (401هـ).
3- ويونس بن عبد الله بن مغيث القاضي (338-429هـ).
4- وحُمَام بن أحمد القاضي (357-421هـ).
5- ومحمد بن سعيد بن محمَّد بن نبات الأُمويِّ القرطبيِّ (335-429هـ).
6- وعبد الله بن ربيع التَّميميِّ (330-415هـ).
7- وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن مسافر، أبي القاسم الهمدانيِّ الوهرانيِّ (338-411هـ).
8- وأبي عمر أحمد بن محمد الطَّلْمَنْكيِّ (429هـ).
9- وعبد الله بن يوسف بن نامي (348-435هـ).
10- وأحمد بن قاسم بن محمَّد بن قاسم بن أصبغ (430هـ).
وينزل إلى أن يروي عن:
11- أبي عمر بن عبد البرِّ (368-463هـ).
12- وأحمد بن عمر بن أنس العُذْريِّ (393-478هـ).
وأول سماعه من ابن الجَسور في حدود سنة أربع مئة.
وأجود ما عنده من الكتب ((سنن النَّسائيِّ)) يحمله عن ابن ربيع، عن ابن الأحمر؛ عنه. وأنزل ما عنده ((صحيحُ مسلمٍ)) بينه وبينه خمسة رجال، وأعلى ما رأيتُ له حديث بينه وبين وكيعٍ فيه ثلاثة أنفس.
نشأته:
نشأ في تنعُّمٍ ورفاهيَّةٍ، ورُزِقَ ذكاءً مفرطاً، وذهناً سيَّالاً، وكتباً نفيسةً كثيرةً. وكان والده من كُبَراء أهل قرطبة؛َ عمل الوزارة في الدَّولة العامرية، وكذلك وَزَرَ أبو محمَّد في شَبِيبَتِهِ.
وكان قد مهر أوَّلاً في الأدب والأخبار والشِّعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة؛ فأثَّرت فيه تأثيراً لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وقفتُ له على تأليفٍ يحضُّ فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدِّمه على العلوم؛ فتألَّمْتُ له، فإنَّه رأسٌ في علوم الإسلام، متبحِّرٌ في النَّقل، عديم النَّظير، على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِرِيَّةٍ؛ في الفروع لا الأصول.
قيل إنَّه تفقَّه أوَّلاً للشَّافعيِّ، ثمَّ أدَّاه اجتهاده إلى القول بنَفْي القياس كلِّه؛ جَلِيِّه وخَفِيِّه، والأخذ بظاهر النَّصِّ، وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلِيَّة، واستصحاب الحال. وصنَّفَ في ذلك كتباً كثيرةً، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدَّب مع الأئمة في الخطاب؛ بل فَجَّجَ العبارة، وسَبَّ وجَدَّع، فكان جزاؤه مِنْ جنس فعله، بحيث إنَّه أعرضَ عن تصانيفه جماعةٌ من الأئمَّة، وهجروها، ونفروا منها، وأُحرقتْ في وقتٍ، واعتنى بها ءاخرون من العلماء، وفتَّشوها انتقاداً واستفادةً، وأخذاً ومؤاخذةً، ورأوا فيها الدُّرَّ الثَّمين ممزوجاً ـ في الرَّصْف ـ بالخَرَزِ المَهين؛ فتارةً يطربون، ومرَّةً يعجبون، ومن تفرُّده يهزَؤُون.
وفي الجملة؛ فالكمال عزيز، وكلُّ أحدٍ يُؤخذ من قوله ويترك؛ إلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
منزلتـه العلميــة:
وكان ينهض بعلومٍ جمَّةٍ، ويُجيد النَّقل، ويُحْسِنُ النَّظْمَ والنَّثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْر، (وتورُّعٌ، وتزهُّدٌ، وتحرٍّ للصِّدق) ، ومقاصدُهُ جميلةٌ، ومصنَّفاته مفيدةٌ، وقد زهد في الرِّئاسة، ولزم منزله؛ مُكِبَّاً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قَبْلَنا الكبارُ:
قال أبو حامد الغزَّالي (505هـ) ـ رحمه الله ـ: قَدْ وَجَدْتُ في أسماء الله تعالى كتاباً ألَّفه أبو محمَّد بنُ حزمٍ الأندلسيُّ؛ يدلُّ على عِظَمِ حِفْظِهِ، وسيلان ذِهْنِهِ.
وقال الإمام أبو القاسم صاعد بن أحمد: كان ابنُ حزم أجمعَ أهل الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام، وأوسعَهم معرفةً، مع توسعه في علم اللِّسان، ووُفور حظِّه من البلاغة والشِّعر، والمعرفةِ بالسِّيَر والأخبار. أخبرني ابْنُهُ الفَضْلُ أنَّه اجتمع عنده بخطِّ أبيه ـ أبي محمَّدٍ ـ من تواليفه؛ أربعُ مئةِ مجلَّدٍ، تشتمل على قريبٍ من ثمانينَ ألف ورقةٍ
قال أبو عبد الله الحميدكان ابنُ حزمٍ حافظاً، عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مُسْتنبطاً للأحكام من الكتاب والسُّنَّة، متفنِّناً في علوم جمَّةٍ، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدُّنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً، ذا فضائل جمَّة، وتواليف كثيرة في كلِّ ما تحقَّق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث، والمصنَّفات، والمُسندات؛ شيئاً كثيراً، وسمع سماعاً جمَّاً. وما رأينا مِثْلَهُ ـ رحمه الله ـ فيما اجتمع له من الذَّكاء، وسُرْعَةِ الحفظ، وكرم النَّفْس، والتَّدَيُّن. وكان له في الأدب والشِّعر نَفَسٌ واسعٌ، وباعٌ طويلٌ، وما رأيتُ من يقول الشِّعر على البديهة أسرعَ منه، وشعره كثيرٌ؛ جَمعتُه على حروف المعجم.
وقال أبو القاسم صاعد: كان أبوه أبو عُمَر من وزراء المنصور محمَّد بن أبي عامر؛ مدبِّر دولة المؤيَّد بالله بن المستنصر المروانيِّ، ثم وزر للمظفَّر بن المنصور، ووَزَرَ أبو محمَّد للمُسْتظهر بالله عبد الرَّحمن بن هشام، ثم نَبَذَ هذه الطريقة، وأقبل على العلوم الشَّرعية، وعُني بعلم المنطق، وبرع فيه، ثم أعرضَ عنه.
قلتُ: ما أعرضَ عنه حتَّى زرع في باطنه أموراً، وانحرافاً عن السُّنَّة.
قال: وأقبل على علوم الإسلام حتَّى نال من ذلك ما لم ينله أحدٌ بالأندلس قبله.
وقد حَطَّ أبو بكر ابن العربيِّ على أبي محمَّدٍ؛ في كتاب: ((القواصم والعواصم)) ، وعلى الظَّاهريَّة، ولم يُنْصِف القاضي أبو بكر ـ رحمه الله ـ شيخ أبيه في العلم، ولا تكلَّم فيه بالقِسْط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر ـ فعلى عظمته في العلم ـ لا يبلغ رُتْبة أبي محمَّد؛ ولا يكادُ، فرحمهما الله، وغفر لهما.
قال اليَسَعُ ابنُ حزمٍ الغافقيُّ (575هـ) ـ وذكر أبا محمَّدٍ ـ فقال: أمَّا محفوظه؛ فبحرٌ عجَّاج، وماءٌ ثجَّاجٌ، يخرج من بحره مَرجان الحِكَم، وينبت بثَجَّاجه ألفاف النِّعم في رياض الهِمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كلِّ أهلِ دِينٍ، وألَّف: ((الملل والنِّحَل)). وكان في صباه يلبس الحرير، ولا يرضى من المكانة إلا بالسَّرير، أنشدَ المعتمدَ؛ فأجاد، وقصد بَلَنْسِيَةَ وبها المظفَّر أحدُ الأطواد. وحدَّثني عنه عمرُ بنُ واجب؛ قال: بينما نحن عند أبي ببَلَنْسِيَةَ، وهو يدرِّس المذهب، إذا بأبي محمَّدٍ بن حزم يَسْمَعُنا؛ ويتعجَّبُ، ثم سألَ الحاضرينَ مسألةً مِن الفقه، جُووب فيها، فاعترضَ في ذلك، فقال له بعض الحُضَّار: هذا العلمُ ليس مِنْ مُنْتَحَلاتِكَ! فقامَ وقَعَدَ، ودخل منزله فعَكَفَ، ووَكَفَ منه وابلٌ فما كَفَّ، وما كان بعدَ أشهرٍ قريبةٍ حتى قَصَدْنا إلى ذلك الموضع، فناظر أحسنَ مناظرةٍ، وقال فيها: أنا أتَّبِعُ الحقَّ، وأجتهدُ، ولا أتقيَّدُ بمذهبٍ.
أشهر مصنَّفاتـه:
ولابن حزم مصنَّفات جليلةٌ:
أكبرها كتابُ: ((الإيصال إلى فهم كتاب الخِصَال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام [وسائر الأحكام؛ على ما أوجبه القرءان] والسنة والإجماع)) ، أورد فيه أقوال الصَّحابة فمن بعدهم في الفقه، والحجةَ لكلِّ قول، وهو كتاب كبير، [في] خمسة عشر ألف ورقة.
((الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام)) مجلدان.
((المُجَلَّى في الفقه، (على مذهبه واجتهاده، مجلد.
((المُحَلَّى في شرح المُجَلَّى بالحُجَج والآثار ثماني مجلدات، في غاية التقصِّي.
قال الشَّيخ عزُّ الدِّين بنُ عبد السَّلام (660هـ) ـ وكان أحدَ المجتهدين ـ: ما رأيتُ في كُتُبِ الإسلام في العلم مِثْل: ((المحلَّى)) لابن حزم، وكتاب: ((المغني)) للشَّيخ موفق الدِّين.
قلتُ: لقد صدق الشَّيخ عز الدين، وثالثهما: ((السُّنن الكبير)) للبيهقيِّ (458هـ)، ورابعها: ((التَّمهيد)) لابن عبد البَرِّ. فمن حصَّل هذه الدَّواوين، وكان من أذكياء المُفْتين، وأدمن المطالعة فيها؛ فهو العالم حَقَّاً
((حَجَّة الوداع)).
الإجماع
((الإحكام لأصول الأحكام، في غاية التقصِّي [وإيراد الحجاج.
((إظهار تبديل اليهود والنَّصارى للتَّوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم مما لا يحتمله التَّأويل)) ؛ وهو كتاب لم يسبق إليه في الحسن.
((الفَصْل في الملل والنحل)) مجلدان كبيران.
((التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية)) ، مجلد.
((نقط العروس)) مجيليد.
وغير ذلك، ومما له في جزء أو كراس:
((النبذ الكافية)).
((النكت الموجزة في نفي الرأي والقياس والتعليل والتقليد)) ، مجلد صغير
((السِّير والأخلاق))
وأشياء سوى ذلك.
كتاب طوق الحمامة
هو كتاب لابن حزم الأندلسي وصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب و مظاهره و أسبابه. ترجم الكتاب إلى العديد من اللغات العالمية.
واسم الكتاب كاملاً طوق الحمامة في الألفة والأُلاف. ويحتوي الكتاب على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، ويتناول الكتاب بالبحث والدَّرس عاطفة الحب الإنسانية على قاعدة تعتمد على شيء من التحليل النفسي من خلال الملاحظة والتجربة. فيعالج ابن حزم في أسلوب قصصي هذه العاطفة من منظور إنساني تحليلي. والكتاب يُعد عملاً فريدًا في بابه.
أسباب كتابة الرسالة”طوق الحمامة”
لم يستطع أحد ممن درس طوق الحمامة أن يحدد بدقة الداعي الذي دعا ابن حزم الى كتابة كتابه هذا ، باستثناء ترديدهم لقوله في المقدمة من الكتاب ذاته من أنه كتبه نزولا عند رغبة صديق سأله عن تأليف رسالة في الحب ، فكتب ما نصه ( فإن كتابك وردني من مدينة المرية الى مسكني بحضرة شاطبة ، تذكر من حسن حالك ما يسرني ، وحمدت الله عز وجل عليه ، واستدمته لك ، واستزدته فيك . ثم لم ألبث أن اطلع على شخصك ، وقصدتني بنفسك ، على بعد الشقة ، وتنائي الديار ، وشحط المزار ، وطول المسافة ، وغول الطريق . وفي دون هذا ما سلّى المشتاق ، ونسّى الذاكر ، إلا من تمسك بحبل الوفاء مثلك ، ورعى سالف الأذمة ، ووكيد المودات ، وحق النشأة ، ومحبة الصبا ، وكانت مودة لله تعالى . . . . . . . . . وكلفتني ـ أعزك الله ـ أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه ، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة . )
وهناك من يرى أن سبب كتابة الرسالة تلك هو أن موضوعها كان حاضرا في ذهن كاتبها قبل أن ترد إليه رسالة صديقه المفترض من مدينة المرية ، لكن هذا الزعم يدحضه ما كتبه ابن حزم نفسه في مقدمة الكتاب كذلك ، حين يكتب : ( ولولا الإيجاب لك لما تكلفته ، فهذا من اللغو ) ، وعلى هذا فإن ابن حزم ينفي صراحة أنه كان يعد نفسه للكتابة عن الحب الذي هو ، حسب اعتقاده ، موضوع لا يعدو عن كونه لغوا ، وإنما كتب فيه استجابة لطلب ذاك الصديق . هذا على الرغم من أن ابن حزم كان مهيئا تماما للكتابة في موضوع مثل هذا الموضوع ، أو في غيره من المواضيع الأخرى ، لما عرف عنه من اتساع معرفة ، وكثرة تأليف ، وإبحار في الفلسفة والعلوم ، مع تجربة حب عاشها هو ، وعاشها غيره ، والتي سطرها بصدق في طوق الحمامة كأخبار يثبت فيها ما يخلص إليه في كل باب من الأبواب الثلاثين التي اشتملت عليها تلك الرسالة
ماهية الحبالحب- أعزك الله – أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل وقد أحب من الخلفاء المهدبين والأئمة الراشدين كثير منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لد عجاء والحكم بن هشام وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنة أشهر من الشمس ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هاشم المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها. ومثل هذا كثير ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة – وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم – لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. وأما كبار رجالهم ودعائم دولتهم فأكثر من أن يحصوا وأحدث ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر بن عبد الملك بن أبي عامر بواحد بنت رجل من الجبائين حتى حمله حبها أن يتزوجها وهي التي خلف عليها بعد فناه العامر بن الوزير عبد الله بن مسلمة ثم تزوجها بعد قتله رجل من رؤساء البربر. ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن ميمون القرشي الحسيني أخبرني أن نزار بن معد صاحب مصر لم ير ابنه منصور بن نزار الذي ولى الملك بعده وادعى الإلهية إلا بعد مدة من مولده مساعدة لجارية كان يحبها حباً شديداً هذا ولم يكن له ذكر ولا من يرث ملكه ويحيي ذكره سواه
ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغنى بأشعارهم عن ذكرهم: وقد ورد من خبر عبيد الله عتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية. وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا ابن عباس رضي الله عنه مالا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود. وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه الله عن
وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي. المعروف بالشلشي من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن بن معاوية أنه لم يحب أحداً قط ولا أسف على إلف بان منه ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق.
أعراض الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب ويتروي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس
ومنها الإقبال بالحديث. فما يكاد يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وخرق العادات، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول.
ومنها الاسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه والدنو منه، واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه
ومنها أن يجود المرء ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعاً به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه. فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تطرب، وجاهل تأدب، وتفل تزين، وفقير تجمل. وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تبذل.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذه فحينئذ ترى الحديث سراراً، والإعراض عن كل ما حضر إلا عن المحبوب جهاراً
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل ذي بصر الإنبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالإتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة. وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة، والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها. ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فَعل فِعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً أكثر بهما جدهما بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومخارجة التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب البتة ولا تتمارى في أن بينهما سراً من الحب دفينا، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكلف في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيته كثيراً.
ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها ولا ينهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم. فلو أمكن المحب ألا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه. ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت، ما تهتاج له من ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجى في المرء. وهكذا في الماء وفي الحديث فإنه يفاتحكه متبهجاً فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب فتستبين الحوالة في منطقه والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانفلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال ومن علاماته حب الوحدة والإنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حد يكون فيه ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي. دليل لا يكذب ومخبر لا يخون عن كلمة في النفس كامنة.
والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا أنهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب آهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته. والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر لخفقان القلب، وكان عرض لي في الصبا، فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطر ويتقطع وأحس في قلبي غضة أمر من العلقم تحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقني النفس أحياناً ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.
ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظناً وأوسعهم نفساً وأكثرهم صبراً وأشدهم احتمالا وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعديد فنوناً ومن سوء الظن وجوها. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
وترى المحب، إذا لم يثق بنقاء طوية محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، مزيناً لحركاته ومرامي طرفه، ولا سيما إن دهى بمتجن وبلى بمعربد.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
أصول الحب
المراسلة
وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس. ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصرٍ في الإنسان وإما لحياء وإما لهيبة. نعم، حتى إن لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ورآه للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سروراً يعدل اللقاء، ولهذا ما ترى العاشق يضع الكتاب على عينيه وقلبه ويعانقه. ولعهدي ببعض أهل المحبة، ممن كان يدري ما يقول ويحسن الوصف ويعبر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدة ويجيد النظر ويدقق في الحقائق، لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل قريب الدار آتى المزار، ويحكي أنها من وجوه اللذة. ولقد أخبرت عن بغض السقاط الوضعاء أنه كان يضع كتاب محبوبه على إحليله. وإن هذا النوع من الإغتلام قبيح وضرب من الشبق فاحش.
وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه، يسقي الحبر بالريق،
السفير
ويقع في الحب بعد هذا، بعد حلول الثقة وتمام الاستئناس، إدخال السفير. ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستفراهه، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته بعد الله تعالى. فينبغي أن يكون الرسول ذا هيئة، حاذقاً يكتفي بالإشارة، وبقرطس عن الغائب، ويحسن من ذات نفسه ويضع من عقله ما أغفله باعثه، ويؤدي إلى الذي أرسله كل ما يشاهد على وجهه كأنما كان للأسرار حافظاً، وللعهد وفياً، قنوعاً ناصحاً. ومن تعدى هذه الصفات كان ضرره على باعثه بمقدار ما نقصه منها:
وأكثر ما يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، إما خاملاً لا يؤبه له ولا يهتدي للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بدادة في طلعته. وإما جليلاً لا تلحقه الظنن لنسك يظهره أو لسن عالية قد بلغها.
وما أكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين وإني لأذكر بقرطبة التحذير للنساء المحدثات من هذه الصفات حيثما رأيتها.
أو ذرات صناعة يقرب بها من الأشخاص. فمن النساء كالطبيبة والحجامة والسراقة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخفة والصناع في المغزل والنسيج، وما أشبه ذلك.
أو ذا قرابة من المرسل إليه لا يشح بها عليه. فكم منيع سهل بهذه الأوصاف، وعسير يسر، وبعيد قرب. وجموح أنس، وكم داهية دهت الحجب المصونة، والأستار الكثيف، والمقاصير المحروسة، والسدد المضبوطة، لأرباب هذه النعوت. ولولا أن أنبه عليها لذكرتها، ولكن لقطع النظر فيها وقلة الثقة بكل واحد. والسعيد من وعظ بغيره. وبالضد تتميز الأشياء. أسبل الله علينا وعلى جميع المسلمين ستره، ولا أزال عن الجميع ظل العافية.
طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يرى أنه عز هاة خلى. ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال، وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن أن يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة. وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين. وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة.
الإذاعة
وقد تعرض في الحب الإذاعة، وهو منكر ما يحدث من أعراضه، ولها أسباب، منها: أن يريد صاحب هذا الفعل أن يتزيا بزي المحبين ويدخل في عدادهم، وهذه خلافة لا ترضى، وتخليج بغيض، ودعوى في الحب زائفة.
وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب وتسور الجهر على الحياء. فلا يملك الإنسان حينئذ لنفسه صرفاً ولا عدلاً. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن. وهنالك يرى الخير شراً، والشر خيراً. وكم مصون الستر مسبل القناع مسدول الغطاء قد كشف الحب ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه فصار بعد الصيانة علماً، وبعد السكون مثلاً.
وأحب شيء إليه الفضيحة فيما لو مثل له قبل اليوم لاعتراه النافض عن ذكره، ولطالت استعاذته منه. فسهل ما كان وعراً، وهان ما كان عزيزاً، ولان ما كان شديداً.
ولعهدي بفتى من سروات الرجال وعلية إخواني قد دهى بمحبة جارية مقصورة هام بها وقطعه حبها عن كثير من مصالحه، وظهرت آيات هواء لكل ذي بصر، إلى أن كانت هي تعذله على ماظهر منه مما يقوده إليه هواه.
وأعلم أن هذا داعية نفار المحبوب، وفساد في التدبير، وضعف في السياسة وما شيء من الأشياء إلا وللمأخذ فيه سنة وطريقة، متى تعداها الطالب، أو خرق في سلوكها انعكس عمله عليه، وكان كده عناء. وتعبه هباء، وبحثه وباء. وكلما زاد عن وجه السيرة انحرافاً وفي تجنبها إغراقاً وفي غير الطريق إيغالا ازداد عن بلوغ مراده بعداً
ومن أسباب الكشف وجه ثالث وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المحب من محبوبه غدراً أو مللاً أو كراهة؛فلا يجد طريق الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار. وهذا أشد العار وأقبح الشنار وأقوى بشواهد عدم العقل ووجود السخف. وربما كان الكشف من حديث ينتشر وأقاويل تفشو، توافق قلة مبالاة من المحب بذلك، ورضى بظهور سره، إما لإعجاب وإما لاستظهار على بعض ما يؤمله. وقد رأيت هذا الفعل لبعض إخواني من أبناء القواد، وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى.
الطاعة
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع ن يحبه وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمى الأنف، أبى الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، وبتورط عمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهلة والمضاء كلالة؛ والحمية استسلاماً.
وربما كان المحبوب كارهاً لإظهار الشكوى متبرماً بسماع الوجد؛ فترى المحب حينئذ يكتم حزنه ويكظم أسفه وينطوي على علته. وإن الحبيب متجن، فعندها يقع الاعتذار عند كل ذنب والإقرار بالجريمة، والمرء منها برئ، تسليما لقوله وتركاً لمخالفته. وإني لأعرف من دهى بمثل هذا فما كان ينفك من توجه الذنوب نحوه ولا ذنب له، وإيقاع العتاب عليه والسخط وهونقي الجلد.
ولا يقولن قائل إن صبر المحب على دلة المحبوب دناءة في النفس فقد أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس له كفواً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يعير به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء، ولا في مقاعد الرؤساء، فيكون الصبر جاراً للمذلة، وضراعة قائدة للاستهانة، فقد ترى الإنسان لا يكلف بأمته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها فكيف الانتصار منها. وسبل الامتعاض من السبب غير هذه، إنما ذلك بين علية الرجال الذين تحصل أنفاسهم وتتبع معاني كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يوقعونها سدى ولا يلقونها هملاً، وأما المحبوب فصعدة ثابتة، وقضيب منآد، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنى.
المخالفة
وربما اتبع المحب شهوته وركب رأسه فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه سخطاً ورضى. ومن ساعده على الوقت هذا وثبت جنانه وأتيحت له الأقدار استوفى لذته جميعها وذهب غمه وانقطع همه ورأى أمله وبلغ مرغوبه. وقد رأيت من هذه صفته، وفي ذلك أقول أبياتاً، منها:
العاذل
وللحب آفات، فأولها العاذل، والعذال أقسام، فأصلهم صديق قد أسقطت مؤونة التحفظ بينك وبينه فعذله أفضل من كثير المساعدات؟ وهي من الحظ والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطيفة لها عرض، وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة، ولا سيما إن كان رفيقاً في قوله حسن التوصل إلى ما يورد من المعاني بلفظه، عالماً بالأوقات التي يؤكد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر. والساعات التي يكون فيها واقفاً بين هذين، على قدر ما يرى من تسهيل العاشق وتوعره، وقبوله وعصيانه.
ثم عاذل زاجر لا يفيق أبداً من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل. ووقع لي مثل هذا، وإن لم يكن من جنس الكتاب ولكنه يشبهه، وذلك أن أبا السرى عمار بن زياد صديقنا أكثر من عذلى على نحو نحوته وأعان على بعض من لامني في ذلك الوجه أيضاً، وكنت أظن أنه سيكون معي مخطئاً كنت أو مصيباً. لو كيد صداقتي وصحيح أخوتي به.
ولقد رأيت من اشتد وجوده وعظم كلفه حتى كان العذل أحب شيء إليه، ابرى العاذل عصيانه ويستلذ مخالفته، ويحصل مقاومته للأئمة وغلبته إياه. كالملك الهازم لعدوه والمجادل الماهر الغالب لخصمه، ويسر بما يقع منه في ذلك وربما كان هذا المستجلب لعذل العاذل بأشياء يوردها توجب ابتداء العذل وفي ذلك أقول أبياتاً، منها:
المساعد من الإخوان
ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، بسيط الطول. حسن المآخذ دقيق المنفذ. متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة شديد الاحتمال صابراً على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوى المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهاً للمباعدة، نبيل المدخل، مصروف الغوائل، غامض المعاني عارفاً لا لأماني، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهورالوفاء، ظاهر الغناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقاً بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه بلابله، ويشاركه في خلوة فقره، ويفاوضه في مكتوماته، وإن فيه للحب لأعظم الراحات، وأين هذا، فإن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلاً، ورأياً حسناً، ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعض ما حملوه من شديد الأمور وطوقوه من باهض الأحمال. ولكي يستغنوا بآرائهم ويستمدوا بكفايتهم. وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يرد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها.
ولقد كان بعض المحبين، لعدمه هذه الصفة من الإخوان وقلة ثقته منهم لما جربه من الناس وأنه لم يعدم من باح إليه بشيء من سره أحد وجهين إما إزراء على رأيه وإما إذاعة لسره، أقام الوحدة مقام الأنس. وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهوى، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوه والمحزون في الزفير؛ فإن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم ينض منها شيء باللسان، ولم يسترح إلى الشكوى لم يلبث أن يهلك غما ويموت أسفاً. وما رأيت الإسعاد أكثر منه في النساء. فعندهن من المحافظة على هذا الشأن والتواصي بكتمانه والتواطؤ على طيه إذا اطلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن مالا يوجد عند الفتيات، لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في الندرة. وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن فانصرف الإشفاق محضاً إلى غيرهن. خبر: وإني لأعمل امرأة موسرة ذات جوار وخدم فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتى من أهلها ويعشقها وأن بينهما معاني مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها. فأخذتها وكانت غليظة المقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء مالا يصبر على مثله جلداء الرجال، رجاء أن تبوح لها بشيء مما ذكر لها، فلم تفعل البتة.
الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام، فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة مالا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفر الرجاء.
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمق الوجوه، ويحصل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب، وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية. وإذا أرضى فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها.
ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين يقنع به المشتاق
وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهى به وطالت مدته فيه ثم عرى عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأبي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته
ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه
الوشي
ومن آفات الحب الوشي، وهو على ضربين أحدهما واش يريد القطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوءة، على أنه السم الذعاف والصاب الممقر والحتف القاصد والبلاء الوارد. وربما لم ينجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الوشي فإلى المحبوب، وأما الحب فهيهات، حال الجريض دون القريض. ومنع الحرب من الطرب، شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوشاة ذلك، وإنما يقصون إلى الخلي البال، الصائل بحوزة الملك، المتعتب عند أقل سبب.
الوصل
ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع. بل هو الحياة المجدة، والعيش السني، والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني؛ ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس ما للوصل؛ لا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه. وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام.
الهجر
ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب: فأولها هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه مقبلاً بالحديث على غيره معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته. وترى المحب أيضاً كذلك. ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكناً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها. والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما علم أن الخافي غير البادي، وما جهر به غير نفس الخبر، وأنه لمن المشاهد الجالبة للفتن والمناظر المحركة للسواكن الباعثة للخواطر المهيجة للضمائر الجاذبة للفتوة
ثم هجر يوجبه التذلل، وهو ألذ من كثير الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه، واستحكام البصيرة في صحة عقده فحينئذ يظهر المحبوب هجراناً ليرى صبر محبه، وذلك لئلا يصفو الدهر البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حل، لكن مخافة أن يترقى الأمر إلى ما هو أجل، يكون ذلك الهجر سبباً إلى غيره، أو خوفاًً من آفة حادث ملل. ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود
ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة وسرور الرضى يعدل ما مضى، فإن لرضى المحبوب بعد سخطه لذة في القلب لا تعدلها لذة. وموقفاً من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أرقام في فكر ألذ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبعد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واش، واجتمع فيه محبان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما وطال ذلك قليلاً، وبدأ بعض الهجر ولم يكن ثم مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المحب في الاعتذار والخضوع والتذلل والأدلة بحجته من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطوراً يدلي ببراءته، وطوراً يرد بالعفو ويستدعى المغفرة ويقر بالذنب ولا ذنب له، ولاحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي وربما أدامه فيه ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضى. ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، ويقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، ولو كان فكيف ولا ذنب، وختما أمرهما بالوصل الممكن وسقوط العتاب والإسعاد وتفرقا على هذا.
الوفاء
ومن حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات
وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان وصفاته المطبوعة والتطبع وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعد الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلم فيما رغبته من أمر الحب فقط. وهذا أمر كان يطول جداً إذ الكلام فيه يتفتن كثيراً.
ثم مرتبة ثانية وهو الوفاء لمن غدر، وهي للمحب دون المحبوب، وليس للمحبوب هاهنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خطة لا يطيقها إلا جلد قوي واسع الصدر حر النفس عظيم الحلم جليل الصبر حصيف العقل ماجد الخلق سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوفها جدا وتفوتها بعداً. وغاية الوفاء في هذه الحال ترك مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيء المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جر حبل الصحبة ما أمكن، ورجيت الألفة، وطمع في الرجعة، ولاحت للعودة أدنى مخيلة، وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة. فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ حينئذ والسلامة من غرك والأمن من ضرك والنجاة من أذاك، وأن يكون ذكر ما سلف مانعاً من شفاء الغيظ فيما وقع، فرعى الأذمة حق وكيد على أهل العقول، والحنين إلى ما مضى وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء وهذه الصفة حسنة جداً وواجب استعمالها في كل وجه من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حال كانت.
ثم مرتبة ثالثة وهي الوفاء مع اليأس البات، وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون. وإن الوفاء في هذه الحالة لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء.
الغدر
وكما أن الوفاء من سرى النعوت ونبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذميمها ومكروها، وإنما يسمى غدراً من البادي. وأما المقارض بالغدر على مثله، وإن استوى معه في حقيقة الفعل فليس بغدر ولا هو معيباً بذلك، والله عز وجل يقول: “وجزاء سيئة سيئة مثلها”. وقد علمنا أن الثانية ليست بسيئة ولكن لما جانست الأولى في الشبه أوقع عليها مثل اسمها، وسيأتي هذا مفسراً في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود الغدر في المحبوب استغرب الوفاء منه فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثير الموجود في سواهم
البين
وقد علمنا أنه لا بد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سألت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق. والبين ينقسم أقساماً: فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجي في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة، وأنا أعلم من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه.
ثم بين منع من اللقاء، وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا ولو كان من تحبه ومعك في دار واحدة فهو بين: لأنه بائن عنك. وإن هذا ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً
ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ. ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول أو مطرح على قدر الجافز له إلى الرحيل. خبر: ولعهدي بصديق لي داره المرية، فعنت له حوائج إلى شاطبة فقصدها، وكان نازلاً بها في مترلي مدة إقامته بها، وكان له بالمرية علاقة هي أكبر همه وأدهى غمه، كان يؤمل بتها وفراغ أسبابه وأن يوشك الرجعة ويسرع الأوبة، فلم يكن إلا حين لطيف بعد احتلاله عندي حتى جيش الموفق أبو الحسن مجاهد صاحب الجزائر الجيوش وقرب العساكر ونابذ خيران صاحب المرية وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل، فتضاعف كربه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلاً البتة، وكاد يطفأ أسفاً، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوجوم. ولعمري لقد كان ممن لم أقدر قط فيه أن قلبه يذعن للود، ولا شراسة طبعه وتجيب إلى الهوى.
القنوع
ولا بد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد! وإن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجا، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن. فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومن سرى ما يسنح في الدهر مع ما تبدى من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منها مما نفس صاحبه. وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع. والوجه الثاني أن يزور المحبوب محبه. ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر.
الحين
فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها.
وإني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بأن يسلى نفسه في وعده وإن كان غير صادق.
الضنى
ولا بد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل، إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى، من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً، والأعراض الواقعة من المحبة غير العلل الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد
وحدثني أبو بكر محمد بن بقي الحجري، وكان حكيم الطبع عاقلاً فهيماً، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، أنه كان ببغداد في خان من خاناتها فرأى ابنة لوكيلة الخان فأحبها وتزوجها، فلما خلا بها نظرت إليه وكانت بكراً، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعها كبر أيره، ففرت إلى أمها وتفادت منه. فرام بها كل من حواليها أن ترد إليه، فأبت وكادت أن تموت، ففارقها ثم ندم، ورام أن يراجعها فلم يمكنه، واستعان بالأبهري وغيره. فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يعاني مدة طويلة حتى نقه وسلا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفس الصعداء.
السلو
.
والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين: سلو طبيعي، وهو المسمى بالنسيان يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط: وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه حادث عن أخلاق ومذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق النسيان. وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغاً من وخز الإشفي، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض، أو يحاسب نفسه بحجة لا تصرف ولا تكسر وهذا قسم لا يذم آتيه، ولا يلام فاعله لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة، إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجزع مرارات الصبر، والفرق العامي بين المتصبر والناسي، أنك ترى المتصبر وإن أبدي غاية الجلد وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، يحتمل ذلك من غيره. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
الموت
وربما تزايد الأمر ورق الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: من عشق فعف فمات فهو شهيد
ولقد حدثني أبو السرى عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق به، أن الكاتب ابن قزمان امتحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز، أخى الحاجب هاشم بن عبد العزيز. وكان أسلم غاية في الجمال، حتى أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثير الإلمام به والزيارة له ولا علم له بأنه أصل دائه، إلى أن توفي أسفاً ودنفاً.
قبح المعصي
وكثير من الناس يطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم ويتبعون أهواءهم، ويرفضون أديانهم، ويتجنبوا ما حض الله تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة الهوى ويخالفون الله ربهم، ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطية فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا أن الله عز وجل ركب في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل. والثانية: ضد لها لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة. والله تعالى يقول: “إن النفس لأمارة بالسوء”. وكنى بالقلب عن العقل فقال: “إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”. وقال تعالى: “وحبب ألكم الإيمان وزينه في قلوبكم”. وخاطب أولي الألباب.
فضل التعفف
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعل له مكاناً وأهلا لأمره ونهيه: وأرسل إليه رسله وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا.




- مركز علم النفس الفطري
.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...