محمد أبي سمرا - في مديح نساء الإعلانات

من لون حبة كرز نبيذية وشكلها، ولدت رغبتُه المراهقة، فيما هو يحمل حبّة الكرز تلك، الى مدرسته، ليقدمها الى تلميذة اسمها مريم، هام بها وباسمها على مقاعد الدراسة في صف السرتفيكا. ضدّاً للقسوة والعنف في حياته البيتية والمدرسية، ولدت رغبتُه المراهقة، المتخيلة المفارقة. كان من فتيان المراهقة المديدة وشبانها في بيروت النصف الثاني من ستينات القرن العشرين والنصف الاول من سبعيناته، قبل أن يأخذهم نداء الحرب لاستكمال تيههم في صحراء تلك المراهقة المديدة.

في تلك الصحراء كانت البنات هاجساً وثنياً أو شبه دينيّ، لهروبٍ وخلاصٍ مستحيلين. كان الدين الوثني الجديد - وهو ما سيعلم أولئك الهاربون، لاحقا، أنه ما يسمى الحداثة - قد وَلَّدَ رغبة عمياء للهروب من الولادة من أمهات قديمات، عديمات الأنوثة، كالحياة البيتية والأسرية.

حبة الكرز النبيذية الانثوية تلك، لم تكن للأكل، بل للزينة والترف والاناقة. وهذه مؤنثة وأنثوية كلها، ضداً للامهات في حركاتهن وأزيائهن وكلماتهن، وفي حضورهن ووجودهن كله. صحراء المراهقة المديدة، دينُها والتيهُ الوثني فيها، من صنائع حداثة وتحديث بصري وشكلاني، مَدارهما ومِدادَهما البنات والنساء في حضورهن الأنثوي، والتعلّق بهنّ، في محاولة مستميتة للولادة الجديدة منهن، من أنوثتهن المحدثة الرقيقة المترفة.

التائهون في صحراء تلك المراهقة، كان توقُهم الى الحداثة الأنثوية المترفة ينطوي على رغبتهم في الولادة من نساء عذراوات، يغدقن عليهم الأمومة التي أغدقتها مريم العذراء على يسوع المسيح. أمومة هي مزيج غامض من لون الكرز النبيذي والزرقة البحرية والضوء القمري واسود الليل والنجوم. مزيج غامض من الطمأنينة الطفلية البلا جنس ومن دم الأنوثة الزهري الذي يدهم البنات عند بلوغهن.

إنه دم البلوغ الزهري الذي روت امرأة دمشقية أن أمها، مع نسوة من قريباتها وجيرانها في الحارة، أقمن له في بيت أهلها احتفالاً أحرقن فيه زغب عانتها والجلد تحته، بملعقة كبيرة من حديد متجمّر يستعمل لتحريك البن الأخضر في أثناء تحميصه في البيوت.

******
في صحراء مراهقتنا المديدة، قبل أن نبيعها للحرب في بيروت، عبدنا صور نساء الإعلانات، وكلمات شعرية وأدبية صنعنا منها البوماً للصور، وعبدنا أيضا أصواتاً رصّعنا بها الصور. هي الصور، ولا شيء غير الصور، ما صنعت رغباتنا ومخيلاتنا العاطفية والجنسية المحدثة ضدّ أمهات ولدن قديمات مسنات في زمن دهري يجهل الصور والمرايا. أمهات بلا أنوثة ولا مرايا، قاسيات على اطفالهن قسوتهن على أنفسهن. وحدها الصور والمرايا تصنع الأنوثة المحدثة التي تهنا توقاً لامتلاكها في صحراء مراهقتنا المديدة.

"متنا غرقاً في أحلام اليقظة. متنا غرقاً في غربتنا حول الشمس. هل رأت التلميذة ذات المريول الازرق جمجمتي بين الحفريات". هذا ما كتبه الشاعر حسن عبدالله في قصيدة له عن "صيدا". كنا، نحن التائهين في صحراء مراهقتنا المديدة، نقرأ هذه القصيدة وسواها من أمثالها، كأنها إنجيلنا اليومي لعبادة الصور:
صورٌ فوتوغرافية بالأسود والأبيض الضوئي والرمادي، ثم بالألوان الطبيعية، لفتيات ونساء إعلانات على صفحات مجلات فنيّة ونسائية وترفيهية، وعلى الشاشات التلفزيونية والسينمائية.
كلمات على صفحات كتب، تبعثُ في مخيلاتنا الوليدة من الحداثة الأنثوية، صوراً، ظلالَ صور بعيدة نائية، وتفتقد الحسيّة البصرية الملونة المترفة لنساء وفتيات الإعلانات.

أصوات لمغنيات ومغنين لا تنشر كلماتها المغنّاة في أسماعنا سوى صورٍ لنساء كنساء الإعلانات.

هن نساء الصور إذاً، أوثان شهواتنا في صحراء مراهقتنا السرابية المديدة التي ولّدت مخيلاتنا ورغباتنا وحداثتنا وكلماتها المنتشية نشوة مثليّة بالفتيات والنساء من حولنا: بسفورهن، بأزيائهن على أجسامهن وجلودهن، بتنانيرهن وفساتينهن المنحسر قماشها الماجن الأنيق عن سيقانهن، عن وبر سيقانهن، عن أعالي صدورهن. بثيابهن كلها خالية من أجسامهن على حبال الغسيل، في العتمة الباردة في خزائنهن البيتية، خلف زجاج الفيترينات المشعّة بالأضواء المسائية على الأرصفة.

امرأة دم البلوغ الزهري المحترق مع زغب الأنوثة والجلد تحته في مراهقتها الدمشقية، روت أيضاً أنها في نضوجها النسوي البيروتي، لم تلبس بناطيل الجينز سوى مرات قليلة. أهملتها شوقاً الى عري ساقيها وتلامس فخذيها التلقائي تحت الفساتين والتنانير التي يتلاعب الهواء بقماشها الرقيق. كأنما من ذلك العري الخفيّ، الماجن المترف، أخذت تطلع ضحكاتها المقهقهة في مجون تلقائي طائش. مجون لا تدري إن كان ينطوي على أثر من انبهارها بمشهد مارلين مونرو في صورة لها شهيرة، حينما فُوجئت بطيران فستانها الأبيض الفضفاض عالياً كفراشةٍ في الهواء وسط الشارع. هذا، فيما هي، مارلين مونرو، تتدارك بيديها عري فخذيها الفاتن كضحكاتها الاستعراضية الخجولة الماكرة التي لا يعلم أحد إن كانت طالعة من عريها العلني في الشارع، أم من تعرّض عريها لعدسة الكاميرا الإعلانية.

******
فتيان وشبان المراهقة المديدة في ستينات بيروت وسبعيناتها من القرن العشرين، في كهولاتهم يتجرّؤون على مديح نساء الإعلانات المغفلات المجهولات، توقاً الى حداثة وثنيّة وصورية لا تزال بيروت تحتفي بها، بالرغم من اكتهال حداثتها التي هيهات أن تتجاوز استعراض الأزياء والسيارات.
ألا فلنحتفي بهذه الحداثة تداركاً لقسوة الذكورة العمياء الزاحفة من الصحراء القريبة.




(*)هنا الحلقة السادسة من ملف"الإغراء العربي في صوره المتعددة".
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...