تأتيكَ الرغبةُ كلَّ يومٍ متدثرةً بحلِّلٍ مختلفة، تباغتُ صمتكَ المزيّن بالوقار والسكينة، تهجمُ عليكَ وتحاول افتراسك؛ أنتَ الذي لم تجرَّب حضن الحبيبة ودفئه الذي طال انتظاره سنين طوالا، فهي ما زالت حبيسة المجهول وغياهبه وكأنّها "ذو النون" الذي غاص في ظلمات الحوت فهو مليم.
تتَعَرَّى الرغبة وتخلعُ ما يستر جسدها المُشَوَّه، تغريكَ تارةً وتزجركَ تارة ًأخرى، تتَلَذَّذُ في عذابكَ وكأنّها تعشقُ ساديّة اللحظة التي تراكَ فيها عصفوراً ذبيحاً وأنت َتئنُّ من الشبق الذي يعتصرُ جسدك... تشعلُ أنوار قلبك ومن ثم غرفتك وتجولُ بناظريك في الشارع الذي تمقتُ رتابته ليلاً، لكنّك تَثَبَّتُ عيناك تِلقاء أزهار الحديقة فائقة الجمال التي تطلُّ عليها شُرْفَتُكَ، تُناجيها سرّاً وتبادلها الهوى والهيام.
يزعمُ أحدهم أنّ الرغبةَ كانت تزورهُ كلَّ يوم ٍلتعرضَ عليه بضاعة مُزْجَاةٍ!!
ويقولُ آخر: "إنّهُ راودها عن نفسها وغَلَّقَ الأبواب، لكنّها كانت عصيَّةً على ممارسة الحب ولعن الاشتياق".
أما أنا فأقول لرغبتي: أقلعي عن ممارسة عاداتك السيئة... أرجوكِ لا تنفثي دخان "سيجارتك" بوجهي كلَّ صباحٍ ولا تتركي صحون سهرة الأمس لكي أجليها عندما يستَبِدُّ بي الحنين والحرمان.
يتندَّرُ السوريّون على بعضهم البعض، يقولُ أحدهم للآخر:
كيف تميز بيوت السورييّن في حارات هذه المدينة الكبيرة والكئيبة؟
يجيبُ الآخر ساخراً من أضواء غرفهم التي تبقى "شاعلة" حتى تباشير الصباح الأولى..
إِذَن هكذا هو السوريّ يعشقُ حنينهُ الذي يفنيه، يتخذهُ نديماً لسهراته الطويلة، يفضي له بأسراره ويحدَّثه عن تلك الصبيّة التي حَلَم بها وتمنَّى أن يجّربَ الحُبَّ أو الموت في حضنها (أُصيب بمتلازمة الحنين والفقد) جرّاء نوبات الأحلام المتتالية تلك.
يعودُ إليه حنينهُ أواخر الليل بعد أن يتسكعَ في كلِّ المطارح، يُجْلِسُهُ قِبالتُهُ ويسكبُ له في كأسه الفارغة قسماً من همومه وأحلامه... وحين يرفع نخبهُ، يبصقُ الحنين في وجهه.
ويقول له: ما أتفهكْ!!
(سورية)
- عن العربي الجديد