معز اللبيب - مشاهد حميمة بعيون نسائيّة

«إنني مشدود بصورة حميمية الى جسدي للقيام بالفعل والإنصات او لادراك ما حولي والتعبير عن نفسي، الى درجة يشكل فيها جسدي قدري».
فرنسوا شيرباز

أيّ امرأة في العالم لم تحلم في يوم أن يكون العالم على صورتها، وأيّ من النساء لم تتمنى ان ترى العالم من خلال عيونها. ولكنها للأسف عيون قليلة في عالم يعد اكثر من 20000 سينمائي يقدر عدد المخرجات فيه بحوالي 600 سينمائية ويعادل ا نتاجهن 6 بالمائة من الانتاج العالمي مع استثناء جدير بالاحترام بالنسبة لبعض البلدان مثل بلجيكا، فرنسا وكندا اين يوجد نوع من المساواة بين الجنسين بدأ يتحقق عمليا. ورغم هذا النقص فهناك مادة يمكن ان نستمع من خلالها الى هؤلاء النسوة السينمائيات وهن يروين تجاربهن وبحثهن عن لغتهن الخاصة استنادا بالاساس الى ما أسمته النظرية النسوية الامريكية الحديثة «بنظام الجندر» وهي نظرية تريد ان تكشف على كل ما تمحور حول الاختلاف الجنسي في مفهومه البيولوجي، من تركيبات اجتماعية وثقافية ودينية ومن تماثلات رمزية انبنت اساسا على مبدأ سلطة الرجل على المرأة». واذا ما حاولنا ان نفهم طريقتهن في التصوير وكيفية اشتغالهن على الجسد لن يكون ذلك الا بطريقة حميمة ومن مشاهد الجنس والرغبة بالتحديد التي يمكن ان تشكل مدخلا للتعرف حقا على إضافات المخرجات بالنسبة لعالم السينما وما يزيد من ضرورة هذا المنطلق توجه المخرجات منذ بدايات الثمانينات من القرن الماضي، وفي أغلب بلدان العالم، الى انتاج افلام يواجهن فيها بصفة مباشرة اسئلة الرغبة، الحب والجنس من وجهة نظر نسائية وهو امر حري بالمتابعة خصوصا وانها مسألة لم يتعلمنها لا من خلال المدارس ولا من خلال تاريخ السينما.

البداية ستكون مع «انييس فردا» وهي امرأة قدمت الكثير للسينما الفرنسية خصوصا مع فيلمها la pointe courte مما يسمح بالقول انها رائدة الموجة الجديدة قبل «رومر»، «غودار» و«ريفيت» و«ترفيو» ويوجد في مسيرتها ما لا يقل عن 35 فيلما جربت فيهم كل الانواع (الوثائقي، الروائي، اشرطة قصيرة وافلام تجريبية...) وفي سنة 1958 قامت «فردا» باخراج فيلم «L>opera mouffe» وقد اقترحت فيه جمالية جديدة كررتها في فيلم «السعادة» سنة 1964 واكدت عليها من خلال المشاهد الجنسية حيث عمدت الى تأطير الاجساد المتضاجعة بالتركيز على أجزاء منها وادخالها في لعبة تقابلات تتبادل فيها العين والاذن المواقع حيث عين احدها قريبة من اذن الاخر او اذن احدهما قريبة وفي تناظر من فم الاخر «فالمواجهة والاحتكاك بين الجنسين يجعلان كلا من الشريكين في العملية الجنسية «كائنا ـ نظرا «حسب تعبير سارتر» ، ولقد جعلت كل كادر اشبه بلوحة تشكيلية تدعو كل متأمل الى ضرورة التفكير في محتواها وقراءة مدلولاتها البصرية بشكل يختلف عما تعودنا عليه سابقا حيث يمكننا ان نستنتج تركيز المخرجة على مشاركة كل الحواس في الممارسة الجنسية بوصفها عملية حسية فلا يمكن اقصاء الأنف والذوق والعين والايادي ولو اختزال طاقات الجسد وامكاناته في الاعضاء الجنسية لأصبح المحتوى اشبه بما يعرض في افلام البورنو لأصبحت نظرتها قاصرة ولكن القصد من هذه الكادرات لفت النظر الى ان العملية الجنسية تضع كل الجسد تحت تصرفها من العقل الى اليدين الى الحواس. وما يشد الانتباه في افلام «فردا» بصفة عامة تمشيها المعاكس لما يقوم به الرجال عند تصويرهم لجسد المرأة حيث يعمدون للتركيز على المناطق الاكثر حساسية عندها وتعمدهم تقطيع اجساد النساء وعرضها دون هوية مثل التركيز على النهود وتصويرها بدقة والأرداف والعضو الجنسي مما ينحرف بمقصدها الجمالي حتى وإن قام بتنفيذها اكبر المخرجين مثل «فرهوفن» او «كبريك» وفي سنة 1981 اخرجت «فردا» فيلم Le Documenteur عرضت فيه علاقة حب فاشلة انتهت بانفصال العشيقين دون ان تسرد حكايتهما بطريقة مباشرة ولكن عن طريق البطلة التي تقوم باسترجاع هذه الذكرى في لحظات توحد مع ذاتها وداخل غرفة نومها تجردت من ثيابها وتمددت على الفراش دون ان يكون معها اي شخص وهو ما يعني مواجهة المرأة لذاتها دون ان يكون هذا التعري. كما يرد في اغلب الافلام المنجزة من طرف الرجال ـ مقدمة الغرض منها ممارسة الجنس وهو استعمال حيني للجسد الأنثوي ولكن «فردا» عرضت هذه المرأة هي عارية والاهم انها وحيدة دون ان تكون هناك بالضرورة غاية جنسية وفي لحظات الوحدة هذه بدأت بالتفكير في صديقها الذي تخيلته ينام عاريا على الأرض وبعيدا عنها واستعملت حركات الزوم الامامية من حين لاخر لتحديد موقع اليدين الموضوعة على بطنه في تناظر مع عضوه الجنسي حتى لا تضطر الى تجزئته لانها تبتغي المحافظة من خلال الجمع هذه داخل اطار واحد على نوع من الكلية والوحدة توحي بهما بنية الصورة وتكوينها. هذا التأطير الذي اعتمدته «فردا» لا ينزع عن هذه اللقطات الصفة الايروتيكية ولكن يزيد في تأثيرها ما دامت هناك محافظة على مسافة التباعد بينهما ودون احتكاك بين الشخصيتين، وبذلك تتم رؤية المرأة للرجل والأنا للاخر من خلال التفكير او الذكرى ومن خلال الألم والمعاناة التي تعيشهما البطلة. فاختلاء المرأة بنفسها وتأمل جسدها امام المرآة وهي عارية يحيل الى التساؤل عن صورة المرأة من خلال نظرات الاخرين فهل يمكن تحديدها من خلال من يراها وينظر اليها؟ ولا نتحدث هنا عن نظرة من يراها باعجاب مثل الزوج، الاخ والأب وهي نظرات تعودت عليها ولا يمكن ان توجد الا بواسطتها ولكن التساؤل عمّا اذا كان هذا التحديد من خلال نظرات الاخرين كاف لانها هي كذلك تنظر وتبعا لذلك يصبح الاهم هويتها من خلال نظرتها لذاتها حتى تعثر على المرأة التي تشبهها، ان المجتمع ومنذ عقود ـ حدد جسد المرأة او بالأحرى وصفه حسب رموز وشيفرات وقع تكرارها دون ملل خاصة في ميداني السينما والاعلانات بما ان المسيطرين عليهما هم الرجال وهذا ما يزيد من صعوبة مهام النساء المخرجات حيث اقتحمن ميدانا وقع تشفير وتحديد جسد المرأة فيه وفق مواصفات سابقة عن دخولهن وأصبحت بمثابة القواعد المتعارف عليها وهنا على المرأة اما ان تكتفي بالغضب والاحتجاج او ان تأتي بالبديل ونعني تغيير تلك النظرة المتعارف عليها بعرض احاسيس المرأة في أغلب الاحيان والجهر بذلك وهو الطريق الذي اختزنه بالنظر الى عدد الافلام التي تم انتاجها في ظرف وجيز سواء في امريكا او مختلف البلدان الاوروبية من طرف النساء حتى يعبرن عن جنسانيتهن مما يوحي ـ وفي ذلك جانب كبير من الصحة ـ بأن هناك معركة يجب كسبها واهداف يجب تحقيقها بدرجات متفاوتة وبطرق مختلفة وبصفة جذرية لتغيير الصورة التي رسختها افلام الرجال عن المرأة مشددين على ضرورة تقديمها بشكل مختلف وهذا الاختلاف اكدت عليه المخرجات لانه الطريق الوحيد حتى «تجد الانسى (الأنثى): قولها الخاص التي تظهر به اختلافها وتصبح منسجمة مع ذاتها الحقيقية. فاذا كان الرجل منسجما مع ذاته ومع قوله من خلال مبدأ الهوية القائم على الـ«هو ـ هو» فان (الانسى) في وضعها الحالي تحاول تطبيق مبد أ الهوية القائم على الـ«هي ـ هو» بينما المطلوب هو تحقيق هذا المبدأ من باب ال «هي ـ هي » وهو ما تعمل على تحقيقه التجارب التي سنواصل عرضها حتى وان توسلت في تحقيق خطابها معطيات الجنس الصريح (كالعري والملامسة وتصوير الممارسة الجنسية)فإنه يظل في تقديري مختلفا وبعيدا عن السقوط في حمى الإثارة المكشوفة، لأن المبدعة توظف هذه المعطيات وفقا لوعيها ورؤيتها وتستثمرها لكسر قوتها الإثارية باستعمال الوسائل الفنية/ الجمالية كالزمن وحركة الكاميرا وزوايا التصوير والاشارات المرافقة سمعيا وبصريا، وهو ما من شأنه ان يحد من انسراب مياه الشهوة في جسد المتلقي، وفي منع تحول الفن السينمائي الى استعراض استمنائي ينحط بالوعي الانساني الى منزلة الاسفاف، ان لهذا النوع من الجنس جمالية على مستوى عال من الابداع التعبيري كما يعيد الاعتبار في جزء منه لحكايا النساء المألوفة مبعث طاقة ادهاش جديدة فيها عبر الوسيط السينمائي، وهو ما يثري معرفة الانسان بذاته وبالآخر وتحديدا بالمرأة.

الى جانب «فردا» ودائما في فرنسا يمكن التعرض لتجربة «كاترين بريا» باعتبارها مخرجة وروائية تنتمي الى جيل متأخر نسبيا مقارنة بـ«فردا»، لديها 9 افلام وهي تعتبر الجنس والامومة واللذة رهانات السلطة المستبدة وفي جميع افلامها حاولت تفكيك هذه المواضيع وتحليلها واستغلالها سينمائيا اعتمادا على رؤية شخصية. فسينما «بريا» لا تقوم باخراج الافلام من منطق ردة الفعل تجاه السائد عندما تتعرض الى الجنس ومختلف اشكال الجنسانية بل من موقع الفنانة الواعية لان الجنس هو ميدان وموقع الهوية وفي البحث عن هذه الهوية ليس مهما استغلال الشريط تجاريا او وضع علامة (X) على ملصقته وتصنيفه في فئة الأفلام الإباحية، بقدر ما يهمّ البحث عمّا يعني انتماء امرأة الى هذا الجنس دون غيره مما يوحي «هذا التراب بين الجسد الأنثوي والاشتغال على صورته لدى المرأة، بعلاقة اكثر جذرية وعمقا: انها العلاقة الانطولوجية للمرأة بجسدها بوصفه رأسمالها الرمزي وموطن هويتها الذاتية» ولعل احد المداخل واهمها لفهم صور الكون الانثوي التطرق الى الحياة الجنسية الخاصة بالمرأة والتساؤل عن طبيعة الرغبة التي تمتلكها واشكالها لان هذا التحديد المسبق والموضوع من طرف جنس مغاير حد من طاقات المرأة واختزلها في وظيفتين اساسيتين وهي نظرة تميّز المجتمعات التأديبية كما يذهب الى ذلك حيث تبين من دراستها انها «تسائل الاخلاق للتعرف على الجسد بينما العكس هو الصحيح. لان تاريخ الاخلاق هو ـ قبل كل شيء ـ تاريخ الجسد» فالسينما التي تم انتاجها خاصة من قبل الرجال حيث ارادت الحفاظ على وحدته وصورته المثلى ونعني بالخصوص تقسيمه الى جزءين عند تصويره عاريا حتى تتمكن من تغييب واقصاء عضوه الجنسي من الكادر، في حين تفننت في عرض الاعضاء الجنسية للمرأة وهو ما احدث احتجاجا من طرف الحركات النسوية ضد مشاهد تعرية المرأة واعتبرن هذه اللقطات تبرز المرأة كمجرد بضاعة، ان افلام «كاترين بريا» ولئن كانت تردّ بطريقة غير مباشرة على هذه الاختيارات الا انها نابعة من قناعتها بضرورة البحث واكتشاف جنسانية الرجل باعتباره يمثل موضوع رغبة بالنسبة للمرأة ولذلك عمدت في فيلم ROMANCE (X1998 الى تصوير جسد الرجل كاملا بما في ذلك عضوه الجنسي دون تعمد اخفائه كما يفعل اغلب المخرجين حيث يصورون النصف الاعلى لهذا الجسد ثم ينتقلون عن طريق القطع الى الجانب الاسفل ابتداء من الفخذين ويتم تعويض القضيب باستعارات مختلفة خاصة في الأفلام البوليسية والرعب والحروب حيث نجد المسدسات والبنادق والسكاكين وما شابه ذلك من الأدوات التعويضية وفي هذا التجاوز والإخفاء تقسيم وتفتيت لوحدة الجسد وجعل هذا الحذف مساحة للاستيهامات التي تتجاوز حقيقة موضوع الفيلم في اغلب الاحيان وفي ذلك اصرار من طرف المخرجين الابقاء على حالة الانتصاب ERECTION مستمرة ولأطول فترة ممكنة وهو امر لا يتسنى عن تصوير العضو الجنسي للرجل لان مدته محدودة، وربما لتجاوز هذا الاشكال اختارت «بريا» ممثلا مشهورا في اوساط البورنو واظن ان وجهة نظرها واختلاف اسلوبها يمكن النظر اليهما كمهماز لأن «الاسلوب» مهماز EPERON يمكن الاحتماء به من تهديد مخيف او مميت لما يتقدم امام اعيننا ان يحضر بعناد» وهذا الأسلوب ميزها عن بقية المخجلات في نقطة ثانية وهي اهتمامها الشديد بتصوير الرجل الجذاب او المغري L>HOMME FATAL الذي يعتبر المعادل الموضوعي للمرأة المغرية في افلام الرجال ولكن مع فارق ان موضوع الرغبة هذا غير موجود فهو رجل تضع فيه المرأة كل استيهاماتها ولا ندري من هو وماذا تريد منه وكيف ينظر اليه، انه كائن خيالي ولا يهم عند تقديمه آلته البسيكولوجية ولا الاجتماعية ولاتاريخه بل الأساس ان يكون موضوعا تخيليا تعكس على جسده رغبات لطالما أشبعت كبتا وتورية لو مضينا قدما في التحليل يمكن ان نقول ان طرح «بريا» مفاده التأكيد على ضرورة امتلاك الجسد من اجل الوصول الى قولها الخاص حيث في كل الافلام «الرجال» نلحظ «ان الرجل يمتلك جسده، لانه يمتلك القرار في التقائه بالجسد الآخر اي جسد المرأة بينما هي لا تمتلك هذا القرار الا خلسة او تحديا او تشبها بالرجل.. هذا يعني ايضا ان الرجل هو الآن كائن لذاته بينما المرأة هي كائن لغيره اي اداة لتحقيق ما يريده الهو. من هنا يأتي قول الرجل ممتلئا ويأتي قول المرأة فار غا، بمعنى انه الصدى للقول الفعلي وتمثيل على خط مرسوم سلفا» ولهذا اختارت المخرجة ان تسير في اتجاه معاكس لما هو سائد علها تظفر بهذا القول الممتلئ وليس التابع والفاقد لكل معنى.

نشر في ملحق الصحافة الثقافي في 27/3/2008
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...