حسن داوود - نساء السينما أول العشيقات

كان ينبغي أن أتأخّر، أي أن أتقدّم سنوات في العمر، حتى أصير أفهم ما هي هند رستم. في الصغر، أقصد في صغرنا نحن الذين كنا نشاهد الأفلام العربيّة طازجة، أي في عروضها الأولى على الشاشات، كنّا نحبّ شادية. لم أعد أذكر الآن ما الذي كنا نحبّه فيها إذ يصعب عليّ الآن أن أستعيد ما كان يجذبني إلى امرأة وأنا في عمر العاشرة أو الحادية عشرة. لكنّ ذلك كان حبّا حقيقيا، وإن مبكّرا. من سينما "عايدة" التي كانت قرب بيتنا كان عليّ أن أكتفي بالتفرّج على صور الفيلم معلّقة خلف الواجهة الزجاجية، هناك في مدخل السينما المفتوح على الطريق. وفي ذات يوم، فيما أنا واقف أتفرّج، قال لي صبيّ وقف بجانبي أنّه حضر الفيلم وأنّ شادية تموت في آخره. ليس الحزن أو الأسى ذلك الذي أصابني، بل شعور أوّل بإحساس جنسي طلع من مكان لم أكن أعرف أنّه موجود فيّ. "أكيد ماتت؟" سألته، فأجابني أنها ماتت، وذلك بانكسار أدركت معه أنّ ما حصل لي حصل له هو أيضا

"ممنوع الأفلام العربية"، كان يقول أبي، جاعلا إيّاي، منذ ذلك الحين وحتى الآن، أتساءل عن ذلك الحظر غير المفهوم. ففي الأفلام الأميركية تظهر النساء أكثر عريا كما تستغرق القبلة وقتا أطول، وفيها تلتصق الشفاه بالشفاه التصاقا حقيقياً. ربما هناك جواب على ذلك، وقد توصّلتُ إليها متأخّرا، وهو أنّ الأمر يتعلّق بأبي نفسه، إذ كانت تثيره الممثّلات العربيات أكثر من سواهنّ ربما. وهنا، إذ يخطر لي ذلك، أراني متذكّرا ماجدة، صوت ماجدة خصوصا، المرتجف المتوسّل الشاكي والذي، بعد أن تنتهي من نطقه، سينتهي بها الحال إلى أن تتهاوى فاقدة القدرة على تحمّل هشاشتها الأنثوية الفائضة.

لا أهمّية لماجدة من دون صوتها، إذ أنها تنجح به حيث يفشل أداؤها الجسماني. أو لنقل إن صوتها هو الطريق إليها، وجها وجسما. أما فاتن حمامة فوجهها جميل إلى حدّ استبعاده أيّ احتمال للإثارة. هي وجه فقط. أقصد أنها وجه من دون جسم. صحيح أننا شاهدناها تركض هناك في العزبة هاربة بعد الصفعة التي تلقّتها من عمر الشريف في فيلم سيّدة القصر، لكن ذلك لم ينحرف، وإن قليلا، عن اعتبارنا أنها تركض هاربة من عمر الشريف. ثمّ أن ذلك اللقب الذي أعطي لها: "سيّدة الشاشة" ألا يحثّنا على استبعاد أية أفكار غير محترمة قد تراودنا؟
أما هدى سلطان فمؤكّد نفاذ إغرائها على رجل مثل أبي. ربما مشهدها مستلقية على السرير، عارية الزند قبل لحظة من دخول الشرّير محمود المليجي إلى غرفتها. ثم صوتها هي أيضا، بحّة صوتها. وقامتها الكبيرة التي كان يحبّها أهل ذلك الزمان.

إذن، لمرحلة ما قبل البلوغ، كانت شادية هي العشيقة الوهمية الأولى. هند رستم كان عليها أن تنتظر. أو كان عليه هو، صبيّ السينما، أن ينتظر. ليس سنة أو سنتين، أو عشر سنين، أو حتى أكثر. بل أن يقيم في الإنتظار حتى تأتي، مفاجئة، تلك اللحظة. أو ربما لن تأتي أبدا، ما دام أن الطفل الذي في كلّ واحد منا يظل موكلا هند رستم إلى الرجال الكبار، أصحاب التجارب. إذن كان علينا تأجيل هند رستم إلى وقت سيداوم على تأخّره. أي أنّه قد لا يأتي أبدا. حتى الآن، بعد أن طوينا صفحة التعلّق بالسينما العربية، ما زلت لم أصل بعد. أقصد إلى صورة الرجل الرجل الذي أحسبه الرجل المناسب، القادر على التفاهم مع كلّ ذاك الإغراء.


(*) هذه الحلقة الثانية من ملف "الاغراء العربي في صوره المتعدّدة"، بعد الحلقة الأولى عن سعاد حسني، غدا حلقة ثالثة عن الفنانة السورية اغراء.


- عن المدن
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...